شهر العسل
العالم الآخر
فنجان شاي
روح طبيب القلوب
موقف وداع
وليد العناء
نافذة في الدور الخامس والثلاثين
شهر العسل
العالم الآخر
فنجان شاي
روح طبيب القلوب
موقف وداع
وليد العناء
نافذة في الدور الخامس والثلاثين
شهر العسل
شهر العسل
تأليف
نجيب محفوظ
شهر العسل
تهلل وجهاهما بالرضا وهما يدخلان. وقفا تحت النجفة الصغيرة يلقيان نظرة شاملة على الحجرة، وقاسا بعين دقيقة المسافة بين الكنبة الرئيسية والصوان الجامع للراديو والتلفزيون. ونظرا إلى الفريجدير القائم في الركن بشيء من الفتور؛ إذ كانا يتمنيان لو اتسعت له حجرة السفر. قال باسما وهو يختال في بذلته الجديدة: مباركة عليك الشقة الجديدة يا حبيبتي. - مباركة عليك يا حبيبي. - يتجلى ذوق والدتك في تنسيقها البديع. - ولا تنس دور ذوقي في ذلك.
فلثم خدها وهو يضحك، ثم قال: شقة لقطة! - حقيقة. - ترى أين أم عبد الله؟ - لعلها في المطبخ أو الحمام. - ترينها يا عزيزتي أهلا للثقة؟ - كل الثقة، لم تفارق ماما مذ كانت في العاشرة. - ستقيم في شقتنا أكثر منا، وستدير جميع شئونها، أما نحن فلن نهنأ بها إلا حين الراحة والنوم. - ندر بين أمثالنا من الأزواج العاملين من ظفر بمدبرة بيت مثلها. - أي بهجة لشقة جميلة كهذه بدون مدبرة؟ - هذه هي الحقيقة، هي في ذات الوقت مشكلة، ولكن ...
وجعلت تتشمم الهواء في قلق وتتساءل: ألا تشم رائحة غريبة؟ - رائحة غريبة؟
وراح يتشمم بدوره ثم قال: أجل .. ثمة رائحة غريبة. - رائحة طبيخ.
وقاما بجولة تفتيش في الأركان؛ تحت المقاعد، تحت الكنبة، وصاح الشاب باستنكار: توجد حلة تحت الكنبة. - حلة؟!
أخرجها الشاب بوجه متقزز وهو يتمتم: حلة طبيخ في حجرة الجلوس! - وهو طبيخ حامض، ما معنى ذلك؟! - شيء لا يتصوره العقل.
وصفق بيديه بشدة ونرفزة، وصاحت الفتاة: أم عبد الله!
ترامى إليهما وقع أقدام ثقيلة. دخل رجل قصير بدين، مصبوب في كتلة قوية كأنه برميل. غليظ الرأس والوجه والعنق كأنه مصارع محترف، ومن عينيه الغائرتين تنبعث نظرة جامدة بليدة. وقف في بنطلونه الترابي وقميصه الأسود وحذائه المطاط ، ينظر إليهما ببلادة وعدم اكتراث. صرخت في عينيهما نظرة ذاهلة غير مصدقة. تبادلا نظرة سريعة، ثم عادا للحملقة في وجهه البليد. وسألته الفتاة: من أنت؟
لم يجب. كأنه لم يسمع. سأله الشاب بصوت رنان: من أنت؟
فنظر إلى الشاب مليا ثم تمتم بهدوء بارد: أنا ابن أم عبد الله. - ومن أذن لك بدخول الشقة؟ - استدعتني لأحل محلها في أثناء غيابها. - أليست في الداخل؟ - سافرت إلى طنطا لحضور مولد السيد. - متى سافرت؟ - صباح اليوم.
فقالت الفتاة باستياء: لكنها لم تستأذن منا، بل ولم تخطرنا ...
فجعل ينظر ببلادة وعدم اكتراث حتى سأله الشاب: ومتى ترجع؟ - لا أدري. - وماذا كنت تفعل؟ - لا شيء ... - ماذا تعرف من شئون المنزل؟ - لا شيء. - ألك حرفة تتعيش منها؟ - كلا. - وكيف تعيش؟ - آكل وأشرب وأنام.
فنفخ الشاب في يأس، ثم سأله: ولم استدعتك أمك إذا كنت لا تحسن شيئا؟ - لأحل محلها في أثناء غيابها. - ولكنها تقوم هنا بكل شيء. - قالت لي ابق هنا حتى أرجع.
لوى الشاب شفتيه امتعاضا. أشار بحدة إلى الحلة، وسأله: ألم تر هذه الحلة من قبل؟
فنظر الرجل إليها في بلاهة وقال: لا أتذكر. - ألم تأكل من الكرنب؟ - أكلت. - في هذه الحجرة، أليس كذلك؟ - لا أتذكر! - ثم دفعت بها تحت الكنبة؟
فقال في ابتهاج طارئ: بحثنا عنها طويلا ...
فنفخ الشاب في غيظ وقال: لا جدوى من الكلام، على أي حال تفضل غير مطرود!
فاستدار ليرجع من حيث أتى؛ ولكن الشاب استوقفه ثم أشار إلى ردهة مفضية إلى الباب الخارجي، فمضى الرجل نحوها بشكل آلي، غاب قليلا ثم رجع وهو يقول: ذاك الباب يؤدي إلى الخارج! - أعرف ذلك. - أتطردني؟ - لا حاجة بنا إليك؟ - قالت لي ابق حتى أرجع. - ولكني صاحب الشقة! - أنا لا أعرف إلا أمي!
فصاحت الفتاة: أتريد أن تبقى بالقوة؟
فقال بثقة: سأبقى حتى ترجع. - ولكننا لا نريدك. - سأبقى حتى ترجع.
فذهلت الفتاة ونظرت صوب زوجها. شعر الفتى بأنه مطالب بأداء واجب فوق احتماله. وبدا أمام الرجل كغصن طري حيال جذع شجرة بلح . واحتدم غضبا فصاح بالرجل: اذهب في الحال. - قالت لي ابق حتى أرجع! - اغرب عن وجهي بلا مناقشة. - لن أذهب، اذهب أنت إذا شئت!
أعماه الغضب فانقض على الرجل ودفعه بكل قوته. لم يتأثر الرجل أقل تأثر ودفعه بكتفه دفعة بسيطة فانقذف الشاب إلى أقصى الحجرة متعثرا في طريقه بخوان، فسقطا سويا. نهض بسرعة لاعنا؛ ولكنه كف عن تجربة قوته. واندفعت الفتاة نحو النافذة المطلة على الطريق ففتحتها على مصراعيها، وراحت تصوت بأعلى صوتها مستغيثة. وإذا بأصوات ترتفع لاعنة في غضب، وإذا بالطوب ينهال على النافذة ويمرق بعضه إلى داخل الحجرة حتى تنحت الفتاة والفتى في ركن آمن وهما مذهولان.
تساءلت وهي ترتجف: ماذا جرى للناس؟ - يقذفوننا بالطوب بدلا من إغاثتنا!
والرجل الغليظ لم يسكت. تقدم خطوات فتناول الخوان المقلوب وجرى نحو النافذة فرمى به منها بأقصى قوته، ثم أغلق النافذة! صاح الشاب: ماذا فعلت؟
فعاد إلى موقفه وهو يقول: طيلة الوقت تبادلنا الضرب. - الضرب؟ - وانتصرت عليهم دائما!
فسألته الفتاة بحنق: كيف جعلت من شقتي ميدان قتال؟ - الحق عليهم، كلما ظهرت في نافذة بادروني بمعاكساتهم، اضطررت إلى قذفهم بالأطباق فقذفوني بالطوب ... - لقد جعلت من أهل الطريق أعداء لنا! - لا يهمك. - ألا ترى أنك تتصرف في الشقة كما لو كانت ملكك الخاص؟ - الحق عليهم كما قلت لك. - إنك تبدد الأشياء الثمينة وتعرضنا للخراب. - أهذا جزاء من يدافع عن شقتك؟ - يا سيدي تشكر، ما نريد منك إلا أن تذهب بسلام!
هز منكبيه العريضين ثم ذهب إلى الردهة المفضية إلى الباب الخارجي. لكنه لم يلبث أن عاد فرفع الحلة في هدوء ومضى بها إلى الداخل. همست الفتاة: النجدة!
انتقل الشاب إلى التليفون فرفع السماعة، جعل ينقر عليه. ثم أعادها غاضبا وهو يقول: حرارته مفقودة! - رباه! - لعله عبث به، ومن يدري؛ فلعله عبث بالراديو والتلفزيون أيضا ... - كارثة حلت بشقتنا الجديدة، ولكن لا بد من عمل شيء. - فلنذهب سويا إلى نقطة الشرطة. - قد ينتقم من الشقة في غيابنا! - لا بد مما ليس منه بد.
مضيا معا نحو الباب الخارجي ولكنهما رجعا وهو يقول: أغلق الباب بالمفتاح!
ومضى يفتش عن المفتاح حيث وضعه على ترابيزة صغيرة فلم يجده .. تمتم: ليس الوحش غبيا كما تصورت. - لقد سجننا! - حتام نمضي في السجن تحت رحمته؟ - ذلك لا يمكن أن يقع ولا في الخيال!
وإذا بدفقة مروعة من أصوات خشنة مختلفة المصادر تنقذف من ناحية المطبخ؛ وقع أقدام، ارتطام بجدران، سقوط أوعية، تحطيم آنية، صيحات وعيد. وقبل أن يفيق الزوجان من الصدمة الجديدة اندفع الرجل الغليظ مشتبكا مع آخر في مثل حجمه إلى الحجرة وهما يتصارعان. تصارعا بعنف ووحشية، وكل منهما يحاول قهر الآخر؛ فمرة هذا تحت الآخر، ومرة العكس. حتى تمكن الرجل الغليظ من غرس الآخر تحته دون أن يدع له فرصة للإفلات أو الحركة، ثم هتف بصوت جذلان: فيفا فلا!
ونهض فنهض الآخر. تصافح الاثنان كما يتصافح متباريان عقب مباراة عادلة. وانتبها إلى الزوجين فجعلا ينظران إليهما ببلادة وبرود. وحل صمت ثقيل كالاختناق. ثم خرج الشاب من ذهوله فأشار إلى الرجل الجديد وسأل ابن المدبرة: من هذا؟ - صديق! - أكان موجودا معك من قبل؟ - نعم. - هل علمت أمك بوجوده؟ - كلا. - وكيف تدعوه إلى شقة آخرين؟ - دعوته لأني لا أحب الوحدة، ولنواصل تدريبنا ... - أأنت رجل عاقل؟ - نحن نتصارع في الموالد، ولا غنى لنا عن التدريب المستمر. - لعلك توهمت أنك صاحب الشقة! - أنا لا أحب الإقامة في البيوت!
فقالت الفتاة: إذن غادر بيتنا مصحوبا بالسلامة! - قالت لي ابق حتى أرجع ...
فقال الشاب: نحن على استعداد للذهاب، فلم أغلقت الباب بالمفتاح؟ - حتى ترجع أمي من المولد. - ولكننا نريد أن نذهب. - إلى أين؟ - يا له من سؤال! ألسنا أحرارا؟! - من أدراني أنكما صاحبا الشقة الحقيقيان؟ - أيداخلك شك في ذلك؟ - يجب أن تبقيا معنا حتى ترجع أمي من مولد السيد.
فعض الشاب على أسنانه من الغيظ وقال: على الأقل يجب أن تلتزم بالنظام!
فأشار الرجل الغليظ إلى زميله قائلا: أراد أن يجرب قوته معي، وقد رأيت النتيجة بنفسك! - حسبكما ما كان من ضجيج وتخريب. - لن يأتيك من ناحيتنا بعد ذلك إلا الطرب! - أريد الهدوء الشامل الكامل ... - ألا تحب الغناء والرقص؟ - الغناء والرقص! - معنا في المطبخ راقصة وبعض أفراد الجوقة!
فصاح الزوجان معا: ماذا تقول؟! - إنهم من الزملاء الموثوق بهم ... - لقد جعلت من الشقة ساحة مولد! - لم تعقدان الأمور بلا سبب؟ - كل ذلك وتقول بلا سبب؟! - ما كنت أتصور وجود ناس يكرهون الناس والطرب بهذه القوة!
ورفع منكبيه العريضين استهانة، ثم تأبط ذراع صاحبه، ومضى به إلى الداخل. وجعلا يتبادلان النظر في غضب ويأس حتى ترامى إليهما دق دف وعزف مزمار وإيقاع رقص، وما لبثت الحناجر الخشنة أن غنت بغرابة:
يا زرمباحه يا زرمباحه
خواتمك ستة وقداحه
هتفت الفتاة: سأجن إن لم أكن جننت بالفعل.
ومضى الشاب نحو النافذة بتصميم، فقالت له محذرة: الطوب! - لعلهم ذهبوا.
ثم وهو يمسك بمقبض الضلفة: علينا أن نوصل صوتنا إلى الناس!
ولكن ما كادت الضلفة تتحرك حتى انهال الطوب عليهما كالرصاص. أغلقها مرة أخرى وهو يسب ويلعن، وتساءل فيما يشبه التنهد: غلبنا على أمرنا؟
فتمتمت: إنه كابوس قاتل ... - ولكن لا بد أن يوجد مخرج. - أجل، يجب أن يوجد مخرج. - ولكن ما هو؟
وتفكر قليلا ثم تساءل: لنسأل أنفسنا: ماذا نريد؟ - أظننا جئنا ونحن نحلم بقضاء شهر عسل سعيد! - ولكن عاقنا عن ذلك وجود أولئك الشياطين. - فعلينا أن نتخلص منهم. - طيب، فلنفكر كيف يمكن التخلص منهم؟ - الباب مغلق، التليفون معطل، النافذة ينهال عليها الطوب. - إذن فلا مفر من الاعتماد على أنفسنا! - ولكننا دونهم في القوة بما لا يقاس! - ولكن هنالك الحيلة. - أجل .. الحيلة. - هل يسعنا حبسهم في المطبخ؟ - يلزمنا معاينة المكان هنالك. - سأذهب لصنع فنجال قهوة.
ودون تردد غادر الحجرة، ثم رجع بالقهوة، فسألته بلهفة: ماذا وجدت؟
فقال بضيق: باب المطبخ مفتوح، والزمار جالس على الأرض مسند الظهر إليه؛ ولكن لم يمت الأمل. - حقا؟ - اختلست مفتاح المطبخ من فوق الرف. - ألم تعثر على مفتاح الشقة؟ - ليس الرجل بالغباء الذي نتصوره، ولكنهم ... - ولكنهم؟ - يجرعون النبيذ بإفراط! - ننتظر حتى يفقدوا الوعي؟ - أجل. - لكنه سلاح ذو حدين! - أجل، قد يزدادون جنونا، ولكن إذا غلبهم النوم فسوف يتساوون بالأموات. - علينا أن ننتظر الليل. - وليس الليل ببعيد!
تنهدت في ضيق شديد متسائلة: متى ترجع أم عبد الله؟ - ذاك يتوقف على انتهاء المولد. - ألديك فكرة عن تاريخ الليلة الكبيرة؟ - لا فكرة عندي عن المولد.
راحت الفتاة تذرع الحجرة محنية الرأس تحت هم ثقيل. حانت منها التفاتة إلى ما وراء الفريجدير فشد بصرها شيء ما. اقتربت منه ممعنة النظر، ثم قالت باستغراب: أرفف الفريجدير مخلوعة ومطروحة أرضا وراءه!
وانتقلت إلى باب الفريجدير فجذبته؛ وإذا بكتلة بشرية تندلق من داخله منكفئة على وجهها فوق الأرض.
صرخت الفتاة بجنون وهي تترنح. وثب الشاب إليها فتلقاها بين ذراعيه. تفحص الكتلة المطروحة بذهول، انحنى فوقها حتى رأى الوجه، ثم هتف: أم عبد الله!
أجلس الفتاة على مقعد ورجع يفحص المرأة ويجسها، ثم تمتم بذهول: جثة هامدة!
واقتحم الحجرة الرجل الغليظ وجوقته وهو يقول بنبرة انتقاد: ألا تكفان عن الضوضاء؟
وتابع عينيهما ببصره حتى استقر على الجثة المنكفئة فتساءل: ما هذا؟
ولما لم يسمع جوابا صاح بغضب مخاطبا الشاب: أجب!
فقال الشاب بغضب كظيم: إنها جثة ... - جثة؟ - نعم. - أهي شقة أم مقبرة؟ - كانت شقة فأصبحت مقبرة ... - أين وجدتها؟ - في الفريجدير.
فقال المصارع الآخر ببلاهة: إنهما يتغذيان على لحوم البشر.
فقال الشاب بحدة: لقد قتلت ثم دفنت في الفريجدير.
فسأله الرجل الغليظ وعيناه تلتمعان بالسكر: وماذا حملك على قتلها؟ - لقد قتلت من قبل وصولنا إلى شقتنا. - فمن الذي قتلها في رأيك؟ - دعني أسألك أنت؛ فقد كنت قابعا هنا من قبل أن نحضر.
فالتفت الرجل إلى أفراد جوقته وسألهم: ما رأيكم في مكابرة هذا الرجل؟
فقال الزمار: يقتل القتيل ويسأل عن قاتله!
وقال الطبال: إنه مجنون، لا بد أن يكون مجنونا من يرتكب جريمة كهذه.
وقالت الراقصة: ودفنها في الفريجدير على أمل أن تتحول إلى ديك رومي!
فقال الشاب مخاطبا الرجل الغليظ: انظر إلى وجه الجثة. - لا تهمني معرفته. - إنها جثة أمك!
فضجت الجوقة بالضحك ، فصاح الشاب: إنها جثة أم عبد الله.
فقال الرجل الغليظ بصوت ملتو: أمي ذهبت إلى مولد السيد!
فأشار الشاب إلى الجثة وسأله في هياج: أليست هذه بأمك؟
قالت الراقصة: كانت أمه يا مجرم!
وقال الزمار: أمه ذهبت إلى مولد السيد.
وقال الطبال: إنه يدعي الجنون ليفلت من العقاب.
وصاح الرجل الغليظ: كيف تنبش القبر لتعبث بالجثث؟!
فهتف الشاب: لن تفلتوا من يد العدالة.
فقال الزمار: تقتل مدبرة بيتك، يا لك من وغد خسيس!
وقالت الراقصة: قتلها كيلا يدفع لها أجرها.
وقال له الرجل الغليظ: الويل لك أيها المجرم.
فصاح الشاب متحديا: أهذا ظنكم حقا؟ إذن فاستدعوا الشرطة!
فضجوا بالضحك، وقال الرجل الغليظ: نحن الشرطة ونحن القضاة.
فقالت الراقصة: فلنقدمه إلى المحاكمة.
فقال الرجل الغليظ: بعد أن نفرغ مما كنا فيه.
وتعالى هتافهم في حبور، ثم غادروا الحجرة وراء الرجل.
أغمض الشاب عينيه إعياء. تجنب النظر نحو عروسه المنطرحة فوق المقعد. رفع الجثة من الأرض فأرقدها فوق الكنبة وغطى وجهها بخمار كان معقودا حول رقبتها. انتقل إلى فتاته متمتما: كيف حالك؟
فقال بصوت ضعيف: سيقضون علينا قبل أن نقضي عليهم. - من العسير أن يتخيل إنسان ماذا تكون خطوتهم التالية، فهم لا يخضعون لمنطق. - علينا أن نجد حلا سريعا. - وأن نتوقع ما يخطر بالبال وما لا يخطر. - لن يتركونا أحياء.
فقال محتدما بالغضب: إذا لم يكن من الموت بد!
فهمست: هذا جميل؛ ولكننا نفضل ألا نموت. - ولا أحد يريد أن يموت، من رأيي أن تستريحي قليلا في حجرة النوم. - وأنت؟ - لا أكف عن التفكير، وأردد في نفسي بلا انقطاع: إذا لم يكن من الموت بد! - هل يحاكمونك حقا؟ - لن يتورعوا عن شيء. - إنه الكابوس. - وربما قتلوني كما قتلوا المرأة الطيبة. - ترى أهي أمه حقا؟ - لن يغير من الأمر شيئا.
فقالت بإصرار: يجب ألا نموت كالأغنام. - حتى الموت، يجب أن ندافع عن أنفسنا حتى الموت، وأن ندخر لهم ضربة مذهلة إن أمكن. - أريد أن أفعل شيئا ذا بال أكثر من مجرد انتظار نتيجة معركة. - فكري، فكري لحسابك، نحن في موقف لا يجوز لأحدنا فيه أن يدعي وصاية على آخر. - أعترف لك بأنني أتغلب على الخوف بقوة لم تكن متوقعة. - الموقف أكبر من الخوف. - هذا حق. - والحرص على الحياة خليق بأن يضيع الحياة. - قول جميل. - يجب أن تكون لنا القوة لتنفيذه؛ هذه هي مشكلة الأقوال الجميلة. - ألديك خطة جديدة؟ - لا أكف عن التفكير. - وأنا أيضا. - المهم قوة العزيمة إذا وفقنا إلى خطة. - مهما يكن من عواقبها ...
وهي تتنهد: كنت أحلم بشهر عسل بديع. - انبذي الأحلام التي تضعف الهمم. - طيب. - استريحي قليلا في حجرة النوم. - أخشى أن يلاحظوا اختفائي إذا قدموا. - إنهم سكارى، وهم يقصدونني أولا.
قامت. قبلته. مضت إلى حجرة النوم.
ومضت فترة قصيرة ثم دخل الرجل وجوقته. لمعت أعينهم بوهج الخمر وشعت أساريرهم شرا.
وقفوا حيال الشاب على هيئة نصف دائرة مركزها الرجل الغليظ. أشار الرجل إلى الجثة وسأل: من قتل هذه المرأة؟
فأجابت الجوقة في نفس واحد: أنت يا معلم!
ضحك وضحكوا. ثم سأل: بم تحكمون علي؟
فأجابوا: بالسلامة.
فضحك وضحكوا. ثم سأل: من الذي انتهك حرمة الجثة؟
فأشاروا إلى الشاب وقالوا: هذا المجرم. - بم تحكمون عليه؟ - بالإعدام.
فرمى الشاب بنظرة وسأله: هل لديك ما تدافع به عن نفسك؟
فلم يجب. نقل بصره بين الجمع بسرعة وتحفز وانتباه. وتوثبت الجوقة للانقضاض لدى أول إشارة.
عند ذاك دوت صرخة فظيعة في حجرة النوم؛ اندفعت الفتاة إلى الحجرة وهي تصيح: رجل في صوان الملابس!
وهتف كثيرون في دهشة: رجل!
وظهر الرجل في مدخل الحجرة. عملاق، عملاق ينطق وجهه البرنزي بالقسوة والتحدي والاستهتار. تبادلوا نظرات ذاهلة وغاضبة، وتأهبوا للعواقب ... لم يبد في وجه القادم الجديد أي ارتباك ولا خوف. بل تساءل بصوت أجش: من أنتم؟ وماذا جاء بكم إلى هنا؟
فسأله الشاب بدوره: من أنت؟ وماذا جاء بك إلى هنا؟
أجاب العملاق ببساطة: إني في بيتي! - بيتك! .. لكنه بيتي، وتحت يدي ما يثبت ذلك. - لا أحب الهذر، إنه بيتي وكفى.
فقال الرجل الغليظ بحقد: دجال ، أنت لص منازل حقير، سأتذكر فورا متى رأيتك أول مرة ... - صه أيها البهلوان وإلا حطمت أضلعك! - أنت تقول ذلك يا لص المنازل؟ - مصارع موالد زائف، المصارعة الحقيقية شيء آخر، إني أعرفكم أيها المهرجون.
فقال له الشاب: هذا بيتي، وأنت لص كالآخرين. - أنت تهذي. - سيحكم بيننا القانون. - سأقذف بك من النافذة، هذا هو القانون الذي أعترف به.
فسألته الفتاة: إذا كنت صاحب البيت كما تزعم، فلم أخفيت نفسك في صوان الملابس؟ - أنا حر في بيتي، أرقد حيث يطيب لي. - لا أحد يرقد في صوان الملابس. - إنه خلوتي المفضلة، ولست مسئولا أمام أحد.
فقال الرجل الغليظ: أنت لص، لص منازل حقير، إني أعرفك. - اخرس أيها المهرج الحقير.
فقال الشاب: لندع الشرطة ولنترك لها الفصل في الأمر.
فقال العملاق بوضوح: لا أحب الشرطة.
فقال الشاب غاضبا: فأنت لص كما قال هذا القاتل. - القاتل؟! هل قتل أحدا هذا المهرج؟ - ها هي جثة ضحيته!
فمد العملاق بصره إلى الجثة وقال بدهشة: أي تقدم أحرزته يا مهرج الموالد! - هي أمه أيضا! - قاتل أمه! .. هذا شرف لا تستحقه أيها المهرج، من أين جاءك هذا الشرف؟
فقال الرجل الغليظ بحنق: يا لص المنازل، احذر إثارة الزلازل!
فقال العملاق ساخرا: أهلا بالزلازل، هي دواء موصوف لصحتي!
في أثناء ذلك مضت الفتاة تتسلل ناحية المطبخ ... خطوة فخطوة، وعين الفتى تلحظها بقلق. وغطى على تحركاتها بتوجيه الخطاب إلى الجميع قائلا: ما أحوجنا إلى تحكيم نزيه! فهذا رجل يتوهم أنه قاض، وهو في الحقيقة قاتل، وذلك رجل آخر يزعم أنه صاحب البيت، وتؤكدون أنه لص منازل حقير، وأنا أقول إنني صاحب البيت، على حين يتهمني هؤلاء بأنني قاتل المرأة الطيبة. فما المخرج من هذه الفوضى؟ لا مفر من أن نستدعي الشرطة!
فقال العملاق باستهانة: سيقذف بنا اقتراحك إلى قعر بئر عميق. - بل ليس أسهل من استدعاء الشرطة. - ولكن المشاكل تبدأ بمجيئها؛ ستحرر لنا محضرا طويلا عريضا لا بداية له ولا نهاية، ثم تأمر بتحويلنا إلى النيابة، ويستمر التحقيق أياما وأسابيع: من القاتل ؟ من اللص؟ من صاحب الشقة؟ ... ثم تأمر بتحويلنا إلى المحكمة، ويتقاذفنا الاتهام والدفاع حتى نتفق، ونؤجل من جلسة إلى أخرى، ولن ينطق بالحكم حتى يكون أول إنسان قد هبط فوق سطح القمر، وفي أثناء ذلك تغلق الشقة وتختم بالشمع الأحمر؛ فتصير نهبا للحشرات والأشباح، لا تنس هذه السلسلة المعقدة التي لا نهاية لها. - ولكنها حاسمة وعادلة! - أيسر من ذلك أن تنقض على خصمك فتحطم جدران بطنه بلكمة صادقة، فيعترف لك بحقك، ثم تتصافحا ويذهب كلاكما إلى حال سبيله.
وتقدمت الراقصة خطوة وقالت: فيم تتناقشون والعقد محلولة بنفسها لا تحتاج إلى حلال؟
فقال العملاق ساخرا: لنستمع إلى الغازية!
ولكنها قالت بهدوء دون تأثر أو غضب: لا حاجة بنا إلى البحث عن القاتل؛ فقد حوكم وقضي عليه بالإعدام!
فقال الزمار بحماس: وبإعدامه يبطل ادعاؤه ملكية الشقة.
وعادت الراقصة تواصل حديثها قائلة: وتصبح الشقة ملكا لنا جميعا على قدم المساواة!
فابتسم العملاق لأول مرة؛ ولكنه قال بعجرفة: لا أقبل المساواة!
فقال الرجل الغليظ بعجرفة مماثلة: وأنا أرفضها!
فقال العملاق: ليكن نصيب كل بحسب قوته.
فقال الرجل الغليظ: ليكن!
فقالت الراقصة: الخير بين أيدينا أكثر من أن يحصى!
أحاطت الجوقة بالرجل الغليظ تحاول إقناعه. وتنحت الراقصة بالعملاق جانبا لتلطف من صلابته. أما الزوجة فقد رجعت خفية إلى موقف زوجها. وقفت لصقه وهي تدس شيئا في جيبه. وراحا يراقبان الحشد الذي يتآمر على قتلهما ونهب بيتهما بغرابة. غير أن طارئا سرى في الجو بخفة كالهمس، رائحة ما، وشيء كالزفير أو الهسيس. وتفشى في دفقات كالفحيح مفجرا رائحة مميزة كالدخان. وانتشرت طقطقة مجنونة بسرعة غير متوقعة، فاقتحمت على المتآمرين خلوتهم. جذبت منهم بعنف أعينا محملقة نحو ردهة المطبخ. وما لبثت أن غابت في سحابات من دخان تسبح فيها عناقيد من الشرر، وتلاطمت صرخاتهم في غضب: النار! - حريقة في المطبخ! - الشقة في خطر. - كل شيء في خطر. - فلنطفئها بأي ثمن.
ودبت حركة وحشية. ولكنها لم تكن إلا صدى خفيفا لحركة رعدية أطبقت على الطريق في الخارج. ارتفع الصياح. دق جرس الباب بلا انقطاع. انهال دق عنيف على الباب الخارجي. وهرع المتآمرون إلى ردهة المطبخ؛ غير أن العملاق مال نحو الشاب فجأة وهو يصيح: لن أتركك حرا.
انقض على الشاب. وإذا بالشاب يفاجئه بضربة من سكينة استلها من جيبه فاستقرت في القلب، وتهاوى على أثرها العملاق دون أن ينبس. لم تغب الواقعة عن الرجل الغليظ، فوثب على الشاب وهو يصيح: خيانة!
وفي الحال صرعه وبرك فوقه، ولكن الزوجة استلت بدورها سكينة مدسوسة في جيب معطفها، وبكل قوتها غرزتها في عنق الرجل.
وتتابعت الأحداث في سرعة البرق؛ تحطم الباب الخارجي، اندفع منه رجال متهورون، ورن جرس المطافئ، وصفارة النجدة، وارتطمت في الشقة الجديدة قوى المقاومة بقوى الغدر؛ فانخرطت في معركة شاملة تحت ألسنة اللهب المندفع والماء المتدفق وقطع الأثاث المتناثرة. •••
وفي المساء نشر الهدوء ألويته فوق الحي جميعه. خلت الشقة من الغرباء، ولم يبق بها قائم، إن هي إلا أشلاء مقاعد وحطام أجهزة ونفايات مفارش. جلس الزوجان على أريكة تحت نجفة صغيرة لم ينج من مصابيحها إلا شمعة واحدة شعت ضوءا شاحبا. لم يخل وجهاهما ورأساهما من كدمات وتسلخات وأورام خفيفة، أما ملابسهما فقد تمزقت في أكثر من موضع، وتلوثت بالسناج. جعلا ينظران فيما حولهما بوجوم ويتبادلان النظر. وفجأة أغرقا في ضحك هستيري ركبهما طويلا، حتى رجعا إلى الصمت والوجوم. ورغم كل شيء فإن القلب لم يخل من ارتياح خفي وامتنان، وتردد صوته في إعياء: ضاع كل شيء.
فربتت على كتفه بحنان وقالت: نجونا بأعجوبة!
فهز رأسه في تسليم وتمتم: أجل، نجونا بأعجوبة.
ثم بنبرة وشت بنشوة طارئة: لم يضع شيء لا يمكن تعويضه.
العالم الآخر
رقصت الفتاة على عزف جوقة صغيرة في القهوة الوحيدة بالدرب. جميع المقاعد خالية في تلك الساعة من الأصيل عدا مقعدين أمام القهوة؛ احتلت المعلمة أحدهما، وجلس على الآخر شاب تابع لها. تبدى بلاط الدرب الضيق نظيفا لم تطأه قدم بعد. أما الشمس فتوارت وراء البيوت القديمة طارحة آخر دفقة من شعاعها على أسوار الأسطح المتآكلة. وعلى جانبي الدرب - أمام الأبواب المفتوحة - جلست نساء على كراسي خيزران في أزياء متهتكة وزينة فاقعة يدخن ويتبادلن الأحاديث. قالت المعلمة لتابعها الشاب: حياتنا خنوع واستسلام ودفع إتاوات، حتى متى؟
فقال التابع، وهو متين البنيان في العشرين من عمره: حتى تتهيأ الفرصة للقضاء عليه! - متى تتهيأ الفرصة؟ - كل شيء بأوانه، وإلا دمرنا تدميرا لا يبقي ولا يذر. - مهنة كالقطران؛ ادفع، ادفع، ادفع؛ للطبيب .. للشرطي .. للضابط ... وكله كوم وشيخ البلطجية كوم وحده، هل قضي علينا أن نشقى بمهنة جزاؤها النار وبئس القرار لنبدد مكاسبنا على كل من هب ودب! - لكل عمل متاعبه. - ما أكثر الذين يفوزون باللقمة الهنية بلا قرف! - الصبر طيب يا معلمة.
