فجاءت بنا إنسان عين زمانه
وخلت بياضا خلفها ومآقيا
قل لي يا صالح: هل حضرت حفل الإنشاد؟ - حضرته، وواثقت أبا الطيب على المحبة والإخلاص. - نعم ما فعلت يا أخي، إنه غريب الدار، قليل الصديق في بلد تنبت فيه النمائم كما تنبت الأشواك. - لقد حذرته من كل ذلك يا عائشة، ولم تعجبني نظرة ابن الفرات إليه، وطفرت من أبي بكر بن صالح في المجلس كلمات شممت منها رائحة الحقد والضغن. - بئس القوم! إنهم لا يعيشون إلا في جو مدنس بالمكر والخديعة. صف لي المتنبي يا أبا علي. - إنه صورة للعربي السمح الوسيم. - هل شاع في شعره الشيب كما يقول؟
فضحك صالح، ونظر إليها نظرة مزجت فيها الدعابة بالاستنكار، ثم قال: وما لنا الآن بشيب شعره، ونحن نتحدث في رائع شعره؟ لا يا فتاتي، إن شعره لم يطرقه الشيب، وهو الآن في نحو الأربعين لم تفارقه نضارة الشباب. هل من سؤال آخر؟ سؤال مثلا عن لون عينيه؟ أو تكوين أنفه؟ أو طول قامته؟ - إنك رجل ماجن يا صالح، لا تترك المزح ما وجدت إليه سبيلا. ثم قامت في عجلة وهي تتصنع الاهتمام بإعداد العشاء.
ومرت أيام كان فيها المتنبي يزور كافورا في كل يوم، ويلقى من بشاشته وكرمه ما يغرس المحبة في القلوب، ولكن هيهات! فإن المتنبي لا يريد مالا، ولا يريد بشاشة، وإنما يريد من الأيام ما لا توده، ويسعى إلى منهل يعجز الطير ورده، وكان يلتقي في أثناء هذه الزيارات بابن الفرات، فيلبس كل منهما لصاحبه غير وجهه، ويتحدث بغير ما في قلبه، وكثيرا ما شهد المتنبي وفود الشعراء وطلاب الحاجات وهم يردون على ساحة كافور، وحدث مرة أن كان في حضرة الأستاذ وإلى جانبه أبو إسحاق النحوي، فدخل الفضل بن العباس على كافور يحييه، وما كاد يقول: أدام الله أيام سيدنا، حتى خفض «ميم» الأيام، فابتسم من بالمجلس، ولحظ كافور ابتسام القوم فابتسم، ووقف أبو إسحاق يعتذر عن الفضل ويقول:
لا غرو إن لحن الداعي لسيدنا
وغص من دهش بالريق والبهر
فتلك هيبته حالت جلالتها
بين الأديب وبين القول بالحصر
فإن يكن خفض الأيام عن غلط
نامعلوم صفحہ