كلمة العريف
أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين
كل مواطن خفير
يا عمر
خطاب يبحث عن موضوع
أنا لبناني ... فأنا عربي
القرميدة المكسورة
حدثني الكاهن الذي عرفه
برنيطة من كفر شيما
أمين تقي الدين ... موته اغتراب
علمتني الحياة
على أعتاب هيكل
قافلة جمال
الأعمدة السوداء
لنصغ إلى همسة الضياء
جبهة الحياة
بنو بكر وبنو شيبان
كلمة العريف
أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين
كل مواطن خفير
يا عمر
خطاب يبحث عن موضوع
أنا لبناني ... فأنا عربي
القرميدة المكسورة
حدثني الكاهن الذي عرفه
برنيطة من كفر شيما
أمين تقي الدين ... موته اغتراب
علمتني الحياة
على أعتاب هيكل
قافلة جمال
الأعمدة السوداء
لنصغ إلى همسة الضياء
جبهة الحياة
بنو بكر وبنو شيبان
سيداتي سادتي
سيداتي سادتي
تأليف
سعيد تقي الدين
كلمة العريف
لم أستطع أن أنطق مع أن فمي كان غير مطبق، وراح يقصف أذني بمحاضرة ختمها بقوله: «نعم، إن هذا ضروري، ولكن من الواضح أن ليس في قدرتك دفع ثلاثمائة دولار.» ثم عاد فمزق بعينيه أثوابي العتيقة من جديد.
ولقد كنت في حياتي مرارا كثيرة هدفا للؤم في الكلام والنظرات، غير أن كلماته هذه ونظراته سجلت في مضمار الخسة رقما قياسيا جديدا.
كان ذلك شهر نيسان من سنة 1945 في «مانيلا» عاصمة الفلبين. وكان المحاضر الدكتور «كروس» يطوف بين أسناني فيما أنا فاتح بوابة فمي. ونحن كنا قد نجونا من جهنم حرب احتجنا خلالها إلى كل شيء: إلى المال، إلى الطعام، إلى معجون ينظف الأسنان وفرشاة، فأصبح عاج أسناني بما انبث فيه من تفتت وفساد كأنه النظام السائد في لبنان.
فلما زرت الدكتور «كروس» أراد أن يتصيد الثلاثمائة دولار، فتحدى كبريائي بكلامه، مشيرا إلى أن أسناني كلها يجب أن تغادر فمي.
وما كنت لأعترض لولا حنين للعودة إلى بلادي، وعزم على أن أقتلع نفسي من مغتربي من غير أن تقتلع أسناني من فمي؛ فلقد كنت أتحرق على أن أرجع لأقوم بأعمال كبيرة أحدها الخطابة.
وليست الأسنان كل الخطابة ، ولكنها بعض العتاد؛ لذلك عصيت الطبيب - وكان غير صادق - ورجعت إلى وطني متوهما أن في فمي وقلبي معدات المنابر مستكملة، فكان كتاب «سيداتي سادتي».
ولكن ما الخطابة؟
في رأيي إنها إقناع أو اقتلاع.
فالخطيب الناجح هو الذي يمحو من أفكار مستمعيه ما يود أن يقتلع، أو هو الذي يعزز في أذهانهم ما يرغب أن يبشر به. وما هو بالناجح من سرى له صيت أنه «خطيب مفوه» عظيم من غير أن يفوز منهم بغير الإعجاب.
وإن الناس متى أجمعوا تتدنى نفسيتهم فتدنو إلى الغريزة الحيوانية؛ فلا يعود بالصعب على من تخدر ضميره أن يطلق من رئتيه أرياحا تلولب فراشة لسانه بسرعة تثير عواصف التصفيق. ومن كان هذا همه سهلت مهمته فنشر أمام النظارة قوس قزح يبهر، أو وضع في أيديهم مسابح للتسلية، أو بث في القاعة مخدرات من دخان الأفيون.
وما هو بالعسير على من يريد أن يبحث الخطابة أن يأتي بمختلف الوصفات والتعاليل، وقد تكون كلها صادقة أو كلها كاذبة؛ لذلك أقتصر الكلام على اختباراتي الشخصية، وما علمتني التجارب على المنابر، وما درست على الجماهير.
فإني قبل أن ألقي الخطاب أتحرى أبدا أن أزور المكان أو القاعة حيث دعيت إلى الكلام، فما أبقى غريبا ترعشني الرهبة في يوم الحفلة. وللمكان علاقة بالخطاب خفية لا أقدر أن أصفها، ولكنها موجودة.
وأجهد ألا أجلس على المنبر مواجها الجمهور قبل إلقاء الخطاب. هكذا يبقى في النظارة تشوق للمفاجأة الجسدية التي تمحى إذا ما استعرضوا الخطباء على المنبر قبل أن يتناوبوا الكلام.
وينبغي أن يحترم الفن المسرحي؛ فأنا بدين طويل، إذن فإني أبدا أحرص على أن يكون أمامي طاولة تحجب ضخامة جسدي حتى لا يشرف على الجمهور إلا الرأس والصدر، ولو أني قصير لرقيت ما يجعلني أطل على الجمهور فارعا.
وإن أكثر حفلاتنا تزدحم بالخطباء؛ فزملاؤك على المنبر يخلقون جوا يلائمك أو يزعجك. فإني قبل أن أقبل دعوة أبدا أتثبت من رفقائي من هم. وليس من رفيق أشد خطرا على الخطيب من الخطيب الشاعر ، فموسيقاه أبدا تطمس نثر الكلام، فاجهد ألا تعتلي منبرا عليه شاعر.
أما الموضوع الذي يجب أن تطرقه، فهنالك آفاق لا تحد. إنها تجارب الحياة، وصفو الدراسات، وخلجات القلب، ونداءات المجتمع، وكياسة المناسبات؛ كلها تفرض وتوحي.
وأما صياغة الكلام فيجب أن تتوافق مع المعاني وتتموسق مع الأنفاس. أنا قصير النفس، فعباراتي بحكم الطبع قصيرة. هذا ما لا ينتبه إليه الكثيرون؛ إذ هم يدبجون خطبهم، لا فرق بين تركيبها وبين صياغة مكتوب تعزية أو مقال في جريدة.
وأهم ما في صياغة الخطاب وضوحه وتبلور معانيه في كلمات نافذة؛ حتى ليفهمه كشاش الحمام، ويستهوي أساتذة الجامعة. ويجب أن يكون وحدة ليمسي رسالة. ومن المباح، بل من المستحب أن تلجأ إلى صناعة التجميل وحيل البيان، فلا بأس من سجعة بعد سجعة. ومن المحتم أن تشرئب اللغة بنهوض الفكرة، وتعصف الكلمات حين استثارة العاطفة. والترجيع - سر أكثر فنون الأدب - يجب استعماله في الخطابة، فإنما الخطابة هي أحد فروع المسرحية.
والإلقاء كيف يجب أن يكون؟ قراءة، أم بعد حفظ؟
يقول لي الأستاذ إنعام رعد - وهو، في رأيي، اليوم قيدوم الخطباء في لبنان: إنه إن دون خطابه أعياه إلقاؤه. فهو يرتجل أفصح مما يقرأ؛ لذلك أعتقد أنه من الصعب أن نطلق قاعدة تنطبق على كل الخطباء. وبعد، فالخطابة فن لا قدرة لنا على أن نقيده أو نقوننه. للنابغ - إنعام رعد مثلا - أن يقف على قدميه ويطلق لسانه بالفصيح والمقنع والطريف، ولكن سائرنا ما أعطوا هذه المواهب. والمعترف به أن أفعل أنواع الإلقاء هو ورقة تقرأ منها ولا تقرؤها. وأنت تقرأ منها إذا استظهرت بعضها لا كلها، فلا مفر من التمرن على الإلقاء طويلا قبل الصعود إلى المنبر. ولكن أن يتملك الخطيب كلماته ويسيطر عليها بحيث يبغبغها، فلا إجادة حينئذ في الإلقاء؛ إذ يصعب على الكلمات إن لم تفعل في نفس القائل أن تفعل في نفس السامع.
والنكتة؟
هذه لا يصح أن تأتي إلا في البداية، ولا بأس أن ينتهي بها الخطاب. أما ما بينهما فمن الخطر أن يتفكه بنكتة أو يتزين بطرافة. والنكتة على المنبر هي أكبر مغامرة، خصوصا وأن مكانها صدر الخطاب. وليس من منظر أدعى للإشفاق من رجل فاه بين جمع بما توهمه فكاهة وعجز عن استثارة ضحكة أو ابتسامة. خل عنك إن حسبوا «النكتة» سماجة.
ويكاد يكون من المستحيل التنبؤ بتجاوب الجماهير؛ فلقد سمعتهم يقهقهون بعبارة حسبت أنها توحي كل شيء إلا الضحك، ورأيتهم يستقبلون بالصمت ما توهمت أنه فكاهة، غير أن على الموهوبين ألا يطغى إضحاكهم الجماهير على سائر عناصر الخطاب؛ مخافة أن يصبحوا ندامى ومرفهين لا خطباء مرشدين.
وفي الخطب التي ستقرؤها لا تجد أكثر النكات التي أفتتح بها خطاباتي؛ ذلك أنني أتناول الموضوع من المكان الذي أنا فيه ومن الحالة الراهنة؛ ففي إحدى الحفلات مثلا وقد أجلسونا على منبر؛ نواجه فيه النظارة، ورحت على عادتي أدخن السيكارة تلو السيكارة مما استلفت النظر، وقفت وقلت: «سيكون خطابي قصيرا، لا لأنني أكره الكلام، بل لأن الكلام يمنعني عن التدخين.»
وفي موقف آخر، قدمني عريف اشتهر عنه أنه صديق لي حميم، وقبل أن ينتهي من الكلمة التي قدمني بها شرب من الكأس التي توضع عادة على المنابر، فافتتحت خطابي بقولي: «إن العريف شرب من الكأس حتى يؤكد لي أنها غير مسمومة.» وملأت الكأس وشربت منها. وفي الموقفين كانت النكتة ناجحة.
أما الجمهور، فهو على أشد جموده متى احتشد ب «علية القوم»؛ فهؤلاء في غالب الأحيان يذيعون تفوقهم وعلية قومهم بوقار لا يغوص في الأرض ثقلا؛ لأنه مرتفع إلى السماء السابعة ببالون رأس نفخته غازات التفكير. وهم يجلسون وكأن الخطيب ماثل بين أيديهم يدافع عن نفسه بتهمة الخيانة العظمى.
وفي هذه البلاد مناطق حيوية لعل أشدها فورانا مدينة طرابلس، ومناطق جمود لعل أشدها صقيعا رأس بيروت.
وعلى الخطيب أن يحترم سامعيه، ويكسب ودهم، بأن يخاطبهم جميعا، فلا يركز نظره على فئة واحدة منهم، بل يجول بنظره فيهم جميعا، فيشعر كل واحد أن الكلام موجه إليه. يساعد الخطيب أن يكون له في القاعة أصدقاء وأنصار، على ألا يتكلف هؤلاء التحبيذ والتصفيق.
وأسرع الطرق إلى الانتحار أن يكثر الخطيب من وقفاته، أو يعتاد الناس إلى دعوته «إلى كلمة تليق بالمقام» في كل مناسبة، وبعد كل وليمة، وفي كل عرس، وعلى رأس كل ميت.
هذه هي بعض نواحي الخطابة الإيجابية على ما علمتني إياه التجارب، وقد أغفلت الناحية السلبية، فمن البديهي أن الانفعال الذي يسيطر على المدرسة القديمة يجب أن نقلع عنه. كذلك ما اعتاد الكثيرون أن يغنوا خطاباتهم أو يزولفوها أو يزمروها أو يصفروها أو يطبلوها.
وكذلك يجب أن ننقطع عن الرياء في تملق القرية أو المدينة التي نخطب فيها، وأن نقلع عن عادة التغني بأشخاص محليين أو رسميين.
ومن المستحيل أن نصف كتابة كيف يجب أن يكون الإيماء. وكالعادة، فأساطين الفن يخلقون القواعد أكثر مما يطبقونها.
ولعل أنفع ما اصطحب الخطيب إلى المنبر اسم كبير وشهرة تتقدمه ...
سعيد تقي الدين
أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين
القاعة صغيرة، ولكنها ملأى. نحن في طرابلس بدعوة نادي المرشدات. وقد جاءت المديرة تطلب محاضرة. إنها لا تريد خطابا، ولا حديثا، ولا كلمة، ولا نقاشا، ولا حورا، إنها تريد محاضرة.
وطرابلس مدينة تطيب فيها الخطابة؛ فجماهيرها لا تتثاءب ولا ترقد في عصمة الوقار، وهي تتعشق الكلمة فتحفظها وترددها.
28420 مرة دعيت إلى الاستماع لمحاضرة.
و28420 مرة لم أستمع لمحاضرة.
28421 دعيت لإلقاء محاضرة.
28421 مرة اعتذرت عن إلقاء محاضرة.
المحاضرة، ما المحاضرة؟
إنها خطاب يتثاءب ويتمطى.
إنها عبارة فتحت فمها ثم نسيت أن تطبقه.
دجاجة تمروح ذيل طاووس. إنها خطبة تلبس ردنكوت. هي ألفاظ لها لحية ولها كرش. هي حبات «غاردينال» كلامية تقتل الأرق وتجلب النعاس. إنها لغة كاوتشوكية. إنها بالون ينفخ فيه أستاذ.
وعلى الصعيد الفردي ليس لي على «المحاضرة» إلا شرطان؛ الأول: ألا أسمعها، والثاني: ألا ألقيها.
ومن الواضح أن في كلامنا هذا - وأستعمل نون الجمع لأننا محاضر - شيئا من الغلو، ففي الأبحاث ما لا يشرح إلا بمحاضرة، وفي الناس اختصاصيون يستطيعون مناقشة الأمور وإيضاحها خلال ساعة أو أكثر ، ولكن هذا الطوفان من المحاضرات من بعض أسبابه حب الظهور، وزيف الثقافة، والتدجيل الكتبي.
نعترف لجورج حكيم مثلا أنه يحاضر في القطيعة بين لبنان والشام، ويشوقنا أن نصغي لبلطجي يقص علينا تاريخ مرفأ بيروت وحركة السفن فيه. ومن النافع أن يلقي فينا محاضرة إبراهيم عبد العال عن مشروع الليطاني.
أما أن يتصدى كل واحد منا - كما شاع أخيرا - لمعالجة الأبحاث الاجتماعية على أنه فيها مرجع وثقة؛ حاشدا في معرض كلامه أسماء مفكرين عالميين، ففي هذا جناية على الحقيقة. وهذا التزييف يا طالما أنزل ببلادنا الويلات!
أقول هذا بعد أن ظهر أن إلقاء المحاضرات صار أداة للتبرج والتضخم، ولتشويه العلوم؛ فليست الشهادة الجامعية (باسبورا) يدخل كل من حمله إلى جنة المعرفة؛ فكل موضوع تعرف إليه أحدنا ليس له من أهمية إلا بعد أن يتفاعل في نفسه، ويعجن بالتجارب الشخصية، والملاحظات الشخصية، ثم يتجوهر بالتفكير الأصيل، ويصقل على وجه الاختبار.