فبصقت المعلمة بازدراء وقالت: الليلة موسم، وعلينا أن نحقق أكبر ربح، بالإضافة إلى نفقات الحكومة والبلطجية! - ستكون ليلة مباركة. - همتك، فتح عينك، خذ بالك من النسوان! - اطمئني يا معلمة، ولكن الرجل المرعب سيمر آخر الليل ليأخذ الإتاوة.
ثم وهو يشير ناحية الفتاة التي ترقص داخل القهوة: وليجر وراءه أجمل بنت عندنا!
فتنهدت المعلمة قائلة: حسبي الله، ولكن أمامها ليل طويل قبل ذلك تستطيع أن تحول ساعاته إلى ذهب!
وقام التابع فدخل القهوة. أشار إلى الجوقة فكفت عن العزف. أخذ الراقصة من ذراعها وانتحى بها جانبا بعيدا عن الأنظار. وفي تلك اللحظة ظهر في مدخل الدرب شاب يافع يدل مظهره على أنه تلميذ أو طالب، ألقى على الدرب نظرة استغراب، ونقل عينيه بين النسوة في دهشة واضحة. تردد مليا، استعدت كل امرأة لاستقباله بحركة ترحيب، لكنه ألقى ببصره فيما أمامه بلا فهم أو مبالاة وتقدم نحو القهوة. حيا المعلمة برفع يده إلى جبينه، ثم سألها بأدب: أين صاحب القهوة؟
سألته بدورها وهي تتفحصه بإمعان: ماذا تريد منه؟ - أريده لأمر هام.
فأشارت إلى نفسها وهي تقول: محسبوتك صاحبة القهوة.
تساءل بدهشة: حضرتك؟! - حضرتي!
وضحكت ضحكة عالية ثم قالت: بشرى لنا، السماء تمطر أدبا! - لا مؤاخذة، أرجو ألا أكون أخطأت. - لا سمح الله، ولكن خيل إلي بادئ الأمر أنك زبون نهاري! - زبون نهاري؟! - ما علينا، ماذا تريد من صاحبة القهوة؟
فقال الشاب بجدية: يجب أن أقدم نفسي أولا، أنا مندوب لجنة الطلبة. - لجنة الطلبة؟ - اللجنة العامة للطلبة.
فتساءلت مازحة: ولم لم تجئ معك باللجنة لتقضي سهرة الموسم عندنا؟
فقال بجدية مضاعفة: نحن مندوبو اللجنة، انتشرنا في أنحاء القطر للدعوة إلى قرار خطير! - قرار خطير؟ - تعلمين حضرتك أن غدا هو الذكرى الأسيفة لمرور عام على إلغاء دستور الأمة؟
فقالت وهي ما زالت تتفحصه بذهول: حضرتي لم تعلم. - دستور الأمة! - دستور يا أسيادي. - الموضوع لا يحتمل المزاح. - ليس المزاح أفضل من الجد؟ - الموقف خطير، والضحايا يتساقطون كل يوم بالعشرات! - لا حول ولا قوة إلا بالله. - والوطن يطالبنا ...
فقاطعته: ما الذي جاء بك إلى هذا الدرب؟ - وقع شارع كلوت بك في قرعتي، مررت على المحال والدكاكين والمقاهي فوجدت استجابة شاملة، سيغلقون الأبواب جميعا بلا استثناء غدا، وأنا عائد من مهمتي تنبهت إلى هذه العطفة التي لم ألحظها في مروري الأول. - ألم تدخلها من قبل؟ - كلا يا سيدتي. - لم لم توجه دعوتك إلى الفتيات الجالسات أمام الأبواب؟ - على فكرة، لم يجلسن بهذه الصورة المنافية لتقاليدنا؟ - اجلس، اجلس واشرب شيئا، أشهد الله أنك أظرف شاب قابلته في حياتي! - لا وقت عندي، أشكرك وأعتذر، علي أن أمر على بقية المحال في الدرب. - لا يوجد فيها إلا قهوتي. - حقا؟ إذن فقد انتهت مهمتي، ولكنك لم تعديني بشيء! - أي وعد؟ - بخصوص الإضراب العام المزمع تنفيذه غدا؟ - ماذا تريد؟ - أن تغلقي القهوة غدا. - سبحان الله! لم؟ - احتجاجا على إلغاء الدستور.
فضحكت المعلمة وقالت: عشنا وشفنا! - الجميع استجاب لنداء الوطنية. - عشنا وشفنا! - لم يعترض أحد، حتى الخواجات!
فغمزت له بعينها وسألته متهكمة: أأنت وحيد مامتك؟
فقال وهو يداري استياءه: لا وقت للمزاح، ولا للخروج على الإجماع.
فهتفت المعلمة بحدة لأول مرة: يا دافع البلاء يا رب، لا يكفينا رجال الحكومة والبلطجية، حتى ينضم إليهم مندوب الطلبة والدستور! - الزعيم نفسه سيطوف بأنحاء القاهرة ليتفقد حال الإضراب بنفسه! - الزعيم سيشرفنا هنا؟ - بشخصه! - أهلا به وسهلا، سنفتح له الأبواب بالمجان! - موقفك غير مفهوم يا هانم! - هانم!
وأغرقت في الضحك. - موقفك غير مفهوم! - أقسم برأس أمي إن الإنجليز سيخرجون من مصر قبل أن تفهم أنت أي شيء.
فقال الشاب بنبرة لم تخل من تهديد: أخشى أن يتعرض الخارجون عن الإجماع لغضب الشعب! - نحن نخدم الشعب من قبل أن تولد لجنة الطلبة. - حتى النساء سيشتركن في مظاهرات الغد.
أجالت المعلمة عينيها بين النساء القابعات أمام البيوت وصاحت بهن: اهتفن معي .. يحيا الإضراب!
وهتف أكثر من صوت: يحيا الإضراب.
ثم ضج الدرب بالضحك، وإذا بالتابع يرجع على صوت الهتاف. ولما رأى الشاب ارتسمت الدهشة في أساريره، وتنبه الشاب إليه فبادله دهشة بدهشة، هرول كل منهم نحو صاحبه وتعانقا بحرارة، وقال الشاب: لا أصدق عيني ...
فقال التابع: ماذا جاء بك إلى هنا؟
وعند ذاك سألته المعلمة: تعرفه؟ - جار العمر، وزميل من أيام المدرسة.
فقالت ساخرة: بسلامته يطالبنا بالإضراب غدا احتجاجا على إلغاء الدستور!
فضحك التابع ضحكة عالية وقال: والله زمان! .. فكرتنا بالذي مضى!
وجذبه من ذراعه فجلس وأجلسه على كرسي جنبه. وهنا قامت المعلمة وهي تقول للتابع: أنا ذاهبة، فتح عينك.
مضت خارج الدرب وقد وقفت النساء لها على الجانبين. التفت التابع نحو الشاب قائلا: متى رأيتك لآخر مرة؟ - منذ عامين؛ بل أكثر، أين اختفيت؟ كأنك هاجرت إلى الخارج! - وأنت .. ألا زلت غارقا في السياسة؟ .. ولكن كيف تريد لهذا الدرب أن يضرب؟! - إنه أعجب مكان رأيته في حياتي! - أما زلت تذاكر وتنجح وتشترك في المظاهرات؟ - وأنت! .. أين أنت؟ .. كم أوحشتني! - يخيل إلي أنك نسيتني! - أبدا، حتى والدك نفسه واتتني الجرأة مرة على أن أسأله عن مكانك ...
فضحك التابع وتساءل: وكيف أجابك؟ - نهرني، وحذرني من العودة إلى ذكر اسمك على مسمعه! - وكيف حال أسرتي؟ - بخير، ولكن لم انقطعت عن زيارتهم؟ - أليس لديك فكرة عن حينا هذا؟ - ولا عن أي شيء سوى الكتب والدستور! - باختفائك فقدنا أبهج صديق! - لعلك الوحيد من العالم الآخر الذي كنت أحن إلى رؤيته.
فنظر الشاب فيما حوله وقال: أوضح ما غمض علي أمره في هذا الدرب. - لكل شيء وقته، لا تتعجل! - أتقيم هنا؟ -نعم. - أتعمل هنا؟ - نعم. - وهؤلاء النسوة؟ - لطيفات وطوع الأمر! - مظهرهن فاقع مبتذل. - بدأت تفهم. - حقا! - وتطالبهن بالإضراب؟!
وضحك عاليا، وهم الشاب بالكلام ولكن الموسيقى عزفت بالقهوة فعادت الفتاة إلى الرقص. وانجذبت عيناه إليها بقوة، فتابع رقصها باهتمام وإعجاب. ثم شعر بعيني التابع تتجسسان عليه، فابتسم مرتبكا بعض الشيء وتمتم: فتاة جميلة! - حقا؟ - من الطراز الذي يستهويني! - ترى ما نوع هذا الطراز؟ - يصعب تعريفه، ولكنها ترقص في قهوة خالية! - مجرد تمرين؛ فالسهرة لم تبدأ بعد.
وتوقف العزف والرقص، وسرعان ما جاءت الراقصة وجلست إلى جانب التابع، وحمل إليها صبي فنجال قهوة فراحت تحتسيه بتمهل وتلذذ لا مبرر له.
حانت منها التفاتة إلى الشاب الجديد، فضبطت عينيه الصافيتين وهما ترنوان إليها بإعجاب لا خفاء فيه. وفي الحال وهبته عينيها بسخاء أذله وأثمله، فقال التابع وهو يتابع الحكاية باهتمام موجها خطابه للراقصة: صديقي معجب بك!
فقالت ببسالة: أرجو إبلاغه إعجابي أيضا!
فتساءل التابع ضاحكا: من أول نظرة؟ - نظرة كفاية وفوق الكفاية!
فقال الشاب في تلعثم: لا شك أني سعيد الحظ ...
فقالت الفتاة باسمة: ما أجمل أن أرى وجها يحمر خجلا!
فقال التابع للشاب بتحريض: أثبت رجولتك!
فغمغم الشاب بأصوات مبهمة حتى قالت الراقصة مازحة: تاتا .. تاتا .. خط العتبة!
فنهرها التابع قائلا: شجعيه ولا ترعبيه!
فأعطته الفنجال بعد أن فرغت منه وهي تقول: شف لي بختي!
فقلب الفنجال فوق الطبق ثم مضى يقرأ ما بداخله، قال: أمامك ليلة موسم طويلة غنية الموارد ... - وماذا أيضا يا سيدنا الشيخ؟ - في نهايتها يطرق بابك شيطان ليخطف روحك. - ألا ترى في طريقه رجلا جديرا برجولته؟
فاكفهر وجه التابع وأعاد الفنجال إلى الطبق، ولكنها ربتت على ذراعه ملاطفة، ثم سألته بنبرة جادة: ماذا أعددتم له؟ - ذهبت المعلمة لتجهز له الإتاوة ... - متى يحضر؟ - قد يمر في أي ساعة؛ لكننا لا ندري متى ينزل بقهوتنا!
فقالت بحنق: سيأخذني معه ولا يدري أحد متى أعود! - لا تحدثيني عن ذلك!
فسألت الراقصة الشاب راجعة إلى الدعابة: وأنت .. ألن تدافع عن حبيبتك؟
فتساءل الشاب: عم تتحدثين؟
ولكن التابع بادره قائلا: إن كنت تحبها حقا فهي لك! - لي؟! - النظرة والحب والتنفيذ تحدث في دربنا في ساعة واحدة! - أفندم؟
وقبل أن يجيبه تراءت المعلمة في أول الدرب. سارت بعجلة إلى داخل القهوة وهي تومئ إلى الراقصة فتبعتها في الحال. تبادل الصديقان نظرة طويلة، ثم قال التابع: الظاهر أنك وقعت! - ليس الأمر كما تتصور! إنها فتاة جذابة وفي عينيها نظرة بريئة! - بريئة! - بكل معنى الكلمة. - ألك ثقة في فراستك؟ - قلبي لا يخطئ. - هنيئا لك موهبتك، ولكن ألا ترغب في شيء من الترفيه قبل أن تخوض جهاد الغد؟ - يبدو أنك لم تعد تهتم بالسياسة! - خلنا فيما نحن فيه، ألا ترغب في شيء من الترفيه؟ - ألم يعد يهزك حدث إلغاء الدستور؟ - انظر إلى دربنا العجيب، تأمله لتتذكره فيما بعد، فيه تسعد النفس بجميع محرمات العالم الآخر؛ مثل الحب والحرية والاحترام!
ومال فوق أذنه وراح يهمس له وكأنما ينفث في أساريره الذهول، وهتف الشاب: فوق العقل! .. ولكن ماذا تفعل هنا؟ - أقيم هنا كما قلت لك. - ولكن ... - ألا ترى في عيني نظرة بريئة؟
ضحك الشاب وقال: إنه مكان عبور لا مكان إقامة! - لكل قاعدة استثناء كما قيل لنا في المدرسة! - من يتصور أنك ابن أبيك الرجل الطيب؟!
فبصق بازدراء وقال: اللعنة على الجميع!
وحل صمت فاتخذا منه هدنة للتفكير، ثم قال التابع بنبرة خلت من المزاح أو السخرية لأول مرة: إني أكره العالم الذي جئت منه؛ هجرته بلا أسف عليه، وإذا ذكرته فإنما أذكر عنف أبي وغباءه، وسجن المدرسة الرهيب، وهراوات الشرطة، وما إن اهتديت إلى هذا المكان حتى أدركت أنني ولجت أبواب الجنة! - الجنة! .. أي جنة؟! - هنا يتقرر مصيرك بقوة رأسك، ويتحدد مركزك المالي بجرأتك، وتقرر سعادتك بطاقة حيويتك، لا زيف على الإطلاق، اعتبرني الآن رئيس وزراء يعترض طريقه رجل خطير، فإذا تغلبت عليه يوما ما توجت ملكا!
فضحك الشاب قائلا: عاش الملك! - ما الأمل الذي تشقى من أجله؟ وظيفة حقيرة في حكومة حقيرة! ثم إنك عبد مضطهد، الاضطهاد يطبق عليك في بيتك، ويطاردك في الخارج، وكل عام أو عامين يتصدى لك دكتاتور كالكلب الأرمنت يلتهم لحمك ويهشم عظامك ... - أترى أن الحل أن أحمل متاعي وأقدم إلى هنا؟
فقال التابع معاودا سخريته: ذاك مطمح فوق قدرتك! - ولكن ... - ولكن؟ - ولكن رب زيارة من آن لآخر تنفع ولا تضر! - في هذا ما يكفي في الوقت الحاضر!
وغادرت المعلمة القهوة. هرع التابع إليها فقالت له: إني ذاهبة مرة أخرى، سأوفق بإذن الله، انتبه، وإذا مر قبل أن أرجع فتصرف بحكمة، إياك والتهور، وإلا هدمت الدرب فوق رءوسنا!
ذهبت المعلمة. عادت الراقصة إلى مجلسها، ومضت فترة قبل أن يسترجعوا جوهم السابق، وتساءلت الفتاة: هل قرأت البخت لصديقك؟ - نعم، في طريقه بنت حلوة ورخيصة. - هل تشبهني هذه البنت؟ - لا أدري، لم يبد في الفنجال إلا جسمها العاري وحده!
ومالت الراقصة بغتة نحو الشاب فقبلت خده. ضحك التابع وقال: قم .. لا تؤجل عمل اليوم إلى غد، فإن يوم الدستور غد!
ونهض التابع ومضى إلى داخل القهوة وهو يقول: سآمر لكما بكأس كونياك على حسابك!
جعل الشاب يبادلها النظرات. رأى حلية في عنقها فمد يده إليها وقربها من وجهه. ابتسم متسائلا: صورة من؟
قطبت الفتاة مأخوذة؛ ولكنه قال دون أن يلاحظ شيئا: طفل جميل، من هو؟
تبدى التأثر في وجه الفتاة حتى اغرورقت عيناها على رغمها. - رباه .. ما لك؟
أشاحت عنه بوجهها وهي توشك أن تنهار تحت موجة بكاء عاتية. - آسف .. آسف لا تؤاخذيني!
وعاد التابع بالكأسين فوضعهما على الخوان متمتما: «عشرة قروش فقط، ما أجمل عيونك!» ثم تنبه إلى الفتاة فتساءل: تبكين؟!
شرح الشاب له ما غمض عليه بإشارة من يده إلى الحلية، فاكفهر وجه التابع وهوى بكفه على خدها بوحشية غير متوقعة غير مبال بما تولى الشاب من ذعر وذهول، وهتف بها: تقيمين مأتما للزبائن في ليلة الموسم! اشربي!
تناولت الفتاة الكأس فتجرعته دفعة واحدة، وقدمت الآخر إلى الشاب؛ ولكنه تراجع قائلا بعصبية وحدة: كلا!
فقال له التابع: خذه معك إلى الحجرة! - الحجرة؟ - ستذهبان معا إلى ذلك البيت القريب. - كلا! - لا تتأثر كالأطفال، انس ما رأيت بسرعة، اذهب، لن تندم أبدا، البنت مدهشة، والبكاء ما هو إلا حيلة نسائية مشهورة!
وهرولت الفتاة إلى البيت وهي تقول بإغراء: اتبعني، تاتا .. تاتا .. خط العتبة!
وقال له التابع: قم قبل أن يجيء الليل وتتقاطر أفواج الزبائن.
فقال بإصرار: كلا. - كف! .. أنسيت الطراز الذي يستهويك؟ - لا رغبة على الإطلاق! - لا تعقد الأمور. - دعني من فضلك. - لقد سجل في حسابها أول زبون، فلا تتسبب لها في ضرر. - سأدفع ما تطلبه؛ ولكني لن أذهب. - عشرة قروش، هذا حسن، ولكنك لن تستطيع مواجهة الحياة بقلب كالملبن! - ولكن .. أنت .. كيف هان عليك أن تلطمها بتلك القسوة؟ .. أأنت ولي أمرها؟ - إني ولي أمرها .. وأعمل لصالحها ولصالح الكل. - أتعد بكاءها على وليدها جريمة؟ - لا وقت هنا للبكاء .. إني الأمين على الصالح العام!
فضحك الشاب على رغمه وقال: إنك تذكرني بفعل وكلمات الطاغية! لشد ما تغيرت! - كف عن التفلسف والحق بها! - لشد ما تغيرت! - لا تقس في الحكم علي، إن أي ضعف يعترينا هنا إنما يعني هلاكنا! - وماذا يضطرك إلى الإقامة هنا؟ - مهما يكن من أمره فهو أفضل من العالم الآخر. - ما هو إلا مزاح! - حقا! .. أنسيت؟ .. أليس الطاغية يحكمكم؟ والشرطة تجلدكم؟ والجيش يحصدكم؟ والإنجليز يتربصون فوق رءوسكم؟ لا أحد يحكمني هنا، وأنا لا أستعمل القوة إلا دفاعا عن الصالح العام.
فقال الشاب وهو يلوح بيده في أسى: وجئت بغبائي لأطالبكم بالإضراب غدا! - دستورنا هنا لم يلغ ولا يمكن أن يلغى؛ إنه دستور أبدي، وهو يقضي بأن نعمل لا أن نضرب، أن نعمل لا أن نبكي موتانا، ووراء هذه الجدران المتداعية نقدم لأمثالك السعادة التي يحلمون بها.
فقال الشاب كالحالم: وا أسفاه! لم أعجز عن تحقيق ما أريد؟ - ماذا تريد؟
ولما لم ينبس عاد يسأله: ماذا تريد؟
فأجاب بصوت حالم أيضا: أشياء كثيرة، ما يهمني منها الآن أن أرجع تلك الفتاة إلى العالم الآخر!
فضحك التابع وقال: لقد كانت هنالك ولم تجد مناصا من هجره والمجيء إلى هنا. - من الممكن أن تتوفر لها حياة مستقرة هنالك. - صدقني لقد لاذت بنا كما يلوذ الغريق بصخرة!
وفجأة ظهر قزم وهو يصفر ثم صاح: «إبليس». وفي الحال انفجرت في الدرب حركة شاملة؛ هرعت النساء إلى داخل البيوت وأغلقن الأبواب. قبض التابع على ذراع الشاب واندفع به إلى داخل القهوة وأغلق بابها. في ثوان خلا الدرب تماما وشمله الموت. ومرت دقيقتان، ثم ظهر الفتوة وسط عصابة مدججة بالنبابيت. ألقوا على المكان الخالي نظرة استعلاء وساروا على مهل في خيلاء. ساروا يرجون الأرض بوقع أقدامهم الثقيلة وارتطام نبابيتهم بالبلاط. مضى الزحف وئيدا حتى اختفوا وراء المنعطف. ومرت دقائق والدرب مستسلم للموت، حتى ظهر القزم مرة أخرى وصاح: «أمان».
ورويدا رويدا أخذت الأبواب تفتح والحركة تدب واللغط يعلو، كما عاد التابع والشاب إلى مجلسهما حول الخوان. وقال التابع بهدوء: مناورة، ما هي إلا مناورة، وعندما سيعود سيجد الإتاوة جاهزة!
وانتابت الشاب نوبة ضحك هيستيرية. - ماذا يضحكك؟! - فكرت أن لو حصل الإضراب غدا بهذه الصورة فسيكون أكبر مظاهرة وطنية. - إنه يناور ونحن نناور! - إنه الخوف يا صديقي. - لا تحكم بالظاهر. - لستم أفضل حالا منا! - قياس مع الفارق، ثق من أنني سأضربه ذات يوم! - وتصبح عند ذاك الطاغية! - لقد نالها عن جدارة، وسأنالها عن جدارة، أما في العالم الآخر فالطاغية يطغى استنادا إلى قوة أسياده. - أأنت راض عن نفسك حقا؟ - ثمة أمل دائما لا يغيب! - يا للخسارة! لقد كنت تلميذا ذكيا؛ ولكنك كنت عدو الاجتهاد! - الحمد لله، فلو كنت مجتهدا لمضيت في طريقك حتى أدفن في إدارة من إدارات الحكومة!
وهنا عادت الراقصة إلى مجلسها وهي تقول مخاطبة الشاب: خيبت ظني!
فقال لها التابع بخشونة: الفضل لدموعك الحارة!
فقال الشاب برجاء: لا تعد إلى ذلك.
فقال لها التابع: استعدي للرقص ...
فقالت بإشفاق: إني متعبة!
فضحك ضحكة عالية وقال: متعبة في ليلة الموسم! - إلي بكأس كونياك. - اطلبيه من عاشقك!
وأدرك الشاب المقصود فقال: هات لها كأسا!
ذهب التابع. نظر الشاب إليها باهتمام ورثاء وقال: ثمة شيء في عينيك، أنت متعبة حقا. - أعراض عابرة سرعان ما تزول. - يخيل إلي أن هذا الدرب ليس بالمكان المناسب لك!
فقالت بسخرية: ربما، لعل المكان الأنسب هو السجن أو القبر. - أعوذ بالله! - أليس الأفضل أن نذهب إلى الداخل لنغير المكان والحديث؟
فتردد الشاب قليلا ثم قال: في وقت آخر .. ولكن ... أنت متعبة حقا. - حقا؟!
ووقفت فجأة كأنما تنتزع نفسها من كابوس. وخبت نظرة عينيها، وأخذت تتنفس بعمق وبجهد كأنما تحشر الهواء في قناة مسدودة. وقف منزعجا واقترب منها خطوة، ولكنها أشارت إليه أن يبتعد. خاضت معركة مجهولة وحدها بلا نصير وبلا استجداء. ثم انقشعت السحابة السوداء فاستردت العين نظرتها المألوفة. تنهدت، ابتسمت في استسلام، ثم انحطت فوق مقعدها. غمغمت: لا شيء. - ولكنك ... - انتهى. - أأنت بخير؟ - نعم، اجلس.
جلس وهو لا يحول عنها عينيه. - أعتقد أنه يلزمك راحة طويلة. - تلزمني راحة أطول مما تتصور! - وهل تستطيعين أن ترقصي؟ - أستطيع، لا أستطيع، سيان!
وشحب لونها من جديد. وخبت نظرتها. - أنت متعبة يا عزيزتي! - حقا! وماذا بعد؟ الطريق طويل. - دعي الأمر لي. - طريق طويل، أطول مما تتصور. - حالتك تزداد سوءا.
ورجع التابع يحمل كأسين في يديه ويدندن، وقال وهو يلقي عليهما نظرة باسمة: كعروسين في شهر العسل.
فقال له الشاب: إنها ليست على ما يرام.
فقطب متسائلا وهو يحدجها بنظرة ارتياب: عادت للبكاء؟
ولكنه قرأ في صفحة وجهها شيئا جديدا. قدم لها كأسا، ولكنها أطاحت به ضجرة فوقع على البلاط وتحطم مختلطا بسائله، وتأوهت بعمق طارحة رأسها على مسند الكرسي، وصادف ذلك قدوم المعلمة، فنظرت إليها عابسة وتساءلت: ما لها؟
فقال التابع وهو لا يحول عن الراقصة عينيه: أزمة كالعادة! - هل تعاطت شيئا؟
أغمضت الراقصة عينيها متدهورة تماما، فهتفت المعلمة بالتابع: أدركنا بكوب ماء بالملح .. أسرع.
وقال الشاب للمعلمة: يجب استدعاء طبيب!
فصاحت المعلمة بحنق: انتهينا من الدستور وسندخل في الطب!
ورجع التابع بالكوب؛ ولكن الراقصة تقلصت بحركة عنيفة ثم تهاوت ساقطة على الأرض.
أسرع الشاب إليها؛ ولكن التابع كان أسرع منه. عكف عليها يربت على وجهها ويدلك خديها وصدرها. قرب وجهه من فيها، جس نبضها، رفع وجها جامدا ذاهلا منهزما لأول مرة، وتمتم: ماتت! - ماتت!
فندت عن المعلمة صيحة خافتة يائسة وقالت: أنت أعمى!
فأعاد الكرة ثم قال ببرود: ماتت يا معلمة! - يا خبر أسود!
وهتف الشاب: خطأ، يجب استدعاء الإسعاف.
فقال التابع بوحشية: اصمت، لقد ماتت.
فهتفت المعلمة: في ليلة الموسم! .. يا له من حظ أسود من الليل!
وقال الشاب بعناد: إنها حية!
فصاحت المعلمة في وجهه: ألا تفهم يا طلعة الشؤم! - ولكن كيف؟ - إنك تخاطبني كما لو كنت قابضة الأرواح.
ثم التفتت إلى التابع وسألته: هل تعاطت شيئا؟ - كلا. - هو قلبها إذن؟ - أعتقد ذلك. - لو لم يكن بسبب تعاطي شيء فسنقع في «س» و«ج». - كلا، ولكن ما العمل الآن؟
فقالت المعلمة: فلنحملها إلى حجرتها أولا.
وتعاون الثلاثة على حملها ومضوا بها إلى البيت.
وتساءلت امرأة: ما لها يا معلمة؟
فأجابت المرأة بلا تردد: مسطولة!
ودخل الموكب البيت بين ضحكات تتجاوب على الجانبين. وما لبث الأصيل أن ولى تماما ومضى الظلام يهبط ماحيا كل شيء. أشعلت الأنوار. بدأ الرواد يحضرون فرادى وجماعات. عزفت الجوقة ودبت في الأركان حياة صاخبة معربدة. ورجعت المعلمة وتابعها والشاب فجلسوا حول الخوان المعدني في وجوم بادئ الأمر؛ ولكن المعلمة سرعان ما قالت: ابسطوا وجوهكم كما يجدر بأناس يستقبلون موسما.
ثم بنبرة متشددة منذرة: لا يجوز بحال أن يفطن أحد إلى سر الحجرة المغلقة .. وإذا سأل سائل عنها فهي مشغولة بزبون!
وتنهدت بحنق وواصلت حديثها: لو عرف أن الموت قابع بالبيت لما طرقه طارق حتى القيامة!
فقال الشاب غاضبا: ولكنه تصرف أبعد ما يكون عن الإنسانية!
فقالت المعلمة مخاطبة التابع ودون مبالاة باحتجاج الشاب: تكفل بصديقك، أنت مسئول عنه، ولا جدوى من تصرف إنساني يقضي علينا بالخراب العاجل، سيجيء دورنا يوما ما ولن تبكينا عين ؛ سنشيع باللعنات حتى من زبائننا، الليلة موسم، فلتمض بالبهجة والحبور!
فقال التابع: لا تخشي من جانب صديقي.
فقال الشاب: ولكنه وضع لا يقبله عقل.
فقالت المعلمة: لم يحدث شيء غير طبيعي، وليس في قدرتنا أن نرد الأرواح إلى أجسادها. - ولكن شتان بين القسوة والرحمة!
فقال التابع: ليس إلا أننا نؤجل إعلان وفاة! - ولكن للموت احترامه!
فهتفت المعلمة بنفاد صبر: احترام الموت بعد الدستور والطب!
فقال التابع معتذرا عن صديقه: لعله يلتقي بالموت لأول مرة في حياته.
فقالت المعلمة للشاب: لا تطالبنا بالتفريط في الحياة باسم احترام الموت، ابق لصق صديقك حتى تنتهي السهرة، واحتفل بالموت بعد ذلك ما شاءت لك إنسانيتك!
فقال التابع: دعي الأمر لي يا معلمة! - ربنا يستر. - جهزت الإتاوة؟ - نعم! - وإذا طالب بالراقصة؟ - لن يطالب قبل نهاية السهرة، وله إن شاء أن يقاتل عزرائيل عند ذاك!
وقامت وهي تبسط وجهها، فمضت إلى القهوة هاتفة: يا جمال الرقص يا جماله!
ورمق الشاب التابع بمرارة ثم قال: لشد ما تغيرت!
فقال التابع بوجوم: لا تبالغ يا عزيزي! - جثة ملقاة في الداخل، والعربدة دائرة في الخارج! - لا مفر، للعمل ساعة وللموت ساعة. - إني حزين، بودي أن أفعل شيئا. - حسن، أعد إليها الحياة. - يا لكم من وحوش! - أتذكر كيف كان يلقى بضحايا المظاهرات في القبور بملابسهم حتى لا يشملهم الإحصاء الرسمي؟! - إلى الجحيم بكل شرير وبكل شر! - ما زالت دنيانا أفضل.
فقال الشاب بضيق: عن إذنك، أريد أن أذهب. - كلا. - كلا؟ - المعلمة لا تسمح بذلك. - لتذهب المعلمة إلى الشيطان! - لقد وجدت نفسك في دربنا فلتتم التجربة! - بي غثيان منه. - خذ الأمر ببساطة ولو من أجل خاطري!
وساد الصمت بينهما؛ ولكن صخب العربدة انهال عليهما من الأركان كالصواريخ، ورغم الزياط سمع صوت الشاب وهو يتمتم: يا لها من شابة تعيسة!
فقال التابع ملاطفا: كانت مريضة بالقلب. - لم تنعم بحياة هادئة تناسبها. - ذلك أنه لم يكن من الجائز أن تموت جوعا.
فقال الشاب منفعلا: إني أحتقر برودك.
فقال ضاحكا: إني أحتقر حرارتك! - دعني أذهب. - غير ممكن، إنها تخشى أن تبلغ عن الجثة. - أيعني ذلك أنني سجين؟! - أنت ضيف صديقك القديم. - يجب أن أستيقظ مبكرا، أمامنا يوم جهاد عصيب! - يسرني أن أنقذك من الرصاص الذي يعد الآن لأمثالك. - أنا لا أخشى الموت. - ولكنك تحترمه أكثر مما ينبغي.
رفع رأسه إلى نافذة الحجرة الرهيبة وقال: جثة منسية، بلا أهل ولا أصدقاء ولا رحماء. - لم تعد بحاجة إلى أحد.
