هذه لا يصح أن تأتي إلا في البداية، ولا بأس أن ينتهي بها الخطاب. أما ما بينهما فمن الخطر أن يتفكه بنكتة أو يتزين بطرافة. والنكتة على المنبر هي أكبر مغامرة، خصوصا وأن مكانها صدر الخطاب. وليس من منظر أدعى للإشفاق من رجل فاه بين جمع بما توهمه فكاهة وعجز عن استثارة ضحكة أو ابتسامة. خل عنك إن حسبوا «النكتة» سماجة.
ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بتجاوب الجماهير؛ فلقد سمعتهم يقهقهون بعبارة حسبت أنها توحي كل شيء إلا الضحك، ورأيتهم يستقبلون بالصمت ما توهمت أنه فكاهة، غير أن على الموهوبين ألا يطغى إضحاكهم الجماهير على سائر عناصر الخطاب؛ مخافة أن يصبحوا ندامى ومرفهين لا خطباء مرشدين.
وفي الخطب التي ستقرؤها لا تجد أكثر النكات التي أفتتح بها خطاباتي؛ ذلك أنني أتناول الموضوع من المكان الذي أنا فيه ومن الحالة الراهنة؛ ففي إحدى الحفلات مثلا وقد أجلسونا على منبر؛ نواجه فيه النظارة، ورحت على عادتي أدخن السيكارة تلو السيكارة مما استلفت النظر، وقفت وقلت: «سيكون خطابي قصيرا، لا لأنني أكره الكلام، بل لأن الكلام يمنعني عن التدخين.»
وفي موقف آخر، قدمني عريف اشتهر عنه أنه صديق لي حميم، وقبل أن ينتهي من الكلمة التي قدمني بها شرب من الكأس التي توضع عادة على المنابر، فافتتحت خطابي بقولي: «إن العريف شرب من الكأس حتى يؤكد لي أنها غير مسمومة.» وملأت الكأس وشربت منها. وفي الموقفين كانت النكتة ناجحة.
أما الجمهور، فهو على أشد جموده متى احتشد ب «علية القوم»؛ فهؤلاء في غالب الأحيان يذيعون تفوقهم وعلية قومهم بوقار لا يغوص في الأرض ثقلا؛ لأنه مرتفع إلى السماء السابعة ببالون رأس نفخته غازات التفكير. وهم يجلسون وكأن الخطيب ماثل بين أيديهم يدافع عن نفسه بتهمة الخيانة العظمى.
وفي هذه البلاد مناطق حيوية لعل أشدها فورانا مدينة طرابلس، ومناطق جمود لعل أشدها صقيعا رأس بيروت.
وعلى الخطيب أن يحترم سامعيه، ويكسب ودهم، بأن يخاطبهم جميعا، فلا يركز نظره على فئة واحدة منهم، بل يجول بنظره فيهم جميعا، فيشعر كل واحد أن الكلام موجه إليه. يساعد الخطيب أن يكون له في القاعة أصدقاء وأنصار، على ألا يتكلف هؤلاء التحبيذ والتصفيق.
وأسرع الطرق إلى الانتحار أن يكثر الخطيب من وقفاته، أو يعتاد الناس إلى دعوته «إلى كلمة تليق بالمقام» في كل مناسبة، وبعد كل وليمة، وفي كل عرس، وعلى رأس كل ميت.
هذه هي بعض نواحي الخطابة الإيجابية على ما علمتني إياه التجارب، وقد أغفلت الناحية السلبية، فمن البديهي أن الانفعال الذي يسيطر على المدرسة القديمة يجب أن نقلع عنه. كذلك ما اعتاد الكثيرون أن يغنوا خطاباتهم أو يزولفوها أو يزمروها أو يصفروها أو يطبلوها.
وكذلك يجب أن ننقطع عن الرياء في تملق القرية أو المدينة التي نخطب فيها، وأن نقلع عن عادة التغني بأشخاص محليين أو رسميين.
نامعلوم صفحہ