ولقد تبين أن الكثيرين من محاضرينا يبدءون أولا برش العطور على المكان الذي يحاضرون فيه، ونثر الأزاهير على جبين من دعاهم إلى الكلام، ثم يعترفون بتواضع مصطنع أن هذا الميدان الذي نزلوا إليه أوسع من أن يجولوا فيه خلال ساعة أو ساعتين، ثم يستعرضون أسماء عالمية، وكتبا يقولون إنهم طالعوها، ثم يسردون بتيه ودلال حوادث شخصية، فإن كان أحدهم اقترب من «تشرشل» 34 كيلومترا ذكر: «في السنة الماضية، حين قابلني تشرشل.» وإن كان قد درس في جامعة «كيلوتسكي»؛ من أعمال دولة «صفرانيا»، راح يقص أمر مناقشة جرت بينه وبين الدكتور «جهيروز»؛ الأستاذ الاختصاصي في «علوم شروق الشمس عند المغيب وعلاقتها باستئناف الحرب في كوريا». هكذا يضفي محاضرنا جوا علميا مزيفا على الفلسفة، فيلقم سامعيه حقائق بديهية، ويستعرض ما فتح الله ورزق من عبارات انتشلها من هنا وهناك على أنها من صوغ دماغه.
وإنها كلمة جد: إن أكثر المحاضرات التي غمرت «بازار» الثقافة في بيروت كانت لها أضرارها؛ لأنها ضخمت شأن بعض الناس الذين ليس لهم تفكير أصيل، ونشرت الفوضى الفكرية، وأشبعت الأثرة في بعض حملة الشهادات والسياسيين، والمشتغلين بذلك الفن المبهم الذي يدعى «أدبا»، وشلت إمكانية بعض فتياننا الذين لو لم يفسح لهم سبيل المجد الموهوم على المنابر، لطلبوه عملا فعالا بين مواطنيهم، أو ثقافة صحيحة ينبتها التفكير الهادئ، وتفولذها التجارب، وتعتقها وتغذيها الأصالة.
وتنطبق هذه الملاحظات بشكل أدق على الأبحاث الاجتماعية والسياسية. كثيرا ما نسمع مثلا: «والمعلوم أن القبائل إن فعلت كذا وكذا صار كذا وكذا» أو «من المعترف به أن الحكم الجمهوري إذا نزل به كذا وكذا وصار الملك كيت وكيت لنشأت عن ذلك الحالة الفلانية.»
والحقيقة أن السياسة والاجتماع والتاريخ ما هي بمعلوم بالمعنى الدقيق؛ إذن فليس لأحد أن يقول: «إن المعترف به» أو «المعلوم» أو «المسلم به.» إن الاجتماع ما هو بمعادلات جبر، وأربعة أربعة في السياسة والاجتماع ما كانت ولن تكون ثمانية. هناك كميات مجهولة، هناك كثير من ال
X . هناك عامل الإنسان بعاطفته وجشعه،
ال
X .
وليس غرضي اليوم أن أهدم بالتهكم محاولات بعض محاضرينا. قد تكون هذه المحاضرات محاولة صادقة لاستعراض مواطن الضعف فينا ووصف علاجها، ولكن هذا الأسلوب - لأنه في غالب الأحيان يتوخى الأهداف الضخمة - قد يكون صدى لأحلام الضعف النفسي المتوطن في كثرتنا؛ فنحن نرقب مستعجلين حصول العجيبة التي تنقذنا، بل في كثير من الأحيان نطلب هذا العون من مصادر غريبة عن نفوسنا نحن. وهذه الأحلام الأفيونية هي تلازم الضعف، فلا عجب أن تأتي المواضيع التي يعالجها أكثر كتابنا وخطبائنا ومحاضرينا من النوع الضخم. من أجل هذا، يظهر من يدعون النبؤات. وفي حالات هذا الضعف تروج الرقى، وتزدهر تجارة «البصارة براجه». وبعض من شاع عنهم أنهم مفكرون هم في حقيقة الأمر منجمون. وبعض محاضراتنا هي رقى تصفها «البصارة براجه»، والفرق بين عقلية «البصارة براجه» وبين العقلية الواقعية العملية يتضح لمن يكثر الاختلاط بالأجانب، فيتسنى له المقابلة بين ما يعالجون من المواضيع وما يعالجه مواطنونا.
تسمع الأجنبي - وهو عادة مواطن دولة تركزت واستقرت - يتحدث عن قنينة حبر ، عن برغي، عن كرسي، عن صندوق خشب، أو كتاب. وتسمع الكثيرين من مواطنينا يعالجون 23 موضوعا في أربع دقائق، فيختصرون الحالة الدولية، ويقابلون بين قوى المعسكرين الغربي والشرقي، ويشرحون أفعل السبل لتحسين زراعة البطيخ، وكيف يجب أن يحدد الاستيراد، ثم يصفون طريق استرجاع فلسطين. ما سبب البون الشاسع بين التفكير الأجنبي - أو لنسمه الغربي - بحوادث معينة ومواضيع هي في نظر الكثيرين منا تافهة، وبين تفكير أكثرنا في الشئون الضخمة من عالمية ومحلية؟
ما السبب؟
كأكثر الأمور، هذه المشكلة ليس لها سبب واحد، بل عدة أسباب نقتصر منها على ذكر سببين؛ الأول: أن مواطن الدول الأجنبية لا تواجهه الصعاب التي تواجهنا؛ ففي ميدان السياسة الخارجي له حكومة هو انتخبها، وهو يثق بها، تكفيه عناء التفكير فيما قد يواجه دولته من مخاطر، وفي الميدان الداخلي يجد أن نظامه قد حل مشاكله الأساسية من حقوق متساوية أمام القضاء، وضمان اجتماعي هو متوفر في أكثر الدول المتمدنة على درجات متفاوتة بالطبع. ولعل السبب الثاني والأهم هو أنه مواطن دولة قوية، ومجتمع مستقر ثابت صحيح، فليس هو من الضعف بحيث يحلم بالعجائب وينادي على كل «بصارة براجه».
في الدقائق الباقية سآتي على ذكر بعض هذه التوافه التي هي في نظري هي هي الهامة.
حين ينتسب مواطن إلى جيش دولته، يعلمونه أولا كيف يجب أن يربط شريطة «صباطه»، وكيف يجب أن يلقي التحية، ويدققون في أهمية تنظيف حذائه؛ ذلك لأن الخبير العسكري يعرف أن هنالك علاقة مباشرة بين ربح المعركة، بل وربح الحرب، وبين معرفة ربط شريطة «الصباط».
أما عندنا فبعض ملوك الكلام، وبطاركة الأفكار، وفرسان المحاضرات، يقتحمون المعارك، ويربحون الحروب من غير جنود، أو بجنود لا يحسنون ربط شريطة «الصباط».
هذه الملاحظات ما هي بتخطيط عام، بل الغاية من ذكرها هو إثارة التفكير لإعادة النظر بكثير من عاداتنا، والتأمل في كيف أن هذه التقاليد التي مشينا عليها تؤذينا، وكيف أنه لا بد عند التعبئة العامة من التشديد على تمحيص ما لا نأبه له عادة، أو ما افترضنا أنه صحيح بسبب أننا درجنا على ممارسته.
هو ذا بعض هذه الملاحظات: (1)
فلان بيته مفتوح: بيته مفتوح؟ ما معنى هذه العبارة؟ أفندم! نعم، بيته مفتوح؛ يعني أن صاحب البيت يستقبلك في بيته. ما أهمية هذا؟ يعني أنه يقدم لك قهوة وحبة شوكولاته، ويلح عليك بالدعوة للطعام. ما أهمية كل هذا؟ لماذا هي فضيلة أن يكون بيته مفتوحا؟ أنا أفضل أن يبقى بيتي مقفلا. من له شغل معي فليتفضل إلى مكتبي، وإن شرف البيت فلتكن إقامته قصيرة، ولا ينتظر فنجان قهوة إلا إذا جاء بدعوة. الحياة ثمينة، وأغلى من أن تهدر بأشياء لا معنى لها، وقيم الحياة هي أثمن من أن تخمن بهذا الذي لا معنى له، ويذاع على أنه فضيلة؛ فضيلة البيت المفتوح. (2)
الإشاعة: كم جندلت الأقوال الكاذبة من ضحايا! وكم رفعت شأن رجل لا يستحق أن نتطلع إليه حتى بمنظار! يسود بيننا اعتقادات خاطئة تحرمنا من احترام من يستحقون الاحترام، وتحفزنا إلى الابتعاد عن مبادئ من أقل واجباتنا أن نفحصها قبل أن نعتنقها أو نرفضها. كم مرة نسمع «فلان آدمي؟!» «شو آدميته؟ ما حدا بيعرف.» فلان زلمة الإنكليز. ما هو البرهان؟ «هيك! كيف هيك؟ هيك!» إني أتكلم عن اختبار شخصي حين آتي على ذكر شارل مالك. لقد ساد الاعتقاد فيما مضى أن هذا الرجل هو عميل أميركي «ليش؟ هيك!» هل فحص أحد متهميه مواقفه وأقواله فانتهى إلى ما يثبت هذا الاتهام؟ لا، شارل مالك ضد العروبة، هو صنيعة الأميركان. لو أنه أضعف شخصية، أو لو أن له مكانة محلية بدلا من منزلة عالمية لكانت الإشاعات قتلته. ولما كنا اليوم ننتفع به كناطق مؤتمن باسم الدول العربية. وعلى الصعيد الإيجابي، نجد أننا نسمع بفلان مثلا أنه محسن كبير وأبو الفقير. أي إحسان؟ أين المستشفى الذي شاده؟ أو التلامذة الذين علمهم على حسابه؟ لا أحد يعرفهم، إنما يعرفون أن فلانا أبو الفقير ومحسن كبير. (3)
نحن والأجانب: بيننا طبقة حقيرة النفوس يتملقون الأجانب بذم مواطنيهم. لا أعرف بلدا في الدنيا يجرئ الأجنبي أن يتنقص علنا من ساكنيه مثلما يفعل الأجانب عندنا في لبنان. إنني بعد اختبار ست سنوات في هذه الجمهورية، أجد - عن معرفة - أن اللصوصية موجودة بيننا وبين القليلين من مواطنينا، ولكن اللصوص الضخام وأسياد الصفقات الكبرى من الناهبين والسالبين هم أجانب لا وطنيون. مع كل هذا، نسمح للأجانب أن يتنقصوا منا علنا. وقليلون بيننا من لهم الكرامة الوطنية والجرأة أن يوقفوا الأغراب عند حدهم، بل نحن نجد أننا في كل جلسة نجتمع بها إلى الأجانب تسابقا إلى التزلف لهم بالقدح من بلادنا ومواطنينا. وهذا ما يشجع الأجانب على احتقارنا، والإمعان بسلب حقوقنا. هذه الخيانة التي يقترفها أكثرنا من امتهان بني قومهم كلفتنا وتكلفنا الكثير من المال ومن الكرامة. (4)
الأديب: في معتقدنا السائد شيء خاطئ، إعجاب لا مبرر له بالأديب من كاتب أو شاعر. نتوهم أن الأديب مؤهل لأن يصبح وزيرا أو مدير كمارك، أو أي شيء. الحقيقة أن الأديب في أكثر الأحيان هو رجل يحسن الكتابة، كما أن الحلاق هو رجل يحسن الحلاقة. وهذه الهالة من الإعجاب والتكبير التي انتشرت حول الأديب كأديب يجب أن تمحى كي تستقيم موازيننا. (5)
الكلمة المطبوعة: كذلك في نفوسنا عبودية للكلمة المطبوعة وللكتاب. إن الذي يعرف كيف تحرر الصحف والمجلات، وكيف تؤلف أكثر الكتب يزول من نفسه التقديس للكلمة المطبوعة. وهذه الحقيقة تنطبق بشكل أصدق على ما يظهر في بلادنا من كتب وصحف ومجلات. (6)
بعض تفكيرنا الحقير: لماذا نعتقد أن غناء جارنا هو تحد لنا؟ لماذا نتوهم إن أطلق فلان سهما ناريا فإنما يفعل ذلك نكاية فينا؟ لماذا التفكير الحقير؟ أسمع البعض يصيحون أن مكبرات الصوت تركب في الجوامع نكاية بالمسيحيين، وأن الصلبان المنتشرة على الطرقات إنما قامت هناك لوزوزة عيون المحمديين. إن القرآن الكريم في إيمان الملايين هو رسالة منزلة من الله. وهو في إجماع البشر كتاب عظيم يحتوي على التبشير الإنساني الرفيع. إني أشتهي أن أسمع التجويد لا خمس مرات في النهار، بل خمسين مرة، وأصغي إلى التجويد بخشوع ورفعة.
والصليب ؛ إنه رمز الإيمان والفداء، والشعار المقدس لمئات الملايين من البشر؛ فرؤية الصلبان توحي في النفس المحبة، ولا توقظ البغضاء. إذن لماذا أثور أنا المسيحي لسماع الآذان في مكبرات الصوت، وأغضب أنا المحمدي لرؤية الصلبان على الطرقات؟ إن كان بيننا من يلوح بالشعائر الدينية لإيقاظ الأحقاد الراسبة؛ فالسبيل لمقاومة ذلك هو أن تقبل هذه الشعائر كما وجدت، كما يجب أن تكون مصدرا للود والإخاء والتأمل. (7)
الوقار وفروعه: ومن الفضائل التي لا قيمة حقيقية لها هو ما يسمى الوقار؛ كأن الفكر أو الشخصية أو القيم السامية لا تثبت إلا إذا تردت العبوس، وتهادت في كلمات موزونة كأنها
Quota
النقد النادر، ويتفرع من الوقار نقائص كثيرة حتى اختلط علينا الأمر، فصرنا نحسب أن الشراسة شجاعة، وصار تقطيب الحاجبين والنظرات النارية مقياسا للبطولة. والحقيقة التي أثبتتها تجارب الحروب أن الشرس هو في أكثر الأحيان جبان في المعركة، وقد يكون بطاشا في «المشاكل»، وأن اللطيف المتواضع هو الجندي الأمثل. (8)
الأدب القديم: آداب العربية التي درسناها والتي لا تزال تدرس وتسري أمثالا على ألسنة الناس يجب إعادة النظر فيها، ويجب على الأمهات والآباء والمدارس في بلادنا أن يقوموا بحملة في هذا السبيل. وإن كان نظام التربية عندنا خاطئا، فيجب علينا أن نصلحه نحن في البيت والمعهد، وبتوضيح الأمور لناشئتنا. يجب أن يفهم أولادنا حين يقرءون أشعار الأخطل والفرزدق والخطيئة أن الهجاء قذارة عقلية، وأن إنشاد الشعراء في حضرات الملوك والخلفاء والأمراء هو تسول وذل، وأن هؤلاء حين كانوا يأمرون بالهدايا والأموال إنما كانوا ينهبون أموال الشعب لإرضاء أثرتهم وغرورهم، وأن التفاخر بالأجداد وبالأعمال هو قلة ذوق، وأن كل هذه النقائص لا تزال متفشية في مجتمعنا لأسباب كثيرة، من أهمها أن كتب الآداب عندنا لا تزال تعمر بهذه النقائص مرتدية أثواب دور النشر في طبعات جديدة. (9)
شرفونا على سهرة: في بلادنا مؤسسة يجب هدمها. هذه المؤسسة اسمها السهرة. سيران في صالون. ساعات ساعات نهدرها حلقة مفرغة نطوف بها على أصدقائنا، ويطوف خلالها أصدقاؤنا علينا. وكما أن الأرض ومواردها هي ثروة الأمة لا يحق لأحد أن يهدرها أو يتلفها، كذلك يجب أن نعلم أن وقت المواطن منا هو أيضا ملك الأمة لا يحق لأحد منا أن يضيعه. وإنه لهادر للإنتاج من يسحق وقته حديثا حديثا وكلاما كلاما في سهرات لا تنتهي مع أصدقائه وجيرانه. نحن لا نستطيع التغلب على اليهود حتى ولا مقاومتهم إن كان أثمن ما نملك - هذا الوقت - نرميه كأنه شيء لا قيمة له.