وظهر القزم وهو يصيح: «إبليس». خرجت المعلمة فجلست بين الشاب والتابع. سرعان ما سد موكب الفتوة مدخل الدرب، ولما وصل إلى القهوة قامت المعلمة وتابعها لاستقباله، قالت بأدب لأول مرة: تحية لسيد الرجال. - موسم طيب بإذن الله.
وضعت صرة في يده وهي تقول: بفضل الله وبفضلك! - وأين البنت؟ - مع زبون! - أرسلي في طلبها. - ستكون بين يديك في نهاية الليلة. - سأنتظر في القهوة ساعة واحدة. - ولكن ... - ساعة بالتمام والكمال! - أنت سيد من يفهم ويقدر. - بالتمام والكمال؛ وإلا فليهنأ عزرائيل بوليمة فاخرة!
ودخل القهوة متبوعا برجاله.
نظرت المعلمة في حيرة إلى التابع وسألته: ما العمل؟ - ما من قوة في الأرض تستطيع أن تأتي بها إليه كما يريد. - ماذا تتوقع؟ - أنفضي إليه بالحقيقة؟ - هذا يعني خرابنا. - أخشى أن يعرف الحقيقة رغم إرادتنا.
فقالت بغضب: أفضل أن يدهمني القضاء على أن أسير إليه بقدمي!
ثم قامت وهي تقول: سأجلس معه وليعني الله على إقناعه!
ومضت إلى داخل القهوة. مد الشاب جذعه يتابعها حتى استقرت إلى جانب الفتوة، ثم تراجع إلى جلسته وهو يسأل التابع: ما معنى ذلك؟ - ليس عندي ما أضيفه إلى ما سمعت. - ماذا تتوقع أن يحدث في ختام الساعة؟ - سيقتحم البيت محطما من يعترضه. - ولكنه لن يجد سوى جثة. - وعند ذاك يتقرر خراب البيت. - وما دورك أنت في ذلك كله؟ - لا أستطيع أن أدعه يمر دون مقاومة! - أتفكر في اعتراض سبيله؟ - هذا هو عملي. - عملك؟ - أنا حامي منطقة المعلمة! - ولكنه ... ولكنه سيقضي عليك. - ربما! - إنه مؤكد، فلا تخاطر بحياتك. - هو عملي كما قلت لك. - تجاهله. - أفقد عملي وكرامتي. - يمكن أن تتسلل بطريقة ما إلى الشرطة!
فقال ضاحكا: أفقد كرامتي مرتين! - لا أفهمك. - هي تقاليد عملي. - إنه الجنون عينه.
فابتسم التابع قائلا: ممكن أن يقال مثل ذلك عن زعيمك. - أخشى أن تذهب ضحية للغرور، دعني أتسلل أنا ... - أرفض اقتراحك. - أنت مهدد بفقد حياتك. - محتمل!
وساد الصمت. نظر الشاب في ساعة يده فتزايد قلقه. هرب من مخاوفه إلى أمواج الرواد التي لا تنقطع؛ يعربدون ولا فكرة لأحدهم عما يتأزم في المقهى، ولا عما يقبع في البيت. والتفت نحو صديقه قائلا: الوقت يمر أسرع مما تتصور. - ليس أسرع مما أتصور. - قد تكون آخر ساعة في حياتك. - قول يصدق على أي مخلوق! - لن تكون معركة عادلة. - لا توجد معركة عادلة! - يا له من انتظار! - يا له من انتظار! - ويا لها من نهاية! - ويا لها من نهاية! - بودي أن أصعد إلى حجرة الفتاة. - لم؟ - لأجس نبضها من جديد! - إني أتوثب لمواجهة القضاء وأنت تحلم بالخرافات. - سمعنا عن جثث دبت فيها الحياة بعد دفنها؟ - إذا قامت القيامة فابتعد عن ميدان المعركة. - كنت أعتقد أن الغد هو يوم الخطر. - حافظ على حياتك حتى الغد! - يا له من يوم عجيب! - أرجو أن تكون قد تعلمت أشياء مفيدة. - كيف تنتظر الموت بهذا الهدوء كله؟
ابتسم التابع ابتسامة غامضة وقال: عندما ماتت الفتاة حل بي تشاؤم غريب. - لم يبد عليك شيء قط. - لا يجوز في عملي أن يبدو على الوجه شيء! - يخيل إلي أنك تتكلم بحزن لأول مرة؟
صمت التابع مليا ثم قال بنبرة اعتراف: كانت حبيبتي الوحيدة في هذه الدنيا! - من؟ - الميتة!
فغر الشاب فاه من ذهوله، فاستطرد الآخر: عشرة ليست بالقصيرة، وبها أصلت نجاحي في هذا الدرب.
ظل الشاب يرمقه بذهول؛ أما هو فقال: والحق قد ماتت بموتها أشياء لا تعد ولا تعوض.
ونهض وهو يهمس: ما علينا!
وأشار إلى المعلمة إشارة خفية، فجاءته بوجه كالح. سألها: هل لان جانبه؟
فقالت بيأس: أصلب من الصخر. - لم تبق إلا دقائق معدودات!
والتفت نحو صديقه وقال: ابتعد دون تردد .
ومضى نحو القهوة في هدوء وثبات. وجعل يقترب من الفتوة باسما حتى وقف بين يديه. وبغتة استل من صدره خنجرا ودفنه في قلب الوحش. انتتر الفتوة قائما جاحظ العينين. ترنح جسمه الضخم ودار حول نفسه، ثم تهاوى كجدار تهدم. وفي الحال أفاق الوحوش من ذهولهم؛ زلزلت القهوة بحركة جائحة. انتصبت أجسام، استلت خناجر، ارتفعت نبابيت، تطايرت شتائم، اهتزت جدران، تحطمت مصابيح، هرولت أقدام. اختفى كل شيء في ظلام حالك، صرخت صفارة الشرطي. ومضى وقت غير قصير في الظلام ... ولما أشعلت المصابيح من جديد تبدى الدرب في منظر مختلف. عند مدخل القهوة انطرحت ثلاث جثث للفتوة والتابع والراقصة! خلا الدرب من جميع الرواد عدا نفر قليل دهمتهم المعركة فاندسوا تحت الأرائك، ثم أخذوا يخرجون من مخابئهم بوجوه شاحبة، على رأسهم الشاب. وطوق المكان قوة من الشرطة والمخبرين بقيادة ضابط مباحث. وانتحت جانبا المعلمة والنسوة بأبصار زائغة. أما رجال العصابة فلم يظهر لهم أثر.
تحول الضابط إلى المعلمة وسألها: ما معلوماتك عن الواقعة؟
فأشارت إلى جثة الفتوة وقالت: جاء على رأس عصابة فهاجم الدرب بلا رحمة. - ماذا رأيت من المعركة؟ - إني امرأة ضعيفة، هربت فلم أر شيئا!
أومأ الضابط إلى جثة التابع وسألها: من هذا؟ - مدير المقهى، قتل ولا شك وهو يدافع عن نفسه. - وهذه الفتاة؟ - كانت ترقص في المقهى عندما نشبت المعركة! - لا يظهر بها أثر لاعتداء؟ - كانت مريضة بالقلب، فربما قتلها الخوف!
عند ذاك خاطب الضابط الجميع قائلا: لا يبرحن أحد مكانه حتى يدلي بأقواله.
وإذا بمخبر يتجه نحو الشاب فيقبض على ذراعه ويشده إلى موقف الضابط، ثم قال: إني أتذكر هذا الشاب يا حضرة الضابط.
فتساءل الضابط متهكما: أهو من رجال العصابة؟ - هو الذي اعتدى على حضرة المأمور في مظاهرات العنابر ثم نجح يومها في الهرب.
رماه الضابط بنظرة قاسية ثم قال: ما شاء الله! .. تشعلون الفتنة في البلد وتهرولون إلى المواخير!
فنجان شاي
دق جرس المنبه. تقلب الرجل في فراشه، تثاءب بصوت مرتفع كالتوجع، أزاح الغطاء وجلس، تزحزح إلى الوراء حتى استند إلى ظهر السرير، تثاءب مرة أخرى، مد يده إلى زر جرس معلق فوق الفراش فضغطه. جاءت امرأة حاملة صينية عليها إبريق شاي وجريدة الصباح، فوضعتها على ترابيزة لصق السرير. ملأ القدح بنفسه وتناول الجريدة. لاحظ أن المرأة لم تبرح مكانها، فحدجها بعين متسائلة، فقالت: الأولاد ...
ولكنه قاطعها بحدة: يا فتاح يا عليم، صبرك حتى أغادر الفراش.
وترددت المرأة فعاد يقول: هذا وقت الشاي والجريدة، فلا تفسدي علي أطيب أوقات اليوم.
تنهدت المرأة وغادرت الحجرة وهو يتابعها بعينيه حتى أغلقت الباب وراءها. رشف من الفنجان رشفة، ثم عكف على القراءة. •••
تحركت ستارة مسدلة فوق نافذة، خرج من ورائها رجل مرتديا بدلة سوداء. تقدم بخطوات متمهلة حتى وقف في وسط الحجرة. نظر فيما حوله ثم قال بلهجة خطابية: الحمد لله.
فتمتم رجل الفراش ورأسه لا يتحول عن الجريدة: الذي لا يحمد على مكروه سواه. - لو قلت إن كل شيء حسن فربما وقع القول من الآذان موقع الغرابة.
فتمتم رجل الفراش: ربما. - وقد يتوهم البعض أننا لا نتحرك. - قد.
تضايق ذو البدلة السوداء من تمتمات الآخر، فمضى إلى الفراش وراح ينقر على رأسه محذرا، ثم رجع إلى موقفه. انكمش رجل الفراش ولكنه لم يتحول عن الجريدة وواصل قراءته الصامتة في هدوء. وقال ذو البدلة السوداء: نظرة عادلة إلى الوراء كفيلة بإبراز المدى الذي قطعناه.
فهز رجل الفراش رأسه دون أن ينبس. - في كل شيء بغير استثناء.
فهز رجل الفراش رأسه مرة أخرى دون أن ينبس. - ليعلم ذلك عدونا الخارجي، وليعلمه عدونا الداخلي.
ونظر ذو البدلة السوداء صوب رجل الفراش مستطلعا، فتمتم هذا دون أن يتحول عن جريدته: كلام طيب.
عند ذاك أخلى ذو البدلة السوداء مكانه، فاتخذ موقعا جديدا في ناحية الحجرة المقابلة للفراش، ووقف صامتا كتمثال. •••
تحركت الستارة مرة ثانية فبرزت من ورائها فتاة جميلة في لباس البحر. تقدمت مزهوة بجمالها الفتان حتى وقفت في وسط الحجرة، وجعلت ترسم في الهواء حركات سباحة كشفت بعمق أكثر عن مفاتنها ، ثم قالت بصوت عذب: سأظهر هكذا في دور جديد تماما في الفيلم الجديد «الأبواب الخلفية».
فقال رجل الفراش: يسعدني أن أراك هكذا في أي دور! - ولكنه دور عجيب يجمع بين المرح والمأساة.
فقاطعها بحماس وهو لا يرفع رأسه عن الجريدة: المهم هو أنت! - يقتلك بالضحك ويثقفك بالهدف! - لا قيمة لشيء سوى قامتك السحرية. - فهو فيلم ترفيهي وهادف معا. - ماذا؟ سمعي ثقيل، هلا حدثتني في أذني؟
دنت الفتاة من الفراش ومالت نحوه، فطوق وسطها بذراعه وجذبها نحوه حتى التصقت به. - قلت: إنه فيلم ترفيهي وهادف معا. - ماذا؟ قربي أكثر وأكثر.
فصاح ذو البدلة السوداء بصوت راعد: فيلم ترفيهي وهادف معا، أسمعت؟!
سحب ذراعه بسرعة. واصل انكبابه على الجريدة، رجعت الممثلة إلى وسط الحجرة، دارت حول نفسها في حركة استعراضية، ثم مضت ناحية البدلة السوداء واتخذت موقفا.
وقال ذو البدلة السوداء: الفنانة تريد أن توقظ ذوقك؛ ولكنك تأبى إلا أن تراها بشهوتك. - رأيت جسدا جميلا عاريا. - أتريد أن نقدم لك الحكمة في برميل؟ - ما أكثر الأشياء التي تعذب الإنسان! - سنعرض عليك أجسادا عارية. - شكرا! - والويل لك إذا عابثتك شهوة من شهوات الجسد.
وجم الرجل فوق جريدته، فسأله الآخر بحدة: ماذا قلت؟ - الويل لي. •••
انزاحت الستارة بعنف. دوت في الجو طلقات رصاص وانفجار قنابل وأزيز طيارات. خرج من وراء الستارة جندي أمريكي وفيتنامي وهما يتبادلان إطلاق النار. تساقطت فوارغ الرصاص فوق الرجل في فراشه، فاضطرب في مجلسه ولكنه لم يرفع رأسه عن الجريدة. رشف رشفة في عصبية واستمر في القراءة.
وصاح الجندي الأمريكي: أيها الشيوعي المنحط.
فصاح به الفيتنامي: أيها الإمبريالي المتوحش. - ماذا جاء بك من الشمال؟ - ماذا جاء بك أنت من وراء المحيط؟ - الأرض كلها أمريكية ... وغدا سيكون القمر أمريكيا.
فقال الفيتنامي وهو يطلق النار: وستكون المقابر أمريكية، سأقتلك ثم أقطف وردا وأرقص.
وكثر تساقط فوارغ الرصاص فوق رجل الفراش، فقال متذمرا: ابتعد.
فصاح الأمريكي بالفيتنامي: انظر كم أنك مزعج للناس.
فصاح به الفيتنامي: إنه يوجه الخطاب لك أنت. - ما كان ليجرؤ أن يخاطبني بتلك اللهجة. - إني أطلق النار عليك؛ أما أنت فتطلق النار في جميع الجهات.
وعاد رجل الفراش يقول متأوها: اللعنة على كل معتد أثيم!
فصاح الأمريكي في وجه الفيتنامي: أرأيت أنه يقصدك أنت؟! - يا لجنون العظمة!
وظلا يتبادلان إطلاق النار حتى فرغت ذخيرتهما، فمضيا غير بعيدين من الممثلة ووقفا جامدين. وقال رجل الفراش وهو مكب على الجريدة: هذا الرجل جدير بكل إعجاب.
فقال ذو البدلة السوداء: بكل تأكيد.
وقالت الممثلة: أرأيت كيف أنه يقطف الورد ويرقص في حومة القتال!
فقال رجل الفراش بصوت منخفض: سمعي ثقيل، هلا اقتربت لأسمعك؟
ولكن ذا البدلة السوداء ضرب الأرض بقدمه فساد الصمت. •••
تحركت الستارة للمرة الرابعة فخرجت من ورائها امرأة متوسطة العمر، تحمل بين ذراعيها ستة من المواليد، فوقفت في وسط الحجرة وقالت: أنا امرأة من كوبا، ولدت ستة توائم، وجميعها في صحة جيدة!
فقالت الممثلة: هيهات أن تصلحي بعد ذلك لحياة الأضواء. - ولكني معجزة من معجزات الحياة!
فقال الجندي الأمريكي: نحن في عصر معجزات العلم والصناعة لا الحياة، ومثل هذه المعجزة المزعومة خليقة بأن تدفع العالم إلى أنياب مجاعة شاملة.
فقال الفيتنامي: لا خوف على العالم من مجاعة ما دامت قنابلكم تحصده. - إنها لا تبيد إلا النفايات.
فقالت الأم: هل أجد طعاما متوفرا؟
فقال لها الفيتنامي: توجد ذخيرة بعدد حبات الرمال.
فقالت الأم: لم أسمع تحية واحدة.
فقال رجل الفراش: طوبى لك في الدارين! - شكرا يا سيدي. - ولأبيهم أكبر تحيات التقدير. - أكرر الشكر يا سيدي. - هل لديكم قانون تعليم مناسب؟ - عندنا أشياء كثيرة مناسبة. - أهلا بك وسهلا.
وذهبت إلى الناحية الأخرى. جلست على الأرض وراحت تغني للمواليد، تغني وتغني حتى ثقل رأس الفيتنامي بالنعاس فتثاءب، وتبعه الأمريكي على الأثر، وجلسا تباعا على الأرض عن يمين المرأة ويسارها. وأوسعت لكل موضعا في حجرها فتوسده برأسه وغط في النوم. •••
وتحركت الستارة حركة عصبية فخرج من ورائها رجلان، اندفعا إلى وسط الحجرة، وكل منهما ممسك برأس الآخر يحاول جهده أن يخفضه إلى أسفل. صاح أولهما : المارك فوق الجميع.
فصاح الآخر: الفرنك لا يعلى عليه. - المارك رمز التفوق. - الفرنك رمز الإنسانية!
ولكم الألماني الفرنسي فتراجع مترنحا حتى سقط فوق رجل الفراش. نهض الفرنسي من سقطته فهجم على الألماني ولطمه على وجهه، ثم قبض على رباط عنقه وجذبه منه جذبة قوية فاندلق ناحية الفراش حتى ارتطم برجل الفراش، واستعاد توازنه وانقض على خصمه. وجعل كل منهما يحاور الآخر حتى لا يمكنه من نفسه، ونال منهما الإعياء فوقفا متباعدين وهما يلهثان. وقالت الممثلة: أقترح أن تودعا نقودكما عندي حتى تسويا خلافاتكما!
فابتسم إليها ذو البدلة السوداء وقال: قول طيب، أحسنت.
فخطت نحوهما خطوتين وقالت بإغراء: لدي موضوع يصلح للإنتاج المشترك.
فقال الألماني: أوافق إن يكن عن حرب 1870.
وقال الفرنسي: حرب 1914 أهم وأخطر.
فقالت الممثلة: هو عن امرأة مريضة نفسيا، وأعراض مرضها أن تسير عارية وهي نائمة!
فقال رجل الفراش وهو مكب على جريدته: مرض ممتاز.
وقال الفرنسي: أعطينا مثالا لتلك الحالة المرضية.
مدت يديها للجزء الأعلى من لباس البحر كأنما لتنزعه؛ ولكن ذا البدلة السوداء قال: ليس في وسط الحجرة!
فقال رجل الفراش: يهمني أيضا أن أرى ما يجري في بيتي.
فقال الآخر بحدة: الأجانب يستحقون معاملة خاصة! - لقد عانيت من صراعهم، فمن حقي أن أشاركهم بعض المسرة!
فقالت له الممثلة: لا من أهل المال أنت، ولا من أهل الفن.
فتساءل منكرا: أفندم؟ سمعي ثقيل.
فقال ذو البدلة السوداء: ألاحظ أن أذنك تعمل بحسب هواك. - إني أمارس حريتي من خلال أذني. - سأسمعك بنفسي ما يتعذر عليك سماعه. - شكرا، لا داعي لتكليف خاطرك!
اندست الممثلة بين الرجلين فتأبطت ذراعيهما ومضت بهما إلى موضعها السابق.
ومن وراء الستارة خرج رجلان، يحمل أولهما كتبا ويحمل الآخر قوارير. وقفا جنبا لجنب وسط الحجرة، ثم قال حامل الكتب بصوت عريض رنان: من ذخائر التراث، تفسير القرآن، طبعة أنيقة مع تعليقات بأقلام أكبر الأساتذة، الثمن جنيه واحد.
وقال حامل القوارير بصوت منغوم: أفخر أنواع الويسكي، وردت منها كميات محدودة، بأسعار محددة ومعقولة تتراوح بين أربعة جنيهات وخمسة جنيهات.
فسأل رجل الفراش حامل الكتب: ألا تميزون أرباب الأسر بشيء من التخفيض؟ - يختص بالتخفيض الطلبة فقط. - وأرباب الأسر؟ - الثمن معقول جدا. - شكرا.
وعاد حامل القوارير يقول: أفخر أنواع الويسكي، كميات محددة وأسعار زهيدة!
فسأل رجل الفراش حامل الكتب: أحرام أن يتناول المسلم قليلا من الويسكي كدواء؟
فأجاب حامل الكتب: إني أتناول كأسا قبل النوم كدواء لضيق الشرايين. - ولكني أشكو ثقلا في السمع؟!
فقال حامل القوارير: ثقل السمع عرض مرضي لضيق الشرايين. - ولكن ثمن الويسكي كفيل بسد الشرايين.
وتدخل ذو البدلة السوداء في الحديث فخاطب حامل القوارير قائلا: قف جنب السيد الفرنسي فهو يحب المرح.
وتحول إلى حامل الكتب قائلا: قف جنب السيد الألماني فلعله أن يكون مستشرقا.
ثم التفت إلى الممثلة وقال: همتك، لديك قرآن وويسكي وموضوع مشترك! •••
وتحركت الستارة فخرج من ورائها رجلان من رجال الفضاء؛ روسي وأمريكي، سارا بخفة نحو وسط الحجرة، تصافحا، ثم قال الروسي لزميله الأمريكي: أصدق التهاني.
فقال الأمريكي: ومني إليك أصدق التهاني. - لا يهم أنني سبقتك إلى التجربة ما دمت تتقدم بنجاح، تهاني! - المهم هو النجاح، وسألحق بك، وسوف أسبقك، تهاني! - لا أظن أنك ستسبقني أبدا، فات أوان ذلك، تهاني. - أراك لا تعمل حسابا للمفاجآت الأمريكية، تهاني.
فقال رجل الفراش: إنكما حلم وردي في عالم قطران! - شكرا أيها الرفيق. - شكرا أيها الزبون.
فقال رجل الفراش: بفضل العلم تقع معجزات.
فقال الروسي: وبفضل النظام الشيوعي.
فقال الأمريكي: بل بفضل النظام الرأسمالي.
فقال رجل الفراش: لقد ارتفعتما إلى سموات الله عز وجل.
فقال الروسي: رأيت الكواكب تسبح في أفلاك متأثرة باختلاف أحجامها؛ فمساراتها متحددة بصراع طبقي أزلي سرمدي.
فقال الأمريكي: وهناك الشمس تمد الكواكب بالحرارة والضوء كالمعونة الأمريكية. - ألم تريا شيئا وراء ذلك؟
فقال الروسي: لا شيء وراء ذلك.
ولكن الأمريكي صاح: رأيت الله. - كيف؟ .. أين؟ - نور يخطف الأبصار، يشع في منطقة من السماء تقع فوق البيت الأبيض.
فقال له الروسي: يا لك من دجال! - اخرس أيها السفاك. - سندفنكم أحياء. - سندفنكم أمواتا .
فهتف رجل الفراش متأوها: الغوث!
فصاح به ذو البدلة السوداء: ها أنت تسمع كل كلمة تقال. - أسمع وشا؛ لعله ضيق الشرايين، إلي بقليل من الويسكي ... - معك عملة صعبة؟ - ولا سهلة! - كف عن شرب الشاي فإنه مثير للأعصاب. - إنه يهبني أطيب ساعات اليوم!
وهتفت الممثلة بنرفزة: لا أستطيع أن أعمل في هذا الجو الصاخب.
فقال رجل الفراش بقلق: من الحمق أن نترك هذين العملاقين يتخاصمان.
فقال ذو البدلة السوداء: من ذا يجزم أين تقع المصلحة؟
وتقدمت الممثلة من رجلي الفضاء وقالت وهي تشير إلى الأم: يوجد صغار نيام!
فكظم كل حنقه. وقال الروسي بوجه متجهم مخاطبا زميله: تهاني.
فقال الآخر بازدراء: تهاني.
وذهبا مع الممثلة فاتخذا لهما موقفا. •••
ومن وراء الستارة خرجت فتاة جميلة في العشرين من عمرها، في مني جيب، معلقة حقيبتها بكتفها، ووقفت في وسط الحجرة وقالت: أنا فتاة مثقفة، أتقن العربية والإنجليزية وأعمال السكرتارية، أريد وظيفة سكرتيرة.
هرش رجل الفراش ذقنه، أما ذو البدلة السوداء فقد سألها: ألم تقيدي نفسك في إدارة القوى العاملة؟ - بلى. - عليك أن تنتظري دورك. - طال الانتظار، أريد وظيفة حرة.
فقالت لها الممثلة: أعرف شخصا هاما في حاجة إلى سكرتيرة! - إني مستعدة لمقابلته في الوقت الذي يحدده.
فقال رجل الفراش: ولكنك لا تعرفين عنه شيئا؟ - أعرف عملي وكفى.
فقال الرجل بتأثر: فكري قليلا، إني أحدثك بلسان أب. - كأنك يا سيدي تخاف علي؟ - الناس أشرار يا ابنتي، وأنت صغيرة السن. - لست صغيرة. - ما زلت في طور البراءة! - لست هشة ولا خوف علي. - إنك تعرضين نفسك لخطر فادح. - إني أحتقر هذا الإشفاق! - إني أب ... - بل جد، وأقدم من ذلك! - سامحك الله. - سأجد في العمل حريتي وكرامتي. - قد ... قد ... - لا أسمح لأحد بالتدخل في شئوني. - ثمة أخطار ... - أخطار! .. ألم تسمع عن غزاة الفضاء؟! - معذرة يا آنسة.
فقال ذو البدلة السوداء: ليتك تعرف نعمة السكوت!
فقالت لها الممثلة: انضمي إلينا مؤقتا، ثمة شركة في دور التكوين. •••
وتحركت الستارة فخرج من ورائها رجل عجوز أنيق الملبس، وقف وسط الحجرة وقال بنبرة شبه باكية: يا بني، عد إلى أبيك؛ طلباتك مجابة.
فسأله ذو البدلة السوداء: متى اختفى؟ - منذ أسبوع ... - بحثت عنه في مكانه؟ - لم أترك مكانا واحدا. - ما عمره؟ - ستة عشر عاما. - ما مشكلته؟ - كل شيء، ولا شيء بالذات. - رأي، سلوك، ذوق، هه؟ - نعم، وعلم الله ما راعيت إلا مصلحته.
فقال له رجل الفراش: إني أرثي لك. - شكرا. - ليس زماننا بزمان الآباء. - زمان قذر.
فصاح به ذو البدلة السوداء: لا تسب الزمان فهو الدولة.
فعاد الرجل يردد بهدوء حزين: يا بني، عد إلى أبيك ... طلباتك مجابة.
واختار لنفسه موقفا جنب حامل الكتب. •••
من وراء الستارة خرجت فتاة صعيدية حاملة مقطفا كبيرا، تبعها على الأثر صعيدي في الخمسين، وقفا في وسط الحجرة، فسألته الفتاة: لم جئنا إلى هنا يا أبي؟
فهوى بكفه على وجهها وصاح: لأنقذ شرفي من الفساد.
ندت عن الفتاة صرخة مدوية. رمت بالمقطف وجرت نحو الفراش، فأحاطها الرجل بذراعه. سرعان ما لحق بها الأب، ولكي يخلصها من ذراع الرجل انهال على صدره ضربا حتى سحب الرجل ذراعه متأوها. جذبها إلى وسط الحجرة، طرحها أرضا، استل خنجرا وانهال عليها طعنا حتى أخمد أنفاسها، ثم دفنها في المقطف، وغطاها بخمارها، وهو يتمتم بتشف: الآن ردت الحياة إلي.
فقال له ذو البدلة السوداء: ستفقدها وراء القضبان أو فوق المشنقة.
فقال باستهانة: طظ! - متى تحترم القانون؟ - طظ.
وحمل المقطف ومضى به صوب الفراش فدفعه تحته. تأوه رجل الفراش وقال له: يا لك من وحش!
فقال له بازدراء وهو يرجع إلى وسط الحجرة: كيف يعد أمثالك من الرجال؟! - كيف طاوعتك يدك على قتل ابنتك؟ - يوجد شيء اسمه الشرف. - وتوجد أيضا الحماقة.
فأشهر خنجره مرة أخرى وهو يتساءل في ريبة: ولكن ذا البدلة السوداء بادر إليه فأخذه من ذراعيه إلى الناحية الأخرى. •••
وترامى عزف أوركسترا وتخت بلدي في وقت واحد، وخرج من وراء الستارة رجلان؛ أولهما في لباس مغني أوبرا، والآخر مغن بلدي. وقفا في وسط الحجرة، وراحا يغنيان في وقت واحد، كل بطريقته . فأحدثا صخبا متنافرا مزعجا مضحكا. ولما ختما غناءهما تصافحا ببرود، مغني الأوبرا في احتقار لم يفلح في مداراته، والمغني البلدي دارى ضحكة أوشكت أن تفلت منه. في أثناء ذلك تقلص وجه رجل الفراش من الانزعاج، وتساءل: أبكما مس أم ألم ملح؟ - نحن بخير. - لماذا تصرخان؟ - غنينا كأحسن ما يكون الغناء. - أكان ذلك غناء؟ - أسمعناك الشرق والغرب معا. - ألم يكن الأفضل أن نسمع كلا على حدة؟ - أصلنا ننتمي إلى مؤسسة واحدة ...
وزاد الأوبرالي على ذلك أن قال: أنا المستقبل، وزميلي الفاضل يمثل الماضي.
فغضب المغني البلدي وقال: أنا مغن، أما هذا الرجل فهو مجنون يصرخ بلا سبب.
وتبادلا صفعتين، وتوثبا لعراك أشد. فصاح رجل الفراش: اذهبا .. اتركاني في سلام.
فقال ذو البدلة السوداء باستياء: تأدب في مخاطبة المغنيين الرسميين!
وأشار إلى الرجل فأمسكا عن الخصام وذهبا معا إلى الناحية الأخرى. •••
وتحركت الستارة فخرج من ورائها طالب ثم شرطي، وقفا في وسط الحجرة وهما يتبادلان نظرة متوجسة، وسأله الشرطي: لم تتسكع في الطرقات؟
فتساءل الطالب بتحد: لم تتبعني كظلي؟ - أنا ظل الأشياء المعوجة! - ألا تشم في الجو رائحة غبار خانق؟
فتشمم الشرطي الجو وقال: في الجو غبار خانق! - إني أبحث عن هواء نقي. - ولكنك بتسكعك تثير مزيدا من الغبار الخانق.
فضحك الطالب ضحكة جافة وقال: الليل ينشر جناحيه بينا الشمس ما زالت في كبد السماء، فما تفسيرك لذلك؟ - لعل الليل أسرع أو أن الشمس تباطأت. - فما علاقة ذلك بتحديد مرات السقوط؟ - مثل علاقته بإهدار المال بلا حكمة. - واضح أنك تهذي. - وأوضح منه أنك قليل الأدب.
وقذف الطالب الشرطي بطوبة فلم تصبه؛ ولكن أصابت رجل الفراش فتأوه دون أن يرفع رأسه عن الجريدة. تراجع الشرطي خطوات، لوح بهراوته استجماعا لقوته، ولكنها في حركاتها العشوائية أصابت رجل الفراش في قدمه ومنكبه فتأوه مرة أخرى. تبادلا الضرب حتى نزفت دماؤهما، فتباعدا وهما يترنحان من الإعياء والإنهاك. وهتف رجل الفراش: وما ذنبي أنا؟
فقال ذو البدلة السوداء: لا تفتأ تتدخل فيما لا يعنيك! - ولكن القتال يدور في حجرة نومي. - عال، فأنت أصلح شاهد للإدلاء بما رئي، ما سبب المعركة؟ ومن البادئ بالضرب؟ - للمعركة أسباب غير عادية. - مثال ذلك؟ - الغبار والتسكع والليل والشمس. - يا لك من شاهد فاجر! - أقسم لك ...
فقاطعه بحدة: ومرات السقوط في الامتحان ألم تسمع بها؟ - إن سمعي ثقيل كما تعلم. - ها أنت تعود لادعاء الصمم، واضح أنك مغرض! - علم الله ... - فمن الذي بدأ الضرب؟
تلقيت ضربتين متعاقبتين، ولكن تعذر علي تحديد المصدر البادئ! - فاجر، ألم أقل إنك شاهد فاجر؟! - دعنا من التحقيق. - دعنا من التحقيق؟ - واضح أن أعصابهما تحتاج إلى عقاقير فعالة. - الصيدليات ملأى بالعقاقير. - الحاجة ماسة إلى طبيب لا إلى شرطي. - ألست طبيبا؟ .. إني أناقشك طيلة الوقت باعتبارك طبيبا! - أنا طبيب حقا، ولكني في إجازة مرضية. - أصبحت قادرا على الحركة في بيتي؛ فأنا أغادر الفراش وقتما أشاء، ولكن تلزمني بضعة أيام راحة قبل أن أمضي إلى الخارج لمزاولة نشاطي المعتاد. - حسنا، لا تبدد قواك في الثرثرة حتى تسترد صحتك.
