وجد البك جالسا في الدائرة الخضراء كما يحلو له أن يدعوها. هي ربوة مستديرة خضراء السفح، مسقوفة بمظلة من الخشب الأبيض على هيئة قبعة تتدلى منها المصابيح وضفائر اللبلاب. جلس على أريكة وثيرة في جلباب أبيض، وضيء الصلعة، بين يديه فوق الخوان قارورة ويسكي وجردل أحمر مليء بمربعات الثلج، وطبق فستق مقشر. ربعة بدين ذو كرش جسيمة، بيضاوي الوجه لحيمه ، قوي الفك غائر العينين في أنفه فطس ذو شارب غليظ لم تشب فيه شعرة واحدة رغم بلوغه الستين. حياه الفتى وجلس - كما أشار إليه - في قبالته. النسمة رائقة، وحفيف الغصون يبعث هسيسا هامسا، والأرض تضحك بألوان الأزهار، وشذا الربيع يفوح مسكرا. قال يحيى لنفسه: إن الجو يسخر منهم ويعلن لا مبالاته بأحزانهم. قال الرجل وكان لا يعرف اللف والدوران:
ثمة حديث ما عاد يجوز تأجيله يا يحيى.
فاعتدل يحيى في جلسته استعدادا، فقال جندي الأعور: ما حصل قد حصل لا حيلة لنا فيه.
فتمتم يحيى: ربنا معك. - ما زلت آسفا على أنني لم أسلمه ليد العدالة. - تصرفت معه بما يتوافق مع خلقك الكريم.
فصب في الكأس جديدا من الويسكي وقال: لم تكن الجريمة مفاجأة بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، فهو لم يضمر لي حبا ولا خيرا، وعلى العكس كنت دائما حذرا من ناحيته، دائما أتوقع ما لا يسر، ولا جدوى من حسن المعاملة مع أمثاله، بل لعلها زادته شرا، إنه الشرير الحقود، وكم من مرة أضبطه متلبسا بسرقة المكتب وأعفو، ماذا ينقصه؟ إنه عاش في بيتي عيشة الملوك، ولعب بالقرش لعبا، لكنه فاسق قذر ومقامر مجنون.
غشيته كآبة من مدخل الحديث فتنبأ له بنهاية غاية في السوء، أما الرجل فقال بقوة ووضوح: وشد ما حقد عليك كأنما تقاسمه لقمته، وشد ما طالب بطردك من القصر!
كان يشعر دائما بفتور عواطف الرجل نحوه، وزوجته أيضا، كرها في أمه، ولكن حبه لوداد جرف النفايات من مجرى حياته، أيضا لم يتصور أن النفور يتمادى لحد المطالبة بطرده. غير أن ما كان يهمه حقا فهو الحب وحمايته من إعصار الموقف الهائج. وصمت جندي الأعور حتى تستقر كلماته في أعماقه ثم واصل حديثه: له بطانة من السفلة والعاهرات، وقد بلغ الخامسة والأربعين دون أن ينال ذرة من الرشد.
لاحت الدهشة في وجه يحيى، تكشفت له أسرار بشعة لم تجر له في خاطر. واستحضر صورة زوجته الجميلة فازداد دهشة. ما وداد إلا صورة جديدة من أمها فكيف هان على محروس بك أن يخونها؟! وقال جندي الأعور بتقزز: زوجته لا تجهل مغامراته.
فتمتم الشاب في انزعاج: هكذا؟ - ولم تسكت المرأة الجريئة فردت الصفعة بأقذر منها!
لاح التساؤل في عيني يحيى، فقال جندي الأعور: انحرفت دون مبالاة متشجعة على ذلك بأصل قذر! - لكن ... لكن ...
نامعلوم صفحہ