ما أبغض حسابك العسير! - الحق أن السنوات التي تلت القبض عليكم اتسمت بالعنف والإرهاب، فلم يكن بد من أن نركن إلى الصمت، ثم انشغل كل بعمله، وتقدم بنا العمر على نحو ما، ثم قامت الثورة، وانهار العالم القديم.
قبض عثمان على ذقنه العريضة بيده، وعكست عيناه المشعتان نظرة باردة؛ لعله ينعى الأعوام الضائعة. ما أبغض هذا الموقف الذي أرق نومه مرات ككابوس! وقال عثمان: طالما ساءلت نفسي لماذا؟ أجل، لماذا؟ وبدت لي الحياة خدعة سمجة، وعجبت للأقدام التي انهالت على رأسي، أقدام أناس تعساء من صميم الشعب الذي سجنت من أجله. وتساءلت لماذا؟ هل تعني الحياة أن نستوصي بالجبن والعماء؟ ولكن ليس كذلك النمل ولا بقية الحشرات، ولا أطيل عليك فقد استرددت إيماني.
يا لسوء الحظ! - استرددت إيماني فوق الصخور وتحت أشعة الشمس، وأكدت لنفسي بأن العمر لم يضع هدرا، وأن ملايين الضحايا المجهولين منذ عهد القرد قد رفعوا الإنسان إلى مرتبة سامية.
أحنى عمر رأسه إعرابا عن الموافقة والاحترام، واستطرد عثمان بنبرة لم تخل من حنق: من الحمق التعرض بماض مسلول ما دام المستقبل ينهض راسخا بصورة أقوى ملايين المرات من جبن الجبناء.
فقبض على أداة نجاة وسط العاصفة الهوجاء قائلا: على أي حال فقد تقوض العالم القديم المرذول، وقامت ثورة حقيقية فتحقق حلم من أحلامك.
انظر إلى وجهه كيف يتجهم، وتتجمع فيه عاصفة مربدة! وها أنت تتجرع هزيمة في ميدان لم يعد يهمك في شيء. ألا يعلم بأنني لم يعد يهمني شيء؟!
وقال عثمان بأسف: لو لم تسارعوا إلى الجحور، لما فقدتم الميدان. - لم تكن لدينا قوة ولا أتباع في الشعب يعتد بهم، ولو وقعت المعجزة على أيدينا لهبت قارات للقضاء علينا. - المؤسف أن المرضى لا يفكرون إلا في المرض. - وهل ترى من العقل أن يتجاهلوه؟ - ليس العقل ولكنه الجنون، ألم تدرك بعد كم أن العالم مدين للجنون؟!
فقال ملاطفا: على أي حال قد قامت الثورة، وهي تشق طريقها بعقلية اشتراكية حقيقية.
فحدجه بنظرة متفحصة طويلة حتى قرأ فيها معاني لم تسره، فقال: وهي إن لم تمس رءوس أموال أمثالي من الناس، فقد فرضت ضريبة عادلة.
ثم بنبرة عصبية: صدقني إنني لست عبدا لشيء، فليذهب كل شيء إلى الجحيم.
نامعلوم صفحہ