ومضى الرجل إلى الطالب والشرطي فأخذهما إلى موقف في الناحية الأخرى. •••
وتحركت الستارة فخرج من ورائها زنجي وعربي مسلح، وقفا في وسط الحجرة، وقال الزنجي: المشوار طويل فيما يبدو. - أجل ... إنه يبدو كذلك. - أين أنت ذاهب؟ - إلى آسيا، وأنت؟ - أنا متردد بين أمريكا وأفريقيا. - وما مشكلتك؟ - في أمريكا يحاصرني الاضطهاد باعتباري الأقلية، وفي إفريقيا يحاصرني باعتباري الأغلبية! - يا له من اضطهاد كالقدر! ما سببه؟ - لأني أسود؛ هكذا يقال. - أن تضطهد وأنت أقلية فتلك رذيلة شائعة، ولكن كيف تضطهد وأنت الأغلبية؟ - ثمة رجل أبيض يحتكر الاضطهاد، ويمارسه حيثما وجد. - ولكني أراك لا تحمل سلاحا؟ - كان لنا زعيم يدعو إلى الحب والسلام. - وهل استجابوا له؟ - قتلوه غيلة! - ما كان أجدره أن يقتل وهو يقاتل! - آمن بأن الحب أقوى من جميع الأسلحة. - لا مكان إلا لنوعين من الإنسان؛ واحد يقاتل بقلب ملؤه الشر، وآخر يقاتل بقلب ملؤه الخير. - لعلك من النوع الأخير؟ - لعلي. - وما مشكلتك أيها المقاتل؟ - لقد سرقت. - سرقوا مالك؟ - سرقوا وطني! - وطنك؟! - بجباله وأنهاره وحقوله وتاريخه، ثم قذفوا بي إلى العراء. - أي قطاع طرق! - وراءهم يقف الذين يضطهدونك. - لذلك تحمل السلاح؟ - ولذلك يجب أن تحمل السلاح. - ولكن أين أجده؟
وهنا قال رجل الفضاء الروسي: تجده عندي إذا أردته. - ولكني لا أملك ثمنه. - يمكن الاتفاق على ذلك دون إرهاق.
فصاح رجل الفضاء الأمريكي مخاطبا الزنجي: تجنب هذا الرجل؛ فإنه لم ير الله في السماء.
فقال رجل الفضاء الروسي: أحذرك من أضاليل هذا الزميل؛ فقد زعم أنه رأى إلها أمريكيا. - لم أقل إنه يحمل الجنسية الأمريكية، ولكن ثبت لي أنه إله العالم الحر.
فسأله الزنجي: هل آنست عنده ازدراء للسود؟ - إنه نور، فطبيعي أن يفضل من عباده من على صورته. - هل أدركت في حضرته سر ذلك كله؟ - إن حكمته تجل عن أفهامنا، إنه فوق التصور والخيال، آه لو رأيته في مقامه السني فوق البيت الأبيض!
فصاح رجل الفضاء الروسي: ألم أقل لك إنه دجال؟
وقال العربي المسلح: دعونا من السماء، على الأرض تسرق أوطان ويضطهد أبرياء، وعلى المسروق والمضطهد أن يحمل السلاح، وأن يتعاون مع من يعطيه السلاح، وأن تفسر حكمة الله على ضوء ذلك! - أنت شيوعي! - أنت إمبريالي! - أنت ظالم! - أنت أسود! - أنت دجال! - أنت سفاح!
وتأوه الرجل في فراشه وعيناه لا تتحولان عن الجريدة، فسأله ذو البدلة السوداء: ما لك؟ ماذا تريد؟ - أريد سلاحا! - ولكن إجازتك المرضية لم تنته بعد. - أريد سلاحا! - اصبر ... - ألم تسمع ما قيل؟ - سمعت واقتنعت، ولكن إجازتك لم تنته بعد. - إني أقرأ في رأسك أفكارا غريبة! - إن أردت الصراحة فإن تعليقاتك المتكررة لا توحي بالثقة! - لعلك لا تعرفني على حقيقتي. - إني أعرفك أكثر مما تتصور! - أنا رجل مخلص ومستعد للقتال. - ولكنك غير مدرب على استعمال السلاح. - إذن أتدرب. - اصبر حتى تنتهي إجازتك. - طيب .. أعطني كأسا من الويسكي. - معك عملة صعبة؟
فتنهد الرجل بصوت مسموع، وعند ذاك قال له رجل الفضاء الأمريكي: أتريد السلاح حقا؟ - أجل. - والويسكي؟ - أجل. - عهد الله أعطيك ما تريد من سلاح وويسكي. - حقا؟! - كلمتي ميثاق! - ولكني لا أملك نقودا. - لا يهم. - أتعطيني ما أريد بلا مقابل؟ - بشروط لا تستحق الذكر، انتظر ...
وتحرك متجها نحو الفراش، ولما بلغه وجد ذا البدلة السوداء في انتظاره، فقال له: أريد أن أحادث هذا المريض على انفراد.
فقال ذو البدلة السوداء: ليس بيني وبينه سر! - المرضى في وطننا الأمريكي يتمتعون بحريات هائلة!
فقال الزنجي: كذاب!
تحول نحوه غاضبا، ولكن ذا البدلة السوداء حال بينهما، ثم أوسع لهما مكانا بين الآخرين. •••
من وراء الستارة خرج رجل قصير نحيل، يلفه الحياء حتى بدا كطفل، وقف في وسط الحجرة وراح ينظر فيما حوله بارتباك. هم بالكلام مرة ومرة؛ ولكنه لم ينبس. وإذا برجل جديد يخرج من وراء الستارة، ضخم مهيب ذو لحية مدببة، اتخذ موقفه أمام الرجل الأول فأخفاه عن الأنظار، وقال بنبرة متعجرفة: أنا رجل ألماني من بون.
فسأله الألماني الأول: ألديك معلومات جديدة عن المارك؟
فقال بالنبرة المتعجرفة: لا أقيم الآن في ألمانيا، لم أجد هناك المعاملة اللائقة، أنا مواطن عالمي، ولدي اختراع كيماوي مذهل.
فسأله رجل الفراش: أله فائدة في تجديد الشباب؟
وسأله الزنجي: هل يجدي مفعوله في تهذيب الخلق الإنساني؟
وسألته الأم: هل ينفع غذاء للأطفال؟
فقال: إنه مسحوق غامض، يكفي الجرام منه لإبادة خمسين مليونا من البشر.
هب الجميع في اهتمام ساحق، حتى الأمريكي والفيتنامي استيقظا ووثبا واقفين. قال الألماني الأول: لعلهم جهلوا مقاصدك أيها الأخ العبقري فلم يحسنوا معاملتك، عد إلى وطنك.
ولكن رجل الفضاء الأمريكي قال: أيها الأخ العبقري، أمريكا هي وطن العلماء، عندنا برج بابل يعيش فيه العلماء من مختلف الأجناس عيشة الأباطرة. اذهب إلى وطنك الحقيقي أمريكا!
وقال له رجل الفضاء الروسي: ليكن مسحوقك في خدمة الملايين الكادحة، لا في خدمة حفنة من مصاصي الدماء.
وقال له العربي: يلزمني ملليجرام من مسحوقك العبقري!
وسأله ذو البدلة السوداء: هل سبق لك زيارة معبد الكرنك تحت شمس الشتاء المشرقة؟
فقال الألماني بعجرفة: تلزمني مهلة للتفكير.
وذهب إلى ناحية الواقفين فاتخذ مكانا. وبذهابه ظهر مرة أخرى الرجل القصير النحيل .
وقال له رجل الفراش: كان المنتظر أن تبدأ أنت بالكلام.
فابتسم في حياء دون أن ينبس فسأله: بالله ماذا يمنعك من الكلام؟
فتغلب على حيائه وقال: أعتقد أنني بصدد اكتشاف طريقة ناجعة لمعالجة السرطان.
وساد صمت شامل حتى واصل حديثه قائلا: لقد جربتها على مرضى كثيرين فنجحت بنسبة 40٪، ولكني في حاجة إلى مزيد من البحث والتجريب، وتلزمني تكاليف باهظة!
وساد الصمت؛ صمت ثقيل، حتى قال الفرنسي هامسا: هذا الرجل يستحق التشجيع، ولولا أزمة الفرنك ...
فقال الألماني: إنه جدير بالتشجيع، ولكن من أدرانا أنه ليس دجالا؟
فقالت الممثلة: إن تكشف عن دجال فأنا أرشحه لتمثيل دور في فيلمنا المشترك.
وقال رجل الفضاء الأمريكي: أبحاث السرطان متقدمة عندنا.
فقال رجل الفضاء الروسي: يمكن أن نستضيفك عاما في المعهد الطبي الشيوعي.
فصاح رجل الفضاء الأمريكي: يمكن أن نستضيفك عامين، ولكن إذا زرت روسيا تعذر عليك دخول بلادنا.
ونفخ رجل الفراش بصوت مسموع، فسأله ذو البدلة السوداء: ماذا تشكو؟ - أريد كأسا من الويسكي. - تمر بك الأحداث وأنت لاه عنها بشهواتك! - أعطني سلاحا. - تريد أن تسكر وتطلق النار على غير هدى!
وأشار إلى الرجل القصير النحيل إشارة خاصة، فمضى ليتخذ موقفا بين الواقفين. •••
وتحركت الستارة فخرج من ورائها رجل ملفوف في كفن لا يظهر منه إلا رأسه، وقف في وسط الحجرة وقال: أنا المدير العام لمؤسسة م. م. م.
فقال له رجل الفراش: تشرفنا يا فندم. - انتقلت إلى رحمة الله على أثر نوبة قلبية أصابتني وأنا جالس إلى مكتبي. - ليرحمك الله. - الموت أكبر كارثة في الوجود، أكاد أجن كلما تصورت أن العالم سيمضي في طريقه عقب اختفائي كأنني لم أعايشه دقيقة واحدة. - أكنت تتوقع أن يتوقف عن الحياة إكراما لك؟ - هذه هي مأساة الوجود الحقيقية التي تفقده أي معنى من المعاني! - صدقني فإن العالم مثقل بهمومه بحيث يغفر له ألا يشعر بموتك. - ذهبت الحياة بجمالها وسحرها وآمالها! - ليرحمك الله. - ما لقلبك جامدا هكذا، حتى الحيوان يحزن. - حزني للحياة لم يترك في قلبي موضعا للحزن على الموت! - مت وحيدا، وها أنا أحزن وحدي. - لتكن الجنة مثواك. - وأنا والد س وص بالجامعة، وشقيق أ بمؤسسة م. م. م، وعم د بمؤسسة م. م. م، وابن خالة ز بمؤسسة م. م. م، وستشيع الجنازة من مسجد عمر مكرم في تمام الثانية عشرة ظهرا ولا عزاء للسيدات. - سأعزي بتلغراف. - ولم لا تشيع جنازتي بنفسك؟ - إني مريض كما ترى. - تستطيع أن تشيع جنازتي لو بك رغبة في ذلك. - أخشى أن أصاب بنكسة. - أناني لا تفكر إلا في نفسك. - لا وقت عندي للتفكير في نفسي ولا فيمن يموت. - ليت يومك كان قبل يومي. - أنتم السابقون ونحن اللاحقون.
وبدأ الرجل يتحرك ببطء ليتخذ موقفه بين الجماعة. وفي أثناء سيره قال ذو البدلة السوداء: مات رجل من جيل الثورة المضادة.
فقال رجل الفضاء الأمريكي: فقدنا صديقا ذا استعداد طيب للتفاهم.
وقالت الممثلة: نقص رواد السينما رجلا ولا كل الرجال. •••
وتحركت الستارة فخرج من ورائها رجل وجيه بدين، أنيق الملبس رغم ضخامته الفذة، وقف في وسط الحجرة ثم بسط صحيفة وراح يقرأ منها بصوت جهوري: من واجبي، من حقي، أن أقول رأيي كما يجدر بصحفي يحترم نفسه ويحترمه الجميع، وأن أصوغه بالوضوح الكامل لنخترق الظلمات إلى رؤية مضيئة؛ لعلنا نهتدي إلى مرفأ آمن في هذا البحر العاصف الذي تتلاطم أمواجه كجبال من الظلام، سأقول الحق بوضوح مهما كلفني ذلك من جهد ومن تضحية؛ لذلك أقول لكم:
الوعي قضية، تسير مسارها الطبيعي إلى نقيضها وهو اللاوعي، وعلى أثر تقدم مطرد يتكون تركيب جديد من النقيضين هو المرض. بمعنى آخر الوعي + اللاوعي = المرض. إن يكن عصابا فهو مرض نفسي، وإن يكن ذهانا فهو مرض عقلي. ذلك أن كل شيء يخضع في النهاية للديالكتيك. ولا يلبث التركيب الجديد (المرض النفسي أو العقلي) أن يتحول إلى قضية جديدة تبحث بدورها عن نقيضها كما تبحث المراهقة عن عريس، ونقيض المرض هو الصحة النفسية، ثم يجمعها تركيب جديد آخر بحكم حتمية الديالكلتيك، وهذا التركيب الجديد يتكون من المرض والصحة، مرض ديالكتيكي وصحة ديالكتيكية، وهي حال لا هي صحة ولا هي مرض، وإذا ترجمناها إلى لغة فلسفية أمكن أن نطلق عليها «حال وجودية» ... ويغلب عادة أن تكون من نوع الوجود في ذاته، ولكن بتدخل قوى قهرية باغية تتحول إلى نوع آخر هو الوجود لذاته، ويخشى في تلك الحال أن تتحول إلى وضع أجوف أو ما يسمى في الهندسة بالفراغ؛ فراغ مشحون بالقلق السرمدي، ولا علاج لذلك إلا بالمزيد من الديالكتيك. هذه هي حقيقة المسألة بلا حشو ولا إسهاب لا موجب له، شرحتها متوخيا البساطة والوضوح، بلغة شعبية جديرة بمخاطبة شعب عظيم يمر بلا شك بمحنة عصبية، ويتوثب لقهر ما يعترض سبيله من عقبات، مصمما على الصمود والنجاح، ألا هل بلغت؟
أعقب كلمته صمت، استمر حتى خرقه رجل الفراش قائلا: شكرا يا سيدي؛ ولكن ثمة أسئلة حائرة أود أن أوجهها إليك.
فقال بهدوء: صناعتي هي الكتابة لا الكلام. - ولكنها أسئلة ملحة يا سيدي. - اكتبها في ورقة وسأجيب عليها كتابة.
وتكرم بإعطائه ورقة وقلما فتناولهما الرجل وسجل أسئلة، ومد بها يده إليه. قرأها الصحفي بعناية ثم سجل بدوره إجاباته عليها، ثم راح يقرؤها: بالنسبة للسؤال الأول الجواب: محتمل.
بالنسبة للسؤال الثاني الجواب: بين بين.
بالنسبة للسؤال الثالث الجواب: نعم ولا.
بالنسبة للسؤال الرابع الجواب: لعل وعسى.
بالنسبة للسؤال الخامس الجواب: إنه سلاح ذو حدين.
بالنسبة للسؤال السادس الجواب: خير الأمور الوسط.
فتمتم رجل الفراش: شكرا يا سيدي.
فرد الصحفي الشكر بهزة من رأسه وانتقل إلى الناحية الأخرى. طوى رجل الفراش الجريدة ثم احتسى آخر رشفة من الشاي، هبط إلى أرض الحجرة، راح يسوي جلباب نومه ويتثاءب. وفي الحال أحدق به جميع الحاضرين بغير استثناء، جعلوا يدورون حوله مرددين مقاطع من أقوالهم السابقة في وقت واحد. تخلل دورانهم طلقات نارية، انفجار قنابل، أزير طيارات، صرخات آدمية. وكلما أتم أحدهم دورته زحف تحت الفراش واختفى، حتى خلت الحجرة ولم يعد يبقى بها سواه. وفتح الباب وظهرت عنده المرأة وهي تتساءل: شربت شايك؟
فأحنى رأسه بالإيجاب ، فقالت وهي تختفي في الداخل: أظن آن لنا أن نناقش مشاكلنا العاجلة!
فمضى نحو الباب وهو يتمتم: استعنا على الشقا بالله.
روح طبيب القلوب
تفحصها الرجل باهتمام، فتلقت نظراته بعينين حذرتين مستطلعتين. كان يجلس مسند الظهر إلى باب الضريح الصغير، على حين تربعت هي بين يديه. لم يكن في ساحة الضريح الصحراوية سواهما أحد في صحبة شعاع الصباح الباكر. وكان الضريح صغيرا مثل زنزانة، ولا تناسب بين جسم الرجل النحيل وبين عمامته الخضراء الكبيرة ولحيته الكثيفة السوداء، وثمة تناقض أشد بين جلباب الفتاة الرث القذر وقدميها الحافيتين، وبين جمال وجهها الآسر. أشار الرجل إلى الضريح وقال: تبارك ذكره، كان بطب الجراح إعجازه وسره.
فتمتمت الفتاة بسذاجة: تبارك ذكره. - لعل الذي جاء بك إليه جرح عز على البشر شفاؤه؟
فتمتمت فيما يشبه البلاهة: نعم.
فسألها بارتياب: ما سنك يا فتاة؟ - لا أدري. - ولكن أمك تدري؟ - لم أر لي أما. - توفاها الله؟ - لا أدري. - وأين أبوك؟ - لم أر لي أبا. - وأين تعيشين؟ - في الدنيا! - ماذا تعملين؟ - أسرح بالفاكهة الفاسدة يجود بها الفاكهي أو يبيعها بثمن بخس. - ولكنها تجارة فاسدة! - لها زبائن يتنافسون في الحصول عليها. - وأين تقيمين؟ - في الخلاء صيفا، وتحت البواكي شتاء. - أتتحملين تقلب الجو؟ - وهل تقلب الجو يؤذي؟!
وخفض الرجل صوته درجة وهو يسألها: وهل صنت شرفك يا فتاة؟ - شرفي؟! - ألا تعرفين معنى الشرف؟ - الشرف؟!
فتردد لحظة ثم تساءل: ألم يغرر بك شاب؟ - يغرر بي؟! - يخدعك لينال منك مأربه؟ - نحن نعمل معا، ونلعب معا، وننام معا! - يا للعنة! - اللعنة؟! - لعلك قصدت صاحب الضريح مطاردة بعذاب الضمير! - الضمير؟ - لا تعرفين الضمير أيضا! - أيضا! - أأنت راضية عن حياتك؟
فقالت بحماس: الحياة جميلة بالرغم من كثرة المشاجرات. - الشجار إذن هو ما يقلقك؟ - كلا، إنه يهب الحياة مذاقا طيبا!
فنفخ الرجل متسائلا: ما دينك يا فتاة؟ - ديني؟! - ألا تعرفين الدين؟ - الدين!
فسألها بحدة: ماذا جاء بك إلي؟ - أنت الذي أمرتني أن أجلس فجلست. - ولكني رأيتك قادمة نحوي؟ - نحو الضريح! - لماذا؟ - ظننت أنه يصلح مأوى لي. - أأنت بلهاء أم مجنونة؟
لاذت الفتاة بالصمت، فقال: إنك تعيشين في الخلاء صيفا وتحت البواكي شتاء، فماذا جعلك تبحثين عن مأوى؟
بدا أنها تهم بالكلام ولكنها أطبقت شفتيها راجعة إلى الصمت، فغمغم الرجل في ضجر: إنك شيطانة!
فسألته ببساطة: من أنت؟
فقال بغضب: لا يجهلني إلا الشياطين! - ماذا تعمل؟ - أنت لا تعرفين الشرف أو الدين، فكيف تدركين معنى الولاية؟ - لماذا أنت غاضب؟ - ملعونة أنت في الدارين! - الدارين؟ - في الدنيا والآخرة. - أعرف الدنيا؛ ولكن ما الآخرة؟ - اغربي عن وجهي!
نهضت الفتاة قائمة. سقطت من داخل الجلباب بين قدميها قطعة حلي. انحنت بسرعة فالتقطتها ولكن يد الوالي قبضت على ساعدها بقوة، ثم وثب قائما وهو يقول: ما هذا؟!
هتفت به أن يطلق يدها، ولكنه قبض على منكبيها وراح ينهرها بعنف، فتساقطت قطع الحلي حتى استقرت على الأرض كنزا صغيرا. وفي تلك اللحظة جاء خادم الضريح فرأى الصراع بين الفتاة والولي ورأى الكنز، ردد البصر بينهما ثم حملق في الكنز متسائلا في ذهول: ماذا يحدث؟
فقال الولي: لصة من صعلوكات الطريق. - ماذا جاء بها إلى هنا؟ - توهمت الشيطانة أنه يمكن إخفاء سرقتها في الضريح. - وماذا تنوي أن تفعل بها؟ - ما ينبغي فعله.
وولولت الفتاة: دعني وشأني.
فصاح بها: اخرسي يا لصة. - يدك تهشم عظامي. - من أين لك هذه الحلي؟ - إنها ملكي! - ورثتها عن أهلك؟
وعاد خادم الضريح يسأل: ماذا تنوي أن تفعل بها؟ - ما ينبغي فعله. - وما الذي ينبغي فعله؟ - علينا أن نسلمها للشرطة. - أليس من الجائز أن تكون بريئة؟ - ستتكفل العدالة بإظهار الحقيقة. - ولكن العدالة عمياء يا ولي الله. - من أين لها هذه الحلي؟ - الله يرزق من يشاء بغير حساب. - أترى أن نطلقها؟ - لن تكون بمأمن من قطاع الطرق. - لم يبق إلا أن أضعها تحت رعايتي! - ولكنك ولي، وهيهات أن تحسن رعاية الأمور الدنيوية.
فقال الولي بارتياب: أرى أحلاما غريبة تراودك! - لعلها نفس الأحلام التي تراودك!
وتوسلت الفتاة قائلة: دعني أذهب ...
فقال لها الولي وهو يخفف من قبضته عليها: لا أمان لك في دنيا الشرور.
وقال لها خادم الضريح: سأفتح لك الضريح كما تشائين!
ولكن الفتاة قالت بإصرار: أريد أن أذهب.
وحاولت أن تخلص ذراعيها، ولكن الولي شدد قبضته، وأقبل خادم الضريح يساعده؛ تبادلا نظرة من فوق رأس الفتاة، قال خادم الضريح: يلزمنا وقت لتبادل الرأي.
وتبادلا غمزة حملا الفتاة على أثرها إلى داخل الضريح. غابا في الداخل دقائق، ثم خرجا يتفصدان عرقا.
أغلق الخادم الباب ثم مضى إلى الولي وهو يقول: الخير في الاتفاق. - لا تنس أنها جاءت إلي بقدميها. - بل كانت تقصد الضريح. - اكشف أفكارك. - نتقاسم الغنيمة! - من العدل أن ...
ولكن خادم الضريح قاطعة بحزم: نتقاسم الغنيمة!
فصمت الولي قليلا ثم تساءل: وماذا نفعل بالفتاة؟ - نطردها، ونهددها بالويل إن عادت ... - قد ... - إنها سارقة ولن تلجأ إلى الشرطة. - قد تحرض علينا عصابة من الأشرار لا قبل لنا بها. - أترى من الأفضل أن نتخلص منها؟ - ماذا تعني؟ - أن نقتلها! - نقتلها؟! - ثم ندفنها في الضريح وهو خال كما تعلم!
فقال الولي باضطراب: ولكن لا قلب لي على القتل!
فقال الخادم بارتياح: ولا قلب لي أيضا. - فما العمل إذن؟
وتفكر في صمت مليا حتى قال خادم الضريح بظفر: الرأي أن نستعين بصديقنا الشرطي! - فكرة طيبة ... - وهي المخرج الوحيد لنا. - ولكن الغنيمة ستوزع على ثلاثة بدلا من اثنين! - خير من ضياع كل شيء.
وغادر خادم الضريح المكان. غاب فترة غير قصيرة، ثم رجع بصحبة الشرطي وهو يقول له: هذه هي المسألة بلا زيادة ولا نقصان.
هز الشرطي رأسه مفكرا، على حين أقبل الولي نحوه قائلا: عندك الرأي والتنفيذ.
فقال الشرطي: ولكنها عقدة تحتاج إلى حلال وتحف بها المهالك!
فقال الولي: سنقبض على الفتاة وتبدأ من فورك التحقيق معها، ثم تستولي باسم القانون على الحلي، وعند ذاك نتشفع نحن في إطلاق سراحها، وبمجرد أن تفك قبضتك عنها ستطير كالحمامة، ولن ترجع إلى هذا المكان ما امتد بها العمر!
فقال الشرطي: ولكني لا أقبل الظلم ...
فتساءل خادم الضريح بانزعاج: أي ظلم! إنها صعلوكة شريرة قطاعة طريق !
فقال الشرطي: الظلم أن توزع الغنيمة علينا بالتساوي!
فوجم الرجلان وقال الولي: لولا صداقتنا الوطيدة لقمنا بالمهمة وحدنا. - لولا الضرورة ما لجأتم إلي! - لا تكن سيئ الظن أيها الصديق. - لي النصف ولكل منكما الربع. - لا تغال أيها الصديق. - لا تبددوا الوقت هباء ...
وصمت قليلا ثم استدرك: ولكن يلزمنا مثمن! - مثمن؟! - للوزن والتقييم والفحص. - ترى هل يفعل ذلك لوجه الله؟ - ماذا فعلت أنت لوجه الله؟ - ولكن سينقص ذلك من نصيب كل منا؟ - من نصيب كل منكما! - يجب أن نتحمل العبء الجديد بالتساوي. - أنت تتناسى أنك تخاطب القانون! - الرحمة أيها الصديق. - القانون لا يغمض عينيه بلا ثمن.
فقال الولي: أنا صاحب اللقية.
وقال خادم الضريح: أنا صاحب الضريح.
فقال الشرطي بحدة: أهناك رحمة أعظم من أن أهبك ثروة بدلا من أن أسوقكم إلى السجن؟!
فهبط عليهما صمت واجم مثقل بالتسليم. وتسلم الشرطي الكنز، فاقترح أن يذهب إلى المثمن، ولكن الرجلين أصرا على اصطحابه. وفيما هم يهمون بالذهاب جاء عجوز ضرير قابضا على يد شاب ضرير، يتلمس طريقه نحو الضريح، فعدل الرجال الثلاثة عن الذهاب حتى تطمئن قلوبهم. بلغ العجوز باب الضريح فبسط راحته عليه وتساءل بصوت مرتفع: أين خادم الضريح؟
فأجاب الشرطي: الظاهر أنه مريض، اذهب الآن وعد غدا.
ولكن العجوز قال: الباب المغلق لن يسد سبيل الرحمة، إن الرحمن أمر بها.
وأسند رأس الشاب إلى الباب وهتف: يا طبيب القلوب الكسيرة، إليك ابني المسكين، فقد في حادث بصره، فتوقف في سبيل الرزق سعيه، وأعيا الأطباء شفاؤه، اشمله بنفحة من بركتك ...
هم الرجال الثلاثة بالذهاب مرة أخرى لولا صرخة ندت عن الشاب الضرير، وهتف الشاب.
فسأله العجوز: ما لك يا بني؟ - أسمع صوتا! - أي صوت يا بني؟ - صوت طبيب القلوب الكسيرة ولا صوت غيره!
تبادل الرجال الثلاثة نظرة قلقة. ألصق العجوز أذنه بالباب ثم تساءل: ماذا سمعت يا بني؟ - نفذ صوته إلى أعماق قلبي ...
وقال الشرطي بحدة: اذهبا اليوم وعودا غدا.
فصاح الشاب: لن أذهب، إنه يناديني!
فقال الشرطي: أنا الشرطي، وأقول لك إنني لا أسمع شيئا ...
فصاح الشاب بأعلى صوت: اسكت، دع صوت الرحمة ينفذ إلى قلبي ... - ولكن ذلك مخالف للقانون! - اسكت، طبيب القلوب يهمس في أذني، تكلم يا طبيب القلوب الكسيرة ...
وجذب صوت الشاب الضرير انتباه بعض الناس فيما بدا، فأخذوا يتقاطرون على الساحة بجلابيبهم الزرق وأقدامهم الحافية. وقفوا ينظرون باهتمام ويتبادلون الهمس. واستشعر الرجال الثلاثة دنو خطر مجهول، فحث الولي وخادم الضريح الشرطي على إنقاذ الموقف قبل أن يستفحل الخطر. ضرب الشرطي الأرض بقدمه وصاح بصوت آمر خشن: أيها الشاب، كف عن الهذيان.
ولكن الشاب صاح بقوة: طبيب القلوب يناديني. - كف عن الهذيان.
فقال العجوز بضراعة: ارحم شبابه وعجزه. - إنه يحدث فتنة.
فقال العجوز: دعه يسمع ما يطرق أذنيه، لا ضير من ذلك على أحد.
وأكثر من صوت من بين الناس قال: لا ضير من ذلك على أحد، لا ضير من ذلك على أحد.
أما الشاب فراح يخاطب الضريح قائلا: يا طبيب القلوب، إني أسمعك، صوتك يملأ قلبي، يحرك جذور وجداني، إني أصعد في مدارج السماء يا طبيب القلوب ...
وهتفت أصوات من الشعب: تبارك الله القادر على كل شيء.
فصاح الشرطي: تضليل وتحد لقوانين الأمن.
وقال الولي: اذهب إلى ولي من أولياء الله، أو طبيب من أطباء الدولة!
وقال خادم الضريح: لقد انتهى عصر المعجزات!
فعادت أصوات من الشعب تهتف: تبارك الله القادر على كل شيء.
ومضى الشاب الضرير في مناجاته قائلا: ما أجمل صوتك يا طبيب القلوب! رقيق كالرحمة، هامس كالسر، عزيز كالنور ...
فصاح الشرطي: دجل يدعو للتجمهر دون إذن من الداخلية!
ولكن الشاب واصل حديثه: بكل جوارحي أصغي إليك. أصغي إليك يا بشير النور والأمل.
فتقدم الشرطي من الناس خطوات وصاح: باسم القانون آمركم بالتفرق.
فقال أكثر من صوت: دعنا نشهد معجزة ... - اذهبوا وإلا حملتكم على الذهاب بالعصا! - لن تمنعنا قوة من شهود معجزة مباركة!
توثب الشرطي للهجوم، فتوثب الجمهور للدفاع دون أن يتزحزح عن مواقعه. وإذا بالشاب الضرير يهتف: ليفتح الباب، ليفتح الباب؛ بذا أمر طبيب القلوب.
فارتفعت ضجة بين الجمهور وصاحت الأصوات: افتحوا الباب ... افتحوا الباب ...
وهتف الشاب الضرير متشكيا: إنه يدعوني إليه!
فهتفت أصوات في حماس جنوني: افتحوا الباب، الروح تريد أن تنطلق ...
فقال خادم الضريح: لن أفتحه احتراما للأمن والقانون ...
عند ذاك بدأ الشاب الضرير يدفع الباب بمنكبه، فتعالى هتاف الجمهور، وأراد الشرطي أن يمنعه بالقوة، ولكن الشاب دفعه بعنف فرمى به بعيدا. وانفجر حماس الجمهور، فاضطر الرجال الثلاثة إلى التنحي جانبا؛ اتقاء لغضبة لا قبل لهم بها.
وفتح الباب تحت وقع دفعات الشاب القوية، فاجتاح الهتاف الساحة كالانفجار. ولم يتردد الشاب فدخل متلمسا طريقه بيديه حتى اختفى عن الأنظار. وساد صمت. صمت عميق شامل. تركزت الأرواح في الأعين المستطلعة. انعدم الزمان والمكان. وإذا بصيحة تند عن الداخل. ثم ظهر الشاب في الباب وهو يترنح. رفع يديه صوب السماء وهتف: أشهد الله أني أرى! .. أشهد الله أن بصري رد إلي!
وقلب عينيه في وجوه الذاهلين الصامتين وصاح: أرى الضياء، أرى الناس، أرى السماء، وقد رأيت الروح! - الروح! - تجسدت لعيني في صورة فتاة ترسف في الأغلال! - الله أكبر ... الله أكبر. - فككت أغلالها بمشيئة الله! - الله أكبر ... الله أكبر. - وهي تقطر بهاء وجلالا وجمالا ... - الله أكبر ... الله أكبر. - وبإذن الله سوف تظهر للأعين المؤمنة!
