74

هنا دار محرك الطائرة محدثا دويا كالانفجار، فهتف عبد القوي: فكر مرة أخرى أيها الزميل. - فكرت بما فيه الكفاية. - أمامك فرصة أخيرة! - وأمامك فرصة أخيرة! - ما أمر الفراق! - إنه لكذلك أيها الزميل القديم.

تنهد عبد القوي يائسا، فتح ذراعيه فتعانقا بحرارة. اشتد دوي المحرك، انتزع عبد القوي نفسه من صاحبه، مضى نحو الطائرة في خطوات ثقيلة، أخذ يرقى في السلم حتى بلغ الباب. استدار فلوح لصاحبه مودعا، فرد الآخر التحية بمثلها. بدأت الطائرة في الصعود. دومت في الفضاء. أتبعها عبد الواحد عينيه وهي تبتعد وترتفع وتصفر حتى اختفت فيما وراء الأفق، وجد نفسه وحيدا، وجد نفسه حزينا؛ ولكنه لم يبدد دقيقة من وقته سدى؛ شحذ إرادته لينفض عن قلبه الحزن . قلب وجهه في الجهات الأصلية ليحدد طريقه إلى العمران. سار متجها نحو الشرق ...

وليد العناء

جلس وحيدا في الصالة. أرهقه ذرعها ذهابا وإيابا فجلس. ثبتت عيناه على الباب المغلق، وأرهف السمع. أشعل سيجارة، دخنها بطريقة آلية خالية من الاستمتاع، ولم تتحول عيناه عن الباب المغلق. بدت من وراء الباب أصوات مبهمة، حركة أقدام، تأوهات خافتة، أشاعت في جوه الخالي روحا مبللا بعرق العناء المر. ونظر في الساعة، مرت عيناه بالنافضة المكتظة بأعقاب السجائر، ونفخ وهو يمد ساقيه.

وفتح الباب فمرقت منه امرأة عجوز مطوقة الوجه بخمار أبيض. ردت الباب وراءها وتقدمت؛ ولكنه وثب معترضا سبيلها. انتبهت إليه وقالت برقة: كل شيء حسن، لا تقلق.

فقال بانقباض: ولكن طال الوقت. - إنها ساعة لا يعلم بأسرارها إلا الله فتوكل عليه. - لولا السوابق الماضية ما باليت شيئا. - لا تذكرنا بما مضى، الطبيبة مطمئنة، قالت إنها ستلد ولادة طبيعية. - بدأ الطلق في أول الليل وها نحن في الهزيع الأخير منه. - ربك كريم، وعندها طبيبة لا داية، فاصبر وانتظر.

شعر بامتعاض نبرتها فقال: لا تلوميني يا دادة، هذا زمن الأطباء لا الدايات. - كم ولدت الداية أمها في يسر كالسحر. - ذاك زمان مضى، وما من داية تستطيع أن تواجه هذه الحال. - كم واجهت مثيلات لها في الماضي! - كل شيء تغير، حتى المرض نفسه.

مضت نحو الحمام، ثم رجعت بوعاء من الصاج، فدخلت الحجرة وأغلقت الباب. وجد شيئا من الطمأنينة. لم يأل جهدا في إقناع نفسه بها ما دامت الطبيبة قد قالت. دق جرس الباب الخارجي فبادر إليه. استقبل القادم بدهشة وترحاب معا، وهو نحيل طويل يكاد يماثله شكلا ويقاربه في العمر. أجلسه على مقعد إلى جانب مقعده وهو يتمتم: خطوة عزيزة، أهلا بك. - علمت بالخبر وأنا عائد من سهرة طويلة فلم أتردد في المجيء إليك. - أشكرك يا عزيزي، إنها ساعة متأخرة جدا. - لا شكر على واجب. - ولكن كيف علمت بالخبر؟ - من أكثر من مصدر فيما يخيل إلي. - لم أتصور أن أحدا علم به سوى أمها. - أنت يا صديقي لا تعلم بما يدور حولك. - حدثني عن مصادرك! - لا أدري، لا أذكر ... - لا تدري ولا تذكر؟! - كنت وقتها ثملا بالشراب! - وكانوا سكارى؟ - المهم كيف حال الست؟ - قالت الطبيبة إنها ستلد ولادة طبيعية ... - حمدا لله. - ولكن السوابق تقلقني ... - لا لوم عليك في ذلك. - ولكن لا يجوز الخوف من السوابق أكثر مما ينبغي. - عين الحكمة والصواب. - أهذا هو رأيك أيضا؟ - علينا أن نستفيد من السوابق، لا أن نخافها. - كانت سوابق إجهاض جبري ونزيف. - لا أعادها من أيام. - ترى كيف يمكن الاستفادة منها؟ - بأن نتجنب الأسباب التي أدت إليها ... - ولكنه الحبل نفسه. - فلنتجنبه. - ولكن أمر الله نفذ، وكل شيء بأمره. - أظن لك دخل في الأمر أيضا؟ - طبعا. - مأثور عنك حب الأبوة بلا حدود. - لا أنكر ذلك. - صدقني إنه حب لا معنى له. - إنه أصل الوجود! - لا معنى له في هذا العصر. - إنها مداعبة ولا شك؟

فقال الصديق وهو يشير إلى الباب المغلق: أهذا وقت تجوز فيه المداعبة؟ - ولكنه أصل الوجود بلا ريب. - في عصرنا هذا تقع له مضاعفات لم تكن معروفة قديما. - الطبيبة قالت إنها ستلد ولادة طبيعية. - فليباركها الله. - ولكن الوقت طال وها نحن في الهزيع الأخير من الليل؟ - يا لها من معاناة تهتز لها الأفئدة! - أسعفني برأيك؟ - لا رأي لي يعتد به في هذه الشئون، ولكن ماذا قالت الطبيبة في السابقة الأولى؟ - كانت في الواقع داية؛ ولذلك أرجعنا الإجهاض الجبري إلى جهلها. - والسابقة الثانية؟ - قالت الطبيبة إن النزيف حدث نتيجة لعيب في الجهاز. - وهل برأ الجهاز من عيبه؟ - هيأت لها ما استطعت من دواء. - إذن فلا داعي للقلق. - ولكن الوقت طال والمعاناة تتراكم.

وانطلقت من وراء الباب المغلق تأوهة عميقة، أعقبتها صرخة مدوية، ثم موجة متقهقرة من الأنين. صمت الزوج محدقا في الباب، ولما مضى الانتظار بلا نتيجة، قال الصديق: لعله البشير ... - هي حال تتكرر من أول الليل. - يا لها من ولادة عسيرة! - ولكن الطبيبة قالت إنها ستلد ولادة طبيعية. - إذن فهي ولادة طبيعية طويلة! - من أين لي باليقين ؟ - فلنرجع إلى أهل الخبرة. - لديها طبيبة ممتازة. - الآراء تختلف. - هل لديك اقتراح عملي؟ - دعنا نفكر. - قلت إن الآراء تختلف. - هذا قول صادق في ذاته. - كيف نبلغ اليقين؟ - الحقيقة بنت البحث! - إنك مغرم بالأقوال المأثورة. - سجية جميلة في ذاتها! - ولكن لا وقت لدينا للبحث. - هذا حق ... - فكري تبلبل. - هذا حق. - أراها حالا مرضية. - هي أحيانا كذلك! - لم يبق إلا الصمت والانتظار. - قد تفوت فرصة نادرة! - فماذا أفعل؟

نامعلوم صفحہ