في موضع النصب لا عن قلة البصر
فقد تفاءلت في هذا لسيدنا
والفأل نأثره عن سيد البشر
يأن أيامه خفض بلا نصب
وأن أوقاته صفو بلا كدر
ونبتت أول بذرة للشقاق بين المتنبي وبعض أدباء مصر، وطارت أول شرارة للشر بينه وبين طائفة من شعرائها، حينما دعي مرة إلى مجلس أبي بكر بن صالح وزير كافور، وكان ابن الفرات حاضرا، وقد غص المجلس بالشعراء المتعصبين لأبي القاسم الأنصاري، الذي جاء لينشد أبا بكر قصيدة في مديحه، وكثر لغط الشعراء، وكثرت الإشارة إلى المتنبي، وهمس صالح بن مؤنس في أذن من بجانبه قائلا: سيكون هذا اليوم فاصلا في سمعة مصر في الأدب، ومكانتها في الشعر. - إن أمة أنت شاعرها يا ابن مؤنس لن تلقي بلوائها إلى شاعر أفاق. فظهر الغضب على وجه ابن أبي الجوع وكان صديقا وفيا للمتنبي، فأشار إليهما بيده في عنف وهو يقول: ليس للشعر وطن أيها الغبيان، والعربية وطن لكل عربي، وهنا وقف أبو القاسم الأنصاري وتهيأ للإنشاد بين نظرات الإعجاب من شيعته، وابتسامات الرضا من أبي بكر وابن الفرات ، وما كاد يبدأ قصيدته بقوله: «نظر المحب لدى الحبيب غرام».
حتى انبرى له المتنبي يخطئه في خشونة وجفوة صائحا: قف يا شيخ! إن العرب لا تقول نظر لدى فلان، ولا تقول غرام لدى فلان، وإنما تقول نظر إليه، وغرام له، إلا إذا كنت تريد أن تجعل من لغة الضاد لغة نبطية.
وهنا اربد وجه ابن الفرات؛ لأن أجداده كانوا من النبط، ولم تنل الدهشة من الأنصاري، ولكنه قهقه في سخرية وقال: لا تجزع يا أبا الطيب فقد فسد كل شيء في هذا الزمان حتى أصبح مثلك يتبجح بمعرفة لغة العرب، ويقول: قل كذا، ولا تقل كذا. إن سميك الكندي الفاجر الضليل، لا يجرؤ على أن يدعي أنه أحط بالعربية، فكيف بك وأنت لست من ذاك! إن العرب أيها الأصمعي الجديد تقول: نظر لديه وله وإليه، وتقول: غرام لديه وله وإليه، والكلمات ينوب بعضها عن بعض، وإلا فأين التضمين وأين المجاز؟ فقال المتنبي في حدة: تقول أكلت على الإناء؟ - أقول أكلت على الإناء وفيه ومنه، وهنا صفق أشياع الأنصاري، وتصايحوا في شماتة ونكر. فلما هدءوا قال ابن أبي الجوع: إذا كانت بعض الكلمات ينوب عن بعض فإن هذا معقود بشرط لابد منه؛ هو أن يكون الأسلوب جاريا مع الذوق العربي السليم، سائغا في أذن الأديب البصير بمرامي الكلام، وهنا تسارع القوم إليه فأسكتوه، وشرع الأنصاري في الإنشاد فأخذ أشياعه يبالغون في الاستحسان وطلب الإعادة. فلما أتم القصيدة خلع عليه أبو بكر وأجزل له العطاء، فانتحى ناحية من الحجرة، وأخذ يدون أبياتا حتى إذا أتمها طلب أن ينشدها، فأذن له، فكان منها:
لما تعرض لي بمقت حاسدي
أبدى الملام وكيف يرضى الحاسد؟
نامعلوم صفحہ