ووثب الشاب نحو الجمهور، فوقف في مقدمته مستقبلا باب الضريح. وساد الصمت مرة أخرى. وتطلعت الأعين نحو الباب في لهفة عارمة. وفي خطوات وئيدة مترددة ظهرت الفتاة. ظهرت وهي تنظر إلى الجمهور في ذهول. تعالى الهتاف من الأعماق وركع الجميع في خضوع: الله أكبر. - الله قادر على كل شيء. - يا له من جمال! - يا له من بهاء! - ما لا عين رأت ...
وحان من البعض التفاتة نحو الرجال الثلاثة الواقفين، فصرخوا فيهم أن يركعوا فاضطروا إلى الركوع اتقاء للغضب.
وصاح الشاب: إني خادمك منذ الساعة وإلى الأبد.
واستبقت أصوات الجمهور في خشوع: رعايتك للغائب. - رحمتك بالمريض. - كرمك للكادح الفقير. - غضبك على الظالمين.
نظرت الفتاة فيما حولها بذهول وتساءلت: أين أنا؟
فقال الشاب : من السماء هبطت إلى أرضنا التعسة ... - ماذا أرى؟ - أناس طيبون جمعتهم المعجزة بعد أن فرقتهم الهموم. - إني أشعر بدوار. - إنه دوار من يرثي لحالنا. - كادوا يكتمون أنفاسي! - الويل للأشرار حيث كانوا وحيث يكونون. - اغتصبوا الحلي بلا رحمة. - جواهرك للطيبين لا للمغتصبين. - أريد الحلي. - ليجد كل مؤمن بك بمكنون جواهره.
انتهز الرجال الثلاثة فرصة انهماك الجمهور، وأخذوا يتزحزحون عن مواقعهم بغية الهرب، ولكن عيني الفتاة وقعتا على الولي وخادم الضريح، فأشارت نحوهما هاتفة: المجرمان!
انقض رجال على الرجلين فدفعوهما أمامهم حتى خرا أمام الفتاة، سألت الفتاة: أين الحلي؟
لاذ الرجلان بالصمت، فقال صوت من الشعب: الروح - تباركت - تتحدث عن جواهر حقيقية!
فقال الشرطي: للروح لغة لا يدركها أحد من البشر! - إنها تتحدث عن جواهر حقيقية.
فعاد الشرطي يقول: حذار أن تفسروا كلام الروح على هواكم. - اضربوهما حتى يقرا! - إني مسئول عن الأمن العام. - اضربوهما حتى يقرا.
فقال الولي مرتعدا: نحن رجال العهد.
وقال خادم الضريح: فتشونا إن شئتم.
فصاح رجال من الشعب: اضربوهما حتى يقرا.
وانهالت عليهما اللكمات كالمطر حتى صاح خادم الضريح: الحلي في حوزة الشرطي. - تحول الجمهور الغاضب نحو الشرطي، فقام الرجل وهو يقول بعجلة ولهوجة: لقد ضبطتهما وهما يتقاسمانها، فوضعت يدي عليها باسم القانون ...
وبلا تردد تخلص الشرطي من الحلي فوضعها في الساحة أمام الضريح، في موجة هادرة من التكبير والتهليل.
وصاح الشاب: الآن وضح الحق!
فانخفضت الأصوات رويدا حتى استقر الصمت، فاستدرك الشاب قائلا: أرادت الروح أن تجود ببعض الجواهر على الفقراء، فسرقها اللصان، ولكن ها هي الجواهر تعود إلى أصحابها! - الله أكبر ... الله أكبر. - وتلك هي رسالة طبيب القلوب إليكم. - الله أكبر ... الله أكبر. - تباركت يا طبيب القلوب. - فلتوزع بالعدل. - تباركت يا طبيب القلوب. - ولتنفق في الخير. - تباركت يا طبيب القلوب.
وإذا برجل وجيه المظهر يجيء مهرولا. ينظر فيما حوله بذهول حتى تقع عيناه على الحلي، فيندفع نحوها كالمجنون هاتفا: الحلي المسروقة!
ولكن الشاب يدفعه دفعة قوية ترجعه القهقهرى، وصاح الوجيه: هذه حليي، وهي مثبتة بالوصف والعيار في محضر الشرطة.
فتعالت أصوات الشعب: كذاب! - لص! - شريك المجرمين!
فقال الوجيه: لنذهب إلى قسم الشرطة. - اذهب إلى الجحيم.
وفيما يضرب الوجيه كفا بكف يقع بصره على الفتاة. حدق فيها ذاهلا وهتف: أنت!
وهم بالانقضاض عليها، ولكن الشاب دفعه دفعة قوية كادت تطرحه أرضا. وصاح به الجمهور غاضبا: تأدب في الخطاب يا وقح. - أنت غير جدير بالمثول بين يدي روح كريم.
وتساءل الوجيه في ذهول: ماذا جرى للدنيا؟!
ولمح الشرطي فلاذ به قائلا: أنا صاحب الحلي، اذهب بنا إلى القسم ...
فهمس الشرطي في أذنه: اصبر، لا جدوى الآن من تحدي الجمهور. - ولكنها لصة صعلوكة!
فانهالت عليه الأكف. - اقطع لسانك يا وغد. - يا مجدف. - يا لئيم.
وسأل الشاب الفتاة: ما قولك في هذا الوقح؟
فأجابت الفتاة بسرعة: إنه حيوان يتمرغ في تراب الفتيات ويضن عليهن بالملاليم!
فصاح الجمهور الغاضب: حيوان ... حيوان.
فقالت الفتاة: أمواله حلال لكم!
تعالى التهليل والتكبير. هجم عليه رجال أشداء فطرحوه أرضا واستخرجوا من جيوبه جميع نقوده ... وصاح الوجيه: أيها الشرطي!
فهمس الشرطي: ماذا يفعل الشرطي بين مجانين؟! - أموالي تنهب بمحضرك!
وصاح الشاب: أمواله كالحلي هبة طبيب القلوب للفقراء!
فصاح الجمهور: تبارك الروح الكريم!
فقال الشاب: تقاسموا المال بالعدل.
وأحاط الجمهور بالشاب وراحوا يتقاسمون النقود والحلي، وجعل الوجيه يهذي قائلا: ماذا جرى للدنيا؟
وقال الشاب: الآن تحققت رسالة طبيب القلوب.
وأشارت الفتاة إلى الوجيه والشرطي وخادم الضريح والولي وقالت: قيدوهم ثم احبسوهم في الضريح!
هجم الجمهور على الرجال الأربعة فقيدهم، ثم حملهم إلى داخل الضريح وأغلق الباب. وسلمت الفتاة المفتاح إلى الشاب قائلة: أنت خادم الضريح.
ثم نظرت إلى الجموع وقالت: اذهبوا بسلامة الله.
على رغمهم غادروا المكان، فلم يبق معها إلا الشاب، خادم الضريح الجديد.
تبادلا النظر؛ من ناحيته بخشوع، ومن ناحيتها بشوق. سألته: لم لم تأخذ من المال نصيبا؟
فقال الشاب بوجد وافتتان: حسبي أن أكون خادم ضريحك. - ماذا كنت تعمل قبل أن تفقد بصرك؟
نشأت في الطريق حتى التقطني منه العجوز الطيب، فعلمني صناعته وهي تحضير الأرواح العطرية! - كنت من فتيان الطريق؟ - أول عهدي بالحياة. - وكيف فقدت بصرك؟ - صدمتني سيارة عابرة! - ولكنه رد إليك فمبارك عليك. - بفضل الله وفضلك.
تفكرت قليلا ثم قالت: الأصوب أن ترجع إلى عملك الأول مع العجوز الطيب. - بل أحب أن أبقى خادما لضريحك. - أقول لك ارجع إلى عملك. - أهو أمر؟ - نعم. - سأرجع إلى عملي. - سأرسل لك بفتاة من الطريق الذي نشأت فيه، إذا رأيتها توهمت أنك تراني. - ما أجمل أن أرى صورتك على الدوام! - تزوج منها، فهي هبتي إليك. - سمعا وطاعة. - وأحسن معاملتها. - سمعا وطاعة. - ولا تصدق قول الحاسدين فيها. - سمعا وطاعة. - ولا تفارقها حتى تفارقك الحياة. - سمعا وطاعة. - اذهب الآن بسلام. - وددت أن أبقى كظلك. - اذهب بسلام.
أحنى الشاب رأسه في خضوع، ثم فارق المكان أسيفا حزينا.
وجدت نفسها وحيدة في الخلاء. تجلت الحيرة في عينيها.
تساءلت: ماذا جرى للدنيا؟!
وقطبت في غضب: إما أنني مجنونة، وإما أنهم مجانين!
ثم في ذهول: الجميع يركعون، يهللون ويكبرون، بإشارة من يدي يأتمرون ... ماذا جرى؟!
وبغتة سمعت دفعا يصك باب الضريح من الداخل صكا. تولاها الذعر فأطلقت للريح ساقيها. انفتح الباب بقوة الدفع وانطلق منه الوجيه والشرطي وخادم الضريح والولي. وجعل الوجيه يقول في صخب غاضب للشرطي: سأحملك مسئولية المهزلة كلها.
ولكن الشرطي قال: صبرك، لم يكن في الإمكان فعل شيء؛ جن الناس، وإذا جن الناس تطايرت هيبة الشرطي، ولكن هيهات أن يفلت مجرم من يدي! - واللصة الصعلوكة أين ذهبت؟ - اعتبرها في قبضة يدك، إني أعني ما أقول. - وكيف أسترد مالي وحليي؟
فقال خادم الضريح: لنلجأ إلى القسم.
ولكن الشرطي اعترض قائلا: كلا، للتحقيق سراديب أخشاها!
فسأله الولي: والعمل؟
فأجاب الشرطي: لي وسائلي الخاصة.
ولكن الوجيه قال: بل لدي فكرة لو قدر لها النجاح ردت إلي أموالي الضائعة! - ما هي فكرتك؟ - نلجأ إلى الروح! - الروح؟! - الروح التي سلبت مالي هي التي ترده إلي! - ولكن ذاك حلم! - سنعيد تمثيل الرواية! - نفس الرواية؟ - ولكن بممثلين من عندنا. - والروح من أين نأتي بها؟ - نفس الروح، وإذا خرجت عن المرسوم لها مزقناها إربا! •••
وفي صباح اليوم التالي طلع أول شعاع على الضريح وهو مغلق، والولي جالس أسفل بابه. وإذا بعجوز يسحب وراءه شابا ضريرا نحو الضريح. وجاء رجال فاتخذوا مواقفهم فيما يلي الضريح. وغمز الولي بعينه فراحوا يتصايحون متظاهرين بالدهشة. - هل نشهد معجزة جديدة؟ - أجل .. إنها معجزة جديدة!
وترامت أصواتهم المرتفعة إلى أطراف المدينة، فهرع إلى ساحة الضريح جموع الأمس ملهوفين، وعلى رأسهم الشاب. ولحق بهم الشرطي وخادم الضريح، وتطلعت الأبصار إلى الشاب الضرير؛ رأوه مسند الرأس إلى باب الضريح وهو يهتف: يا رب السموات!
فسأله العجوز: ما لك يا بني؟
فقال الشاب بانفعال شديد: أسمع صوتا يا أبي.
فسرت في الجموع همهمة سرعان ما انقلبت تهليلا وتكبيرا. وتظاهر خادم الضريح بالقلق، فنادى الشرطي بنبرة تحريض: أيها الشرطي!
ولكن الشرطي أجاب بإذعان: كفاني ما لقنت أمس من درس، فلتكن مشيئة الله.
فهتفت الجموع هتاف النصر، وصاح الشاب الضرير: إنه يناديني!
فصاح الجمهور: الله أكبر .. الله أكبر. - إني مرهف السمع، إني رهن الإشارة يا طبيب القلوب الكسيرة. - تبارك الله القادر على كل شيء. - افتحوا الباب، إنه يناديني، افتحوا الباب.
مضى شاب الأمس ففتح الباب بين التهليل والتكبير. دخل الشاب الضرير ملتمسا طريقه إلى قلب الضريح حتى اختفى عن الأنظار. وساد صمت؛ صمت عميق شامل. تركزت الأرواح في الأعين المتطلعة. وإذا بصيحة تترامى من الداخل، وإذا بالشاب يظهر في الباب رافعا يديه إلى السماء وهو يهتف: أشهد الله أن بصري قد رد إلي!
فهتف الناس بانجذاب: الله أكبر .. الله أكبر. - خلقت الدنيا من جديد، بنورها وناسها، فلتتقبلني خادما لضريحك يا طبيب القلوب. - تبارك الله القادر على كل شيء. - المنة لله، ما أحلى النور عقب الظلام! - تبارك الروح الكريم!
وسأله رجل ممن يقفون في الصف الأول: ماذا وجدت في الداخل؟ - رأيت الروح يرسف في الأغلال!
فتساءل شاب الأمس بذهول: ماذا قيدها بعد أن أطلقتها بيدي؟ - قد أخبرت بما رأيت.
وتتابعت الاستغاثات من الحناجر: أتم نعمتك يا طبيب القلوب . - يا مفرج الكروب. - يا ناصر الضعفاء والفقراء.
وظهرت الفتاة في الباب كما ظهرت أمس، ودوى المكان بالتهليل والتكبير. - ها هي الروح المباركة. - ترقبوا مزيدا من البركات. - طوبى للفقراء!
وتساءلت الفتاة: أين أنا؟
فاستبقت أصوات تجيب: في الأرض التي اخضرت بجودك. - ماذا أرى؟ - شعبك الشكور.
فقالت بألم: كادت الأغلال تكتم أنفاسي!
فارتفعت الأصوات غاضبة تتساءل: من المجرم الأثيم؟ - من الجاني الشرير؟ - من عدو الأرواح؟
فقالت الفتاة وهي تلحظ المحدقين بها في يأس: رماني في الأغلال صديق لا عدو، وبحسن نية لا بسوء طوية!
فانفغرت الأفواه ذهولا، فعادت الفتاة تقول: ما أساء إلي إلا سوء الفهم والتأويل!
واصلت الأعين حملقتها في ذهول وتساؤل: طرحت لغزا فوقعتم في حبائله! - ليغفر الله لنا. - غاب عنكم أن الروح لا تتكلم بلغة الدنيا. - ليغفر الله لنا. - وأنها تهب الضياء الخالد لا المال الفاني.
فصاح رجال الصف الأول: ليغفر الله لنا.
أما الآخرون فوجموا وأطرقوا. - وأنها جاءت لتطهر القلوب لا لتحض على النهب والسرقة!
اندحر الجمهور وغرق في صمت، على حين صاح الآخرون: ليغفر الله لنا. - هكذا وقعتم في الضلال ونهبتم المال الحلال! - ليغفر الله لنا. - ذلك ما أعادني إلى الأسر! - ليغفر الله لنا. - أطلقوا سراحي أيها الأحباء المخلصون.
وبين التكبير والتهليل أخذ الرجال المحدقون بها يدسون أيديهم في جيوبهم، ويرمون بالنقود تحت أقدامها، على حين انكمش الجمهور منقبض القلب والصدر والأمل، وأخذوا يتبادلون النظرات كمن يفيقون من حلم. واستبطأهم الآخرون، فسألهم الشرطي محتجا: أتضنون بالحرية على الروح الكريم؟
ولكن واحدا منهم لم ينبس أو يتحرك. وجعل شاب الأمس يحملق في الفتاة بذهول حتى صاح متأوها: ماذا رأى؟
فتطلعت إليه الأبصار، فصاح بغضب موجها الخطاب إلى الفتاة: شد ما تغير كل شيء، كلا، ماذا أرى؟!
التصقت به الأبصار وهو يمعن النظر بجنون حتى صاح بتحد: ما أنت بالروح الكريم!
أشرقت أعين الجمهور بالأمل، أما الشرطي فصرخ فيه: كف عن التجديف يا مارق!
ولكنه صاح بإصرار: ما أنت بالروح الكريم!
انبعثت من صدور الجمهور موجة استجابة حارة لقوله صدقوه من أعماقهم المعذبة. تغيرت النظرة وتغير المنظور وتتابعت الصيحات في غضب وثورة: ما أنت بالروح الكريم. - أين صوت الأمس الحنون؟ - أين ذهبت رحمة السماء؟ - أين اختفى البهاء والجلال؟ -انظروا إلى أسمالها البالية! - انظروا إلى الطين يعلو قدميها! - انظروا إلى التراب يغطي وجهها!
وفجأة وثبت الفتاة مخترقة الحصار المحدق بها، رامية بنفسها وسط الجمهور وهي تهتف: النجدة!
وصاح الشرطي: ما هذا؟!
فصاحت الفتاة: أنا بنت مسكينة، لا روح ولا ملاك!
فصاح الشرطي: أيتها الدجالة، الويل لك!
فصرخت الفتاة: هددوني بالقتل إن لم أتكلم على هواهم.
فارتفعت الأصوات بالغضب، وتكورت القبضات في تشنج. وانقض رجال من المتآمرين على الفتاة، ولكن الجمهور تصدى لهم فدارت بين الفريقين معركة حامية! معركة استعملت فيها الأيدي والأرجل والعصي والطوب والأسنان. وقاتل كل فريق بعناد وغضب، ورأى شاب الأمس الفتاة وهي تقاتل كرجل، فخطر له أنها فتاته الموعودة فازداد قوة واستبسالا. •••
استمرت المعركة وهي تزداد عنفا ووحشية.
موقف وداع
أفاقا في وقت واحد. دبت فيهما حركة بطيئة كتقلصات اعترت زوايا الفم، والجفون والأطراف. فتحا عينيهما، ندت عنهما آهة عميقة من التوجع، تقلبا على الجنبين، زحفا على أربع مقدار ذراع، جلسا على الرمال، أجالا في الخلاء المحيط بهما نظرة ثقيلة نصف عمياء. تلاقت عيناهما في نظرة عابرة لم تكد تكفي لكي يرى أحدهما الآخر. - ما أثقل رأسي! - ما أثقل رأسي! - لا ريب أني أغادر مرضا طويلا. - لا شك أني أبعث من موت. - يا له من خلاء ميت. - لعلي في قبر، أكذلك يبدو القبر من الداخل؟!
وتلاقت عيناهما مرة أخرى. - من أنت؟ - من أنت؟ - إنك عار تماما كيوم ولدتك أمك. - وأنت أيضا، ألا تدرك ذلك؟ - يا للعجب! أين ملابسي؟ - أين ملابسنا؟ - من أنت؟ - من أنت؟ - اسمي عبد الواحد. - اسمي عبد القوي. - ترى أسمعت هذا الاسم من قبل؟ - محتمل أنني سمعت اسمك كذلك. - ماذا جاء بك إلى هنا؟ - ماذا جاء بك إلى هنا؟ - في الذاكرة تلف وعناء. - في الذاكرة تلف وعناء. - واضح أننا تعرضنا معا لشر واحد. - أجل. - غير بعيد أنني لا أراك لأول مرة. - ويخيل إلي أنني عرفت في حياتي شخصا يقاربك في الشبه.
نهضا معا بصعوبة، وقفا يترنحان، أخذا يتنفسان بعمق. - ما الذي جمع بيننا؟ - لا يمكن أن نوجد هكذا معا مصادفة. - ثمة علاقة تربط بيننا، فما هي؟ - ما هي؟ - سنتخلص من الإعياء والخور ونتذكر كل شيء. - من خبرتي السابقة أؤكد لك أن رأسينا تعرضا لضرب مركز. - ضربنا لنسرق، وقد سرقنا بالفعل كما ترى. - ومن خبرتي أيضا أؤكد لك أننا تعاطينا مخدرا جهنميا. - ولكنني لا أتعاطى أي مخدر. - لعله دس إلينا في غفلة منا! - لعله، ولكننا سنعود إلى وعينا ... - استيقظي يا ذاكرة، حقا إن الإنسان بلا ذاكرة هو لا شيء! - ها أنت تتنبه إلى أننا من فصيلة الإنسان. - لا يتعرى إلا الإنسان؛ أما الحيوان فيخلق بملابس طبيعية. - من حسن الحظ أن تكون إنسانا ولو سرقت وتعريت وتألمت. - علينا أن نقاوم الذهول وإلا ذبنا في الخلاء. - وهو خلاء صامت لن يجيب بحرف لو سئل ألف سؤال. - صدقت. - الحق أن وجهك غير غريب، ولا صوتك. - كذلك وجهك وصوتك. - نحن نتقدم بلا شك. - الذكريات تقبل حتى أكاد أمسك بها؛ ولكنها سرعان ما تدبر. - اشحذ جهاز استقبالك. - صه .. ها هي ذكرى، كأنها عواء! وثمة ظلام كأنما يتكدس في كهف! - حقا؟! .. وإني أكاد أمسك بأرقام محددة .. ترى ما هي؟ - وثمة إيقاع شيطاني، لعله زار، أتعرف الزار؟ - كلا، ولكن هناك خطة .. خطة هامة!
وفرق بينهما صمت. مضى كل منهما يحرك رأسه بشدة، ويتنفس بعمق، ثم تبادلا نظرة حية لأول مرة.
ارتسمت في وجهيهما الدهشة. - رباه! - عبد القوي! - عبد الواحد! - ماذا حدث لنا أيها الأخ؟ - أجل ماذا حدث؟
وساد الصمت مرة أخرى تحت شمس الخريف الدافئة حتى تمتم عبد الواحد: كنا ماضيين نحو الطريق الزراعي. - أجل رأيناه بالعين على ضوء النجوم. - ثم؟ - ثم انقض علينا قطاع الطرق، لا شك عندي في ذلك. - وسرعان ما غبنا عن الوجود. - آه، تذكرت، كنا قادمين من مخيم البدوي. - ذلك الرجل الكريم الذي استضافنا في الواحة. - الواحة! .. أجل الواحة .. وقد قضينا وقتا طيبا في الخيمة .. وتعاطينا ...
فقاطعه عبد الواحد بحدة: إنك أنت أصل المصائب! - كلما هفت نفسك إلى لذة مسحت ضعفك في أنا! - أنت الذي شجعته! - لم اشتركت أنت معنا؟ - ضقت بالعزلة ... - هي حجتك إذا أردت أن تمسح ضعفك في ... - وقد وصلنا البدوي حتى مشارف الطريق ... - وعقب رجوعه بوقت غير قصير وقع لنا ما وقع. - وحملنا المعتدون إلى هذا الخلاء ثم تركونا عرايا!
وجعل كل منهما يقطب متذكرا، حتى قال عبد الواحد: سرقوا ملابسنا بما فيها. - نقودنا وأوراقنا الخاصة. - تركونا بلا شيء في لا شيء. - فنحن وما حولنا لا شيء. - هراء ما تقول! - ولكنك أنت من قلته! - إني لا أتكلم؛ ولكني أفكر، والتفكير طرح فروض واحتمالات ... - معذرة يا أخي، ولتفكر في هدوء. - ويجب أن تفكر أنت أيضا. - إنما اعتمادي - بعد الله - على إحساسي الباطني وحده. - ماذا يقول لك إحساسك الباطني؟ - إنها ستفرج من حيث لا ندري! - ربما هلكنا قبل ذلك.
فرفع عبد القوي كتفيه العاريين في صمت واستسلام فقال عبد الواحد: لقد سلبونا جميع ما نملك، إلا العقل. - وهو ما زال في شبه غيبوبة. - أجل، ولكن من اليسير أن ندرك أن علينا أن نذهب إلى أقرب نقطة شرطة. - فكرة صائبة، هيا بنا ... - لا تتعجل، أنسيت أننا عرايا يستحيل عليهم مواجهة الناس؟! - ولكنك أنت الذي اقترحت ذلك. - قلت لك إني أفكر، وإن التفكير ما هو إلا طرح فروض واحتمالات! - معذرة ... - وإذن فعلينا قبل ذلك أن نحصل على ملابس. - فكرة صائبة، ولكن كيف؟ - أن نعود مثلا إلى صاحبنا البدوي. - أسرع، لنسرع أيها الأخ ... - ولكننا في خلاء مجهول لا ندري شيئا عن موقعه، ولا بوصلة معنا ولا مرشد. - لم يبق إلا أن تنتظر حتى يعبر أحد فننهبه كما نهبنا. - وأي مجنون يعبر هذه المتاهة؟ - يا لها من ورطة مضحكة! - مضحكة؟! - المآزق تبعث في نفسي الضحك. - ذاك أنك أهوج ملهوج لا يركن إليه في أزمة. - أنسيت مواقفي في نجدتك عند الخطر؟ - لا يمكن أن ينسى ذلك، ولكن لا تضحك في المآزق!
أحنى عبد القوي رأسه مستجيبا، أو متظاهرا بالاستجابة، فواصل عبد الواحد كلامه قائلا: اتفق الرأي على أننا نزلنا ضيفين في خيمة البدوي، ولكن ما الذي دفع بنا إلى الواحة؟ - ولكنك لم تحل مشكلة وجودنا في الخلاء عرايا بعد؟ - يقتضي حلها بالرجوع إلى الوراء قليلا؛ فنحن لم نستكمل الوعي بنفسنا وحالنا بعد. - فليتم ذلك قبل أن نهلك في الخلاء. - لا تبدد الوقت، ماذا جاء بنا إلى الواحة؟ .. لا أظننا من أهل الواحات! - الثابت أننا من أهل الأرض. - أين كنا قبل أن نذهب إلى الواحة؟ .. ولم ذهبنا إلى الواحة؟
فضرب عبد القوي جبهته بكفه وصاح: شد ما كانت جيوبي ملأى بالنقود! - ولكننا لا يمكن أن نعد من الأغنياء بحال! - صه، ها هي ذكرى تقع في قبضتي، الاستراحة! .. ألا تذكر الاستراحة؟! - الاستراحة! .. أجل .. الاستراحة والحديقة وبركة البط. - برافو .. والركن القصي حيث قبعت مجموعة من الأفندية؟ - أجل .. كانوا يلعبون الورق ... - وجعلت أنا أتابع اللعب من بعيد. - وحذرتك من ذلك. - ولكني لا أملك أن أرى اللعب دون أن أتفرج. - قلت لك ابتعد. - وإذا بأحدهم يسألني برقة: «أتريد أن تنضم إلينا؟» - وهمست في أذنك أنهم زملاء وقد يتضامنون عليك. - والخطر لا يخيفني بقدر ما يستفزني للتحدي. - سجية مفيدة في مجالها، مضرة فيما عدا ذلك. - ولكنك أنت نفسك لحقت بي في اللعب! - عندما طالت بي الوحدة! - كلا .. عندما ثبت لديك أن اللعب نظيف وأنني أربح باستمرار! - ليس إلا أنني أكره الوحدة! - وسرعان ما انهمكت في اللعب ... - وقد ربحت أنت مالا طائلا ... - ثروة! .. أخذتها من أصحابها لأهبها لقطاع الطرق. - وأعقب ذلك معركة! - رماني أحدهم بتهمة باطلة فلكمته! - ولكنها اتسعت واضطررت إلى المشاركة دفاعا عنك، ونلت نصيبي من الضرب الأليم ... - ولكننا انتصرنا في الضرب كما انتصرنا في اللعب. - وبعد أن ورطتنا فيما لا يليق!
استمتع عبد القوي بلحظات من الارتياح؛ على حين مضى عبد الواحد يفكر حتى رجع يتساءل: ولكن ماذا دفع بنا إلى الاستراحة؟
أفاق عبد الواحد من لحظاته السعيدة فحدجه بنظرة بلهاء، وتساءل عبد الواحد: أين كنا قبل أن ننزل بالاستراحة؟ - الاستراحة .. الواحة .. مؤكد كنا نقوم برحلة. - من أين؟ وإلى أين؟ .. أعمل ذاكرتك الفذة. - ولكنها ما زالت في قبضة المخدر وعلقة قطاع الطرق! - تغلب على ضعفك الطارئ؛ فأنت رجل مخلوق للشدائد.
راح عبد القوي يعصر ذاكرته مليا ثم قال: أذكر أنني رفعت بين يدي رجلا يرتدي جبة وقفطانا وطرحته أرضا! - ولكن خصومنا في الاستراحة كانوا أفندية! - أكان أحد قطاع الطرق؟ - ولكنا لم ندخل معركة معهم؛ فقد غدروا بنا بغتة فغبنا عن الوجود.
وإذا بعبد القوي يصيح متهللا: كان الرجل صاحب الراقصة! - الراقصة؟! - ملهى الزهرة .. ملهى الزهرة بالمدينة .. كنا في المدينة قبل أن نمضي إلى الاستراحة! - عفارم عليك .. كنا حقا في المدينة. - قضينا ليلة عجيبة. - الله يكسفك! - حياك الله يا ملهى الزهرة! - أنت الذي قدمتني إليه. - ينبغي أن أستحق شكرك. - وشربت، وشربنا، ولكنك جاوزت الحد. - وكانت الراقصة تضيء كاللؤلؤة. - ورغم تحذيري لك، فإن النهم تجلى في عينيك كوحش ضار. - كنت تحذرني يا أخ وتسترق إليها النظر. - الإعجاب بالجمال في ذاته من ضمن أشواق العقل! - لذلك لم أنسك في مغامراتي الباهرة فساومتها على ليلة كاملة لرجلين معا! - أخزاك الله!
ولم تمانع الفاتنة. - مؤامرة حيوانية. - ولكنها ضمنت لكلينا ليلة ساحرة. - ثم اعترضتنا متاعب غير متوقعة ومخجلة. - كان ثمة عشاق قدامى لها اعتبروا مغامرتنا اعتداء صارخا على رجولتهم. - وهكذا خضنا في طريقنا إلى بيتها معركة حامية ... - وانتصرنا انتصارا حاسما. - وكدنا نقع في قبضة الشرطة. - ولكن الله سلم وقضينا ليلة حمراء مترعة بجنون اللذة. - وها نحن عرايا في خلاء ميت! - ولكن الليلة الحمراء لا يمكن أن تنسى. - لولا حماقتك ما وقعنا في هذا المأزق. - حماقاتي قادتنا من لذة إلى لذة، ومن نصر إلى نصر ... - حتى مجرد الاعتراف بالخطأ تأباه، أيها العنيد المكابر، أتذكر كم من مرة قلت لك: إن العبث قد يحول بيننا وبين إنجاز مهمتنا.
وسرعان ما تبادلا نظرة حادة منزعجة! وهتف عبد القوي: ماذا قلت؟ .. أعد ما قلت مرة أخرى.
فقال عبد الواحد بذهول: يحول بيننا وبين إنجاز مهمتنا! - إذن فهنالك مهمة تتطلب الإنجاز؟ - صبرك. دعني أتذكر بهدوء. - بهفوة لسان تذكرت أخطر شيء في رحلتنا. - مهمة .. أي مهمة؟ .. دعني أتذكر. - لا شك أننا كنا في العاصمة قبل أن ننتقل إلى المدينة. - أجل .. لا شك في ذلك. - وها أنا أتذكر آخر ليلة لنا فيها، كنا في زيارة للكهف الذي أقام فيه الوجوديون معرضهم التشكيلي! - صدقت أيها الأخ عبد القوي. - وقابلنا هناك الزميل نوح، فأمرنا همسا بأن نذهب من فورنا إلى مستشفى الولادة لمقابلة الدكتور المولد رئيس وحدتنا السرية ومندوب الزعيم. - وذهبنا إلى المستشفى فانتظرناه في حجرته حتى يفرغ من توليد امرأة. - وجاءنا فتحدث معنا عن رحلتنا. - أمرنا أن نسافر إلى الجنوب، ولكن لم لم نسافر إلى الجنوب رأسا؟ - رسم للسفر خطة معقدة، فكان علينا أن نذهب أولا إلى المدينة، فالاستراحة، ثم الواحة قبل أن نمضي إلى الجنوب. - أجل وحدد لكل مكان وقتا ومدة إقامة، ولكن ماذا كانت المهمة؟ - آن لنا أن نتذكر أخطر ما في رحلتنا. - أذكر أنه انتحى بك جانبا مقدار خمس دقائق، فلم أسمع ما دار بينكما. - ألم أحدثك عن المهمة عقب مغادرتنا المستشفى؟ - كلا، مؤكد أنني لم أعرف شيئا عن المهمة، ولكنك ... - ولكنني؟ - ولكنك قلت لي ونحن في الطريق نصف المظلم: إننا سنعرف المهمة عندما نصل ... - ذاك يؤكد أنني لم أكن أعرفها وقتذاك.
