ثم إن الله - تعالى - أخبرنا بما وعدنا به في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح ويفرش وغير ذلك. فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا، لم نفهم ما وعدنا به، ونحن نعلم مع ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل هذه، حتى قال ابن عباس ﵁: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، وهذا تفسير قوله: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهًا﴾ [البقرة: ٢٥] على أحد الأقوال.
فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد، وأحببناه ورغبنا فيه، أو أبغضناه ونفرنا عنه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا يقدر قدرها في الدنيا. وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه الله - تعالى - ولهذا كان قول من قال: [إن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله] حقًا، وقول من قال: [إن الراسخين في العلم يعلمون تأويله] حقًا. وكلا القولين مأثور عن السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
فالذين قالوا: إنهم يعلمون تأويله، مرادهم بذلك أنهم يعلمون تفسيره ومعناه، وإلا فهل يحل لمسلم أن يقول: إن النبي ﷺ ما كان يعرف معنى ما يقوله ويبلغه من الآيات والأحاديث؟ ! بل كان يتكلم بألفاظ لها معان لا يعرف معانيها؟ !
ومن قال: إنهم لا يعرفون تأويله، أرادوا به الكيفية الثابتة التي اختص الله بعلمها؛ ولهذا كان السلف - كربيعة، ومالك بن أنس وغيرهما - يقولون: الاستواء معلوم، والكيف مجهول. وهذا قول سائر السلف - كابن الماجشون، والإمام أحمد بن حنبل، وغيرهم. وفي غير ذلك من الصفات. فمعنى الاستواء معلوم، وهو التأويل والتفسير الذي يعلمه الراسخون، والكيفية هي التأويل المجهول لبني آدم وغيرهم، الذي لا يعلمه إلا الله ﷾.
وكذلك ما وعد به في الجنة تعلم العباد تفسير ما أخبر الله به، وأما كيفيته فقد قال تعالى: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [السجدة: ١٧] .
وقال النبي ﷺ في الحديث الصحيح: " يقول الله تعالى: أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأتْ، ولا أذُنٌ سَمِعتْ، ولا خَطَر على قَلْب بَشَر ".
1 / 21