سيداتي سادتي:
ما هي مصادفة أننا ضعفاء. هذه البلاد أثبتت كبرها وقوتها خلال ألوف السنين. وحالتنا من الضعف اليوم والاستخذاء لها أسبابها، وإني لم أحاول اليوم شرحها ولا علاجها. ولقد أعطيت أمثلة قليلة على أن بعض الطريق لنجاتنا، وتحقيق مصيرنا، وتجسيد أمانينا هو موقف فكر ثوري يعيد النظر في عاداتنا الاجتماعية. هذا الموقف يحتم علينا أن ننظر إلى كل ما نحن فيه من أنظمة نظرة موضوعية جديدة. ونحن لا نستطيع أن نتطلع إلى مشكلاتنا ولا أن نحلها إلا إذا أقبلنا بجرأة وتعر على تفقد قوانا، والتخلص بحزم وانتفاضة من كل ما يكبلنا، وإلا فما نحن بمخلصين. نقطة الانطلاق ليست النظر إلى جزئيات الأمور ولا توقع العجائب. كل واحد منا يجب أن يحيا في جبهة قتال. وليس من المعقول أن نربح الحرب الكبرى إن كنا نخسر في كل جبهة من جبهاتنا الصغرى.
لا أعتذر عن قصر هذا الحديث. مهمة الثقافة - ومنها إلقاء المحاضرات - هي ألا نسلم الناس الفكر رزما مضبوبة، ولا أن نقدم الفكر برشانة يبتلعها السامع. مهمة الثقافة - ومنها إلقاء المحاضرات - أن نستثير الفكر، فيفعل كل عقل، وينطلق موجات مغرقا كل خرافة، متحديا كل افتراض، منضبطا في نظام المنطق، مستهدفا الغاية الكبرى: تقوية المجتمع.
أيها المواطنون:
قبل أن أتوقف، يتوجب علي أن أجيب على السؤال الذي هو موضوع هذا الحديث: ما هي أفعل الأساليب في مكافحة المحاضرات وقطع دابر المحاضرين؟
هل نقتلهم جميعا؟ لعلهم يستحقون أكثر من الإعدام!
هل نستصدر قانونا يمنع إلقاء المحاضرات؟ إن القوانين تشترع حتى تخرق. هل نرميهم في البحر ؟ قد لا يسعهم البحر. إذن كيف السبيل إلى القضاء عليهم؟ لعل أفضل الأساليب هي اقتباس قاعدة اقتصادية: تنزل قيمة النقد وتتلاشى حين يباح طبع الأوراق المالية. سبيل التخلص من المحاضرات والمحاضرين هي الإكثار منها ومنهم.
لهذا كانت هذه المحاضرة.
كل مواطن خفير
افتتح مؤتمر خريجي الجامعة الأمريكية في قاعة الأونسكو. وتصدر القاعة فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية، وخلفه صفوف الكراسي الفارغة؛ حيث كان من المفترض أن يجلس الساسة و«الوجهاء». كذلك تخلف عن المقصورات في أجنحة القاعة ممثلو السفارات والهيئات، إلا رجل يعتمر كوفية وعقالا، فهمنا بعد ثلاثة أشهر أنه جاء ممثلا لسماحة المفتي الحاج أمين الحسيني. أما المؤتمرون فلم يبلغ عددهم المائة والخمسين. وكنا خطباء ستة، أحدهم رئيس الجمهورية. وقد سبق انعقاد المؤتمر شائعة تهمس أن يدا أجنبية تسيره، وساد في مفهوم الناس أنه سيكون مظاهرة كلامية جديدة؛ لذلك جاءت كلمتي متواضعة مختصرة تحدد أهدافا صغيرة.
فخامة رئيس الجمهورية.
سيداتي وسادتي، أيها المؤتمرون.
سيكون نجاح هذا المؤتمر كبيرا إن استطاع أن ينفذ أعمالا صغيرة.
غاية هذا المؤتمر كما أذيعت وكما بحثت وكما خططت «قضايا العالم العربي».
وقضايا العالم العربي كيف عالجتها، وكيف استعرضتها، وكيف تهجأتها، وجدتها لفظة واحدة: فلسطين.
لقد احتل جنوب بلادنا ويحتلها عدو له حلفاء وله أعوان.
ومن حلفائه: تخاذلنا، وأحقادنا، وغرورنا، وتهربنا من مسئولياتنا.
وأكبر أعوانه أن الصراع فينا أصبح مهمة نكلها إلى سوانا. قال هذا المؤتمر لنفسه: «أبدأ بنفسي.»
ولقد اجتمعنا لنطمس خلافاتنا فنوحد جهودنا لعمل شيء، لا لنستعرض انشقاقنا، فنتصايح في عرس فصاحة ومهرجان انفعالات لعمل لا شيء.
ونحن مواطنون قبل أن نكون خريجين، فإن اجتمعنا اليوم كمتخرجين، فليس لنسور نفوسنا في برج عاجي جديد؛ بل لأن جمعية المتخرجين هدمت بعض الحيطان التي سورتنا فئات وأحزابا وشيعا. فهذا المؤتمر هو نقطة التقاء، وهو كذلك نقطة انطلاق نحو سائر الفئات والأحزاب والمنظمات.
قد نخرج بقرار ندعو به الجامعة العربية لنقل مقرها إلى القدس أو قبية أو نحالين، ولكن بعد أن نعقد مؤتمرنا في القدس أو قبية أو نحالين.
ويبتسم الهازئون: ماذا في وسعكم أن تفعلوا؟
نقول: إنه صفر من رسم حول نفسه دائرة الصفر.
لا أصدق أن في هذه الأمة فئة أو فردا تعجز أو يعجز عن المساهمة ولو بقدر قليل في دفع الخطر عن البلاد.
لقد اتخذت الجامعة العربية قرارات مقاطعة بعضها لا ينفذ.
هنا، الآن، نحن نراقب تنفيذها وننظم الفرق لها.
بعض أقطارنا ملأى بنشاط الجواسيس والمهربين. هنا ونحن والآن يجب أن نعاون السلطات على مكافحتها، وإن أعياها ذلك تولينا نحن بأيدينا مكافحة الجواسيس والمهربين والخونة. هكذا نوقظ روح الصراع فينا وفي مواطنينا حتى ليصبح شعارنا: «كل مواطن خفير.»
فالضمان الجماعي ينجح متى سانده ضمير حي فاعل جماعي.
يجب أن نثق من النجاح لأننا نثق بأنفسنا وببعضنا. وإن الجهد القليل القصير الذي بذل في التمهيد للمؤتمر أثبت أن في كل وسط ودائرة وبيت من يشعرون بالمسئولية ويتجندون لها. هذا المؤتمر يستفزهم وينظمهم.
سمعنا الكثير عن الخيانات في فلسطين، ولكننا أغفلنا أمر البطولات. من شعبنا من قاتل وناضل واستشهد.
ومن شعبنا من يقاتل اليوم في القرى الأمامية. هؤلاء لا يعوزهم الإيمان، ولا تعوزهم البطولة، بل تعوزهم الأسلحة. يجب أن نساهم في توفير الأسلحة لهم، فهم لا يدافعون عن بيوتهم في القرى الأمامية، بل هم يدافعون عن كل بيت من بيوتنا؛ أكان هذا البيت في الكويت، أو بغداد، أو دمشق، أو بيروت، ويدافعون عن القاهرة والرياض إذ يدفعون العدوان الصهيوني.
وتتلوى حية إسرائيل تفح أغنية المحبة في الشرق الأوسط على أنها هديل حمامة السلام. من هذه القاعة يجب أن نفهم الدنيا أنه فحيح الأفعى لا هديل الحمام ما يسمعون.
من هذه القاعة يجب أن نفهم أصدقاءنا الكثيرين في أنحاء الدنيا أننا نؤمن بصداقاتهم، وأن نفوسنا مشبعة بالمحبة لا تعادي ولا تستعدي.
هذا المؤتمر ما هو بصفر؛ لأنه لن يرسم حول نفسه دائرة الصفر.
كل مواطن خفير. سيكون نجاحنا كبيرا إن استطعنا أن ننفذ أعمالا صغيرة.
يا عمر
ألقيت هذا الخطاب في حفلة توزيع الشهادات في مدرسة الشويفات 1948. كان الجمع كبيرا جدا، وكانت كلمتي أولى كلماتي التي ألقيتها بعد عودتي من المهجر، ولم أكن واثقا حينئذ من مقدرتي على الخطابة. الجمع طغت عليه الصفة الدرزية؛ لأن «الشويفات» درزية. أعترف خجلا نادما أني أردت تملق الجمهور بمثل «بذلوها باعوها.» وهو تعبير درزي. كذلك دغدغته بالإشارة إلى ذكر بطل مجاهد اسمه حمد صعب. وقد تلقيت جزاء هذا النفاق؛ إذ اكتشفت بعد إلقاء الخطاب أن عائلة صعب كثيرة العدد في الشويفات، ولكن حمد صعب ما هو أحد العائلة، وليس هو من الشويفات، بل من «الكحلونية»، ثم اقترفت خطأ ثانيا، وهو أنني افترضت أن المتخرجين سيجلسون قبالتنا وجلسوا وراءنا. ولكن الخطاب كان ناجحا جدا بدليل ما تناقل الناس ورددوا من آرائه. والظاهر أن الخطب كانت قبل هذا عبارة عن هوائيات. نجاح هذا الخطاب بعث بي ثقة في النفس بعد انقطاع ثلاث وعشرين سنة عن الخطابة بالعربية، حتى - ولحد ما - التحدث بها.
أدير نظري بين هذه الوجوه النظرة فيؤلمني ألا أرى وجها حبيبا إلي هو وجه الفتى عمر.
إن عمر فتى لم تعرف هذه المدرسة له شبيها: عثليتي الجسد، وقاد الخاطر، جريء القلب، فصيح اللسان، ورع يعبد الله ويمشي على وصاياه ... إن عمر فاز بكل الجوائز المدرسية، وهو قافز إلى الحياة تواكبه قلوب عائلته ورفاقه التلامذة وأساتذته وكل عارفيه.
عمر هو ولدي، وهو ليس بينكم اليوم لأنه بقي حلما في خاطري، وبريقا في عيني، فلم يمن الله علي بغلام ذكر حلمت بتسميته عمر.
لو أن عمر ولد ابنا لي، وكان هذه الليلة بينكم، فما الذي كنت أود أن يسمعه؟ لعل أجدر بي أن أقول أولا ما الذي أريد ألا يسمعه؟
أود لعمر ألا يسمع خطابا داويا كل ما يترك في نفوس سامعيه صدى جميلا لكلام مبهم فخم.
إن من يتوخى التصفيق في الحفلات يفوز بالتصفيق. قليل من المديح، وشيء من الإشادة بالماضي، وبخمسة قروش عواطف. هذه روشتة الخطب الناجحة.
أريده أن يسمع نصائح صاغتها الحياة من دماء العيش ودموعه. كلاما صقله غبار الحياة ، وفيه بريق وحرارة ولدها احتكاك آلام الخيبة بأفراح الانتصارات.
فيا عمر ويا رفقاء عمر:
كلماتي التالية ستنقصها البلاغة ولن ينقصها الاختبار. لن تكون فخمة ولا جزلة، ولكنها مخلصة. كم مرة في سني الغربة قعدت فاشلا منهكا، ورفعت إلى الله عينين جريحتين أبتهل ولا أعاتب، بل ضارعا: «ربي يسر لغيري ما حرمتنيه ... رب أرسل لفتياننا من يرسم لهم خارطة الطريق فلا يتيهونها.»
فيا عمر ويا رفقاءه:
نصيحتي الأولى هي أن تقتنعوا أنه ليس عن الوقت من بديل ... طريق النجاح في معظم الأحيان طريقة موحشة صعبة طويلة، فلا تحاولوا اختصارها بدروب القادوميات غير المشروعة ... بدون ريب أن سوق الكميونات هو أقل ربحا من تهريب الحشيش. ولكن من يقترف منكم التهريب يتغلغل في خلايا نفسه سم من القلق الروحي لم يجدوا له بعد ترياقا.
بعد عودتي من غربة السنوات الكثيرة رحت أتطلع إلى وجوه رفاق الصبا؛ فأما من سرق وكذب وارتشى وداجى، فحول أحداقه وعلى جانبي فمه خشونة بصقتها نفسه شبه سم الأفعى، يطفو على أنيابها؛ إذ هي تحاول الدفاع عن السم الذي يجسدها بالسم الذي تنفثه، وأما من طهرت نفسه وعاش في أمن وسلام مع خالقه وضميره وجيرانه، فلقد طغت على وجهه موجة من الهدوء والثقة والصراحة.
كذب من قال لكم أنه فاز بالسعادة من فاز بالمال عن طرقه غير المشروعة.
عاشرت الأغنياء والأقوياء الذين سلكوا القادوميات، فإذا هم في معظم الأحيان يركضون هنا وهناك يحاولون ابتياع ما لا يشترى بمال: ذلك الهدوء الروحي الذي رأيتموه هنا في هذه البلدة على وجوه الكثيرين الذين لم يخافوا الدروب الوعرة.
الأمثولة الثانية التي أريد أن يحذفها عمر هي الاقتصاد: الاقتصاد في بدء الحياة. لقد سمعتم ولا ريب أن أصعب مراحل الثراء هو الحصول على أول مليون ليرة.
أسرفوا وبذروا ما تشاءون، إنما بعد أن تحصلوا على المليون الأول ... فرص كثيرة في الحياة فاتتني لأنه لم تكن لي الحكمة ولا قوة ضبط النفس على توفير ألف أو خمسمائة ريال. لتكن لكم جرأة مجابهة الناس بكف مقبوضة ... ليسمكم الناس بخلاء. البخل في معظم الأحيان هو تقريظ لازم ... لتكن لكم الجرأة أن تظهروا بثياب عتيقة، وكرافاتات لم تصل من باريس في فجر هذا النهار، ولتكن لكم الشجاعة أن تشبعوا ضيوفكم ولا تتخموهم.
أقول لكم كونوا بخلاء في بدء العمر، فتضحكون بعدئذ ممن كان يضحك منكم. أقول كونوا بخلاء ولا تكونوا لؤماء. التقتير والروية في الإنفاق أمر محمود، ولكن البخل في موقف النبل هو لؤم. أقول لكم: لا تهدروا الشمبانيا، ولكني لم أقل لكم أن تحبسوا الرغيف عن لاجئي فلسطين.
كذلك أقول لكم وللحبيب عمر أن تعطوا الحياة شيئا أسميه «زودة البياع». أذكر حانوتيا جاور بيتنا دكانه فيما مضى، وكنا نحن صغار الأولاد نذهب إليه بالمتليك، فيزين لنا القضامي ويصرها في ورقة، وحين يهم بتسليمها إلينا يحفن من طبقه قبضة من القضامي ويرميها في الصرة، مخاطبا إيانا مودعا قائلا: هذه «زودة البياع.» وكنا نحب ذلك الحانوتي ونحترمه؛ لأنه كان يسخو علينا بما لا يطلب منه. كانت محتويات الصرة من القضامي دسمة، ولكن أدسمها كانت تلك الحبات التي يجود بها جارنا الحانوتي.