وهنا صاح عبد القوي متهللا: قلت إنها في جيبك، إنه سلمك مظروفا مغلقا لا يجوز فضه قبل الوصول. - أحسنت التذكر ...
وضرب يده على موضع الجيب، فأصابت لحم فخذه الضامرة، فصاح بحسرة: يا للداهية السوداء، لقد سرق المظروف فيما سرق من أموالنا! - يا للكارثة! - إنك أنت المسئول عما حاق بنا. - لا تمسح في ضعفك. - اعترف بجنونك. - إني راض عن نفسي، فاعترف أنت بضعفك ...
وتبادلا نظرة نارية، تلاقى فيها الغضب بالتحدي، ولكن عبد الواحد انتزع عينيه يائسا، رمى ببصره إلى الخلاء، ثم تنهد قائلا: نهاية خليقة بالحشرات!
فقال عبد القوي: لا تنس مشكلتنا الراهنة؛ علينا أن نتخلص من ورطتنا!
لم ينبس عبد الواحد، فعاد عبد القوي يقول: لنبحث عن العمران، وسنحصل بوسيلة ما عما يسترنا، ولنرجع بعد ذلك إلى الدكتور. - هذا يعني القضاء علينا. - حتى إذا علم باعتداء قطاع الطرق علينا؟ - له قدرة خارقة على أن يقررنا حتى نقر بما يديننا! - ولم لم يفض إليك بالمهمة من بادئ الأمر؟ - إنه أدرى بما ينبغي أن يتبع. - ولكننا نحن الذين نقوم بالمغامرة، ومن حقنا أن نعرف. - لقد دخلنا التنظيم باختيارنا وقبلنا لائحته دون شرط، فما وجه اعتراضك الآن؟ - كان علينا أن نرفض أن نكون مجرد آلات. - بالتنظيم كذلك أناس لا عمل لهم إلا التفكير والتدبير. - ولم يختصون هم بالتدبير ونختص نحن بالتنفيذ الأعمى؟ - لا يستقيم التنظيم إلا بتوزيع دقيق للعمل. - ومتى ثبت لهم أننا دونهم في التفكير والتدبير؟ - يبدأ العضو عادة بعمل تنفيذي، ثم يتدرج في مدارج الرقي. - كلام جميل؛ أما الواقع فهو أنهم يستأثرون بالعلو والأمان، ونتعرض نحن كل ساعة للموت، وتمر الأيام ونحن نمني النفس بترقية لا تريد أن تتحقق أبدا! - الحق أنه لا هم لك في دنياك إلا التمرد وانتهاب اللذات!
فرفع عبد القوي كتفيه العاريتين امتعاضا وأطبق فاه، فقال عبد الواحد: شد ما يغضبك قول الحق!
فتساءل عبد القوي ساخرا: خبرني عن تفكيرك ماذا أفادنا؟
فتساءل عبد الواحد بالسخرية نفسها: حدثني عن إحساسك الباطني ماذا أفادنا؟
فنفخ عبد القوي مغيظا وقال متشكيا: آن لنا أن نبحث عن طريق للخلاص. - حسن، لنسأل أنفسنا ماذا نريد؟ وعلينا أن نجيب على ذلك بوضوح. - نريد العمران، الملابس، المظروف الضائع، مواصلة الرحلة ... - قد نهتدي إلى العمران، وقد نجد ما نغطي به جسدينا، ولكن كيف يمكن العثور على المظروف؟ - نلجأ إلى نقطة الشرطة! - لقد أنهكك الضياع فنسيت أن رجال الشرطة هم أعداؤنا!
فتفكر عبد القوي مليا في حيرة بالغة ثم قال: أصبحنا مطاردين من الشرطة والتنظيم معا، فلم يبق أمامنا إلا سبيل واحد! - وهو؟ - الهرب؟ - الهرب! - أجل .. الهرب. - وكيف نحيا؟ - لنا خبرتنا في الحياة، وما أكثر الذين يعيشون خارج نطاق التنظيم؟ - ولكن كيف؟ - لنبدأ من جديد، لنتسول أو نقامر أو نسرق، وهناك تجارة الرقيق الأبيض! - أتتصور أنني أرضى بشيء من ذلك بعد أن اخترت عضوا في التنظيم، وبعد أن كلفت بمهمة لا يكلف بها إلا الأكفاء؟! - عيبك الأساسي هو الغرور، اعترف بأننا خسرنا اللعبة، ومن حقنا أن نتعلق بأذيال الحياة بأي ثمن.
فقال عبد الواحد بإباء: أرفض أن أتعلق بأذيال الحياة بأي ثمن. - ولكن الحياة تستحق ذلك. - لعلي أفضل الانتحار. - أي شيء أفضل من الانتحار. - ليس أي شيء! - لنكن عمليين! - لنكن عمليين ولنفكر في وسيلة لإصلاح الخطأ وإنجاز المهمة. - بضياع المظروف ضاع الأمل في ذلك. - لا تتسرع في الحكم. - حدثني عن سبيل لمعرفة المهمة ... - فلنستعن بالعقل. - سل عقلك عن سر مدفون في مظروف مفقود! - إنك لا تحترم العقل، وذلك هو سر تعاستك. - ولكني لست تعيسا. - ومن آي تعاستك أنك لا تعرف أنك تعيس. - إني مسلم بمقدرتك في الجدل، وبسخريتك مني إذا حلا لك ذلك، ولكن من الخير أن توجه قوتك المزعومة إلى حل اللغز الذي تتوقف عليه حياتنا. - كأنك عازم على الوقوف مني موقف المشاهد أو الشامت؟ - اقترحت عليك ما أرى، وهو الهرب. - لنمارس حياة وضيعة في ظل المطاردة؟! - سنكون مطاردين على الحالين! - مطاردة الشرطة لنا شرف لم نستحقه إلا بالعرق؛ أما مطاردة التنظيم فهي اللعنة الكبرى! - لست راضيا عن دوري الآلي فيه. - ولكنك دخلته مختارا؟ - بل لأنك دخلته، ولأني لم أعتد الحياة بعيدا عنك! - وإذن فعلينا أن نتقبل مصيرنا بالصبر والشجاعة.
فقال عبد القوي متنهدا: ليكن .. حدثني الآن كيف نعرف المهمة؟ - كن معي بكل حواسك، لقد أمرنا بأن ننزل في المدينة، فالاستراحة، ثم الواحة في طريقنا إلى الجنوب حيث نفض غلاف المظروف. - أجل، والحق أني لم أدرك وجه الحكمة فيه، وقد نفذنا الشطر الأكبر منه بكل دقة ودون جني أي ثمرة إلا ما حاق بنا من خسران! - لا تنس أننا ضيعنا وقتنا في العربدة والعراك. - هو خير عندي من المكوث بلا عمل أو تسلية. - فاتتنا أشياء وأشياء لم نفطن لها في حينها! - ما كان قد كان، انتهينا إلى ما نحن فيه، فما العمل؟ - لنسأل أنفسنا ما المهمة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجد نفسه في الجنوب؟
فضحك عبد القوى وأجاب: قد يقتل أو يشهد حفل كوكتيل! - إنك لا تساعدني البتة! - معذرة، الأفضل أن نتسلل إلى رئيس وحدتنا لنحاول الاتفاق معه ... - الاتفاق معه؟ - أن يعطينا مظروفا جديدا بثمن معقول يمكن دفعه ولو بأقساط. - إنه رجل أمين، وفضلا عن ذلك فالراجح أنه لا يدري شيئا عما في المظروف. - لا يدري شيئا عما في المظروف؟! - كلا. - يا لها من مهزلة! - إنه تنظيم ضخم ويحسن توزيع العمل بين أعضائه.
فقال عبد القوي بنفاد صبر: لنرجع إلى السؤال المطروح؛ ما المهمة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجد نفسه في الجنوب؟ - بالاستقراء والقياس تتضح الأمور، فنعرف ما يجب عمله. - ما المهمة الجديرة بعضو التنظيم إذا وجد نفسه في الجنوب؟ - لا أملك إجابات جاهزة، ولكننا نملك خلق الفروض وتجربتها ... - كما يتراءى لنا؟ - كما يتراءى لعقولنا! - نفكر ونتعب، نقترح الفروض، نجرب كل فرض، نرتطم بالخطأ، نعاود التفكير والتعب، نقترح فروضا جديدة، وطيلة الوقت نتلفت فيما حولنا بحذر؛ أن يقبض علينا رجال الشرطة، أو يقتلنا رجال التنظيم، وعاجلا أو آجلا سنقع في المصيدة. - إنك مثبط للهمم، ولكن حتى لو وقعنا في المصيدة فسنكون قد أثبتنا حسن نيتنا، وربما نوفق إلى نجاح فذ يغطي على أخطائنا. - عظيم .. عظيم. - ولكني أراك غير متحمس في الواقع! - معاذ الله! - وشارد النظر، سرحت بفكرك بعيدا، فيم كنت تفكر؟ - أتريد الحق؟ - نعم. - تذكرت كيف هوشت المقامرين في الاستراحة، فربحت في دور عشرة جنيهات بجوز عشرة!
فقطب عبد الواحد في استياء وقال: يا لك من مستهتر! - وعندما جندلت اثنين في معركة الراقصة بلكمة واحدة مستعرضة! - إنك ثمل بذكريات عفنة.
فقال عبد القوي بحماس: أصغ إلي، إنها ذكريات جميلة، لا أدل على ذلك من أنك شاركت فيها جميعا معتلا بشتى العلل، لا تنكر ذلك، أصغ إلي، هلم نهرب، دعنا من خلق فروض خيالية في الجنوب، دعنا من تعب غير مجد البتة، نحن مطاردون، وسنظل مطاردين، وخير لنا أن نهب حياتنا للمغامرات الشائقة. - لا تستسلم لتيار خيالك الجامح، اسبح ضده بقوة، وهلم نبحث عن العمران.
فضرب عبد القوي الأرض بقدمه في عناد وقال: كلا. - ثق أننا سنعرف المهمة. - كلا! - إني أطالبك بالسير معي. - كلا. - معنى ذلك أننا سنفترق. - لنفترق. - ولكنك قلت إننا اعتدنا الحياة معا. - منذ نشأتنا الأولى! - لم تجرب الحياة وحدك. - ولا أنت. - إذن يجب أن نحافظ على وحدتنا. - تعال معي. - بل عليك أنت أن تأتي معي. - إني أرفض وصايتك كما رفضت وصاية التنظيم. - لقد انقطع ما بيننا وبين التنظيم، ولئن زالت عنا ولايته فقد وهبنا الحرية، ولكنها ليست الحرية التي كانت لنا قبل أن ننضم إليه، إنها حرية جديدة غير عابثة، وليست وصاية مني عليك. - إنك تحسن الجدل ولكني مصر على الرفض! - لا يجوز أن نفترق. - لا يجوز أن نفترق. - هلم معي. - هلم معي أنت. - ليتقدم كل منا خطوة من جانبه؛ عندي اقتراح للتوفيق. - ما هو؟ - ليكن لكل منا اختصاصه، وليعمل في دائرته؛ ولكن تحت شرط! - وهو؟ - أن تسلم بالمهمة، لا تهرب منها ولا تنكرها؛ فبدونها تضحي الحياة لا شيء. - ولكن المظروف سرق؟ - لا يهم، إن فقده يعني الانفصال عن التنظيم، لا إهمال المهمة أو الكفر بها، بل لعل الإيمان بالمهمة هو الذي دفعنا إلى الانضمام إلى التنظيم وليس العكس. - بوسعك دائما أن توقع عقلي أسيرا لمنطقك، ولكن كلماتك لا تنفذ إلى باطني. - اقتراحي يبدو لأول وهلة خارقا للمألوف؛ من أين لنا أن نعرف المهمة؟ ولكن من الأصل في اقتراح المهمة؛ أليس هو الزعيم المجهول؟ حسن، وأليس هو يقترح المهمة بعقله؟ حسن، فلم نتصور أن عقله فوق جميع العقول؟ بل حتى مع التسليم بتفوقه، فهل يعني هذا التسليم بعجز عقولنا؟ فإذا انقطعت الصلة بيننا وبينه، فما علينا إلا أن نفكر، ثم إن الصلة بيننا وبينه مقطوعة في الواقع من بادئ الأمر؛ فنحن لا نعرف إلا مندوبه الذي يرأس وحدتنا، ولا علم لنا عن مدى صلة المندوب به، ولا يبعد أنه يترك للمندوبين مهمة اقتراح المهمة. - ها أنت تتشكك في القيادات العليا نفسها! - أنا لا يهمني إلا المهمة؛ فبها أكتسب وظيفتي في الحياة، وبغيرها لا يبقى لي إلا العدم، ولقد اعتدنا أن نسلم بالمهمة على ثقتنا بالزعيم، ولكن ليس ثمة فارق كبير أن تقوم بالمهمة لذاتها، وبين أن تقوم بها لحساب زعيم مجهول. - هل البدء بالمهمة يعني الانتهاء إلى الزعيم؟ - كل شيء محتمل، قد يؤهلنا النجاح لوظيفة المندوب فنتصل بالزعيم، وقد يتضح لنا أن المندوبين أنفسهم لا يتصلون بالزعيم كما يدعون، وقد يثبت لنا أن التنظيم يدار بطريقة جديدة لم تجر لأحد على بال. - وإذا تبين لنا أن إنجاز المهمة قد يكلفنا حياتنا؟ - ألم يكن من الجائز أن نفقدها في بيت الراقصة؟ - أن أموت بين يدي راقصة أفضل من أن أموت وراءك! - علينا أن نختار على ضوء احترامنا لأنفسنا. - بكل صراحة أنا لا يهمني الاحترام! - بل إنك تشعل معركة لأقل إهانة توجه لذاتك! - لا علاقة لذلك بالاحترام الذي تطالبني به. - لقد أصبحنا وحدنا؛ فإما أن نختار العمل كأعضاء محترمين رغم زوال صفة العضوية الرسمية عنا، وإما أن نرضى بحياة الصعلكة. - إني أعشق حياة الصعلكة! - يا لك من مجنون! - يا لك من رجل متعب! - يا للحزن، إن الانفصال يهدد وحدتنا الرائعة. - إنه لأمر محزن حقا. - انفصلنا عنه، وننفصل عن بعضنا البعض، سلسلة من الانفصالات لا أدري أين تقف.
لاذا بالصمت وهما يتبادلان نظرة طويلة. وهم عبد الواحد بالكلام، فتح فاه ولكنه سرعان ما أطبقه. ورفع رأسه نحو السماء في دهشة. ورفع عبد القوي رأسه كذلك وهو يتمتم: صوت طائرة! - أجل. - ولكن أين هي؟
أشار عبد الواحد إلى الأفق قائلا: هيلكبتر!
جعلا ينظران إليها وهي تقترب وتتضح في سمت السماء. وقال عبد القوي: هلم نلوح بأيدينا؛ لعلهم يروننا. - لوح، ولكنهم لا ينظرون إلينا.
فصاح عبد القوي: انظر، إنها تهبط!
هبطت بتؤدة كأنما تمضي إلى هدف محدد حتى استقرت فوق الأرض غير بعيد منهما، وهما يتطلعان إليها بذهول. وتساءل عبد القوي: هل هبطت من أجلنا؟ - لعلها مناورة لا علاقة لها بنا. - أو أنها ...
ولكنه انقطع عن الكلام عندما انفتح بابها، وتدلى السلم نحو الأرض. ولاح في الباب رجل يحمل حقيبة متوسطة الحجم سرعان ما أخذ في النزول. ضيق عبد الواحد عينيه ليحد بصره، ثم هتف: زميلنا نوح! - أجل .. هو الزميل نوح.
مضيا نحوه فتلاقوا في منتصف المسافة. تهلل وجهاهما بالفرح؛ ولكنه قابلهما بوجه جامد لا يفصح عن أي تعبير إنساني، فباخا وهما يصافحانه، وصافحهما بآلية صماء. ودون أن ينبس بكلمة فتح الحقيبة وأخرج لكل طاقم ملابس متكاملة. ارتديا الملابس الداخلية والخارجية في فتور وقلق، ولما فرغا نظرا إليه في استطلاع، فأشار صوب الطائرة وقال: الطائرة تحت تصرفكما إذا رغبتما في العودة.
وساد الصمت قليلا حتى تساءل عبد الواحد: كيف عرفتم بمكاننا أيها الزميل؟
ولكنه لم يجب، فعاد عبد الواحد يقول: لعلهم أرسلوا وراءنا عيونا؟
لم يبد عليه أنه سمعه، فقال عبد الواحد بإصرار: أرجو أن يكون رجالنا قد استردوا المظروف المسروق!
فثابر على صمته دون مبالاة، فقال عبد القوي باسما: بحسن نية أيها الزميل ارتكبنا بعض الأخطاء، ودون تقدير للعواقب!
كأنه أصم لم يستجب؛ ولكن عبد القوي لم ييئس فسأله: هل نجد محاكمة عادلة ورحيمة ونمنح فرصة جديدة للعمل؟
قام الصمت كجدار سجن. ولما لم يحاولا الكلام مرة أخرى قال نوح وهو يتناول الحقيبة الفارغة: سأنتظر في الطائرة ثلث ساعة، ثم أرجع من حيث أتيت.
ورجع كما جاء، فرقي في السلم حتى اختفى داخل الطائرة. تبادلا نظرة حائرة، ثم تساءل عبد القوي: ما له يعاملنا كأنه غريب أو عدو؟ - إنه ينفذ ما أمر به. - ماذا تظنهم فاعلين بنا؟ - سنقدم إلى محاكمة عاجلة. - وما العقوبة المتوقعة؟ - العقوبات تتراوح بين الإعدام والخصم من المرتب. - لو كنا نستحق الإعدام في نظرهم لأمروه بقتلنا في هذه المتاهة! - لا تعتمد على المنطق في فهم نواياهم. - ستوقع علينا عقوبة ما، ثم نمنح فرصة جديدة للعمل، هذا هو إحساسي! - أترى أن نعود معه؟ - إنه المخرج الوحيد من حيرتنا، إلا ... - إلا؟ - إلا إذا وافقتني على الهرب!
فنفخ عبد الواحد في ضيق وقال : لا تعد إلى ذلك. - إذن فلا مفر من العودة. - ألم تتمرد منذ حين قليل على الوضع الذي يجعل منا آلات صماء؟! - ولكنك تكره فكرة الهرب وتقترح - بدلا من التنظيم - حياة غريبة لا يقين فيها ولا أمان. - ولكنك لعنت دورنا الآلي في التنظيم! - معذرة أيها الزميل، لا رأي لي إذا اعتبرت الرأي عقيدة ثابتة، إنما أنا ابن الساعة التي أنا فيها. - وهكذا فأنت ترغب في العودة؟ - ليس ظلما أن ندفع ثمن الخطأ، وسأجد بعد ذلك عملا أنال عليه أجرا، ولن تنعدم الفرص المشروعة للتسلية والمغامرة! - لا فائدة من مناقشتك! - إني أعجب لشأنك، ألم تبد حرصك الدائم على المهمة؟ ها هي المهمة تعود بأيسر سبل، ومعها التنظيم كله، والعضوية الرسمية، والمندوب، والزعيم المجهول! - ماذا أقول أيها الزميل؟ لقد عايشت في هذا الخلاء جوا جديدا، وسلمت نفسي لمنطق جديد، وهيأت إرادتي لحياة جديدة ... - لعلك تبالغ في الخوف من المحاكمة؟ - كلا، فهي لن تكون أقسى من المطاردة التي ستتعقبنا! - أتصر على الاعتماد على نفسك حتى بعد أن هبطت عليك معجزة النجاة؟ - لن أطيق بعد اليوم أن أكون آلة صماء. - ولكنه تنظيم كامل، يوزع العمل بكل دقة تضمن النجاح! - لم تعد أعصابي تحتمل المعاملة مع المظاريف المغلقة، ولا المندوب الغامض الذي نلقاه دقائق في أوقات راحته، ولا الزعيم المجهول الذي لا ندري عنه شيئا، كلا ثم كلا، وأنت نفسك كنت البادئ بالرفض! - لا تدع فرصة العمر تفلت من بين يديك. - خيل إلي أني أقنعتك قبل هبوط نوح؟ - كلا، إني أختار واحدا من طرفين؛ فإما الهرب وإما التنظيم، وها هي الطيارة تنتظر فلا مجال للتردد بعد! - أما أنا فطريقي واضح، سأعيد الرحلة من جديد بدءا من المدينة؛ ولكن بعقل متفتح لا يغادر كبيرة ولا صغيرة، وفي الجنوب ستنبثق المهمة من صميم رأسي لا من مظروف مغلق! - توقع في كل خطوة مطاردة من الشرطة أو التنظيم! - سيجد مني يقظة كاملة لا يعتورها خور. - سيكون فراقنا موجعا، ولكن لا بد من العودة. - سنعاني حياة منفصلة لأول مرة، فكر في ذلك أيها الزميل القديم! - إنه لأمر محزن؛ ولكن لا بد من العودة. - ستوقع عليك عقوبة، سيلاحقك سوء الظن كظلك، سيضاعف ذلك من نصيبك من الآلية. - وأنت! ستهلك في هذه المتاهة قبل أن تبدأ من جديد! - لا، لقد جاءت الطائرة من تلك الناحية، فهناك يقع الشمال، وبالتالي عرفت الجهات الأصلية، كما عرفت الطريق إلى العمران، ابق معي! - يا زميلي العزيز، سوف تقتل في العمران إن لم تهلك في الخلاء، تعال معي. - ستمضي حياتك وأنت ظل لا حقيقة له، تنفذ مهمة لا فكرة لك عنها، ابق معي. - أنت تخاف المحاكمة! - إني أرفض المحاكمة، أرفض العقوبة، أرفض العفو، أرفض الأمر الغامض والتنفيذ الأعمى، أرفض المهمة داخل مظروف مغلق، أرفض النجاة الرخيصة في الطائرة، ابق معي. - إني أعجب لشأنك؛ كيف انقلبت من النقيض إلى النقيض. - قلت لك: إني ابن الساعة التي أنا فيها، ولكنك أنت أول من فكر في الانضمام إلى التنظيم، أنت من دافع عنه بحسناته وسيئاته، أنت من قبل بحماس الدور الذي رسمه لك دون مناقشة! - لعل تمردك تسلل إلى نفسي، خالط فكري بعلم وبغير علم مني، فلما وقعنا في هذا المأزق تبدت الحقيقة عارية، وانتهيت إلى رأي حاسم. - يحزنني أن يكون تمردي من أسباب انقلابك. - سأشكر لك ذلك ما حييت.
هنا دار محرك الطائرة محدثا دويا كالانفجار، فهتف عبد القوي: فكر مرة أخرى أيها الزميل. - فكرت بما فيه الكفاية. - أمامك فرصة أخيرة! - وأمامك فرصة أخيرة! - ما أمر الفراق! - إنه لكذلك أيها الزميل القديم.
تنهد عبد القوي يائسا، فتح ذراعيه فتعانقا بحرارة. اشتد دوي المحرك، انتزع عبد القوي نفسه من صاحبه، مضى نحو الطائرة في خطوات ثقيلة، أخذ يرقى في السلم حتى بلغ الباب. استدار فلوح لصاحبه مودعا، فرد الآخر التحية بمثلها. بدأت الطائرة في الصعود. دومت في الفضاء. أتبعها عبد الواحد عينيه وهي تبتعد وترتفع وتصفر حتى اختفت فيما وراء الأفق، وجد نفسه وحيدا، وجد نفسه حزينا؛ ولكنه لم يبدد دقيقة من وقته سدى؛ شحذ إرادته لينفض عن قلبه الحزن . قلب وجهه في الجهات الأصلية ليحدد طريقه إلى العمران. سار متجها نحو الشرق ...
وليد العناء
جلس وحيدا في الصالة. أرهقه ذرعها ذهابا وإيابا فجلس. ثبتت عيناه على الباب المغلق، وأرهف السمع. أشعل سيجارة، دخنها بطريقة آلية خالية من الاستمتاع، ولم تتحول عيناه عن الباب المغلق. بدت من وراء الباب أصوات مبهمة، حركة أقدام، تأوهات خافتة، أشاعت في جوه الخالي روحا مبللا بعرق العناء المر. ونظر في الساعة، مرت عيناه بالنافضة المكتظة بأعقاب السجائر، ونفخ وهو يمد ساقيه.
وفتح الباب فمرقت منه امرأة عجوز مطوقة الوجه بخمار أبيض. ردت الباب وراءها وتقدمت؛ ولكنه وثب معترضا سبيلها. انتبهت إليه وقالت برقة: كل شيء حسن، لا تقلق.
فقال بانقباض: ولكن طال الوقت. - إنها ساعة لا يعلم بأسرارها إلا الله فتوكل عليه. - لولا السوابق الماضية ما باليت شيئا. - لا تذكرنا بما مضى، الطبيبة مطمئنة، قالت إنها ستلد ولادة طبيعية. - بدأ الطلق في أول الليل وها نحن في الهزيع الأخير منه. - ربك كريم، وعندها طبيبة لا داية، فاصبر وانتظر.
شعر بامتعاض نبرتها فقال: لا تلوميني يا دادة، هذا زمن الأطباء لا الدايات. - كم ولدت الداية أمها في يسر كالسحر. - ذاك زمان مضى، وما من داية تستطيع أن تواجه هذه الحال. - كم واجهت مثيلات لها في الماضي! - كل شيء تغير، حتى المرض نفسه.
مضت نحو الحمام، ثم رجعت بوعاء من الصاج، فدخلت الحجرة وأغلقت الباب. وجد شيئا من الطمأنينة. لم يأل جهدا في إقناع نفسه بها ما دامت الطبيبة قد قالت. دق جرس الباب الخارجي فبادر إليه. استقبل القادم بدهشة وترحاب معا، وهو نحيل طويل يكاد يماثله شكلا ويقاربه في العمر. أجلسه على مقعد إلى جانب مقعده وهو يتمتم: خطوة عزيزة، أهلا بك. - علمت بالخبر وأنا عائد من سهرة طويلة فلم أتردد في المجيء إليك. - أشكرك يا عزيزي، إنها ساعة متأخرة جدا. - لا شكر على واجب. - ولكن كيف علمت بالخبر؟ - من أكثر من مصدر فيما يخيل إلي. - لم أتصور أن أحدا علم به سوى أمها. - أنت يا صديقي لا تعلم بما يدور حولك. - حدثني عن مصادرك! - لا أدري، لا أذكر ... - لا تدري ولا تذكر؟! - كنت وقتها ثملا بالشراب! - وكانوا سكارى؟ - المهم كيف حال الست؟ - قالت الطبيبة إنها ستلد ولادة طبيعية ... - حمدا لله. - ولكن السوابق تقلقني ... - لا لوم عليك في ذلك. - ولكن لا يجوز الخوف من السوابق أكثر مما ينبغي. - عين الحكمة والصواب. - أهذا هو رأيك أيضا؟ - علينا أن نستفيد من السوابق، لا أن نخافها. - كانت سوابق إجهاض جبري ونزيف. - لا أعادها من أيام. - ترى كيف يمكن الاستفادة منها؟ - بأن نتجنب الأسباب التي أدت إليها ... - ولكنه الحبل نفسه. - فلنتجنبه. - ولكن أمر الله نفذ، وكل شيء بأمره. - أظن لك دخل في الأمر أيضا؟ - طبعا. - مأثور عنك حب الأبوة بلا حدود. - لا أنكر ذلك. - صدقني إنه حب لا معنى له. - إنه أصل الوجود! - لا معنى له في هذا العصر. - إنها مداعبة ولا شك؟
فقال الصديق وهو يشير إلى الباب المغلق: أهذا وقت تجوز فيه المداعبة؟ - ولكنه أصل الوجود بلا ريب. - في عصرنا هذا تقع له مضاعفات لم تكن معروفة قديما. - الطبيبة قالت إنها ستلد ولادة طبيعية. - فليباركها الله. - ولكن الوقت طال وها نحن في الهزيع الأخير من الليل؟ - يا لها من معاناة تهتز لها الأفئدة! - أسعفني برأيك؟ - لا رأي لي يعتد به في هذه الشئون، ولكن ماذا قالت الطبيبة في السابقة الأولى؟ - كانت في الواقع داية؛ ولذلك أرجعنا الإجهاض الجبري إلى جهلها. - والسابقة الثانية؟ - قالت الطبيبة إن النزيف حدث نتيجة لعيب في الجهاز. - وهل برأ الجهاز من عيبه؟ - هيأت لها ما استطعت من دواء. - إذن فلا داعي للقلق. - ولكن الوقت طال والمعاناة تتراكم.
وانطلقت من وراء الباب المغلق تأوهة عميقة، أعقبتها صرخة مدوية، ثم موجة متقهقرة من الأنين. صمت الزوج محدقا في الباب، ولما مضى الانتظار بلا نتيجة، قال الصديق: لعله البشير ... - هي حال تتكرر من أول الليل. - يا لها من ولادة عسيرة! - ولكن الطبيبة قالت إنها ستلد ولادة طبيعية. - إذن فهي ولادة طبيعية طويلة! - من أين لي باليقين ؟ - فلنرجع إلى أهل الخبرة. - لديها طبيبة ممتازة. - الآراء تختلف. - هل لديك اقتراح عملي؟ - دعنا نفكر. - قلت إن الآراء تختلف. - هذا قول صادق في ذاته. - كيف نبلغ اليقين؟ - الحقيقة بنت البحث! - إنك مغرم بالأقوال المأثورة. - سجية جميلة في ذاتها! - ولكن لا وقت لدينا للبحث. - هذا حق ... - فكري تبلبل. - هذا حق. - أراها حالا مرضية. - هي أحيانا كذلك! - لم يبق إلا الصمت والانتظار. - قد تفوت فرصة نادرة! - فماذا أفعل؟
بعد تردد: الصمت والانتظار! - ولكنك قلت إنه قد تفوت فرصة نادرة؟ - وقد لا يحدث شيء! - فكيف أتصرف؟ - فكر! - أئذا فكرت تلد امرأتي بسلام؟ - يتوقف ذلك على نوع العلاقة بين التفكير والولادة! - ترى أي نوع من التفكير يمكن أن يؤدي إلى الولادة السعيدة؟ - فكر! - يبدو أنك لا تعرف أكثر مما أعرف. - وربما أقل!
فسأله بنرفزة: لم جئت؟ - جئت مدفوعا بواجب اللياقة. - شكرا. - عفوا. - في أمثال هذه الظروف يقدم المجاملون ما في وسعهم من خدمات؟ - إني على أتم استعداد. - ماذا في وسعك أن تفعل؟ - أأنت في حاجة إلى نقود يا صديقي؟ - إني في حاجة إلى من يسعفها هي. - عندها طبيبة ممتازة. - ترى هل أخطأت؟ - أنت؟ - نعم. - ما كان يجوز أن تتركها تحبل. - إنها بنت غلطة. - بل أنت مجنون بالأبوة. - هذا شأن الرجال جميعا. - احذر الأحكام الشاملة. - إذن لماذا يتزوج الرجال؟ - أفكرت يوم عشقتها في الأبوة أم في الاستمتاع بها؟ - الاستمتاع يخمد؛ أما الأبوة فخالدة! - ما كان أجدرك أن تجد في السابقتين نذيرا! - الحياة إقدام لا نكوص. - إذن فلتتحل بالشجاعة.
رماه بنظرة نافذة. هم بالكلام، ولكن الباب فتح وخرجت امرأة في الخمسين منهوكة القوى. وقف الزوج لاستقبالها. قدم لها صديقه وقدمها له باعتبارها حماته؛ رفضت المرأة الجلوس وظلت متجهمة الوجه. سألها بإشفاق: كيف الحال؟ - الحمد لله ...
ثم بحدة موجهة خطابها للزوج: إني أحتج على ما تذيعه في كل مناسبة من التشكيك في كفاءة ابنتي للحبل!
فقال الزوج محتجا بدوره: لم أشكك في كفاءتها؛ ولكن الحكمة تقتضي تذكر الأزمات السابقة! - لا عيب في ابنتي على الإطلاق. - إني مؤمن بذلك. - العيب فيك أنت! - أنا؟! - طالما نغصت صفوها بنزواتك حتى سممت بدنها؛ فأصبحت جميع شئون حياتها عسيرة، لا ولادتها فقط! - علم الله أن زوجا لا يحب زوجه كما أحبها. - وجريك وراء كل من هبت ودبت من النسوان؟ - أعوذ بالله، أتصدقين شائعات يفتريها علي الحاسدون؟ - أنا لا أتكلم بلا حساب دقيق. - وأنا مظلوم ظلم الحسن والحسين.
