ونزل نيلي إلى الشارع ليلعب مع أصدقائه بعد العشاء الذي كان يتكون من مقانق الكبد المحمرة والبطاطس وشطائر الفطير والقهوة، وكان الصبية بدون اتفاق أو إشارة يجتمعون دائما بعد العشاء عند المنعطف، حيث يقضون الأمسية كلها وأيديهم في جيوبهم وأكتافهم تبرز إلى الأمام، يتجادلون ويضحكون ويتدافعون ويرقصون على أنغام الصفير.
وأقبلت مودي دونافان لتمضي إلى الكنيسة للاعتراف مع فرانسي، وكانت مودي يتيمة تعيش مع خالتيها العانسين اللتين تشتغلان في البيت في صنع أكفان النساء، وترتزقان ببيع «الدستة» منها بثمن معلوم لشركة من شركات النواويس، وكانتا تصنعان الأكفان من قماش الساتان، وكانت الأكفان البيضاء للعذارى، وذات اللون الخزامي الفاتح للزوجات الشابات، وذات اللون الأرجواني للسيدات اللائي في منتصف العمر، وذات اللون الأسود للمتقدمات في العمر، وأحضرت مودي بعض الجذاذات وهي تظن أن فرانسي قد ترغب في عمل شيء منها، وتظاهرت فرانسي بالغبطة، ولكنها ارتعدت وهي تضع الأقمشة اللامعة بعيدا.
وكان جو الكنيسة عابقا بدخان البخور والشموع المتألقة، وقد وضعت الراهبات الزهور النضيرة على الهياكل، ووضعن على هيكل الأم المباركة أنضر الزهور، فقد كانت محبوبة من الراهبات، واصطف الناس خارج أمكنة الاعتراف، وقد رغب الأولاد والبنات أن ينتهوا من الاعتراف قبل أن يذهبوا إلى مواعيدهم، وكان صف الناس أمام المربع الخاص بالأب أوفلين أطول الصفوف؛ إذ كان هذا الأب شابا رحيما سمحا يتسهل في الكفارة.
ودفعت فرانسي الستارة الكثيفة جانبا حين حل دورها، وركعت في مكان الاعتراف، وحل السر القديم الأزلي حين فتح الكاهن الباب الصغير الذي يفصله عن الآثم، ورسم علامة الصليب أمام النافذة ذات القضبان، وبدأ يهمس بصوت سريع رتيب باللغة اللاتينية وعيناه مغمضتان، وشمت فرانسي رائحة البخور ممتزجة برائحة الشموع والزهور وملابس الكاهن السوداء الجيدة وعطر حلاقته. - باركني يا أبت فقد أثمت ...
وما أسرع ما اعترفت بذنوبها، وسرعان ما غفر لها، وخرجت وقد انحنى رأسها على يديها المتشابكتين، وركعت أمام الهيكل، ثم ركعت عند الحاجز، وتلت التوبة عن آثامها وهي تستخدم سبحة أمها المصنوعة من الصدف، وكانت مودي التي تعيش حياة أقل تعقيدا من حياة فرانسي، قد ارتكبت من الآثام التي تقتضي الاعتراف أقل من فرانسي وخرجت قبلها، وجلست خارج الهيكل على السلم تنتظر قدوم فرانسي.
وسارت الفتاتان صاعدتين هابطتين المنطقة السكنية، وقد لفت كل منهما ذراعها حول خصر الأخرى، مثلما تفعل البنات الصديقات في بروكلين، وكان مع مودي بنس اشترت به شطيرة من الكريمة المثلجة، وقدمتها لفرانسي لتصيب قدرا منها، وسرعان ما حل وقت عودة مودي إلى بيتها؛ إذ لم يكن يسمح لها بأن تبقى خارج البيت بعد الثامنة مساء، وافترقت الفتاتان بعد أن تواعدتا على الذهاب للاعتراف معا يوم السبت التالي.
وقالت مودي وهي تمشي عائدة مبتعدة عن فرانسي: لا تنسي، لقد أتيت إليك هذه المرة، وسيكون دورك المرة القادمة أن تأتي إلي.
ووعدت فرانسي قائلة: لن أنسى .
وكان هناك جمع في الحجرة الأمامية حين وصلت فرانسي إلى البيت ... خالتها إيفي وزوجها ويلي فليتمان، وكانت فرانسي تحب خالتها إيفي؛ لأنها تشبه أمها إلى حد كبير، مليئة بالفرح والفكاهة، تحكي لك ما يجعلك تضحك، كما يضحك الناس في المسرح، وهي تستطيع أن تقلد أي شخص في العالم.
وكان الخال فليتمان قد أحضر قيثارته معه وأخذ يعزف عليها، في حين طفق الجميع يغنون، وفليتمان رجل نحيل داكن اللون، له شعر أسود ناعم وشارب كالحرير، ويعزف على قيثارته عزفا جيدا، وخاصة أنه فقد إصبعه الوسطى ليده اليمنى، فإذا اقتضى الأمر منه أن يستخدم هذا الإصبع، فإنه يضرب القيثارة ضربة شديدة لتشغل الزمن الذي كان يجب أن تشغله النغمة، وهذا يعطي أغانيه إيقاعا غريبا، وكان فليتمان قد وصل إلى ختام أناشيده تقريبا حين دخلت فرانسي، إنها وصلت في الوقت المناسب لتسمع أنشودته الأخيرة.
نامعلوم صفحہ