كل أمر نبيل في هذه الحياة هو «زودة البياع»: الشوفير الذي يفتح باب الأوتوموبيل لركابه بعد أن يقبض الكراء، والطبيب الذي يداعب مريضه ويلاطفه بعد أن يصف الدواء، والمرأة التي تساعد جارتها بتقريص العجين، كلهم يعطون أكثر مما هو مفروض عليهم.
أعرف أن من الشويفات كثيرين ممن أعطوا من طبق الحياة حفنات من القضامي. أسمع بحمد صعب الذي ترك ضيعته وحمل بارودته، ورقد رقدته الأخيرة في بقعة لم يسمع بها يوم كان فتيا؛ لأنه من قوم تعودوا أن يجودوا في الحياة «بزودة البياع»، وما هي بأول مرة بذلوها، وما هي بأول مرة باعوها.
كذلك تسنى لي طيب الأخوة مع المرحوم بشارة الجريديني من الشويفات، وأذكر فيما أذكر عنه أنه ما سمع بأن خلافا نشب بين اثنين إلا وتطوع لتسويته، أو عرف شخصا نكب بأمر إلا وأسرع بالترفيه عنه بالنصيحة والمؤاساة.
أيها الفتيان:
من شروط النجاح والسعادة في هذه الحياة أن تهبوها غير المنتظر منكم، وفوق المفروض عليكم. وأريد لكم أن تطلبوا القوة والمال فاطلبوهما. ليس في الجهاد في سبيل المال من عار. لقد سعيت وراء الدولار 23 سنة من حياتي وما أنا بخجول. الثقافة التي فزتم بها كلفت أهلكم مالا ... لولا المال لما شريت البنزين الذي سير الأوتوموبيل الذي نقلني إليكم. هذه الورقة التي منها أقرأ شريت بمال. الدواء الذي يشفي المريض لا يحصل عليه إلا بالمال ... حاولوا الحصول على المال بكل وسائطه المشروعة.
المال قوة، ولكنه ليس بالقوة الوحيدة. الصوت الجميل هو قوة. الصوت الانتخابي هو قوة كما تعلمون. من يجيد تصليح السيارات فهو قوي. من يحذق صنع الأحذية فهو قوي.
نصيحتي هي امتلاك القوة بتشغيل مواهبكم واستغلالها إلى الدرجة القصوى. وإني أتمنى لعمر، ولرفاق عمر، أن يكونوا فتيانا تكهربهم حمية الفتوة ... إني أرى الخوف قد ملك على شبابنا قلوبهم. هم يرتعبون من ميدان القتال في الحياة فيجنحون إلى دفء وظيفة في التابلاين أو ال
I.P.C
أريد من عمر ومنكم أن تتنافسوا فتيانا تملؤهم روح الغمار، فلا يخافون الفشل ولا الجوع ولا الفاقة. لكل مصيبة عزاء، وعزاؤكم عن الجوع أنه يجوهر الجسد، وعن الفاقة أنها تقوي الروح، وعن الفشل أنه طريق النجاح.
هذه بعض الفضائل الإيجابية التي أرغب إليكم في أن تعتنقوها. أما الفضائل السلبية فكثيرة. أنتقي منها اثنتين:
الأولى: لا تكونوا اعتذاريين. إنني كلما حدثت أحدا من الناس عن فلسطين مثلا: لماذا لا يفعل كذا وكذا؟ تمطى وحرك موتور لسانه فزغرد خطابا فخما يدوي بالأعذار التي تنتهي عادة بأن الحكومة مقصرة. من يمنع الواحد منا أن يجاهد في فلسطين، أو أن يجود عليها بكل ماله، أو أن يؤاسي لاجئيها. لا تسأل الناس هذا السؤال؛ لأنك تنتهي بأن تغرق في طوف من الكلام الفصيح والأعذار اللبقة. متى اتخذ الواحد منكم موقفا اعتذاريا ينتهي بأن يقنع نفسه بأن فعل أي شيء مستحيل! حذار حذار من الموقف السلبي من العيش! فكروا بما تقدرون على فعله؛ واطرحوا الأعذار التي تبرر لكم في عيونكم عجزكم عن القيام بأي عمل مثمر مفيد.
وأخيرا، فليبتعد عمر ورفاق عمر عن الفصاحة والزركشة الكلامية التي ملكت ألسنة الناس هذه الأيام. إنني كلما سمعت كلاما أنيقا مثل: فظيع، فظاعة، التوجيهات، التكتل، العناصر الحيوية، أعلم أن قائلها كسول التفكير. خل عنك موهن الكلام، واستوح عاطفتك وعقلك، وأفصح عن قلبك وإدراكك باللغة التي تملكها أنت؛ فإنك متى أخذت عن الناس مألوف كلامهم، فقد قتلت في قلبك فورانه، وفي دماغك حدة تفكيره.
يعز علي أن عمر ليس بينكم، ولكني تعزيت عن غيابه بلذة التحدث والتعرف إليكم. وأعلم أن كلا منكم هو للبنان عمر. وإن لبنان ينتظر منكم رجالا أحرارا شجعانا مغامرين، تخافون الله، وتتعاونون مع جيرانكم ومواطنيكم.
خطاب يبحث عن موضوع
دعتني منظمة الكتائب اللبنانية إلى إلقاء خطاب في حفلتها السنوية التي اعتادت أن تحييها في أواخر نوفمبر. كان ذلك قبل دخولي الحزب السوري القومي الاجتماعي. ولعل بعض المغريات لدعوتي أني غير مسيحي، ورحت أستشير الأصدقاء عن موضوع، فكان كل منهم يجيب «الطائفية».
وقد حدث أنني حين كنت ألقي الخطاب ووصلت إلى «سفينة النجاة لن تبحر في أوقيانوس من زبد الأشداق، ورغوة الأفكار، ولن تسير شراعاتها أرياح الهتافات.» حين نطقت بهذه العبارة رأيت في الصف الرابع شبانا ثلاثة ينصرفون متأففين.
حضرة رئيس حزب الاتحاد اللبناني.
إخواني الكتائبيين.
سيداتي وسادتي.
ليس في يدي خيزرانة، ولا على جنبي مسدسان، ولا مسدس واحد.
ولكني أريد أن أدعي وأن أعلن وأن أتبجح أنني أكبر قبضاي.
وما أنا بمفتخر بشجاعة جسدية، فلئن خضت معركة ولم أهرب فقد لا يكون البأس والإقدام والجرأة أسباب ثبوتي في المعمعة، بل لعلي أبقى في ساحة القتال ولا أهرب لسبب واضح جلي ظاهر؛ وهو أنني لا أستطيع أن أركض.
منذ أيام أراني صديق صحافي بشيء من المباهاة مقالا أعده للنشر، وفيه يهاجم الحكومة. قلت للصديق الصحافي: «مهاجمة الحكومة أمر هين. إن كنت «قبضاي» دافع عن الحكومة.»
ولست أدعي بأني «قبضاي» لأني جئت أدافع عن الحكومة، أو لأبشر في هذا المحفل بالعروبة.
بل إني لا أدري عمن أدافع، ومن أهاجم، وبماذا أبشر.
الذي أعرفه أني سأفصح عما يجول بخاطري، ويوحيه ما أتوهمه حكمة وصدقا واختبارا. يا لعار مثالية هؤلاء توحي كلاما ينطق به ذو عينين: إحداهما ترنو إلى مقعد نيابي، والثانية ترمق مصلحة شخصية.
ما أنا بالغريب عن «الكتائب اللبنانية»، وإن كنت لست من أعضائها، وعلى رغم أن اتصالاتي بها اقتصرت على زيارة واحدة ومقابلتين.
لقد قصدت إلى بيت الكتائب اللبنانية منذ سنتين عن غير معرفة، وسألت رئيسها وأعضاء مجلس إدارتها المساهمة في عمل يعود لخير اللاجئين الفلسطينيين، فلقيت منهم الكياسة والاندفاع، وقاموا بخدمة اللاجئين كما طلبت، ودفعوا النفقات من صندوقهم.
كل هذا من غير ضجة ولا مباهاة.
قلت: قصدت إلى بيت هذا الحزب عن غير معرفة. ولم لا؟
إن كانت هذه المنظمات وجدت للخير العام، وإن كان الواحد منا يشعر بأنه جزء حي من هذا الوطن، فله الحق، بل من الواجب عليه أن يستنجد بالمنظمات في كل ملمة، وفي سبيل الخير العام.
ثم كذلك على المواطن الصادق الحي أن يشعر أنه قريب إلى مواطنيه. إني لا أعرف في لبنان شخصا لا يشوقني أن أواخيه، ولا معبدا لا يشرفني أن أركع فيه.
من أسباب تفككنا القومي أننا في عصر مائع بين عهد الإقطاعية المطلقة، وعهد الحزبية المنظمة الصحيحة.
فمن الناحية القصوى ليس في البلاد إقطاعي أو عشرة إقطاعيين يستطيعون أن يعبئوا الشعب جمهورا طيعا خدوما، ومن الناحية المعاكسة ليس فيها عشرة أحزاب تقوى أن تستنفر جنودا مدربة منظمة.
لذلك وجب على الأفراد أن يشجعوا الحزب - أي حزب - على أنه المنظمة التي نفتقر إليها، ووجب على الأحزاب وهي ما تزال في طور الاختبار ألا تخون الفكرة الحزبية وتصبح مطية للرغائب.
حين تفضل السيد بيار الجميل، وليسمح لي أن أعريه من مشيخته، ولقاء ذلك أتعرى أنا من مشيختي؛ أقول حين سألني الشيخ؛ السيد بيار، الكلام قال: إن بينه وبيني فروقات، ولكننا متفقان على الجوهر.
بلى، إن بيننا فروقات عديدة قد أعرف بعضها ، وقد أجهل البعض الآخر.
معمل الصابون يصنع الصابونة كالصابونة؛ فبركة البلاط تنتج البلاطة كالبلاطة. طبق الترمس حباته متشابهة. أما الرجال الذين يدعون الفكر الحر والعقل المستقل المستنبط الواعي فلا يجمعون على كل شيء. لا تجد الإجماع الشامل على الأمور كلها إلا عند المستعبدين والصعاليك. أجل، إن بيننا فروقات كثيرة أرجو أن تتكاثر وألا تمحى.
أما الجوهر فهو أن لبنان قبل أن يتجسد حقيقة واقعية نهائية، ووضعا لا مجال إلى إعادة النظر في كيانه، كان لبنان نبرة في حدائنا، ولهبا في عيوننا، وموسيقى في أغانينا، وحنينا في نفوس مهاجرينا، وحبالا التفت حول أعناق شهدائنا.
أما الجوهر فهو أننا لن نذهب إلى لبنان بأن نبني حوله الأسوار.
في زمن تحتضن به أمريكا الجبارة جاراتها الدول اللاتينية الأميركية، وتجعل منها جبهة حليفة، وفي الوقت الذي تتكتل به دول أوروبا في حلف أطلانتي للدفاع عن كيانها، وفي هذا اليوم الذي انصهرت فيه دول أوروبا الشرقية في القالب السوفياتي القوي، لن نقترف نحن أبناء الوطن الصغير الخطأ الكبير، فنبتعد عن الدول العربية اللواتي هن بحكم التاريخ والجغرافية والمصلحة حليفات للبنان، شقيقات له.
وأما الجوهر فهو أنه مهما اختلفت بيروت ودمشق، وتعالى صياح الحكومتين، واشتبكت الأقلام، فعلينا ألا يزيغ بصرنا عن حقيقة بديهية أساسية؛ وهي أنه ليس لنا في سوريا أعداء طبيعيون.
ليس لنا في سورية إلا أصدقاء طبيعيون.
ويجب أن يفهم السوريون أن ليس لهم في لبنان أعداء طبيعيون، بل ليس لسوريا في لبنان إلا أصدقاء طبيعيون.
أما الجوهر، فهو أن على أبوابنا المشرعة ضبعا يعسعس ويهمدر، وينفخ السم أرياحا. ولقد بدت مخالبه تجرح من أعناقنا.
إن الذي لم يحس بناجذ إسرائيل في عنقه هو إما ميت أو مخدر نفسه بأوهام.
إن هذا الضبع يريد أن يبتلعنا، ويقدر أن يبتلعنا ساعة يشاء، وحين يفعل هذا سيزدردنا أغنياء وفقراء، مفوضيات ووزارات، مسلمين ومسيحيين، كتائبيين وندائيين، سباق الخيل وملعب «البيسين».
بحق نحن ننتقد الحكومة أنها لاهية عن المهام الكبرى بسياسة المختار والناطور، ولكن النقد يبلغ ذروته الصادقة حين يوجهه الناقد إلى نفسه، ونحن إذ نغضي الطرف عن الخطر المداهم لنعنى بمن تولى منصبا وبمن استقال، نكون قد تلهينا عن المعضلة الكبرى باللعب بخيط من شرابة طربوش المختار، وبذرة من تراب علق بعصا الناطور.
قد نتساءل: «ما في وسعنا أن نفعل؟»
في وسعنا أن ننتفض.
من هذه الانتفاضة تتولد القوة التي تكهرب كل مواطن وكل شيء.
هذه الانتفاضة تجيش الجيوش، وتسيل المال، وتنشئ القلاع، وتبقي هذا الوطن مصفقا حرا طليقا.
ليمتحن كل واحد منا ولاءه لقومه ودولته واستقلاله بسؤال بسيط: «حين تنزهت الطائرات الإسرائيلية في سماء لبنان؟ هل انتفضت؟»
هنا محك الصدق في الوطنية.
هنا تنجلي الوطنية القوالة، الوطنية اللهاثة، النفاثة، النافورية، عن الوطنية الفعالة الهادئة.
إن سكان لندن وسكان ستالينغراد خلال السنين السوداء في الحرب الأخيرة لم يهتفوا بحبهم للوطن، ولم يتغنوا بأمجادهم التاريخية، ولكنهم صبروا على النار والدمار والقنابل والموت بهدوء وجلد ومكابرة.
هذه هي الوطنية الفعالة.
حين استشرت أصدقائي عن الموضوع الذي يحسن أن أعالجه من فوق هذا المنبر كادوا يجمعون على القول إن الموضوع الأجمل والأليق هو الطائفية؟
على أني لا أريد أن أخطب في الطائفية. لقد قلت كل ما أريد قوله في الطائفية حين تزوجت فتاة من غير طائفتي.
لقد دونت كل ما أريد أن أدون عن التعصب الطائفي حين آخيت في الحياة، وشاركت في الأعمال فتى من غير مذهبي، وفوضت إليه أن يوقع باسمي، كما فوض هو إلي أن أوقع باسمه، فله أن يحرمني من كل ما أملك إن شاء، ولي أن أحرمه من كل ما يملك إن شئت.
في السنة الماضية، نشرت جريدة العمل افتتاحية أغضبت أوساط الجامعة الأميركية وأخصها المتخرجون.
كان من السهل إذ ذاك أن أجاري التيار، فأقف من جريدة «العمل» والكتائب موقفا عنيفا فأكتسب شعبية رخيصة، وأمتطي موجة من صخب ترفعني في عيون الكثيرين.
ولكنها طريقا ثانية سلكت، فتبادلنا الكلمات الناعمة، وفناجين القهوة، وكانت زيارة ود وانتهى الأمر.
إني لا أعرف في لبنان معظلة لا يحلها حسن النية وكلمة ناعمة وفنجان قهوة.
لا أريد أن أخطب بالطائفية لأن الكلام فيها يضر ولا ينفع.
لا أريد أن أخطب بالطائفية لأن الخطابة في الفضيلة هين؛ ولأننا لا نبشر حقيقة بالفضيلة إلا حين نمارس الفضيلة.