وتدخل الصديق قائلا بلطف: أشهد أنه يحبها فوق كل شيء.
فالتفتت إليه متسائلة في حدة: ماذا تعرف عن أسرار هذا البيت؟ - أعرف ما يجدر بالصديق أن يعرفه. - إذن فأنت خبير ولا شك بغرامياته؟ - لا غرام له إلا الأبوة. - بل لعلك تشاركه بعض مغامراته؛ ولذلك تنبري للدفاع عنه؟ - سيدتي! - إني خير من يفهمكم. - الزوج الوفي يظل وفيا حتى لو تسلل بصره إلى هذه أو تلك من النساء ... - ما شاء الله! - صدقيني يا سيدتي، إنه لا يثبت أركان الحياة الزوجية ويجنبها الملل مثل التنقل العابر بين النساء! - ها أنت تعترف!
فصاح الزوج: أنا لم أعترف، وأعلن استنكاري لهذه النظرية!
فقال الصديق متراجعا: إني أضرب مثلا ليس إلا.
فهتفت المرأة: يا لسوء حظك يا ابنتي!
فقال الصديق: لا تخلو حياة من المر مهما تكن حلوة، وأشهد أني ما سمعت زوجة صديقي تشكو قط. - ذلك أنها من الصابرات الصديقات! - لو كان هناك ما يدعو للشكوى لشكت ... - حتى الجوع! .. تضورت أياما من الجوع!
فصاح الزوج: الجوع!
وقال الصديق: لعلها تشير إلى الأيام التي ندرت فيها اللحوم؟
فقال الزوج: على أيامك يا حماتي أكل الناس لحوم الخيل.
فهتفت المرأة في كبرياء: كانت أيام بلاء واحتلال. - على أي حال فنحن سعداء، ولن نسمح لمخلوق بإفساد حياتنا السعيدة!
دوت صرخة وراء الباب المغلق فألجمت الألسن. أسرعت المرأة الحجرة فأغلقت الباب وراءها.
عاد الصديقان إلى مجلسهما، وعاد التوتر يركب الزوج جسدا وروحا. لم يجد من يفرغ فيه شحنة قلقه سوى صديقه فقال له: كلامك جاوز كل حد. - كثيرا ما أنسى نفسي في الحديث فيغلبني الصدق. - قد يغلبك الصدق مرة أخرى فتخرب بيتي.
وقبل أن يرد عليه دق جرس الباب الخارجي. قام الزوج فاستقبل زائرا جديدا في تلك الساعة من الليل. عجوز طاعن في السن. لو قدر عمره بتجاعيد وجهه وغضونه لجاوز المائة، ولكنه تمتع بحيوية لا بأس بها. وهو نحيل لدرجة مخيفة كأنه محض عظام؛ برزت وجنتاه وفكاه وغارت عيناه فلم يبد في محجريهما إلا ظلام. وتربع رأسه فوق عنقه الدقيق ضخما أصلع، منبعج الجبين. وعكس الوجه هيئة جامدة؛ بل متحجرة، وندت عن القدمين خطوات متقاربة غير مسموعة. قبل الزوج يده المدبوغة، قدم إليه صديقه، قدمه هو باعتباره صديق المرحوم أبيه والمرحوم جده من قبل، وجاءه بفوتيل فأجلسه بينهما وهو يقول: لم أتوقع أن تتجشم مشقة الحضور في هذه الساعة يا عماه.
فقال العجوز بصوت غائر مثل عينيه: طال انتظاري للبشرى فقررت زيارتك. - ما كان ينبغي أن تكلف نفسك هذا التعب. - هل من خدمة يمكن أن أقدمها لك؟ - لا مطلب لي إلا زوجتي. - يخيل إلي أنها ولادة عسيرة حقا؟ - قالت الطبيبة إنها ستلد ولادة طبيعية. - عظيم! - ولكنها طالت كما ترى. - هذا واضح. - وعندما أتذكر المرتين السابقتين؟ ... - المؤمن لا يخاف ولا يقلق.
فقال الصديق: هذا ما رددته له مرارا.
فقال العجوز باسما عن أنياب عتيقة: أتشك في ذلك يا بني؟
ضحك الصديق متسائلا: ألا يتوقع مني مثل ذاك القول الحكيم؟ - هذا أقل ما يقال! - شكرا. - عفوا. - يخيل إلي أني رأيت سيادتك قبل الآن؟ - يعرفني أهل الحي جميعا. - لست من أهل الحي فمعذرة، ولتحل بركتك بالبيت. - فلتحل به بركة الله الرحيم. - صديقي قلق وفي حاجة إلى من يشجعه. - علينا أن نذعن لمشيئة الله قبل كل شيء.
والظاهر أن قوله لم يبشر بالطمأنينة المفتقدة، فساد الصمت قليلا حتى خرقه الزوج قائلا: جئت لها بطبيبة ممتازة. - لم تكن توجد طبيبات في الزمن الماضي. - ذاك زمن مضى وانقضى. - أعرف زوجة ماتت في مستشفى خاص تحت إشراف ثلاثة أطباء! - أعوذ بالله! - فلا عاصم لنا إلا إرادة الله. - ولكني لم أخطئ باستدعاء الطبيبة!
وقال الصديق متضايقا: ما أجدر أن نتجنب ذكر الموت في موقفنا هذا.
فقال العجوز: ولكنه حديث كل يوم وكل ساعة.
فقال الزوج: هذا حق؛ ولكنه حديث غير محبوب ... - لم يا بني؟ - الموت لا يحبه أحد! - يا له من خادم أمين مظلوم! - مظلوم؟! - كيف تتصور الدنيا بغيره؟ - أفضل مما كانت معه عشرات المرات. - أنت مخطئ يا بني، مخطئ في حق ثائر عظيم. - ثائر عظيم؟! - بل زعيم الثوار في كل زمان ومكان. - لغة أي عصر هذه؟ - لغة العصر، لغة الغد ... - فلنختر حديثا آخر ... - ما جدوى الأحاديث المعادة؟ - أصارحك يا عماه بأنني لا أفكر إلا في سلامة زوجتي. - فلتحل بها بركة الله. - آمين. - ولكن خبرني هل جددت مقبرة الأسرة؟
فهتف الصديق: يا ألطاف الله!
وتساءل الزوج بامتعاض: من أخبرك أنني أفكر في ذلك؟ - تلك كانت رغبة أبيك لولا أن عاجله الموت. - أما أنا فلا يمكن أن أنفق مليما على تجديد مقبرة! - أحسنت.
وقال الصديق نافخا: إني أنذر جنيها إسترلينيا إذا تغير الحديث.
فقال العجوز دون مبالاة للمقاطعة: كلما رأيت مقبرة متجددة حزنت!
فتساءل الصديق: الظاهر أن سيادتك تزور المقابر كثيرا؟ - شيعت المئات من الموتى بحكم سني الطاعن! - وماذا يحزنك في مقبرة متجددة! - أرى المقبرة العتيقة البالية من آيات الرحمن!
فقال الزوج برجاء: هلا حدثتنا بحديث آخر؟ - سنجد حديثا أو آخر، سيشرق بنا ويغرب، ثم لا مفر من العودة إلى الحديث الأول. - إنه حديث كئيب خانق للقلب. - أشك في ذلك! - لا شك في ذلك من ناحيتي!
فقال العجوز بصوت هامس مخاطبا نفسه: علي ألا أيئس مهما طال الزمن، حتى لو طال بالقدر الذي أتصوره كافيا.
ثم نهض قائما. نظر نحو الباب المغلق وقال: آن لي أن ألقي نظرة.
فعلت الدهشة وجهي الصديقين، وتساءل الزوج: على أي شيء يا عماه؟ - على زوجتك. - زوجتي! .. شكرا .. ولكن لا تكلف نفسك مزيدا من التعب. - إنه واجب يا بني! - ولكنه غير جائز! - كيف؟ - غير جائز بلا حاجة إلى تفسير! - إني صديق أبيك وجدك من قبل، صديق حميم. - لو كان أبي نفسه مكانك ما خطر له ذلك! - إنك تمنعني من أداء واجبي! - إني أطالبك بالجلوس مشكورا. - هبني طبيبا. - ولكنك لست طبيبا! - وما الفرق يا بني؟ - مزاح لطيف!
وقال الصديق: ويا له من مزاح!
فقال العجوز دون التفات لمقاطعة الصديق: إني ألصق بك من الطبيب. - اجلس يا عماه مشكورا مكرما!
فتح الباب، خرجت امرأة متوسطة العمر تتهادى في معطف أبيض، وتنظر من خلال نظارة أنيقة ذات مشبك ذهبي. أقبل الزوج نحوها متسائلا في لهفة: دكتورة؟
فقالت المرأة بهدوء: غير منتظر أن تلد سريعا؛ ولكنها ستلد ولادة طبيعية.
انتبهت إلى وجود العجوز فصافحته مصافحة حميمة، وقال الرجل: أهلا بك يا عزيزة، رحم الله أباك. - أهلا بك يا عماه. - وكيف حال الأم الصغيرة؟ - طبيعية، وإن تكن شديدة بعض الشيء. - كلام يذكرني بأقوال الأطباء! - ماذا تعني يا عماه؟ - كلام يشي باحتمالات كثيرة! - الحال طبيعية جدا، ولكننا لا ندخل في علم الله. - آه من الأطباء إذا رددوا ذكر الله! - ولكني أتكلم بصراحة.
قال الزوج بحدة: صارحوني بكل شيء.
فقالت الطبيبة: ضع ثقتك في الله.
فقال العجوز: كلام له مغزى خاص.
فقال صديق الزوج: عمنا يتلهف على سماع كلمة سوء!
فقال العجوز: وأنت تتلهف على سماع كذبة.
وقالت الطبيبة: الحال طبيعية جدا يا عماه. - لم تركت الحجرة؟ - لأستريح دقيقة. - أردت الدخول فمنعوني. - لا يوجد رجل في الداخل. - وما رأيك أنت في ذلك؟ - لا رأي لي في ذلك يا عماه. - بل تستطيعين أن تدلي برأي حاسم في الموقف.
فقال الزوج بإصرار حازم: مكانك معنا يا عماه.
وتساءل الصديق: ألم تجئ للاطمئنان على ابن صديقك الراحل؟ - ولكنه لا يعاني ولادة عسيرة! - وأنت لا تعرف الزوجة إلا بصفتها زوجة ابن صديقك الراحل. - والدها أيضا كان صديقا لي. - لعلك شيعته كالآخرين؟! - وهو ثواب كبير.
وهتف الزوج: مكانك بيننا يا عماه، ولا لزوم للأخذ والرد.
فرفع العجوز منكبيه آسفا وقال مخاطبا الطبيبة: إنكم تعذبون الناس بلا سبب معقول.
فقالت الطبيبة: نحن نؤدي واجبنا الإنساني. - ولا تميزون الصديق من العدو. - ما أظرفك يا عماه. - وأنتم المسئولون عما يحل بالإنسان من ضرر بالغ. - سامحك الله يا عماه. - فليسامحك أنت.
وسأله الصديق: ماذا تعني يا عمنا؟ - لا غموض في كلامي. - لعله يحتاج إلى شيء من التبسيط. - يتعذر التبسيط على من هو في مثل عمري. - إن عطفك يا عماه يركبك الصعب. - إنك فتى مشاغب.
أحنت الطبيبة رأسها تحية، ثم رجعت إلى الحجرة فأغلقت الباب، وهتف الزوج: يا لها من ليلة ليلاء!
فقال صديقه: عما قليل يطلع الفجر.
عاد العجوز إلى مقعده وهو يقول: ما باليد حيلة.
وأسند رأسه إلى ظهر الفوتيل، وأغمض عينيه مستوهبا الراحة أو النوم.
وارتفع الصراخ من وراء الباب مرات متتابعات، ثم سكت. تابعه الزوج باهتمام، ولكن الباب المغلق تبدى صلبا عنيدا أصم محدقا في لاشيء بنظرة باردة مترفعة. واضح أنه لم يجد جديد وأن الكفاح غير المنظور يضطرم بلا هوادة. وفتح الباب عن زاوية ضيقة، وتسللت منه فتاة في العشرين ترفل في فستان أبيض، أشرقت بوجه بدا - رغم الإنهاك - كالقمر الساطع. حيت الجالسين، ولكن العجوز لم يبد حراكا وظل مغمض العينين، وقالت للزوج: إنها تريدك.
قام الرجل فمضى إلى الداخل وأغلق الباب. ذهبت الجميلة إلى كنبة في الجانب المقابل لمجلس الرجال ثم جلست. لم يحول الصديق عينيه عنها مذ طلعت عليه من الحجرة. التقت عيناهما مرة ثم غضت البصر في إعياء. قال: لعلك في حاجة إلى شراب منعش.
فأجابت: إني في حاجة إلى شيء من الراحة. - شققت على نفسك بالبقاء في الداخل إلى جانب شقيقتك. - إنها معاناة مروعة ...
وقام، ربما متشجعا بنوم العجوز، فجلس إلى جانبها وهو يقول: قلبي معك طيلة الوقت! - الله معها. - من أجلك جئت في هذه الساعة من الليل. - ظننتك جئت من أجل صديقك. - كان من الممكن أن أزوره صباحا؛ ولكن من أجلك أنت ... - ماذا تريد؟ - إنك مرهقة الأعصاب؟ - ربما. - كلانا مرهق الأعصاب! - أنت أيضا؟ - شاركت صديقي آلامه، يضاف إلى ذلك تفكيري الدائم فيك! - شكرا.
مال نحوها كالمسحور فلثم فاها. لم تقاومه ولم تشجعه، قالت: معذرة فإني أكره الرجال في هذه اللحظة! - ذاك من تأثير ما شاهدت في الحجرة، ولكنها لحظة سرعان ما تمضي. - من يدري، ولكن كيف قبلتني؟! - إنه سحرك الذي لا يقاوم، وغرامي القديم الذي لم ترفضيه على الأقل! - إنه تصرف لا يغتفر. - هيا معي إلى الليل في الخارج. - أحلام جنونية. - سنستقبل الفجر الندي معا. - هيهات لقلب ميت أن يستجيب لجنونك. - إنه الدواء الشافي لما نعاني من اضطراب.
أراد أن يقبلها مرة أخرى؛ ولكنه رآها تنظر نحو العجوز المغمض العينين باهتمام طارئ فقال: لا تهتمي له، إنه مستغرق في النوم!
حاول أن يضمها إلى صدره، ولكنها دفعته، فأراد أن يعيد المحاولة، وإذا بصوت العجوز يقول دون أن يفتح عينيه: عد إلى مجلسك يا بني!
ارتد عنها منزعجا. نظر نحو العجوز فرآه مغمض العينين مطروح الرأس إلى ظهر الفوتيل. قطب حانقا، ولكنه لم يتخل عن مجلسه. جاءه الصوت البارد يقول معنفا: لا ترتكب فضائح أمام الباب المغلق!
قام الصديق متعثرا. عاد إلى مجلسه حانقا. فتح العجوز عينيه فتلقى نظرة الفتاة الثابتة. تبادلا نظرة طويلة دسمة. ابتسما معا. قام العجوز وهو يقول: أعصابك مرهقة يا ابنتي.
جلس إلى جانبها. تناول يدها برقة فوضعها بين يديه المدبوغتين، قال: ما أحوجك إلى راحة طويلة!
جذبها بلطف فاستسلمت له حتى أجلسها على فخذه وهو يهمس: كما كنت تجلسين وأنت صغيرة.
ثم وهو يربت على خدها: رحم الله أباك.
فقال الصديق بغضب: وضع غير لائق.
فقال العجوز: كل شيء في وضعه! - ألا ترى أنها لم تعد صغيرة بعد؟
ومد لها شفتيه الجافتين المكرمشتين، فوهبته شفتيها فراح يقبلهما. وقف الصديق هاتفا: أي فعل فاضح!
ولكن الفتاة طوقته بذراعيها وأنامت رأسها على كتفه، منخرطة في هيمان ساحر.
صاح الصديق: لا تتمادي في الإجرام.
فهمس العجوز في أذن الجميلة: اهدئي يا جميلتي.
فغمغمت: أريد أن أنام. - ستنامين كأسعد ما يكون.
وفتح الباب وخرج الزوج. عاد إلى مجلسه فجلس واضعا رأسه بين يديه. توقع الصديق أن ينفصل العجوز عن الفتاة، ولكنه واصل مناغاته وكأنه لم يشعر برجوعه. عند ذاك صاح الصديق: دعها أيها العجوز القبيح!
رفع الزوج رأسه منزعجا وقال لصديقه: ما هذا الصياح! .. أجننت؟
فأشار إلى العجوز والفتاة قائلا: انظر! - لعلها في حاجة إلى عطف، عد إلى مجلسك. - أأنت أعمى؟ - احترم حالي التعيسة!
وهمس العجوز في أذن الفتاة: هلمي نذهب معا. - إلى أين؟ - إلى الليل. - الصبح قريب. - ما زال في الليل بقية تكفي غطاء للعاشقين! - خذني إلى حيث تشاء. - ما أجمل عينيك المخضلتين بالأحلام. - ما أعذب همساتك ولمساتك!
فهتف الصديق: ماذا يحدث في الدنيا؟
فقال الزوج محتدا: تصرف كرجل مهذب. - ثمة علاقة عاطفية تنشأ بين العصر الحجري والعصر الحديث! - تأدب، إنه عمها، عمنا جميعا، ألا تفهم؟ - أنتركها تذهب معه؟ - هذا شأنها. - ولكنه يحدث في بيتك ومع بعض أهلك؟! - عندي من الشواغل ما يكفي.
وكان العجوز قد قام وقامت الجميلة معه مستسلمة كالمنومة، فوثب الصديق معترضا سبيلها وهو يقول: لن أسمح بذلك، سأدافع أنا الغريب عن شرفك!
فقال له العجوز بنبرة ساخرة: إنها نفس الرحلة التي دعوتها إليها! - ولكنها معك تفقد كل الإنسانية!
وصاح الزوج: اذهبوا جميعا واتركوني في سلام.
فقال العجوز: سمعا وطاعة.
ولكن الصديق صرخ: دعها فهي لي أنا وحدي، أنا المرشح للزواج منها.
فسأله العجوز ساخرا: من ذا الذي رشحك؟
فأجاب الصديق بحنق: كانت الأمور تسير سيرا حسنا بيني وبينها حتى تدخل صوتك الكريه.
جلجلت وراء الباب المغلق صرخة مدوية أفظع من سابقاتها جميعا. تحول الزوج نحو الباب منذعرا. تسمر الصديق في موضعه. رفعت الجميلة رأسها عن صدر العجوز كمن تفيق من غيبوبة، تخلصت من ذراعيه وهي ترمقه في ارتياع، ثم هرعت إلى الحجرة فدخلت وأغلقت الباب وراءها. تمتم العجوز ممتعضا: ما أضيعها من ليلة!
ومضى نحو مقعده فارتمى عليه وأغمض جفنيه، وجلجلت صرخة أخرى.
تنهد الزوج متسائلا: أما لهذا العذاب من نهاية؟ - لا تتوقع خيرا طالما هذا النحس باق!
ولكن الباب فتح، ومنه مرقت الطبيبة متهللة الوجه. هتف الزوج واقفا: ماذا وراءك؟ - مبارك عليك. - حقا؟! - مولود سعيد، حال الوالدة طيبة، وإن تكن جد متعبة. - حمدا لله.
وشد الصديق على ذراعه قائلا: مبارك.
على حين قال العجوز دون أن يفتح عينيه: تهاني يا بني.
وقالت الطبيبة: كانت ولادة عسيرة حقا، لم أصارحك بشيء طبعا؛ ولكني استعنت بأحدث وسائل التكنولوجيا.
فسألها الزوج: وهل من الممكن أن أراه الآن؟
ولكن جرس الباب الخارجي دق فجأة. هرول الزوج إلى الباب، وما كاد يفتحه حتى اندفع إلى الداخل أربعة رجال شاهري المسدسات. أغلقوا الباب وراءهم، وصاح أولهم: ليلزم كل مكانه، لا صوت ولا حركة.
تقهقر الزوج أمامهم حتى جلس مؤتمرا على مقعده، وإلى جانبهم أجلست الطبيبة، وتساءل الزوج: من أنتم؟ ماذا تريدون؟ - عليك أن تجيب لا أن تسأل.
قلب الرجل عينيه فيهم مهددا، ولما رأى العجوز - وقد فتح عينيه - قال له بنبرة جديدة: معذرة يا عماه عن إزعاجك، ولكنها الضرورة ...
فسأله العجوز: عم تبحثون يا بني؟ - عن مولود دخل الدنيا في هذه الساعة. - وهل كنتم تتوقعون مولده؟ - أجل .. منذ عام ونحن نرقب مقدمه!
فتساءل الزوج: ما معنى هذا الكلام الذي لا معنى له؟
فانقض عليه الرجل ولكمه لكمة أذهلته عما حوله وقال: تأدب، نحن نتبع إشارات جهاز دقيق لا يكذب.
انقبضوا في الصمت حتى قالت الطبيبة متسائلة: وماذا تبغون من مولود لم يكد يرى النور؟ - إنه يهدد الأمن والسلام، ونحن لن نعفيك من المسئولية يا دكتورة!
وقال الرجل الثاني: كما لن نعفي منها الأب والأم.
وقال الرجل الثالث: جميع من شهد الولادة مشتركون في الجريمة!
وقال الرابع: الجميع عدا العجوز الذي يعفيه سنه من مشكلات الدنيا.
همس الصديق - وهو لا يدري - في أذني الطبيبة: وقعنا تحت رحمة مجانين.
فانقض عليه الرجل الأول ولكمه لكمة شديدة وقال: ستحاسب على قلة أدبك، كما ستحاسب على اشتراكك في الجريمة.
وقال العجوز موجها خطابه للزوج: تمالكوا أعصابكم والزموا الهدوء؛ فالموقف أخطر مما تظنون.
فسأله الزوج: إنك تعرفهم كما يعرفونك، فخبرنا عما يريدون؟
فقال الرجل الأول بصراحة: نريد المولود. - ماذا ستفعلون به؟ - ننقذ الدنيا من شره.
فقال الزوج للعجوز: إنهم يريدون اغتيال المولود البريء.
فقال العجوز: ما عليك إلا الإذعان للقدر! - نتركهم يغتالون وليدا لم يكد يرى النور؟ - ما جدوى إهدار دماء جديدة بلا فائدة؟
وصاح الرجل الأول: حذار أن تبدر حركة عن أحدكم فيهلك في الحال.
وتقدم الرجل نحو الباب المغلق، ولكن العجوز قام وهو يقول: أتقتحمون الحجرة على النساء؟
فتوقف الرجل قائلا: نحن قوم متحضرون، فتصرف أنت يا عمنا.
مضى العجوز إلى الحجرة، نقر على الباب مستأذنا، ثم دفع الباب ودخل، غاب قليلا ثم رجع حاملا الوليد بين ذراعيه، تتبعه الحماة والفتاة الجميلة والدادة في اضطراب وتساؤل. وقال العجوز للزوج: الأم مستغرقة في النوم فاطمئن من هذه الناحية.
ورأت الدادة الرجال المسلحين فهتفت: اللهم الطف بنا.
وتساءلت الجميلة: أغراب ومسدسات! ما معنى هذا؟
أما الحماة فقد سألت الزوج بحدة: من هؤلاء؟
فأجاب بنبرات باكية: إنهم يريدون الوليد. - ماذا يريدون منه؟
فقال الرجل الأول: نريد أن ننقذ الدنيا من شره!
فصاحت الدادة: مجانين .. مجانين .. انظري إلى أعينهم!
فحرك الرجل مسدسه مهددا وقال: سنطلق النار لدى أي حماقة ترتكب!
فقالت الحماة مخاطبة الزوج: لعلهم بعض مدمني المخدرات من أصحابك؟!
فرفع الزوج يده إلى موضع اللكمة وتأوه، فقالت الحماة وهي تزداد قسوة: أو لعلهم بعض أعدائك الذين تسيء إليهم في نزواتك لندفع نحن الثمن!
واقترب الرجل الأول من العجوز فألقى على الوليد نظرة وقال بحقد: وقعت، أخيرا وقعت، سنريح العالم من شرك!
ووثب الزوج كالمجنون، ولكنه عولج بلكمات كالمطر، فتهاوى فوق مقعده. وبسرعة فائقة أجلس الرجال المسلحون الآخرين على مقاعد متقاربة، فأوثقوا أيديهم وكمموا أفواههم، ثم وقفوا صفا واحدا، وقال أولهم للعجوز: ضع الشيطان الصغير فوق الخوان.
ثم قال لرجاله: لدى ابتعاد عمنا أطلقوا النار على الشيطان!
تحرك العجوز في صمت خانق، بين أعين محدقة. وفجأة انتفض الوليد في لفافته فأزاحها وتجرد عاريا. وبسرعة مذهلة طار كالفراشة، انقض على الرجال الأربعة، فلكم كلا منهم لكمة بقبضته الصغيرة، ثم رجع فاستقر فوق يدي العجوز. وقع ذلك بسرعة كسرعة الضوء، ذهل الرجال الأربعة وتجمدوا، سقطت المسدسات من أيديهم، تقوضت قاماتهم فتهاووا على الأرض لا حراك بهم. وخيم الصمت والجمود والرهبة؛ خيم الصمت والجمود والرهبة حتى تحرك العجوز بالوليد فوضعه على الخوان، وراح يحل أوثقة الرجال والنساء، ثم مضى بالوليد إلى حضن أمه، فلما رجع وجد الجميع واقفين في ذهول، يتبادلون النظرات، ثم يركزونها فوق الرجال الراقدين بلا حراك. - ما هذا؟! - أحق ما رأينا؟ - أهو سحر؟ - أنحن نيام؟ - الوليد! .. أحق أنه هو؟ - لولا وجود الرجال الأربعة لمضى الحدث حلما من الأحلام. - إنه حقيقة، حقيقة مخيفة. - لنسأل الله اللطف بعقولنا.
وقالت الحماة: إنه معجزة من معجزات الله القهار!
فسأل الصديق الطبيبة: ما رأيك يا دكتورة، ألديك تفسير لذلك؟
فقالت الدكتورة بحيرة شديدة: أحيانا، أعني في أحوال نادرة، عقب آلام معاناة رهيبة ... - ماذا يحدث عقب الآلام والمعاناة؟ - ما يشبه المعجزة! - أن ينقلب وليد إلى قوة كونية خارقة؟! - قريب من هذا ما سجلته مذكرات بعض الأطباء في العصر الفرعوني وفي العصور الوسطى.
وتحول الصديق نحو الرجل العجوز فسأله: ما رأيك أنت يا عماه؟
فقال العجوز بلا مبالاة بسؤاله: الأفضل أن نسأل عما يمكن عمله بهذه الجثث!
وهتف أكثر من صوت: الجثث!
وانحنت الطبيبة فوق الرجال ففحصتهم، ثم قامت وهي تقول: رباه .. لقد فارقوا الحياة حقا!
فصرخ الزوج: فارقوا الحياة؟! - بكل توكيد. - يجب استدعاء الشرطة فورا.
فسأله الصديق: وبم نجيب إذا سئلنا عن القاتل؟ أو إذا سئلنا عن أسباب القتل؟!
فقالت الفتاة الجميلة: يا له من موقف لم يخطر لأحد على بال!
وقال الزوج: ستوجه التهمة إلينا نحن!
وتساءل الصديق: أيمكن التخلص من الجثث؟ - وكيف نتخلص من جثث أربع عمالقة؟
فأجاب العجوز متطوعا: ولكنه لا حل لديكم سواه.
وتحولت إليه الأعين مستطلعة ومستغيثة معا، فقال: طالما أبديت استعدادي لأداء أي خدمة تطلب مني، وها أنا أعتبر هذا العمل من اختصاصي.
وأعرض عنهم متجها نحو الجثث حتى أطل بقامته عليها. مد يده إلى الجثة الأولى. رفعها ثم طرحها على كتفه اليسرى وكأنه يرفع قشة! رفع الجثة الثانية فوضعها فوق الأولى بالسهولة نفسها. كذلك حمل الجثتين الأخريين على كتفه اليمنى كأنه كان يتسلى بلعبة محببة دون عناء، وكأنه استجد لنفسه شبابا أسطوريا بمعجزة، وقال بهدوء: افتحوا الباب!
ومضى بحمله بأقدام ثابتة وفي غير جهد وفيما يشبه المرح، والجميع يتابعونه بأعين ذاهلة، وظلوا في وقفتهم كالمنومين حتى أفاق الزوج فأقبل على الطبيبة وهو يقول: أنت وحدك تستطيعين أن تعيدي العقول المتطايرة إلى مستقرها الآمن في الرءوس.
نافذة في الدور الخامس والثلاثين
مد ساقيه مستسلما لطراوة الفوتيل. شعر بشيء من الجهد في نهاية نهار حافل بالنشاط. أضاء الخادم العجوز مصابيح البهو وألقى نظرة أخيرة على البار والمائدة الشهية، ثم هم بالذهاب، ولكنه قال له: أطفئ النور حتى يأتي المدعوون.
فصدع العجوز بالأمر وذهب. أما هو فقد غاب هيكله النحيل في ظلمة المغيب، ومضى يرنو من خلال النافذة في الجدار المقابل إلى المقطم وراء النيل والحقول وشرقي المدينة، وقال لنفسه: عيد ميلاد جديد، سبع شمعات رمزية، ما أكثر الأعوام وما أقل من بقي من الأصدقاء!
وأغمض عينيه وهو يتمتم: ترى ما عدد الأرغفة التي التهمتها؟ وعدد الخراف والعجول؟ والأفدنة من الخضروات والبقول؟ والأمواج من مياه النيل؟ والسعرات الحرارية التي استهلكت في اللعب والعمل؟
وتثاءب طويلا وهو يقول: سعيد من يبلغ هذا العمر وهو مرتاح الضمير!
وأسلم للصمت ليسترد حيويته، وأعجبه أن يسبح في صمت عميق؛ لولا أن تناهى إلى سمعه حفيف ثوب أو تردد أنفاس. فتح عينيه فرأى في وسط البهو تقريبا عجوزا مهلهل الثياب، أعور حافي القدمين. تساءل: من؟
وأمعن النظر، ثم قال بدهشة: جارنا القديم المسكين!
ولم ينبس العجوز بكلمة، فقال الرجل: ذكريات الصبا التي لا تنسى، كيف صعدت إلى شقتي في الدور الخامس والثلاثين؟
لم يتكلم العجوز ولم تند عنه رغبة في الكلام، فقال: أدفعتك الحاجة إلى المجيء؟
وانتظر عبثا أن يتكلم، ثم تساءل: أتريد كالزمن الأول بعض النقود أو الملابس القديمة؟
تراجع العجوز خطوات، فقال الرجل: خطرت على بالي مرات فظننتك انتقلت إلى دار البقاء!
ولأول مرة قال العجوز بصوت بارد: لم يخب ظنك! - حقا؟! - حقا! - كأنما جئت تحية لعيد الميلاد.
فقال بصوت غليظ: عليك اللعنة! - اللعنة؟ - وعلى جميع المجرمين!
وتراجع أكثر فاختفى تماما؛ اختفى قبل أن يطفئ وقدة تساؤلاته، قبل أن يجلو سر غضبه عليه وتنكره لإحسانه. وتساءل: ماذا يقع في العالم الآخر من أمور يشق على عقولنا هضمها؟
فجاءه صوت ناعم يقول: ألا زلت تكلم نفسك كالمجانين؟
وتراءت أمامه في فستانها البيتي الفضفاض تنضح صحة وشبابا. هتف بخوف: أنت؟! - دون غيرها وبجميع ذكرياتها ... - ذكريات أليمة، لم يبرأ قلبي بعد من عذاباتها. - يا للعجب! - وبسببها عافت نفسي الزواج فبقيت أعزب حتى النهاية. - ولكنك لم تفعل إلا أن عشقتني. - رغم أنك كنت بمنزلة الأم، امرأة أبي. - في مذهب العشق يجوز كل شيء. - ما زالت الجريمة تنغص علي صفوي. - أتسميها جريمة؟ - أنت التي أغريتني! - كلانا أغرى صاحبه. - إنها ذكرى الجحيم في حياتي. - وهي أسعد ذكرياتي. - يا لك من ... - امرأة طيبة، كما أنك إنسان طيب. - أهذا يمثل الرأي هناك؟ - كيف لم يبلغك؟ .. عيد ميلاد سعيد.
