نادى عن الله لا يتكلم بصيغة المخاطب، بل يقول: إن الله أمر بكذا أوقال كذا. وهكذا إذا أمر السلطان مناديًا ينادي فإنه يقول: يامعشر الناس، أمر السلطان بكذا، ونهى عن كذا، ورسم بكذا، لا يقول: أمرت بكذا، ونهيت عن كذا، بل لو قال ذلك بودر إلى عقوبته.
وهذا تأويل من التأويلات القديمة للجهمية، فإنهم تأولوا تكليم الله لموسى ﵇ بأنه أمر ملكًا فكلمه، فقال لهم أهل السنة: لو كلمه ملك لم يقل: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي﴾ [طه: ١٤]، بل كان يقول كما قال المسيح ﵇: ﴿مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ﴾ [المائدة: ١١٧] .
فالملائكة رسل الله إلى الأنبياء تقول كما كان جبريل ﵇ يقوللمحمد ﷺ: ﴿وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [مريم: ٦٤] ويقول: إن الله يأمرك بكذا ويقول كذا، لا يمكن أن يقول ملك من الملائكة: ﴿إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي﴾ [طه: ١٤]، ولا يقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ "، ولا يقول: لا يسأل عن عبادي غيري، كما رواه النسائي وابن ماجة وغيرهما، وسندهما صحيح أنه يقول: " لا أسأل عن عبادي غيري ".
وهذا - أيضًا - مما يبطل حجة بعض الناس، فإنه احتج بما رواه النسائي في بعض طرق الحديث أنه يأمر مناديًا فينادي، فإن هذا إن كان ثابتًا عن النبي ﷺ، فإن الرب يقول ذلك، ويأمر مناديًا بذلك، لا أن المنادي يقول: " من يدعوني فأستجيب له؟ "، ومن روى عن النبي ﷺ أن المنادي يقول ذلك، فقد علمنا أنه يكذب على رسول الله ﷺ. فإنه - مع أنه خلاف اللفظ المستفيض المتواتر الذي نقلته الأمة خلفًا عن سلف - فاسد في المعقول، فعلم أنه من كذب بعض المبتدعين، كما روى بعضهم [ينزل] بالضم، وكما قرأ بعضهم: ﴿وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾ [النساء: ١٦٤]، ونحو ذلك من تحريفهم اللفظ والمعنى.
1 / 37