الحرية هي فضيلة، فكيف نمارسها هنا؟
نسمع في بعض الأحيان كلاما عن الحرية المخنوقة في لبنان.
هل هذا صحيح؟
إن لنا من الحرية أضعاف ما نحتاج.
ليتنا لم نكن أحرارا.
ليت يدا حديدية تشد على أعناقنا إذ ذاك، فإما أن نختنق وإما أن ننعتق.
أما هذه الحرية التي تشملنا فقد أضرت بنا. نقول ما نريد؛ لذلك تفجرنا طوفانا من كلام، فحيث توجهت انصبت في أذنيك قصيدة، وتفرقع أمام عينيك خطاب، تزكات، تزكات، من خمور الألفاظ، حولها الناس سكارى بالبلاغة والفصاحة.
وهناك الذي يحملون أقراصا من بنسلين الحكمة؛ إذ إن عندهم علاجا لكل شيء، ويفهمون كل شيء عن كل شيء، من أسرار الحرب الكورية إلى تصدير الأثمار الحمضية، وفلسفتهم تختصر بعبارة واحدة: «الحكومة فظاعة يا أستاذ!» وأحدهم يعنف الناس على الإسراف فيما هو يحكم عقدة ربطة باريسية ثمنها ثروة فقير: فظاعة يا أستاذ! ويوقف سيارته في عرض الطريق فيما ينتقد حالة السير، فظاعة يا أستاذ!
هؤلاء يعتقدون أنهم قاموا بواجبهم نحو المجتمع كلما وصفوا علاجا شاملا شتموا حكومة أو نطقوا: «فظاعة يا أستاذ!»
على أنهم ليسوا بخطرين.
الخطرون المجرمون هم الذين يسلكون إلى الانتهازية طريق المثالية، هؤلاء الذين تتهدج أصواتهم ثورة على نظام أو قانونا أو ظلامة، ثم تنعم أصواتهم؛ إذ يتوسلون لخرق النظام، وطيح القانون، وإنزال الظلامة.
هذه الأيدي التي تنقبض مهددة متوعدة مستثيرة النقمة على الفساد، ثم تنبسط مستجدية مساهمة في أعمال الفساد.
وهناك فئة؛ هذه التي تلوح بالشهادات الجامعية، والألقاب العلمية، وتتباهى بالثقافة، وتعلن بكل تواضع أن البشرية خلفها بمراحل.
تجار كلام أقاموا نفوسهم معلمين يلقنون سواهم الوطنية، والفلسفة الاجتماعية، والمثالية العقائدية، وبايع بعضهم بعضا ملوكا للفكر.
فأما العقائد فهي إما مستوردة رأسا أو عن طريق الترانزيت، وأما الأفكار فينبشونها بالمجرفة من بطون الكتب في أي صفحة من أي كتاب علقت به المجرفة.
كأنما من شروط الوطنية ألا تثبت العقيدة الوطنية بنا في هذا الوطن، وكأنما من ضروريات الأفكار عدم الفكر.
وبعد أن يتم وصف الكلام - لا فرق من أي كتاب تدحرج - يطوفون على الناس منادين بأنهم فاتحون في دنيا الهداية عالما جديدا.
كلنا ناقدون، كلنا ناقمون، ولكن سفينة النجاة لن تبحر في أوقيانوس من زبد الأشداق، ورغوة الأفكار، ولن تسير شراعاتها أرياح الهتافات.
خير لنا أن نبقى على اليابسة الصحراء ثابتة أقدامنا من أن نحاول أن نسبح في الضباب.
وأريد أن أتحدث عن الرجل العادي.
أما الرجل العادي، فلا ينادي بالأمير، ولا الشيخ، ولا البيك، حتى ولا أستاذ.
الرجل العادي هو سائق الترامواي، وبائع الخضار، والحمال، والفلاح، وسائس الخيل. لقد فقد احترام النفس جمهور هذا الشعب.
لقد قتل رجولتهم موظف الحكومة الذي يدفن أوراقهم في درجه، وصاحب المعمل الذي في يده أن يصرفهم ساعة يريد، وصاحب الديوان الذي يبقيهم خارج الديوان، وخادمة الزعيم التي تقفل الباب في وجوههم، والمتنفذ الذي يقول لهم أنتم لا شيء إن لم أطبع على جباهكم أنكم من أتباعي. فصار المواطن اللبناني العادي يشعر أنه امرؤ لا شأن له.
المواطن العادي هو أحد السابلة؛ غبار السجاد.
مسكين يقرع الأبواب متسولا كرت توصية.
مستعطف يشكر كلما وهبوه بعض ما نهبوه.
ورقة تصويت تملأ صندوقة الاقتراع وتقرأ - غلطا أو صوابا - عند الانتخاب، ثم ترمى وتبقى سنوات أربع مهملة مجعلكة في جانب الطريق.
من أهم واجباتنا أن نرفع المواطن العادي إلى مستوانا رجلا كان أو امرأة.
وأخيرا أود أن أذيع سرا عظيما.
أمس جاءني مهندس ألماني يشرح عن مكنة جبارة جديدة اخترعها الألمان.
هذه المكنة تتلقف الأنقاض التي تملأ شوارع برلين فتطحنها ثم تخرجها حالا حجارة جديدة جاهزة للبناء.
سألت هذا المهندس: كيف يذكر الألمان هتلر؛ بالخير أو بالشر؟
أجاب: «هتلر مات ونسيناه، ونسينا جورنغ وبسمارك وفريدريك الكبير، والقيصر غليوم، كلهم ماتوا. نحن مشتغلون بهذه المكنة التي تتلقف الأنقاض وتصنع منها حجارة جديدة .»
قلت: «إن الدنيا متهافتة على كسب رضا الألمان، ولكن الألمان من يؤيدون؟ أميركا وحلفاؤها، أو روسيا؟»
أجاب: «الألمان يؤيدون الألمان.»
السر العظيم الذي أريد أن أذيعه هو أن هتلر وغليوم وبسمارك ماتوا.
السر العظيم الذي أريد أن أذيعه هو أن فخر الدين المعني مات، وبشير الشهابي مات، وصلاح الدين الأيوبي مات، كلهم ماتوا.
السر العظيم هو أن فرنسا ليست لنا، أميركا ليست لنا، إنكلترا ليست لنا، روسيا ليست لنا.
إنما الدنيا بأجمعها تصبح لنا إن صرنا مثل الألمان، «لبنانيين نؤيد اللبنانيين»، ومشتغلين بمكنة تتلقف هذه الأنقاض التي ملأت شوارعنا ونطحنها ونصير منها حجارة جديدة جاهزة للبناء.
أنا لبناني ... فأنا عربي
تلفن لي منذ أيام صديقي عبد الله المشنوق مقهقها: «كمشتك!» قلت له: ما الخبر؟ أجاب: أمامي خطاب لك في «المقاصد الإسلامية الخيرية» نبشته، وتقول فيه إنك عربي. أين هذا منك اليوم في عقيدتك السورية القومية الاجتماعية؟ سأنشر هذا الخطاب من جديد «وأفضحك.»
إن كان هنالك من فضيحة فأنا أتولى نشرها بنفسي. إن العروبة - وهي بعض الإيمان في عقيدتنا - تطهر من أدرانها، وتصفو من رغوتها ووحولها حين تتجوهر في حقيقة علمية، وتنتظم في وحدات واقعية فتصبح بناء لا «قعقور» خرائب مكومة.
واجهت الجمع في المقاصد الإسلامية الخيرية عامذاك، وكلهم ذكور، فبدأت خطابي: «سيدا ... عفوا سادتي.» وبعد تلك الحفلة أصبحت النساء يحضرن الاجتماعات النسوية.
معظم الخطباء يعتذرون عن التطويل. أريد أن أعتذر عن الاختصار. أرادوني أن أتكلم نصف ساعة. خطابي لا يتجاوز ربع الساعة. حين عتبوا علي لقصر الخطاب قلت لهم: «ربع ساعة خطابة مني، ومنكم أيها المستمعون ربع ساعة تصفيق.»
بيد أني أخشى أن أسمع ربع ساعة خطابة، وأسمع ربع ساعة تصفيرا.
ذلك لأنني سألتكم في صراحة قد تكون مؤلمة.
حين يقابل الغريب الغريب لأول مرة يحكم عقدة الكرافتة، ويمشط شعره ويزرر سترته. في هذا المجتمع أحسب نفسي في بيتي وبين أهلي، فلا عجب إن جاء خطابي منبوش الشعر لابسا البيجاما.
هذا المحفل واضح العروبة، وإني رجل قد أتخلى عن كل ما أدعيه في الحياة، ولكني أمدح نفسي بالإصرار على أني صافي العروبة.
حين شردتني الحياة عن كورنيشها العريض، وأسلكتني دربا فرعية ضيقة نائية، وقذفت بي من الحاضرة الكبرى إلى كهف مهجور. لم أنس حين دخلت الكهف أن أغرس على مدخله علم العروبة، وأن أنير سراجها في زاويته.
أمهد بهذا الكلام لأني سأقسو بالانتقاد. سأجور عليكم لأنني واحد منكم.
هذا المجتمع هو إسلامي. كلية المقاصد هي إسلامية في اسمها ونزعتها وأساتذتها وتلامذتها وتعاليمها.
لقد أدى الإسلام إلى المدنية ألف رسالة غالية من أجملها رسالة التسامح.
إني أجل الإسلام، وكذلك أجل المسيحية. في منزلي نسخة عربية من القرآن الكريم، ونسخة إنكليزية من التوراة المقدسة. حين أتوق إلى أن أسمو بعاطفتي وتفكيري إلى جو أثيري؛ فقد أجود القرآن، وقد أتغنى بالأسفار على حسب قرب أي من الكتابين إلى يدي، فكلاهما متساو في قربه إلى قلبي.
لو أنه أعطي لي شغف التمتع بروعة الخشوع في المعابد لما همني أن ركعت أمام المذبح أو أمام المحراب.
الإسلام شاسع الآفاق، وليس بمسلم من ينكمش في زاوية فيحمل جاره على أن ينكمش في زاوية.
العروبة قرة عين الإسلام، ومن أشد الناس ولاء للعروبة أناس ما هم بمسلمين. فيا أيها الفتيان الذين هم اليوم إلى الحياة واثبون؛ حذار أن تجعلوا من سلوككم حافزا لغير المسلمين الذين سكنوا دار العروبة أن يشعروا أنهم ضيوف مكرمون، ولكنهم ليسوا من أصحاب الدار، وأما الذين لم يدخلوها، فاسمعوهم النداء بالصوت العذب والقول الجميل:
ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم .
ولا ريب أن في كل طائفة وفي كل بلد وأمة مجرمين يقتاتون بالضغينة، ويزدهرون في العداء. هؤلاء الضالون نراهم قبالتنا، ولكننا نراهم كذلك على جانبينا لو تلفتنا يمنة ويسرة. وما نحن متطلعون إلى آفاق جديدة؛ إذ نقصر عليهم نظرنا. وما هو بعادل من يشير إلى القبيح الذي يواجهه، ولا يشير إلى القبيح الذي يكاتفه.
وإني أريد أن أضع روحي على كفي فأبحث بصراحة وصدق موقف اللبناني الصميم ، الذي هو كذلك عربي صميم من لبنان والعروبة. نحن في هذا البلد لم نعتد الروية، ولم نألف عمق التفكير، ولم نمارس النزاهة العقلية. العقائد الكبرى كالشخصيات الكبرى ما هي بمواد أولية خالصة، بل هي في معظم الأحيان مركب من مختلف العناصر بينها متناقضات. الشخص الذي يوصف بكلمة ما هو في غالب الأحيان بشخص عظيم، والعقيدة التي تشرح بعبارة ما هي بعقيدة ذات بال.
ليس لبنان بقصيدة زجلية أو موال عتاب. قبل أن يصبح لبنان دولة كان لبنان ولما يزل بعض أرواحنا، لبنان هو واقعي كقبضة من ذهب، غريزي كحب الأم، جميل كرؤيا.
أنا لبناني إذن فأنا عربي، أنا لبناني عربي، إذن فمن النكبة علي أن تكون هذه القطعة من الدنيا من طوروس إلى العريش، ومن المتوسط إلى الصحراء غير وحدة سياسية لا تتجزأ، غير أن النكبات على درجات! سيظل لبنان دولتي، ودستوره دستوري، وعلمه علمي، ولن أفكر بتغيير ما ولن أطمح إليه، ولن أقبل به حتى أسمع أصوات المطالبة بالتغيير ترتفع من باحات بشراي وزغرتا والنداء للوحدة ينطلق من أجراس كنائس بكفيا ودير القمر. وفيما أنا أرهف أذني لسماع هذه الأصوات أعلم علم اليقين أنني أخدم العروبة بأن أبقى لبنانيا صميما، أضع كتفي إلى أكتاف جيراني، وأشد أواصر الأخوة ما بيني وبينهم.
إن سمو الخلق يبلغ ذروته حين لا يضل الرجل عن الجمال فيما يستقبحه، والقبح فيما يستحبه، وإن التفكير يبقى عاديا حتى يضع المستقرئ أمام عينيه مجهرا يريه في اللون الواحد كل أظلة اللون. أما أن نندفع في التعصب، فيلون نظرنا ما نرى، حينئذ نصبح كدراويش الهند يرقصون سكارى بخمر يستقطرونها من جنبات نفوسهم، وعبدة أوهام يتمتعون في نعمة العيش، ولكن الأوهام لا تدوم.
ومن الأوهام أن تعتقدوا أيها القادمون على الحياة أن لبنان خرافة، وأن تجهلوا أنه من أشد الناس ولاء للبنان من هم من أشد الناس ولاء للعروبة.
هنا أقف غير فخور بنفسي. هنا أقف فأبتهل إلى الله أن يمنحكم أيها الفتيان الجرأة التي أحس أنها تعوزني . ليتني أعطيت الإقدام فأنزل على هذا المنبر بطلا، أو أحمل عنه شهيدا، ولكن الكلمات التي أغص بها أنتم تسمعونها، والقول الذي أخاف أن أنطق به أنتم تفهمونه. نساء اليهود تحمل السلاح وتقاتل؛ فأي سلاح تحمله نساؤنا وكيف تقاتل؟ نساء الدنيا أوتين الحرية والمساواة والعلم، وهن ينشرن الظرف واللطف والأنوثة والرقة. فما هو الدور الذي تلعبه نساؤنا؟ أمم الأرض يساهم في بنائها وازدهارها مائة بالمائة من شعبها، فما الذي يساهم به خمسون بالمائة من شعبنا؟ من العار أن تبقى المرأة حيث هي، ومن الخسران أن نهدر نصف ثرواتنا وقوانا. هل فيكم جسور يحمل المشعل؟ وذو بأس يقول الكلمة التي أجبن أن أتفوه بها؟ هل منكم فدائي يطمح أن يكون بطلا ولا يخاف أن يمسي شهيدا؟ هل منكم من يمزق بيديه ما يجب أن يمزق؟ لئن كان الجواب نفيا، فما أشدك ظلاما يا صباح الغد!
وأخيرا، أيها الفتيان الأحباء، كلمة لا يوحيها حب الوعظ، ولا تمليها الثرثرة.
الحياة كريمة جوادة، الحياة تعطي أكثر مما تأخذ، فلئن جادت الحياة عليك بطيباتها، فانعم بها بأن تشاطرها سواك. نشوة السكر لذيذة، وهج الشهوة جميل، الظفر يكهرب الحياة، ولكن ليس في الدنيا من شعور أبعث للزهو من سرورك بتضحية تقوم بها، أو عطاء تبذله! لئن جادت عليك الحياة بالطيبات، فانعم بها بأن تشاطرها سواك.