وتوارت عن ناظريه. تبلبل فكره. رغم ذلك داخله إحساس دافئ بالارتياح، انجابت هموم ثقيلة، وقال لنفسه: من يدري؛ فلعلي بالغت أيضا في محاسبة النفس عن غرق ذلك الشاب المجهول ...
سمع تنهدة عميقة. رأى الشاب يقف عاريا يحملق في وجهه ويقول: تقول إنك بالغت؟
فقال بأمل: بت أعتقد ذلك. - يا لك من فاجر!
ترامقا طويلا حتى انقبض قلبه، وقال الشاب: تركتني أغرق يا نذل! - لا ذنب علي، أنت وحدك المسئول. - غلبني الموج وخانتني قواي فاستغثت بك. - لم أكن أحسن السباحة ... - بل كنت تحسنها بالقدر الكافي لإنقاذي .. ولكنك هربت يا قاتل ... - لا تقل ذلك، القانون نفسه في ذلك العهد ... - القانون! إن الغرقى في ذمة المتفرجين! - حسبت أن ذلك الموقف قد تصور لك في صورة جديدة ... - ولم يتصور في صورة جديدة؟ - هكذا انقلبت الأحكام في عالمكم! - لقد انقلبت في رأسك بحكم الخوف، وإني نادم على مخاطبتك ...
وغادره على حال من القلق فقد معها توازنه، اضطرب صدره وجاش بالمتناقضات وقال: أي الأفعال خير وأيها شر؟ وكيف يهتدي ضميري في هذه الغابة المتلاطمة بالغرائب؟! آه لو كان أبي حيا!
وإذا بالصوت الذي طال انقطاعه يقول: أشكر لك حسن ظنك.
غض البصر تجنبا للمواجهة، وعقل الخجل لسانه فلم ينطق، وقال الأب بنبرة لم تخل من تهكم: أراك تستعد للاحتفال بعيد ميلادك!
ولما لم ينبس سأله: ماذا يمنعك من الكلام؟
فأجاب بصوت متهدج: الذنب، وإنه لكبير! - أما زلت تذكر ذلك؟ - وكيف لي بالنسيان؟ - ولكني لم أحضر لإحياء ذكريات تافهة.
فتشجع قائلا: لقد اختل الميزان وانفرط العقد. - وتروم الاهتداء إلى أساس مكين؟ - بكل ما أملك من قوة. - حسن، ركز فكرك جيدا وأجب بأمانة على ما أسألك عنه. - ستجدني طوع أمرك يا أبي.
فهتف بإنكار: لست أباك! - لست أبي؟! - وتصورك هذا يقطع بأنك ما زلت تعيش في عصر حجري! - ولكنها علاقة حقيقية لا ينكرها أحد. - بل علاقة خاصة تعيقك عن الرؤية الصحيحة.
شعر بأن عليه أن يجاريه، لا أن يناقشه، فقال: معذرة عن خطأ وقعت فيه بحسن نية. - أجبني، ما أهم حدث وقع لك في طفولتك؟ - لا أذكر، لعل طفولتي مرت دون أحداث تستحق الذكر. - إجابة عمياء تنذر بعواقب سخيفة. - الحق أني ... - أجبني، ما أكبر خطيئة ارتكبتها في شبابك؟
استعد ولم يجب، فقال الرجل: ما زلت تخجل مما لا يدعو للخجل، وهو نذير بأنك ستباهي بما يجدر بك أن تخجل منه. - آسف ... - أجبني، كم شخصا قتلت؟ - لم أقتل أحدا والحمد لله. - ألم يشرع أحد في قتلك؟ - كلا، ماذا جعلك تظن بي ذلك؟
تنهد الأب بصوت مسموع، فقال الرجل: عشت حياة طيبة ... - طيبة! - لم يشبها سوى أخطاء بسيطة، مثل ذلك ... - لا يهمني أن أسمع إلى أخطاء بسيطة ... - وقدمت للمجتمع خدمات لا بأس بها. - لا بأس بها! - ما الذي يهمك حقا يا أبي؟ - أبي مرة أخرى! - معذرة! - ذهب العمر هباء ... - ماذا تريدني على أن أفعل؟ - يا لضيعة لقاء ينتهي بالسؤال الذي بدأ به! - لكنك لم تقل شيئا. - قلت كل شيء.
واختفى الأب. اختفى دون أن تقع عليه عين الرجل، ولكنه شعر بذهابه وشعر بخيبة أمل مريرة.
غير أنها لم تطل؛ وجد نفسه يميل إلى تصديقه فيما قال من أنه قال كل شيء، ما عليه إلا أن يستعيد أقواله.
ومضى يتذكر. وقال لنفسه: ليس هذا العيد كالأعياد السابقة؛ رأسي يدور، وينثر في دورانه ما استقر فيه من أفكار، كل شيء يتطاير.
ومضى يتذكر. ولكنه عوجل بحضور الممرضة، تصافحا بمودة. راقبها وهي تعد الحقنة معجبا بشبابها الغض.
خلع الجاكتة فحسر كم القميص مسلما ذراعه، حقنته وهي تقول: بالشفاء ... - شكرا.
أعادت الحقنة إلى العلبة المعقمة فقال: ابقي لتشتركي في حفل عيد ميلادي. - ولكني لا أعرف المدعوين. - رجلان وزوجتاهما، لم يبق سواهم! - ولكني لم أحضر هدية. - إنك أنت الهدية.
فأشارت إلى ثوب العمل المحتشم وقالت: لست مستعدة. - جميعنا في الحلقة السابعة والثامنة فتلكوني أنت صلتنا الحميمة بالحاضر ...
وترددت بعض الشيء، فأمسك بمعصمها قائلا: لن أدعك تذهبين.
فجلست على المقعد التالي لمقعده وهي تبتسم. سألها: كل شيء على ما يرام؟ - نحمده. - متى تتزوجين؟ - في نهاية الشهر القادم. - سأفتقدك كثيرا. - ألم تشبع بعد؟
وضحكت، فابتسم ابتسامة لا تخلو من فتور، وجاء المدعوون؛ الصديقان وزوجتاهما، صفت الهدايا فوق الخوان، تبودلت القبلات، جلجلت الضحكات، تم التعارف بين السادة والممرضة، ملأ الرجل الكئوس بنفسه رغم مثول الخادم العجوز وراء البار، اختلطت التهاني بالنكات بالأحاديث. اشترك الرجل في الحديث بنصف عقل، بدا رغم التظاهر جادا أو متفكرا، ولم يجلس كما جلسوا؛ جعل يذرع المكان حينا، وحينا يقف. وقال له الصديق الأول: اجلس، وقوفك يرهقنا.
وسألته زوجة الصديق الآخر: لم لا تجلس؟
فابتسم ابتسامة غامضة وقال: شيء يحدثني بأنه عيد الميلاد الأخير.
وأكثر من صوت قال: فال الله ولا فالك.
فقال بإصرار: سوف يتبين لكم صدق قولي.
فسأله الصديق الأول: ماذا بك؟
وقالت زوجته: لست كالعهد بك.
والتفتت نحو الممرضة متسائلة: أهو على ما يرام؟
فأجابت الفتاة: على خير حال.
فقال له الصديق الآخر: إذن فدع ما لله لله، واجلس واهنأ بالعيد.
فقال الرجل: كلا. - كلا؟ - قررت أن أؤدي واجبي. - أي واجب يا هذا؟ - قبل أن تفلت الفرصة إلى الأبد. - إنه الويسكي بلا شك! - لا وقت للهذر. - ولكنها ليلة عيدك.
وقالت زوجة الصديق الآخر: صديقنا ممتع، هذا كل ما هنالك.
تحرك الرجل إلى الطرف الآخر من البهو، وضع قدمه على كرسي، اعتمد بثقله عليها، وجعل ينظر نحوهم باهتمام، منقلا بصره من وجه لوجه، وقال: الأيام تمر، وأنتم تتقدمون في العمر، لا بد من مواجهة صريحة بينكم وبين الأيام.
فقال الصديق الأول ضاحكا وهو يرفع كأسه: صحتك!
وقالت زوجة الصديق الآخر: عندي كلمة من الشعر المنثور، متى يسمح لي بإلقائها؟
فقال الرجل بوجه جاد: لا محدث غيري الليلة. - ولكنها ليلة عيدك! - الأخير! - دعنا من هذه السيرة المزعجة! - اسمعوا، لقد شهدت مداولة قضائية، ثم فوضت في التحقيق والحكم والتنفيذ! - أراهن أن ذلك كله سيتمخض عن فكاهة رائعة! - أشك في ذلك كل الشك.
فقال الصديق الأول: أقترح أن نجاريه حتى النهاية.
فقال الصديق الآخر: عظيم، اعتبرنا ماثلين في محكمتك! - إنكم لكذلك، أردتم أم لم تريدوا. - فماذا تروم منا؟ - قلت إن الأيام تمر، وإن الأعمار تتقدم، ولا بد من مواجهة صريحة. - لتكن مواجهة صريحة.
فأشار إلى الرجلين وقال: أجيباني، كم شخصا قتلتما؟
فضجوا بالضحك. انتظر حتى سكتوا ثم قال: أجيباني، لم لم تتعرضا للقتل حتى الآن؟
فضجوا بالضحك مرة أخرى، ولما ساد السكوت قال: أجيبا، لم لم تسجنا على الأقل؟
وقالت زوجة الصديق الآخر: ألم أقل لكم أنه سيتمخض عن فكاهة رائعة؟
فقال الرجل: إني مفوض لقتل من لم يقتل أو يسجن!
فهتف الصديق الآخر: يا عدو الأخيار!
وقال الصديق الأول: وأنت خبرنا متى قتلت أو قتلت أو سجنت؟
وقالت زوجة الصديق الأول متضاحكة: ونحن ألا نستحق القتل أيضا؟
فقال الرجل بخشونة: نطقت بالحق يا سيدتي! - حقا؟! - أنسيت الحب الذي ألف بيننا في الصبا؟
ولأول مرة تغير الجو. تجهمت الوجوه في ذهول، وصاح الصديق الأول غاضبا: أفقدت عقلك وذوقك؟!
فقال الرجل بتحد: لا مفر من الحقيقة مهما طال الزمن، كان حبنا حقيقة ولكن تصادف أنك كنت ابن خالتها، فقيل إنك أولى بها ، وإذا بالحقيقة تنهار وتستسلم! - مجنون، وضح لنا ما غمض من أمرك. - انهارت واستسلمت، لم تقاوم، ثم استسلمت مرة أخرى فيما بعد، ها أنا أصارحك بأننا - أنا وهي - اشتركنا في خيانتك زهاء خمسة أعوام!
انتتر الصديق الأول واقفا، هم بالانقضاض على الرجل، ولكن الرجل أخرج مسدسه من جيبه، سدده نحوه، ثم أطلق النار، فخر الصديق صريعا وسط هدير من الصراخ. حتى الخادم العجوز صرخ، وصاح الرجل ويده بالمسدس ترعش: ليلزم كل مكانه!
انكبت الزوجة فوق زوجها مجهشة في البكاء فتساءل ساخرا: لم تبكين؟ تزوجته على رغمك وخنته بإرادتك، ما أقبح الدموع الجارية في أخاديد وجهك، أتودين اللحاق به؟
فصاحت في غضب: مجرم .. مجرم ...
ولكن رصاصة استقرت في رقبتها قبل أن تكمل كلامها، فتهاوت إلى جانب جثة زوجها مضرجة في دمائها. حملقت فيه الأعين في فزع أخرس، فقال: أشهد أن القتل أكبر تحد لقضبان الحياة ...
فقال الصديق الآخر بصوت سائب لا ضابط له: ماذا دهاك أيها الصديق الكريم؟ .. أنسيت أننا جئنا للاحتفال بعيد ميلادك؟!
فقال مستردا ذاكرته من صدى الحدث: أنت أيضا لم تقتل ولم تقتل ...
فقال الصديق برعب: كسائر الملايين، وإلا ما بقي على وجهها أحد، ماذا دهاك أيها الصديق الكريم؟
وقالت الزوجة وهي ترتعد: نحن أصدقاؤك، أنسيت العمر الطويل؟ أنسيت مودة نصف قرن؟!
فحدجها بنظرة احتقار قائلا: وأنت أيضا، ما تزوجت منه إلا من أجل ثروته، أنت أيضا استسلمت، لا أحد منكم يحترم المقاومة! - أتحاسبني على عواطف طفولية اندلعت في قلبي منذ نصف قرن؟ - إني أعرف عشيقك أيضا! - فليسامحك الله.
وقال له الصديق متوسلا: دعنا نذهب!
فسأله بازدراء: لم لم تغضب لعرضك؟ - دعنا نذهب بحق صداقة العمر! - لقد بلغنا نقطة لا يجوز التراجع عندها. - أتقتل الأبرياء بالجملة؟ - لا يوجد بريء واحد.
أخفت الممرضة وجهها بين يديها، على حين هتف الخادم العجوز من وراء البار: سيدي .. اتق الله العظيم!
فقال الرجل بارتياح: أحسنت أيها العجوز.
وأطلق الرصاص مرتين، فسقط الصديق، ثم سقطت زوجته. لم يعد يسمع إلا نحيب الممرضة الحسناء، فنظر الرجل نحوها وتساءل: لم قبلت الدعوة يا سيئة الحظ؟
فواصلت النحيب دون أن تجيب، فقال: لعله ضميرك الذي أغراك بقبولها؟
فقالت وهي تنشج: قبلتها إكراما لك.
فقال متقززا: ولكنك تبغضينني كالموت! - أنا؟! - أجل. - لا تظلمني. - اختلست مرة نظرة إلى المرآة ونحن في غمرة العناق، فرأيت الاشمئزاز مطبوعا على وجهك كالقطران! - أبدا .. أبدا. - عرضت عليك ذات يوم أن تقبلي الزواج مني ولكنك اعتذرت ... - كنت مخطوبة كما تعلم ... - أجل، والحق أني أكبرتك. - ليس إلا أني كنت مخطوبة ... - ولكنك قبلت أن تكوني خليلتي نظير مكافأة من المال تستعينين بها على إعداد نفسك للزواج ... - سيدي ... - لم تقاومي! ماذا يبغض لكم المقاومة؟ - لكنك سعدت بقراري على أي حال! - هذا حق؛ ولذلك فإني أحكم عليك بالإعدام.
وثبت الجميلة في استغاثة فزعة، ولكن الرصاصة عاجلتها فهوت على وجهها. أنزل قدمه من فوق الكرسي وتقدم ببطء وهو يتفحص الجثث، ومد بصره إلى الخادم العجوز وراء البار، فتراءى شاحب الوجه بلون الموت، قال له: أيها العجوز الطيب، ما رأيك فيما شهدت؟
لم يستطع الرجل أن ينبس بكلمة فقال: بدأت الخدمة في بيتي شابا، وها أنت تقف كالغصن الذابل الجاف في أرذل العمر ...
هز العجوز رأسه دون أن ينطق فقال: كم أسأت إليك، حتى العذاب ذقته أحيانا على يدي ... - سيدي ... - ولم يخطر لك مرة واحدة أن تهجر بيتي ... - رغم كل شيء كنت طيب القلب. - لا تكذب، كم تورطت معي فيما يليق وما لا يليق، كم شهدت هنا ألوانا من الدعارة السافرة! - أفضالك مع ذلك لا يمكن أن تنسى ... - ولا مرة واحدة فكرت أن تعاملني بما أستحق؟ - إني خادمك المطيع يا سيدي. - لذلك أحكم عليك بالإعدام ...
حاول العجوز أن يختفي وراء منصة البار، ولكن الرصاصة نفذت في رأسه. تنهد الرجل بعمق؛ تنهد بعمق حتى ملأ صوت تنهده البهو ... •••
شعر بالضوء يشع وراء جفنيه المغلقين ففتح عينيه، رأى الخادم العجوز واقفا والبهو متوهجا بالضوء، فنزع نفسه من جلسته المريحة وهو يقول: جاء المدعوون؟
فقال العجوز: جاءت الممرضة ...
ذهب الخادم. دخلت الممرضة مشرقة الوجه، تبادلا ابتسامة عريضة. خلع جاكتته وحسر كم القميص وهي تعد الحقنة، قالت: عام سعيد.
فقال وهو يسلمها ذراعه: إني أدعوك للحفل الصغير.
فقالت وهي تمسح بقطنة مبللة بالكحول موضع الغز: أود ذلك، ولكني على موعد مع خطيبي. - إني أدعوه معك، أرجو أن تبلغيه ذلك ... - سيسره أن يلبي دعوتك؛ فهو لا ينسى مساعدتك في نقله إلى القاهرة، ولكنه ليس على ما يرام. - مريض؟ - كلا .. ولكن حالته النفسية ليست على ما يرام. - تلك أعراض تمر، متى تتزوجان؟ - قريبا على أي حال. - سأفتقدك كثيرا.
فضحكت قائلة: حذار، سأبدأ بالزواج حياة جديدة! - يا لك من استغلالية فاتنة؛ ولكني لن أنسى السعادة التي حظيت بها على يديك! - أكرر التهنئة.
وذهبت وهو يتبعها عينين. ثم أجال بصره في البهو؛ الأرض والمقاعد والبار، ثم تنهد بعمق ونظر في الساعة ثم تمتم: رحلة طويلة حقا في أقل من خمس دقائق!
ومضى يذرع البهو، ولكن الانتظار لم يطل، فما لبث أن جاء المدعوون؛ رجلان وامرأتان في الحلقتين الثامنة والسابعة، صفت الهدايا فوق الخوان، تبودلت القبلات، اتخذوا مجالسهم، ومضى الرجل يملأ الكئوس بنفسه. - لم يبق إلا نحن الخمسة. - ليرحم الله الراحلين.
وقالت زوجة الصديق الأول: ثمة تنبيه هام أسوقه حرصا على سهرتنا الغالية. - ألا وهو؟ - منع الكلام في السياسة أو الحرب. - عين الصواب. - إنه يمتص الحيوية، يجعل من السمر حديثا مرهقا، يدفع إلى طريق مسدود، لنرحم أنفسنا هذه الليلة ... - أشك في إمكان تحقيق هذا المطلب البريء، سنتظاهر بالامتثال، وسنتحدث في هذا أو ذاك من الموضوعات، ثم نجد أنفسنا ونحن لا ندري في الجبهة. - وحتى إذا وفقنا إلى اختيار موضوع ما، فلن نلبث أن نجد الكلام لغوا لا معنى له ولا طعم، وإننا في الواقع إنما نهرب من الحديث الوحيد المقضي به علينا، ولن نجد بدا في النهاية من الرجوع إلى الجبهة، وتتشعب الآراء والاحتمالات، وتتطاحن فروض الحرب والسلم، وتمضي الليلة ونحن غائصون في شرك حفرناه بأيدينا.
فقالت المرأة بإصرار: إذن فلأنصب من نفسي ملاكا حارسا للسهر، أطلق صفارة إنذار كلما آنست ميلا نحو الحديث الأبدي. - تجربة لا بأس بها، ولكني أتنبأ بالفشل من قبل أن تبدأ ... - صحتكم. - صحتك. - ولكن ما بال صاحب العيد يبدو شاردا؟ - أنا؟ - أجل .. يوجد شيء في رأسك الكريم.
فضحك قائلا: الحق أني حلمت حلما غريبا. - خير إن شاء الله. - ولكن ماذا أقول؟ - قل ما رأيت، ونحن على تأويل الرؤيا قادرون.
فقال وهو يرمقهم بنظرة غريبة: رأيت أنني قتلتكم جميعا رميا بالرصاص.
ضجوا جميعا بالضحك. - خير ما فعلت؛ فإننا أصبحنا كالخيل القديمة ترمى بالرصاص على سبيل الرأفة. - وكنت أقتل وأنا في غاية من المرح ... - يمكن تفسير الأحلام بأضدادها؛ فمعنى الحلم أن تتمنى لنا طول العمر. - عظيم. - أما إذا اعتمدنا في تفسيرنا على العلم، على فرويد مثلا، فسنكشف عن رغبات جنسية مكبوتة لا يحسن الجهر بها ... - ما كان في الوسع أن أكبتها طيلة ذاك العمر. - صحتك. - صحتكم. - وحتى النساء؟ - حتى النساء! - يخونك العيش والملح. - حتى الخادم العجوز والممرضة! - لم يكن حلما؛ ولكنه كان استمرارا لأحاديث الحرب. - لعله. - ولكن لم تفضلت بقتلنا؟ - لم أعد أذكر، فسرعان ما تنسى تفاصيل الأحلام. - تذكر السبب؛ فإننا نتوقع أن يكون طريفا ... - لا أظن. - لا شك أننا تحديناك بطريقة ما؟ - ربما. - ماذا فعلت بعد أن أجهزت علينا؟ - لا أذكر. - ألم تشعر بالندم؟ - لا أظن. - اسمح لي أن أقول لك ...
ولكن الخادم العجوز دخل ليعلن عن حضور الممرضة وخطيبها. وذهب فجاءت الممرضة يتبعها خطيبها، وتم التعارف على يد الرجل، واتخذ القادمان مجلسيهما متجاورين، والشاب يبتسم ابتسامة ودودة ربما ليخفي كآبة لم ينجح في إخفائها، وقدم لهما الرجل كأسين وهو يقول: صحتكما.
وقال لهما الصديق الأول: نشكركما على حضوركما؛ فإن مجلسنا يحتاج إلى دم جديد.
فقال الرجل: إنها شابة ممتازة، وهو شاب ممتاز، ولكنه يبدو على غير ما يرام.
فقال الشاب: إني على خير حال يا سيدي. - حقا؟! .. ما رأيك يا آنسة؟
فقالت بشيء من الحزن: إنه كما تقول يا سيدي، ولكن لا يجوز أن نكدر صفو الحفل بهمومنا.
وسأل الصديق الثاني: أهو مريض؟ - كلا يا سيدي؛ ولكن ينتابه من آن لآن شعور مجهول بالكآبة. - كيف تنتاب الكآبة من أنت خطيبته؟
فقال الشاب محتجا: إني بخير.
فقال الرجل: لست كما تقول ... - سيدي .. لا يجوز أن نكدر صفوكم ... - صارحني يا بني؛ فإني بمنزلة الوالد.
وقالت زوجة الصديق الأول: لعلنا نجد في حديثك ملاذا من حديث آخر يطاردنا ... وتساءل الصديق الثاني: ما علة كآبتك؟
فأجابت الممرضة: بلا سبب.
وتساءل الصديق الأول: لعله خلاف في العمل؟
فأجاب الشاب: لا شيء البتة. - أو بوادر قلق مما يخطر للمحبين؟ - لا شيء البتة يا سيدي.
ولم تملك الممرضة أن قالت: قال لي ونحن في الطريق إلى هنا: إن الانتحار فكرة طيبة!
فهتف الشاب: أتعيدين كلمة رددتها بلا قصد ولا معنى؟ - لقد خفت خوفا حقيقيا ... - ما أغرب أطوارك! - اعذرني ... - إننا نفسد الجو.
فقال الرجل: لا داعي للحرج يا بني؛ فأنا نفسي حلمت منذ حين بأني قتلت جميع المدعوين بما فيهم خطيبتك، وحتى خادمي العجوز ...
وضج المدعوون بالضحك، حتى الشاب ابتسم، وقال الرجل: اشرب كأسك، اطرد عنك الحرج، وصدقني فإني أرحب بك ترحيبا خاصا، وأشعر بأنك تشاركني في موقفي الغريب.
والتفت الرجل نحو أصحابه وقال: معذرة، فإني أتوهم أن لدي كلمة طيبة يحسن أن تقال لصديقنا الشاب، فاستمتعوا بوقتكم دون تأجيل ...
فقال الصديق الأول: إني أتوقع حديثا طريفا جديرا بالمتابعة، وبخاصة وأنه لا يحرم الأكل أو يمنع الشرب!
فنظر الرجل نحو الممرضة وقال: أنت مسئولة، كيف تركته يغرق في الكآبة؟
فقالت الممرضة: أعتقد أننا سعداء، أو هذا ما اعتقدته ...
فسأل الرجل الشاب: لم أنت كئيب؟ - إنها تبالغ يا سيدي.
فقالت الممرضة: لم أبالغ قط.
فقال الرجل: نحن في الدور الخامس والثلاثين، وقد لقنني ذلك حكمة ...
فسأله الصديق الثاني ضاحكا: ألذلك علاقة بجريمة قتلنا؟
وأخذ الرجل الشاب من يده ومضى به إلى النافذة، ثم قال: من هذا الموضع المرتفع ترى أكثر من نيل يجري في القاهرة ...
فقال الشاب: منظر عجيب حقا، ولا شك أنه في أثناء النهار أعجب. - من هنا ترى الحدائق كأنها أشكال هندسية دقيقة، مرسومة على سطح من الورق ... - ربما .. ولكن أرجو ألا تصدق أني فكرت حقا في الانتحار. - السيارات لعب أطفال، الناس فئران، أما الجبل والمساكن فبناء هائل متصل التكوين تنبثق منه هنا وهناك قباب ومآذن، الطرقات تختفي تماما، كما يختفي تفرد الناس وتميزها، ولا أثر يظهر لهمومها ومشاكلها، وأفراحها وأتراحها. - ما أعجب ذلك كله! - ما أجمل أن نتعامل مع الشمس والهواء والعلو! .. أيضايقك حديثي؟ - أبدا، أخشى أن يضايقك وجودي ...
وقالت زوجة الصديق الأول: ارفع صوتك قليلا يا عزيزي؛ فنحن أيضا في حاجة إلى كلمتك الطيبة.
فقال الرجل للشاب: إني سعيد بك، ولعلي أستطيع أن أقنعك كما أقنعت نفسي بالحياة فوق كل شيء! - فوق كل شيء؟ - أعني أن تنظر إلى همومك من فوق، كما تنظر إلى المدينة تحتك فتراها أشكالا مجردة لا فاعلية لها.
فهتف الصديق الثاني: أحسنت أيها الحكيم.
ولكن الشاب قال: هذه خاطرة قد تخطر أحيانا للمثقل بالهموم للراحة، ولكن لا موضع لها بين الحقائق.
فقالت زوجة الصديق الثاني مخاطبة الشاب: إنها وصفة مجربة، فلا تستهن بها يا عزيزي.
وقال الرجل: أجل .. لا تستهن بها، ما أجمل أن نحيا فوق كل شيء! - ولكننا خلقنا لنعيش تحت. - ألا تستطيع أن ترتفع؟ - لا أظن، الملايين تعاني تحتنا. - لا يغير ذلك من جوهر الحقيقة. - أشك في ذلك يا سيدي.
فأشار الرجل إلى المدينة المرصعة بالأضواء وقال: هنا وهناك، تقع أحداث؛ تنشأ علاقات، تتفجر خصومات، أما بالنسبة للراصد من هذه النافذة فلا يحدث شيء على الإطلاق! - لعله ضعف رؤية يا سيدي!
فضج البهو بالضحك، وضحك الرجل أيضا وقال: الشباب مرحلة خطيرة، يأنف من المهادنة ويسخر من الحكمة، فليس أمامه إلا إحدى طريقين؛ فإما الانتحار أو الثورة.
وتساءل الصديق الأول: والحب، أليس طريقا أيضا؟
ولكن الشاب تساءل: الانتحار أو الثورة؟ - وكلاهما شيء واحد للراصد من النافذة. - النافذة! - نبرتك ساخرة! خبرني بصدق عما جاء بك إلى هنا. - المشاركة في عيد ميلادك ... - وماذا أيضا؟ - ربما رغبت أيضا في شيء من الراحة. - علامة سيئة. - سيئة؟ - تقطع بأنك غارق في الهموم. - لا تخلو حياة من ذلك. - المهم هو موقفنا منها، أليس كذلك؟ - أن نواصل الصراع. - أرجو ألا تردد أمامي شعارات محفوظة. - لا أخجل من ترديد الشعارات إذا كانت مجدية. - وأنا رجل مجرب، وقد حققت لنفسي نصرا على الدنيا، ومن واجبي أن أفضي بالسر لمن هو في حاجة إليه. - أشكرك. - ألا تصدقني؟ - إني متلهف على معرفة السر.
وقال أكثر من صوت: ونحن متلهفون أيضا.
فقال الرجل: في الأصل كانت الهموم. - في الأصل؟ - بدأت التجربة والهموم تقصم ظهري. - أي هموم من فضلك؟ - لا أهمية لذلك، الفراق .. العقوق .. الدنس .. أشجان الوطن .. زلزال في يوغسلافيا، لا تهتم بالأسماء، كانت الهموم قد قصمت ظهري. - وبعد؟ - استولى علي الإعياء والإرهاق، وذات يوم وجدتني أطل على المدينة من هذه النافذة، عند ذاك ألهمت الحقيقة دفعة واحدة ... - الحقيقة؟ - وهي أن الهموم لا وجود لها. - أين ذهبت؟ - لم أر إلا مدينة مجردة. - المدينة نفسها تختفي إذا ارتفعت درجة مناسبة. - مدينة مجردة ولا أثر للهموم. - محض خيال. - أبدا. - الواقع أن الهموم تستقر في أعماق نفوسنا. - ولكنها تتلاشى إذا نظرت من عل. - مطلب مستحيل. - ولكني حققته وانتصرت. - أتعني أنه لم يعد يحزنك شيء؟ - بلى ... - هذا يعني أنك لم تعد من البشر. - أكرر التحذير من ترديد الشعارات. - ولكنها الحقيقة. - لا حقيقة إلا تجربتي الظافرة. - تخيل - لا سمح الله - أنك فقدت أعز ما تملك. - جربت أفظع من ذلك، أتحداك أن تميز من موقفك هذا بين القبر والبيت. - ذاك عزاء عقلي لا شأن له بالأعصاب. - الأعصاب تذعن في النهاية للنافذة. - لا أصدق ...
فقالت زوجة الصديق الثاني: يجب أن تصدقه.
فقال الشاب للرجل: إنه يعني لو صح أنك لم تعد حيا. - أو أنني أحيا فوق قمة الحياة. - لعلك لم تعرف ضراوة الحياة الحقيقية. - عجنت بها وخبزت. - إذن فأنت أسعد رجل في العالم. - نحن نتحدث عن الحكمة لا السعادة. - قد تكون حكيما ولكنك - ومعذرة - لست حيا. - ما زالت أنفاسي تتردد. - حكمتك خليقة بقتل بواعث الحياة الحقيقية. - ها قد عدنا إلى الشعارات. - بقتل التقدم. - لم أخل يوما بواجب. - ولم تؤدي أي واجب؟ - لأنني حي ولأنه واجب! - إنك تطرح علينا لغزا؟ - بدأت تفهمني. - ولكن حديثك يخاصم الواقع ويبدو معقدا غير مفهوم. - قولك هذا يمكن أن يصدق على أي شيء في الحياة. - يؤسفني أنني لا أستطيع الإفادة من حكمتك. - أعترف لك بأنني قلقت عندما وقع بصري عليك. - لم؟ - شيء حدثني بأنك مقدم على شيء خطير! - أي شيء هذا؟ - أصارحك بأن خاطر الانتحار خطر لي. - فكرة بعيدة عن الواقع بعد هذه النافذة عن الأرض. - ولذلك أطلعتك على السر الذي يقتل فكرة الانتحار. - شكرا، لا حاجة بي إليه، ثم إن لي وسائلي الخاصة. - عظيم .. عد إلى مجلسك واشرب.
وتأهب الجميع لشتى التعليقات. أما الرجل فلم يبرح مكانه أمام النافذة، ثم صعد فوق مقعد قريب.
أشاعت حركته الدهشة، فتساءل الصديق الأول: أتنوي إلقاء خطبة؟
من موقفه فوق المقعد انتقل بخفة لا تناسب سنه إلى حافة النافذة، فوقف عليها مستندا بيديه إلى ضلعيها. وقف الجميع في ذهول، وصاح أكثر من صوت: ماذا تفعل؟! .. احترس ...
في اللحظة التالية رأوه وهو يرمي بنفسه في الفضاء، فيختفي بسرعة خاطفة، مخلفا وراءه صرخة محشرجة كالعواء.
نامعلوم صفحہ