شرح المشكل من شعر المتنبي
شرح المشكل من شعر المتنبي
) أريدُ من زمني ذا أن يُبلغني ... ما ليسَ يَبلُغُه من نفسِه الزمنُ (
اي أريد أن يدوم شبابي وسروري أبدًان فلا أهرَم ولا أهتم. وهذا الذي أريده من الزمان، لا يبلُغُه هو من أمنيته لذاته، لنه لو اختار أن يكون ربيعًا أبدًا، ونهارًا سرمدًا، لم يبلغ ذلك، لان أحواله الأنيقة تتكدر، فيلحق ربيعه القيظ، ويتخلل نهاره الليل. فإذا لم يبلغ الزمان مُرادُ في نفسه، فجدير ألا يُبلغني مرادى. إذ لو كان ذلك قوته، لآثر به نفسه.
يتعجب من تشططه على الزمن، وتكليفه إياه ماليس في وسعه، ولا يجد مُعينًا عليه من طبعه.
وجعل للزمان نفسًا وإنما هو نورٌ وظلمة، تحدثان عند حركة الفلك، لان العرب تنُسب الأفعال إلى الدهر كثيرًا، لوقوعها فيه. فيقولون: فَعل الزمان، وصنع، كقوله تعالى حكاية عن الكفار:) وما يُهِلكُنا إلاَّ الدَّهْرُ (.
) مما أضَرَّ بأهلِ العِشقِ أنهُمُ ... هَوَوا وما عَرَفُوا الدُّنيا ولا فطنُوا (
اي أنهم اعتبروا حُسن الخلق لا حُسن الخُلُق. ولو جربوا الدنيا، فأجادوا الاعتبار، وأطالوا الاختبار، لوجب أن يُؤثروا حسن الخُلُق، فيجب إذ هو اولى في الحقيقة بذلك، من اعتبار هذا الحُسن المحسوس. وقد فسره هو في البيت الثاني الذي بعده فقال:
) تفنى عيونُهُم دَمْعا وأنفُسهم ... في إثر كل قبيحٍ وجهُهُ حَسَنُ (
اي في إثر كل قبيح الخُلُق.
) تَحملُوا كُلُّ ناجيةٍ ... فكلُّ بينٍ على اليوم مُؤتمنُ (
نسيب هذه القطعة ابو الطيب مُغضبًا، شاكيًا لأمره، متسخطًا على دهره، حتى أفضت به شدة العتاب، إلى ملامة الأحباب، واحتمل إفراط الجفا، لما تأمله من قلة الوفا، فقال) تحملوا حَمَلَتكُم كل ناجيةٍ (: اي أبعدتم ولا دَنوتم، بخلاف قوله هو راضيًا عن أحبابه:
لا سِرتِ من إبلٍ لو آني فوقها ... لَمحت حرارةُ مدمعيَّ سِماتِها
ثم أدركه بعد ضَجرة التأسف، وإظهار البراءة عن العشق بعدهم، فقال: فكل بينٍ على اليوم مؤتَمَن اي أني كنت أحذر بينكم، فإذ قد وقع، فما أبإلى بشيء بعده، كقوله الأول:
من شاء بعدك فليمُت ... فعليكَ كُنتُ أحاذِرُ
وامتثله أبو فراس فقال:
وكنتُ عليه أحذرُ الدهر وحدهُ ... فلم يبق لي شيء عليه أحاذرُ
والفاء في قوله:) فكل بين (لعطف الجملة الثانية على الأولى، التي هي) تحملوا (.
) رأيتكُم لا يصُون العِرَ جَارُكُم ... ولاَ يدرُّ على مَرعَاكمُ اللبنُ (
اي من جاوركم ذل، وأقام صابرًا على الذلة، حتى يكون عرضُه غير مصون لأنكم لا تنصرونه على من اوصل إليه الذاة، بل تَدَعُونه تُهبة، ولا يستطيع أن ينتصر هو لخذلكم إياه. وهو في هذا البيت يُعيرهم الصبر على الذل والقُل، لان قوله:) ولا تدر على مَرَعاكُم اللبن (: يعني به أن رِفدكم قدر الكَفاف، ليس ما يفضُل عن الاستشفاف.
) فغَادَر الهجرث ما بينني وبينكُمُ ... بهماء تَكذبُ فيها العينُ والأذُنُ (
البهماء: الارض القفرة،) فَغْلاء، لا أفعل لها من جهة السماع (. اي لا يقال:) قَفْرٌ أبهمُ (. وقد غَلَبت) البَهماء (غلبة الأسماء. حكى ابو زيد عن العرب؛ البَهماوات. فلو عاملوا الصفة لقالوا: البُهم، اي غَادر الهجرُ بيننا بهماء يَقرَعُ فيها الحس ما ليس بحقيقة، كتخيل الآل، وتصور الأشخاض، وعزيف الجِنّ، ونحو ذلك مما لا حاصل له.
) تَخبُو الرواسمُ من بعد الرسيم بها ... وتسألُ الارض عن أخفافها الثفِنُ (
اي تخبو الإبل الراسمة من هذا القفر، والثفن: ما يصيب الارض من البعير والناقة إذا بركا، وهي خمسٌ رُكبتاه من ذراعيه وساقيه وفخذه، فإذا حَفيت هذه الإبل، فبركت على ثفِناتها، وصدمت بها الارض، قالت الثفنات للإرض: اين الأخفاف التي كانت تكفينا إياك، وتقينا لُقياك؟ و) الثفِن (: جمع ثفنة، كلبِنة ولَبِن. و) تسأل وسأل (كلاهما عربي، لان ما لم يفارق من الجمع واحده إلا بالهاء، جاز تذكيره وتأنيثه ولذلك - إذا وافقت صورة هذا الجمع صورة الجمع المكسر - استدل سيبويه على الجمع الذي باين واحده بالهاء بدليل التذكير، مثل ذلك قوله: إن الرُّطَب ليس كالغَرَب، وإن اتفق المثلان، لان الغَرَبَ مُكسر، بدليل تأنيثه، والرُطب يذكر ويؤنث، يقولون: هذا الرُّطب، وهذه الرُّطَب.
وله ايضا:
1 / 88