كذلك الحياة قاسية، الحياة ظالمة ومجرمة، هي تأخذ أكثر مما تعطي. أمامكم في السنين المقبلة أيام مريرة. لقد سلحتكم هذه الكلية بالعلم والدراسة، وصقلت أخلاقكم، وشددت عضلاتكم. ضعوا في أيديكم سلاحا غير منظور. لئن ضنت الحياة عليك بالطيبات فروها بالسراب. كهرب عقلك بمس من الجنون. حين تمنى بخيبة انظم بيتا من الشعر أو اركض نصف ميل. انشد أغنية. احص الملايين من الليرات الذهبية التي لا تملكها. اقطف زهرة. اكسر صحنا. انفخ دولاب أوتوموبيل. البط بغلا. أقم لنفسك عرشا وبايع نفسك بالعرش. حذار حذار إذ يصيبك الفشل أن تنقم على نفسك أو دهرك أو قريبك أو صديقك.
لئن جادت الحياة عليك بالطيبات فانعم بها بأن تشاطرها سواك، ولئن ضنت الحياة عليك بطيباتها فروها بالسراب.
القرميدة المكسورة
«دير مشموشة» يقع تحت جزين في جنوب لبنان. والحفلة يحضرها فخامة رئيس الجمهورية الشيخ بشارة الخوري. حول الدير جموع ترقص وتلعب بالسيف والترس، وأمام الجموع شخصيات منتفخة تعرف بالزعماء، والقاعة محتشدة، والخطباء يسبحون ويمجدون ويبخرون، والتصفيق يتعالى كلما ذكر اسم رئيس الجمهورية اللبنانية. على بعد مترين من الرئيس، وقد توسط حلقة من مطران ورهبان وموظفي الحكومة، ألفيت «القرميدة المكسورة».
صاحب الفخامة، حضرات الآباء المحترمين، سيداتي وسادتي.
لساعة خلت كانت في سقف هذا الدير قرميدة مكسورة.
أريد أن أعترف أنني أنا الذي كسرتها. أريد أن أعترف أن عواطف عنيفة في نفسي كانت تتماوج في صباي، وأن أعنفها كان بغضي للمسيحيين.
كنت في ذلك الحين كأكثر غلمان الدروز يبهجني أن أسمع بمقتل مسيحي. وليلة أمس ضافنا في بعقلين رفاقي الثلاثة: بطرس سماحة، وميشال سماحة، وبطرس عواد. ولقد أكد لي هؤلاء الضيوف - إخوتي الثلاثة - أنهم في صباهم كانوا يفرحون لأمور ثلاثة: تعطيل المدرسة، وقبض الخرجية، والسماع بمقتل درزي.
ها نحن اليوم، نجتمع في هذا المحفل وقد سلكنا إليه طرقا متفرقة، وها نحن وقد بلغنا هدفنا؛ هذه الروضة الثقافية الروحية، لم يقاتل بعضنا بعضا بسبب الدروب المختلفة التي سلكناها للوصول إلى هذا الهدف، ولكننا في زمن الغباوة يوم كنا جهلة عميا، كنا نتباغض ونتقاتل ونتطاحن بسبب الطرق المختلفة التي نسلكها للوصول إلى الهدف الواحد؛ هذه الدروب التي نسميها الأديان، وهذا الهدف الأسمى: الخالق العظيم.
أما القرميدة المكسورة فقصتها أنني مرت بهذه الناحية خلال الحرب الأولى في طريقي إلى جزين، وكنت يومئذ غلاما فسألت رفيقي المكاري عن هذه البناية الفخمة في الوادي فقال لي وهو يصرف بأسنانه: «دير مشموشة!» فصوبت نحو الدير نظرة عداء فانكسرت القرميدة. ولئن صعد الآن أحد منا إلى السقف فوجده سليما؛ فلأنني إذا أطللت على دير مشموشة هذا منذ ساعة - أي بعد ثلاثين عاما - تطلعت إلى السقف ثانية بنظرة حب وحنان، فالتحمت القرميدة المكسورة وعادت سليمة.
بين الإنسان والحيوان فوارق كثيرة، ولعل أظهرها أن الإنسان يتبدل خلال ربع قرن، والحيوان لا تتبدل عاداته في عشرات السنين. ونحن في هذه البقعة الجنوبية من جبل لبنان أثبتنا أننا بشر على الرغم من أننا لم نستبدل المحراث بالتراكتور، ولم تكثر القصور التي بنيناها خلال هذه السنين، وعلى الرغم من أنه ليس بوسعنا أن نزدهي بمشاريع عمرانية، ولكننا تغلبنا على ما هو أفتك بنا من الفقر المادي والعلمي والعمراني، وحققنا أمنية أسمى من الثروة والرفاه.
هنا كانت الطائفية على أقذرها وأفتكها، وهنا قتلناها ودفناها، إلى الأبد دفناها.
إن في وسعنا أن نباهي سائر لبنان، وأن ندعو إخواننا في المدن والأرياف من جمهوريتنا ليتخذونا مثالا للألفة والتسامح والأخوة.
حين اغتربت عن لبنان عام 1925، كانت عصاباتنا من دروز ومسيحيين تقطع الطرق حول هذه الهضاب والأودية للفتك بأي فرد من الطائفة المعادية. كان أفراد تلك العصابات أبطالا نعجب بهم، ونفتح لهم منازلنا ومعابدنا ملجأ. يا ويل قوم أبطالهم مجرمون!
في تلك الأيام، أقمنا للبغضاء أصناما وعبدناها، غير أنه كان منا أناس لا يسمون المجرمين أبطالا، ولا يدعون التناحر الطائفي تقوى وعبادة. ولقد كان لي حظ حضور حلقة في بيروت بعض أشخاصها ميشال زكور، وبشارة عبد الله الخوري، وجبرائيل نصار، وأمين تقي الدين، وسليم تقلا، وكامل وفؤاد حمية، ووديع وأسعد عقل. كانوا يجتمعون في مقهى تباريس. هؤلاء كانوا يعرفون أنهم وجيرانهم مواطنون، ومواطنون فحسب، وكان يؤلمهم مقتل المسيحي كما يؤلمهم مقتل الدرزي. وكانوا يفهمون أن في التشاحن على اختيار أي سبيل نسلكه للوصول إلى الله كفرا بالله. هؤلاء الرجال وألوف مثلهم في لبنان، من مقيمين ومغتربين، هم الذين طهروا لبنان من جرائم الطائفية، وصهروا عناصره الدينية، فصار الواحد منا يشعر بأنه مواطن لا درزي ولا مسيحي.
سنة البشر التغير، ولكن التغير قد يكون من سيئ إلى أسوأ، أو من حسن إلى سيئ، أو من سيئ إلى حسن. ونحن فيما نفخر بالتبدل الجميل من التعصب الديني إلى التسامح، يجب أن نعترف أننا في سائر مناحي الحياة قد تصدعنا حتى الانهيار.
موائدنا مثقلة بالطعام، وكواراتنا فارغة. نقاتل من أجل التوافه جارنا القريب وما هو بعدو، ونغفل عن قتال عدونا الحقيقي وحر أنفاسه يلفح وجوهنا. تستعبدنا الأناقة، ويستهوينا الثراء أيا كانت طرقه. من أيدينا تفوح رائحة الرشوة، ومن أناملنا يقطر دم الفقير. نحن نعيش في حياتنا الاقتصادية والسياسية والأخلاقية في سكرة غطرسة، وليس بعد السكرة إلا وجع الرأس. نتبع القوي الذي ينفعنا ويؤذي جارنا. نريد أن تتقلص آفاقنا حتى يضيق عالمنا فنبدو فيه كبارا.
في زمن يجب أن نماشي به سنة النشوء والارتقاء، ونرفس عنا العادات القبيحة، أحيينا نحن أبناء لبنان؛ بلد العلم والنور، أحيينا عادات في الأفراح والمآتم وشتى المناسبات، عادات نتأدب إن سميناها عادات همجية. حين يفتقر الواحد منا أو يضعف ندوس عليه؛ لأنه فقير ضعيف.
نحن في لبنان نعرف أن نعيش، بل لا ينقصنا لنحذق فن العيش على أتمه إلا أن نتعلم كيف يجب أن نموت. نموت مستبسلين من أجل عشرة قروش، أو وظيفة، أو رأس بندورة، أو شتيمة، ولكن ليست لنا الجرأة الأدبية لأن نتفوه بكلمة قاسية، وليست لنا الشجاعة الجسدية لأن ننهض للمطالبة بحق عام. ما هو بكبير من تستفزه الصغائر. طريق المجد منعت عن الرياء والتملق. ومن قضى حياته منحنيا أمام القوي لا تلمع الشمس على جبينه.
هذا قليل قليل من كثير كثير لا يجمل الآن قوله ولا أنتم تجهلونه، غير أني لا أعدد هذه المصائب لأكون رسول اليأس، لا بل إنني متفائل، فمتى بلغ السائر قعر الوادي فلا يبقى أمامه إلا الصعود.
أعود بكم إلى عام 1935، يوم تذابحنا هنا مسيحيين ودروزا. كانت أياما سوداء، ولكنها مضت إلى الأبد. وكل هذه الآفات التي لا تحسن في نظرنا اليوم ستغيب إلى الأبد؛ ذلك لأنه كما كانوا في عام 1925 حلقات من رجال ناقمة على التعصب الطائفي، كذلك في هذا اليوم ألوف من الرجال يرون عبر هذا اليوم. في لبنان اليوم ألوف من حلقات شبيهة بحلقة تباريس، وقوة هذه الحلقات في كونها غير منظورة وغير مسموعة .
سنة الحياة هي التغير والتبدل.
كنا في ليلة عيد رأس السنة عام 1941 في مانيلا؛ عاصمة الفلبين، في نعمة وزهو وطمأنينة، وصحونا في اليوم الثاني وأعلام الغزاة فوق رءوسنا، وأمتعتنا وأملاكنا وحياة كل منا رهن إشارة. لقد عشنا أربعين شهرا بين الدمار والقتال والجوع، ووجدنا أن أثمن ما يتسلح به الإنسان للطوارئ هو حب جيرانه واحترامهم إياه.
في طقوس الرهبنة المسيحية عادة من أسمى العادات، وهي ما يسميه الكهنة الرياضة الروحية. جميل بنا أن نأخذ عن الرهبان هذا الطقس الديني، فيخلو الواحد منا إلى نفسه يعرفها صامتا؛ إذ ذاك نكتشف أننا في شتى مناحي الحياة في هذا البلد مشينا القهقرى، وأنه يجب علينا أن نصحو من هذه السكرة؛ إذ ذاك نكتشف أننا في لبنان نعيش في صالون الحياة تبهر عيوننا الأنوار التي أضأناها فوق رءوسنا، فلا نرى العتمة التي تكتنف المنزل وتملأ سائر الغرف.
أيها السيدات والسادة، حذار حذار! ماذا أعددتم للطوارئ؟ بعض البراكين يرعد ثم ينفجر، وبعض البراكين ينفجر من غير أن يرعد.
ليس بيننا من لم يكسر قرميدة في حياته، وإني وقد خبرت هذا الجرم أجد أن في لحم القرميدة المكسورة نشوة لذة تفوق الجذل البهيمي الذي يثيره في النفس كسرها.
حدثني الكاهن الذي عرفه
خطاب لم يلق. أعد ووزع مناشير في ليل 8 تموز، استجوبني الأمن العام بشأنه في اليوم التالي، ودخل السجن بسببه عشرات الشبان، ولكنه بعد ذلك صار يلقى علنا، وينشر في الصحف.
تلقاني صبيان الحي بصراخ الهزء حين ترجلت، وراح أحدهم يتباهى مذيعا أن التاكسي اسمها فورد، وأعلن ترب له أن لونها رمادي، فيما ضج جمهورهم بإخباري - قبل أن أسألهم - أن الكاهن ليس هناك، بل إن أحدهم تسلق السلم وفتح باب العلية من غير أن يطرقه، ثم أطل من نافذتها ضاحكا: «أرأيت؟ إنه غير موجود.»
ذلك لأن شياطين الحي الصغار صاروا يعرفون عمن أسأل، وأصبح يروقهم أني لا أجد من أفتش عنه، ولعلهم لمحوا من تذمري وألم خيبتي ما استثار فيهم السادية، فجاء جذلهم على نسبة ما تجلى علي من زعل وضياع أمل.
فلقد كانت تلك المرة الرابعة التي قصدت فيها إلى رجل الدين لأستطلعه السر الرهيب.
وفي المرة الخامسة توجهت إليه ليلا وعلى موعد فكان هناك.
وحالا امحت من ذهني صورة رسمها خيالي، فلم أجد نفسي أمام شيخ متداع أبيض اللحية، ولم أسمع صوتا متهدجا، ولا صرعتني مظاهر الوقار وكلمات أبوة توحيها حصانة الكهنوت.
وجلسنا تحز مسامعي توافه الأحاديث التي تعود الناس مبادلتها فور اجتماعهم. وطالت النزهة الكلامية على شاطئ الموضوع، وبرح بي القعود على عتبة باب جئت لأفتحه، فوثبت إلى الهدف مقاطعا المحدثين قائلا: حدثني يا محترم عن ليل 8 تموز 1949.
وغاظني من رجل الدين أنه لم يتلبس حالا بمظاهر التهيب، بل بدأ الكلام بشيء من غير الاكتراث، ولكن صوته ولهجته وخشوعه وانفعاله، بل وبكاءه، كلها تماوجت مع وقائع ما كان يرويه، فكأنه عبقري يعزف من موسيقاه قطعة رائعة على البيانو، فدغدغت أنامله أصابع العاج أولا بعفوية لا تبالي، وتوالت الألحان تتأرجح وتتسامى متجانسة متضاربة متوافقة، حتى بلغت ذروة موسيقى من غير هذه الدنيا، فإذا نحن في العلية نكاد لا نسمع ما يقول، ولا نرى البيانو ولا اللاعب، ولا نعي الألحان، بل شعرنا أن جدران الغرفة انفتحت وارتفعت أرضا بمن فيها، فإذا نحن و«سعادة» في السجن، في الطريق، في الجيب، على الرمال ركع، في تابوت خشبي، في الكنيسة، في المقبرة، في حفرة من الأرض، في مسمع الدنيا، بين المغتربين، في القصور، في المحكمة العسكرية، في المفوضيات، في غصة القلوب، في عبسة المغاور، في لوعة المعاقل، في رصانة التهذيب، في هدوء البطولة، في عزة الصراع، بين يدي الكبر، أمام الجلادين، في طمأنينة المؤمن، في كهف الغدر، حراب تطارد المجرمين، أعلام تصفق للجيوش، زوبعة تمحق، وصرخة تعكس موكب التاريخ.
وتناول رجل الدين ورقة من مطاوي جلبابه الأسود الفضفاض منتزعة من دفتر مدرسي وهم بقراءتها، فاعترضته وقلت: أسمعني حديثك لا تقرئني أوراقك ولو كانت مذكرات.
فراح يتكلم: حين فتحت الباب على صوت القرع الشديد في منتصف ذلك الليل
قلت: إن أمرا كهذا لا يسعني أن أفعله. آتوني بإذن من سيادة المطران؛ هكذا ينص قانوننا الكنائسي، قالوا: ليس لدينا من وقت. افعل هذا على مسئوليتنا نحن. فاعتذرت من جديد، وراحوا يلحون علي مرددين أن خرق النظام الكنائسي هو أقل ضررا من أن يرسل مسيحي إلى الموت غير متمم واجباته الدينية.
