ولقد أفنت المفاوز خيلي
قبل أن نلتقي وزادي ومائي
فارم بي ما أردت مني فإني
أسد القلب آدمي الرواء
وفؤادي من الملوك وإن كا
ن لساني يرى من الشعراء
ماذا يريد يا صالح؟ فابتسم، ثم قال: إنه يقول: إن فؤاده من الملوك، وأخشى أن يجد أعداؤه من مثل هذه البوادر منفذا للكيد له عند كافور. فتجهم وجه عائشة وهزت رأسها وهي تقول: ما أكثر الدسائس في هذا البلد الخصيب! ثم التفتت إلى أخيها قائلة: علمت بما جرى للمتنبي من تألب الشعراء عليه في مجلس أبي بكر بن صالح، ومن انتصاره لهم، وا أسفاه للشاعر الغريب بين هؤلاء الكلاب السود! هلا دعوته غدا أبا علي؛ لنشعره بالأنس، ولنخفف عنه بعض ما يلاقي من الوحشة والضيق؟ - سأدعوه غدا، وسأدعو معه جملة من الشعراء والأدباء، وستكون ليلة لاهية عابثة ينسى بها كل ما ينتابه من هموم، وستطربنا «خمر» المغنية، وسننسى عقولنا، ونفر من هذا الوقار الملعون الذي أشاب نواصينا قبل الأوان. فضحكت عائشة وقالت: إنني لا أحب هذا الصخب ولا تلك العربدة، ولكنكم معشر الرجال لا تنسون أبدا أنكم كنتم أطفالا.
وذهب ابن رشدين إلى دار المتنبي فرأى عنده الشريف إبراهيم العلوي، وعبد العزيز الخزاعي زعيم العرب ببلبيس، ثم بعض المعجبين به من الشعراء كابن أبي الجوع وابن أبي العصام، وكان المتنبي يحدثهم في حروب سيف الدولة، وكيف خاض كثيرا منها، وكيف لاقى الموت في بعضها. فلما فرغ من الحديث اتجه ابن رشدين إلى من بالمجلس وقال: لقد جئت لأدعوكم مع أبي الطيب للعشاء بداري غدا، وترجو السيدة عائشة - التي تقدر أدب ابن الحسين وشعره - وأرجو معها، أن تنال هذه الدعوة منكم قبولا. فأجاب الشريف: إن السيدة عائشة زهرة مصر الناضرة، ونجمها الساطع، ومثلها في طيب عنصرها وعلو منزلتها في الشعر والأدب لا يرد له دعوة. سمعا وطاعة يا ابن رشدين، وقال المتنبي: إنني رجل جد وصرامة خلق، وأخشى أن مثلي لا يجد له نصيبا في مجلس ربات الحجال. فقال الشريف: إن أديبتنا تعشق النفوس قبل الوجوه، وترى جمال العبقرية فوق كل جمال. فلتكن خشنا كما تحب أن تكون، فإنها ستخلص ما فيك من ورد مما اشتبك به من أشواك، وابتسم المتنبي وهز رأسه لابن رشدين بالقبول.
وقدم المتنبي إلى دار ابن رشدين بعد الغروب فاستقبله صاحب الدار، وتقدمت إليه عائشة فمدت إليه يدها مرحبة محيية، ونظرت فإذا هي أمام صورة للعظمة العربية والرجولة المتوثبة، ورجعت البصر فرأت ملامح بطولة، ومظاهر عزيمة تتحطم دونها آمال النساء.
أخذت عائشة تحادثه وقلبها يخفق، ولسانها يتعثر، لقد هجم عليها شعور لم تعرف له من قبل مثيلا، وأصابت جسمها رعدة لم تدر لها تأويلا، إنها تحس بسرور يسري في أوصالها ولكنه سرور ممزوج بخوف، مصحوب بما يشبه الألم، وتتخيل كأن نارا تأججت في فؤادها فأخذ يضطرم بنوازع مجهولة مبهمة، وتدرك لأول مرة أنها أنثى، وأن عاصفة هوجاء تدفعها إلى التشبث بالرجل الجالس إلى جانبها؛ لتجد تحت جناحه الدفء والأمن والنعيم. ما هذه النازعة الجامحة التي جرفتها، وعبثت بها كما تعبث الرياح بأوراق الشجر؟ وما هذا الطارئ المفاجئ الذي دخل قلبها بلا استئذان فاستبد بكل ما فيه؟ أهذا هو الحب؟ إن كان إياه كان شديد البطش، سريع الأخذ، جبارا لا يرحم، وغازيا لا يبقي على جريح.
نامعلوم صفحہ