وأخيرا أذعنت بكثير من التردد والحيرة، وركبت سيارتهم في طرقات تعج برجال الأمن من جنود وبوليس ودرك وأسلحة مشرعة، وأطللنا على سجن الرمل فإذا هو منار من الداخل والخارج، ونزلنا حيث كان ضباط آخرون بانتظارنا.
وأقبل علي مدير السجن يعرفني إلى نفسه، وأخبرني أن هذا هو الإعدام الثالث عشر الذي مر به، وأن الأمر بسيط، فأجبته: «لقد مضى علي ثلاث عشرة سنة في الثوب الكهنوتي، وهذا أول إعدام سأشهده.» وكان الطبيب الذي اشترك معنا في الحديث مثلي لم يشهد إعداما فيما مضى.
وزاد مدير السجن فقال: إن هذا المحكوم الخائن أنطون هو رجل خائن، وكافر ملحد يبشر بالكفر والإلحاد. إنه لن يأبه لك يا أبانا هذا الخائن الملحد الكافر.
ودخلنا - حيث كان الزعيم - محبسا من الغلو نعته أنه غرفة، فوجدناه مفترشا بساطا من قذارة ورقع. وكان هذا الفراش أقصر من قامته، فجعل من جاكيته وصلة بين الفراش والحائط كي لا ترتطم به قدماه.
وكان نائما نوما طبيعيا، ورأسه على ذراعه اليسرى التي جعل منها بديلا عن مخدة لم تكن هناك.
وأيقظناه فنهض حالا وبادرنا السلام، وخصني بقوله: «أهلا وسهلا يا محترم.» فأبلغاه أنه لم يصدر عنه عفو، وأن الإعدام سينفذ به حالا، فشكرنا باسما رزينا، واستأذن بلبس جاكيته التي كانت مطوية تحت قدميه، فأذنوا له، فشكرهم من جديد ولبسها.
وخلوت به وسألته إن كان يود أن يقوم بواجباته الدينية، فأجاب: لم لا؟ وطلبت إليه أن يعترف فأجاب: ليس لي من خطيئة أرجو العفو من أجلها؛ أنا لم أسرق، لم أدجل، لم أشهد بالزور، لم أقتل، لم أخدع، لم أسبب تعاسة لأحد.
وبعد أن فرغت من المراسيم الدينية تركنا الغرفة، فكبلوا يديه وخرجنا إلى مكتب السجن.
هناك طلب أن يرى زوجته وبناته، فقيل له إن ذلك غير ممكن، وقدموا له ترويقة فاعتذر شاكرا، ولكنه قبل فنجانا من القهوة متناولا إياه بيمناه، وأسنده بيسراه. وكانت تسمع للقيد رنات كلما ارتطم بالفنجان.
وكان الزعيم يبتسم صامتا هادئا مجيلا عينيه من وجه إلى وجه كأنه يودعنا مهدئا من روعنا. هنا انفجرت أنا بالبكاء، وبكى معي بعض الضباط، بل إن أحدهم أجهش وانتحب.
وبعد أن شرب القهوة عاد يصر على لقاء زوجته وبناته، فسمع الجواب السابق.
وسئل لمن يريد أن يترك الأربعمائة ليرة التي وجدت معه، فأجاب: إنها وقطعة من الأرض في ضهور الشوير هي كل ما يملك، وهو يوصي بها لزوجته وبناته على التساوي.
وطلب مقابلة الصحافيين، فأخبروه أن ذك مستحيل، فسألهم ورقة وقلما فرفضوا، قال: إن لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ، فصرخ به أحد الضباط منذرا: «حذار أن تتهجم على أحد لئلا نمس كرامتك.» فابتسم الزعيم من جديد وقال: أنت لا تقدر أن تمس كرامتي، ما أعطي لأحد أن يهين سواه، قد يهين المرء نفسه، وأردف يكرر: «لي كلمة أريد أن أدونها للتاريخ، وأن يسجلها التاريخ.»
فسكتنا جميعا في صمت يلمس سكونه ويسمع دويه.
أصارحك أنني كنت في دوار من الخجل، ومن المؤكد أنني لا أعي كل ما سمعت، ولكن الراهن أني سمعته، سمعته يقول: أنا لا يهمني كيف أموت، بل من أجل ماذا أموت. لا أعد السنين التي عشتها، بل الأعمال التي نفذتها. هذه الليلة سيعدمونني. أما أبناء عقيدتي فسينتصرون، وسيجيء انتصارهم انتقاما لموتي. كلنا نموت، ولكن قليلين منا من يظفرون بشرف الموت من أجل عقيدة. يا خجل هذه الليلة من التاريخ من أحفادنا، من مغتربينا، ومن الأجانب. يبدو أن الاستقلال الذي سقيناه بدمائنا يوم غرسناه يستسقي عروقنا من جديد.
ومشينا إلى حيث انتظرتنا السيارات، والزعيم ماش بخطى هادئة قوية يبتسم. إنه لم ينفعل، كأن الإعدام شيء نفذ به مرات عديدة من قبل. إنه لم ينفجر حنقا أو تشفيا. إنه لم يتبجح شأن من يستر الخوف.
في تلك اللحظات وددت لو خبأته بجبتي، لو تمكنت من إخفائه في قلبي أو بين وريقات إنجيلي. إن عظامي لترتجف كلما ذكرته.
وحين خرجت إلى الباحة، رأيت إلى يميني تابوتا من خشب: من خشب الشوح، لم يخف الليل بياضه، وتطلع الزعيم إلى نعشه فلم تتغير ملامحه ولا ابتسامته.
وقبل أن يرقى الجيب طلب للمرة الثالثة والأخيرة أن يرى زوجته وأولاده، وللمرة الثالثة والأخيرة سمع الجواب نفسه، فتبينت ملامحه. وفي تلك اللمحة العابرة فقط من عمر ذلك الليل لمحت وميض العاطفة خلال زوبعة الرجولة.
وسارت الجيب بالزعيم يحف به الضباط وخلفه تابوته، وقافلة سيارات وشاحنات من ورائه وأمامه ملأى بالجنود المسلحة. ولعل مسا من البله اعتراني، فبدا لي أن تنفيذ الإعدام سيؤجل، أو أن عفوا سيصدر. سيطر علي هذا الوهم فخدرني حتى انحرفنا عن الطريق العامة إلى درب ضيقة بين كثبان، ووقفنا في فجوة بين الرمال كأنها فوهة العدم.
وقفز من بينهم مكبلا إلى عمود الموت المنتظر، فاقتربوا منه ليعصبوا عينيه، فسألهم أن يبقوه طليق النظر، فقيل له: القانون، أجاب: إنني أحترم القانون.
وأركعوه وشدوا وثاقه إلى العمود. وكأن الحصى آلمته تحت ركبتيه فسألهم إن كان من الممكن إزالة الحصى، فأزالوها، فقال لهم: «شكرا شكرا.» رددها مرتين وقطع ثالثتها الرصاص.
فإذا بالزعيم وقد تدلى رأسه وتطايرت رئته اليمنى، وتناثرت ذراعه اليسرى، فلم يعد يصل الكف بالكتف إلا جلدة تتهدل.
وكوموا الجثة في التابوت، وتسارعت القافلة نحو المقبرة، وهناك كادوا يدفنونها من غير صلاة لو لم يتعال صياحي. أخيرا قالوا لي: «صل إنما أسرع، أسرع، صل من قريبو.»
ودخلنا الكنيسة ووضعنا التابوت على المذبح، ورحت أصلي والدم يتقطر من شقوق الخشب ويتساقط على أرض الكنيسة نقاطا نقاطا ليتجمع ويتجمع ثم يسيل تحت المذبح.
وخرجنا من المعبد، ووقفت أمام بابه أواجه الفجر الذي أطل وأناجي الله، وأسمع رنين الرفوش ترتطم بالحصى وتهيل التراب، وترتطم بالحصى، وتهيل التراب.
بذا حدثني الكاهن الذي عرفه.
أقول لك إن تراب الدنيا لن يطمر تلك الحفرة.
أقول لك إن رنين الرفوش في ذلك الفجر سيبقى النفير الداوي ليقظة هذه الأمة. أقول لك إن منارة الحياة قد ارتفعت على فوهة العدم.
برنيطة من كفر شيما
النادي صغير، وبلدة «كفر شيما» صغيرة، وحفلة ناديها هي الحدث السنوي؛ تترقبه البلدة وأصدقاء البلدة. جوها مرح حماسي، فبعض الحضور شربوا نخب نجاحها قبل الحضور إليها.
غريب كيف تشتبك في مخيلة الناس الأماكن والحوادث، فإني إن ذكرت الشويفات مثلا تسارع إلى ذهني أول مسبة دين تعلمتها هناك في طفولتي، وإن قيل «بعبدا» لاحت أمام عيني عربة الباشا التركي، ودوى في سمعي نفير بورجي العسكر، وإن قالوا كفر شيما ذكرت البرنيطة؛ البرنيطة التي باعني إياها منذ عشرين سنة في «الفلبين» رجل من كفر شيما؛ حليم كنعان، فدفعت ثمنها كل ثروتي حينذاك 12 دولارا، ثم وضعتها على رأسي وانصرفت إلى الأوتيل فعلقتها على حائط غرفتي. وهي لا تزال معلقة هناك.
وغريب كذلك أن كيف تلفت في أرض هذا الوطن تجد في كل ضيعة، وفي كل مدينة، وفي كل دسكرة رجلا يقف كل جهوده أو بعض جهوده على خدمة مواطنيه وجيرانه.
لو أن البرنيطة التي باعني إياها رجل من كفر شيما اسمه حليم كنعان، لو أنها الآن على رأسي لرفعتها احتراما لرجل آخر من كفر شيما اسمه أديب الفتى؛ رئيس هذا النادي.
ولقد كنا في الصغر ندعو الأجنبي «أبو برنيطة»، وليلة أمس دعيت إلى عشاء حضره بريطانيون وأمريكيون هو ناد موهوم سموه:
Hate the foreigners club ؛ أي نادي بغض الأجانب، وغايته الدعاب والمرح ومحو النقمة على الأجانب من النفوس، إن كانت هنالك. نقمة لذلك آثرت أن أتحدث عن «نحن والأجانب».
ولقد يتبادر إلى الذهن أن هذا الموضوع حساس يجب ألا يعالج من على منبر.
نحن في لبنان، هل نحن جماعة فكر وتسامح ورصانة؟ ليس في مناطق العقل منطقة حرام. عرائس الفكر لا تلبس الحجاب. وبرغم هزء الهازئين فنحن في لبنان كنا ولا نزال وسنبقى بلد إشعاع. أما الناقمون منا الذين توترت نفوسهم، وهاجت إرادتهم، فهم الذين يأنفون أن يبقى هذا الإشعاع شرارات تطفئها العتمة، ولا يشرئب موجة وضاءة تحرق الظلمة وتسطع كوكبا.
ليس في الدنيا موضوع نخاف بحثه لا مسمعين ولا مستمعين. وليس الأجانب بيننا بأسيادنا، ولا هم أعداؤنا حتى، وليسوا هم ضيوفنا. ونحن هنا قد خبرنا معنى اللفظة «أجنبي» سلبا وإيجابا. عرفناها ومئات الألوف منا أجانب في مغتربات، وعرفناها في أرضنا وألوف الأغراب أجانب بيننا.
ونحن نعلم أن الإنسان ما هو بحيوان تحفزه بهيمية المادة فقط، فهو حين شرد عن أدغاله في التاريخ القديم أو هجر وطنه في التاريخ الحديث لم تكن حاجات العيش الملحة وحدها التي تحدوه، بل كان ولا يزال يحب الاستطلاع، ويتحدى المجهول، فكان فاتحا ومستعمرا، وسائحا ومتفرجا، وطالب ثقافة في آن واحد.
ونشب بين الأجنبي الفاتح والمواطن المقهور معارك استعملت فيها كل الأسلحة المادية والروحية، فكان الأجنبي المستعمر المستغل، وكان الأجنبي المبشر المثقف، وكان التاجر المسالم أو التاجر الجشع. ونشأ في المعسكر المقابل المجاهد البطل المقاوم، أو الضعيف المستنيم، أو المرتزق الذي همه العيش لا يأبه كيف جاءت وسائله. وكان هنا وهناك خليط من كل هؤلاء. واليوم وهذه الدنيا تصغر وتتقلص، واليوم وفي طبيعة بلادنا وجغرافيتها ما يجعل هذه الأمة منسجمة مع سواها أو متضاربة، فما الموقف الذي يجب أن نتخذه من كل ما هو أو من هو أجنبي؟
يجب أن نطرد الضعف والخوف من نفوسنا. الخائف هو أبدا خاطئ التفكير. إن مئات السنين من الاستعمار وخيبات كبرى نزلت بنا ولدت في نفوس الكثيرين منا هزالا في الإيمان. هذا الضعف يتجسد أحيانا في ميوعة يقولبها كل إناء. وهذا الضعف يرفه عن نفسه أحيانا في أناشيد من التبجح والمباهاة. وهذا الضعف يرسب في بعض الأحيان وحلا من تعصب ونقمة وحقد على كل ما هو أجنبي. ليس الأجنبي بسيدنا، ولا هو عدونا، حتى ولا هو ضيفنا. إن البشر في سيرهم الحضاري نحو الأسمى والأكمل والأجمل وحدات قومية اجتماعية كان لا بد لهم من التعامل والاختلاط، وكان لا مفر لهم من الاصطدام، كما كان لا مفر من التفاهم والتسويات. ونحن نساهم في بناء هذه الإنسانية الشاملة حين نطلب القوة في نفوسنا أولا، وحين نرسخ هذه القوة في مجتمعنا حتى تتوفر فتنطلق فعالية إنسانية. إذ ذاك لا نكره الأجنبي؛ لأننا لا نخافه، وإذ ذاك لا نخضع للأجنبي لأننا لا نخافه؛ إذ ذاك لا نتهافت على (دفاع مشترك) في استسلام الزحفطون، ولا نرفس الدفاع المشترك في قرطزة العنجهون.
غير أن هذه القوة - التي هي وحدها ضمان التعامل مع الأجنبي على الصعيد الإنساني الصحيح - لن تأتينا إن نحن بقينا في هذه اللحظات الحاسمة، وفي أشداق هذه المخاطر متناثرين متخاذلين متخاصمين. إن ضعفنا في الميدان العالمي أمام الأجنبي، وأمام العدو، هو في جوهره ضعف الشركاء المتخاذلين المتخاصمين أكثر منه ضعف الذين تنقصهم قوة الذات على الصعيد الفردي. وإن فينا قوى هنا وعبر البحار لا نجندها ولا نعبئها؛ لأن تخلقنا وتخاذلنا وتخدرنا لا تستنفر هذه القوى، ولا توحي لها الجهاد.
أريد أن أحدثكم عن إحدى هذه القوى ماذا فعلت حين أوحي لها الجهاد. كان ذلك منذ خمس سنوات عام 1948، وكنت مدعوا إلى عشاء عند سيدة من كفر شيما هي السيدة وديعة هاشم حمادة. كنا تلك الليلة في «مانيلا» حول صينية كبة حين رن التلفون: نيويورك على الخط. أخذت السماعة وأصغيت إلى صوت كميل شمعون؛ مندوب لبنان في منظمة الأمم: التصويت على تقسيم فلسطين بعد أسبوع، ويجب أن نقنص صوت مندوب «الفلبين» في منظمة الأمم. وكان رئيس جمهورية الفلبين «مانويل. أ. روهس» رجلا ربي في بيت وديعة هاشم حمادة، حنت عليه فتى فقيرا ذكيا طالب حقوق. كان يناديها «أمي»، وكانت تدعوه تحبيبا «مانولين». إني أراها الآن وسماعة التلفون في يدها تخاطبه: بربك يا «مانولين». إني أراها الآن في تلك الليلة وأنا وزوجها المرحوم كامل حمادة نركض نحو السيارة لمقابلة رئيس الجمهورية الفلبينية. إني أسمعها تستوقفنا مداعبة، مشيرة إلى التلفون الذي تلقيت منه كميل شمعون: «يا عيب الشوم، رجلان من بعقلين يسوقهما رجل من دير القمر.»
إن الخطاب الوحيد الذي ألقي قبل تقسيم فلسطين في منظمة الأمم عام 1948 ألقاه كارلوس. ب. روميلو؛ مندوب الفلبين ورئيس منظمة الأمم فيما بعد. إن ذلك الخطاب ألقي على الأكثر بسبب امرأة من «كفر شيما».
هذه قوة إحدى قوانا فعلت. إنه لم يقل لي شيئا غريبا ولا شيئا جديدا ذلك الذي قال: «إن فيكم قوة لو فعلت لغيرت وجه التاريخ.»
يا حضرة الرئيس، أيها السادة:
موضوع خطابي نحن والأجانب، ولكني بدأته بحكاية برنيطة باعني إياها رجل من «كفر شيما»، وانتهى بخطاب في منظمة الأمم أوحته امرأة من كفر شيما.
موضوع خطابي المصحح:
من كفر شيما إلى كفر شيما.
أمين تقي الدين ... موته اغتراب
موقف على الراديو مثلت به لأول مرة في حياتي دورا مزدوجا: فأنا المؤبن، وأنا ربيب المتوفى. أقيمت الحفلة بمناسبة تعليق صورة أمين تقي الدين في دار الكتب.
للمرة الأولى في حياتي، أود أن أعتذر عما سأقول.
كنت أحسب أنني أفهم الذي أكتب عنه الآن. وكنت - وهذا سر أذيعه للمرة الأولى - ألومه على الكثير الذي لم يفعله.
غير أني حين جلست لأدون كلماتي فيه بأن لي سرا وانقشعت حكمة، فأمين تقي الذي أدبني وعلمني الكثير في حياته، ألقى علي درسا بعد مماته حين حاولت أن أرثيه. وأمين تقي الدين المحامي، القوي الحجة، اللبق الفصيح، أفحمني بالأمس ورد عن نفسه من القبر تهمة كانت تختلج في خاطري لأني أحبه، وبقيت سرا في خاطري لأني أحبه. أما الآن وقد وضحت براءته، فليس من العقوق أن نتحدث عنها. كنت ألومه بعد أن شببت على الشعر الذي ما نظمه، والنثر الذي ما صاغه، ذلك النهر المتدفق لم لما يشد اندفاعه إلى الآلات تولد الكهرباء طاقة قوة ومصابيح أضواء.
وحين جلست لأحدثكم عنه اكتشفت السبب. قعدت وغصة الحزن عليه ما زالت آهة في صدري ، وذكرى طفولة أشرف عليها، وفتوة هذبها وغذاها. جلست على قمة هزة عاطفية ترهف إحساسي، واهما أني سأدون أجمل ما كتبت في حياتي، فما إن بدأت حتى تحققت أن من الجريمة صوغ الكلمات، وأن الألفاظ لم تكن ولن تكون أداة الإفصاح. حين يرتفع الإحساس إلى صعيد يطل منه على الله يتأله الإحساس، ويخلع الشعور عن نفسه أردية الكلمات.
يقولون عن الذي يموت أنه انتقل إلى جوار ربه. أكبر ظني أن أمين تقي الدين عاش في جوار ربه طيلة حياته، وهذا الصعيد العالي الذي سكنته نفسه طيلة عمره ملأ نفسه بإنسانية إلهية حتى لا تطيق الكلام لها رسولا؛ لذلك صمت حيث كان ينتظر أصدقاؤه منه الكلام، ونظم البيت الواحد حين توقعنا منه القصيدة، والقصيدة حيث تساءلنا أين هو الديوان؟ ولكم من مرة رأيته منفعلا يخلو إلى غرفته وبين يديه قلم، وأمامه أوراقه، ثم يخرج من الغرفة حزينا باكيا، أو مقهقها طروبا وأوراقه ما زالت بيضاء.
الرجل الذي أتحدث عنه الآن كان أخا لأبي. هذه هي حادثة الولادة. ما هذه بالأمر المهم، هذه الصدفة، غير أنه لو لم يكن لي عما لشاقني أن يكون من ذوي قرباي. وإني لأعلم أن بين المواطنين من هم ليسوا بأقل مني شغفا بهذا الرجل الذي ليس هو من ذوي قرباهم. وإني كذلك لأعلم أن بين المستمعين من هم مثلي يودون أن يكون كل ما بينهم وبين بعض ذوي قرباهم أمر واحد: بيد دونها بيد.
لعل شغفي به كان من بعض أسبابه أنه شرد عن العادة الشرقية التي تعنكب من الوقار حجابا بين الابن والأب أو العم وابن أخيه. لقد كان عمي عشيري بعد أن شببت. أذكر يوم مررنا بعين زحلتا وجلسنا عند نبع الصفا فعرفني إلى فتاة في مثل عمري: الثامنة عشرة. وبعد أن أحكمت طربوشي ولمست شاربي، رحت أتحدث إلى الفتاة منفردين عن سائر الجمع. ونهض عمي أمين ونهضت بعد ساعتين، فلما ركبنا السيارة سألني: بماذا تحدثتما؟ أجبت بسذاجتي القروية: تحدثنا عن الصحافة. فضحك مؤنبا : «فتاة في الثامنة عشرة، والدنيا صيف، ونبع الصفا، وتحدثها عن الصحافة؟ اخس اخس.»
وعلى ذكر هاتين اللفظتين، فقد كان يبوح عن رأيه في الأدب بألفاظ ثلاثة يكررها، فهو إن قرأ مقالا أو قصيدة صاح: اخس اخس، أو كلام فارغ، أو الله الله! وكان أكثر ما يصيح «الله الله!» لكتابي كليلة ودمنة ومقدمة ابن خلدون في الأدب القديم، ولشعر صديقيه شوقي وخليل مطران، ونثر صديقه الآخر ولي الدين يكن في الأدب المعاصر.
وكان يحب اللغة العربية صافية لا توحل، عفوية لا تتصنع. ولا يطيق أن تتسرب إليها ركاكة. وفي ذات يوم فيما كنت أسطر رسالة إلى صديق قال لي: «اقرأ ما أنت تكتب.» فبدأت: عزيزي فلان، بعد السلام أطمنك عني. فقاطعتني صفعة من يد عمي وصرخة: «كم مرة قلت لك أطمنك عني غلط! قل أطمنك إلي. أكتب بالعربي أو فاكتب بالفرنجي، ولكن لا تكتب بالعربي الفرنجي.»
لم أعرف رجلا عشق وطنا مثلما أحب أمين تقي الدين لبنان، ما غالى ولا بالغ حين نظم الشعر فيه. ومن شعره قوله:
إذا قيل لبنان قل موطني
إلهي وصل له واسجد
لقد صلى للبنان وسجد وتغنى به، ولكن صلواته لم يتخللها شتائم تصوب لغير لبنان، ولا دعاية لبغضاء، ولا تجارة بالأحقاد.
لقد أحب الناس جميعهم؛ وضيعهم وسريهم، فتاهم وشيخهم. كان يحس بعاطفة البنوة نحو من تقدمه في العمر مثل إسكندر عمون، ومحمد الجسر، وبعاطفة الأبوة نحو من يصغره؛ مثل: إبراهيم طوقان، وإلياس أبي شبكة، وتوفيق وهبة، والدكتور جورج حداد. لا أعرف أحدا من الناس ظفر بأخوة الناس مثل أمين تقي الدين. لا أعرف شارعا في بيروت ولا حيا ليس له فيه صديق حميم. من بيت عمر بيهم في حرج بيروت إلى مكتب أولاد خليل عبد العال على المرفأ، ومن بيب حبيب ربيز في رأس بيروت إلى بيت فيليب الزهار على الجميزة. في كل حي، في كل شارع، صادق وأحب وآخى لغير سبب ذاتي أو منفعة، بل لأنه فطر على الصداقة والحب والإخاء.
غير أنه لم يكن من طبعه أن يقصر علاقاته وصداقاته على أصحاب الأسماء اللامعة، مثل ميشال زكور، وأسعد عقل، وأنطون الجميل، وموسى تمور، وفؤاد أرسلان، وخليل مطران، وجبرائيل نصار، بل كان من أقرب الناس إلى قلبه بعض البقالين والحوذيين والأكارين وباعة الجرائد. في سنة 1922 أو سنة 1923 رشح نفسه للنيابة، وكان الانتخاب على درجتين؛ إذ يقترع المندوبون الثانويون للنائب. واقترب يوم الانتخاب وعمنا لم يتحرك من مكانه. وأخيرا اقتنع بأنه من الضروري أن يطوف في الشوف داعيا لنفسه، فركبنا السيارة، ولما بلغنا صحراء الشويفات وقفنا هنيهة نتطلع إلى الزيتون تتطاير منه السمان، فنزلنا وقضينا النهار في الصيد. كل حملته الانتخابية كانت يوم صيد في الشويفات، في حين أنفق خصمه الإقطاعي 800 ليرة ذهبية.
وجاء يوم الانتخاب، وكان على الظافر أن ينال أكثرية 65 صوتا نال منها أمين تقي الدين 54. وغادرنا بعيدا وهو منفعل يبكي، فاستغربت هذا منه يقينا مني أنه كان لا ينتظر أكثر من عشرة أصوات، فلماذا الانفعال؟ سألته فراح يردد: مسكين بشارة، مسكين بشارة! ذلك أن صديقه الشاعر بشارة الخوري كان مرشحا للنيابة وفشل.
أما مجالسه فليس من الحق أن نختصه بالذكر منها، كانت مجالس الأدباء في «سبلنددبار» في القاهرة، «وتباريس» في بيروت، مجالس طرافة وفكاهة وفكر ورواية. كان ذلك في الماضي البعيد يوم كان الحديث فنا أدبيا، ويوم لم يتبرم الناس بعضهم ببعض، فيستعينون على طرد سأمهم وضجرهم الواحد من الآخر بلعبة «رولنس».
ما الذي تركه هذا الشاعر الأديب؟ أريد أن أستعمل أدق الموازين وأقسى قواعد النقد، فأجيب أن إنتاجه الجيد يقتصر على بضع مئات من أبيات الشعر؛ بعضها خالد، وحفنة من المقالات قليل منها سيثبت على الدهر. وترك ذكرى حياة عبلة مفعمة بالمروءات والأنس والحب والإخاء.
كنت في دار الكتب استمع إلى محاضرة تلميذه الآخر - أخي خليل - وحانت مني نظرة إلى حيث ثبتت صور البارزين من اللبنانيين، فلمحت صورة وديع عقل، وأحلف أني سمعت وديعا يسألني كما كان يسألني عشرات المرات في سنوات العشرين كلما سبقت عمي أمين إلى مجالسه، سمعت وديع عقل يسألني: «أين أمين؟ متأخر كالعادة!» فإلى وديع عقل وغيره من أصدقائه الجالسين خالدين على حيطان دار الكتب أقول: إن رفيقكم أمين آت إليكم بعد أيام؛ فقد تفضلت الحكومة اللبنانية فأصدر معالي وزير التربية مرسوما بتعليق صورة أمين تقي الدين في دار الكتب. فللحكومة اللبنانية بشخص معالي وزير التربية الشكر.
هنا أود أن أثب من ميعان العاطفة لأذكر لكم أمثولة أخيرة تلقنتها من الفاجعة العاطفية:
لقد أحببت هذا الرجل لأقصى ما في مقدرة رجل أن يحب رجلا. وفي سنة 1937 كنت في مغترب بعيد: مانيلا؛ الفليبين، وكان من عادتي إذ أنصرف من مكتبي أن أمر ببناية البوسطة. وقفت أمام صندوق البريد أرى من خلال زجاجه رسالة عليها طابع لبنان واسمي باللغة العربية. وقفت مشدوها خائفا دقائق طويلة ومفتاح الصندوق بيدي أتطلع إلى الغلاف ولا أفتح الصندوق. ومر بي صديق أمريكي فسألني ما لي واقفا كالصنم، أجبت أني أخاف منظر هذا الغلاف، فضحك هازئا قائلا: يا لك من شرقي معتوه عاطفة! وتناول المفتاح من يدي وسلمني الغلاف. كانت تلك الرسالة نعي عمي أمين.
لم أبك ولم أتفجع، بل ألهمتني الغريزة أن أدفع عني هذه النكبة فحدثت نفسي: إنني بعيد عن أهلي وأصدقائي. كثيرون منهم لا يراسلونني، ولكني أعلم أنهم أحياء أحباء إلي. إذن فلأحسب أن هذا الذي جاءني نعيه لا يزال حيا بعيدا عني، ولكنه لا يراسلني.
إلى الذين يفجعون بحبيب، أنصح أن يحاربوا الحزن بهذا الخداع العقلي. ترى أهو حقا خداع أم حقيقة؟ كثيرون من الرفاق يغتربون إلى كندا وكولومبيا والأرجنتين؛ بعضهم يرجع إلينا، وبعضنا يغترب إليهم، وآخرون يبقون هناك، ونفنى هنا من غير أن نتراسل.
الموت هو اغتراب. في هذا الحديث لم أقل «المرحوم»؛ ذلك لأنني أقنعت نفسي أن عمي أمينا اغترب عني، أو أنني لا أزال مغتربا عنه. حيلة الضعيف، ولكنها ناجحة.
علمتني الحياة
خطاب أذيع على الراديو
أي شيء علمتني الحياة؟
هي علمتني الكثير، وهي لم تعلمني شيئا.
ذلك لأن الدروس التي ألقتها يطغى عليها اختيار شامل واحد ، وهو أن على الإنسان ألا يقف من الحياة - أشخاصها ومعضلاتها - وقفة حاسمة جازمة نهائية؛ فمواقف الحياة تتشابه في سطحياتها، والويل لمن يريد أن يعالج مشكلا على ضوء خبرته في مشكلة سابقة، من غير أن يحسب حسابا للعنصر البشري الذي يستحيل أن يكون واحدا في موقفين، ومن غير أن يعتبر أن المعضلات تبدو متشابهة، فهي إذن تحمل في طيها أسباب التضليل عن حقائقها؛ إذ تزين لصاحب العقل الكسول - والعقل بطبيعته كسول - أن يقول: «هذا مثل هذا وانتهى الأمر.» لذلك ترى المدجلين من مزيفي قادة الفكر يتوجهون إلى الجمهور الغني بوصفة - روشتة - واحدة، أو وصفات قليلة يبشرون بها أنها تشفي كل الأمراض، وتوصل إلى كل الأعراض؛ ولذلك ترى أن خصيان القول وصرعى الدجل لا يقبلون مساومة فيما يسمونه ثقافة، ثم كذلك تسمع هذه الأمثال والحكم والطرائف المحفوظة تغمر أحاديث السخاء وكتاباتهم وخطبهم. ولست أعرف من ظاهرة أدل على جمود التفكير بين الناطقين بالعربية، وبانعدام حيوية الإنتاج مثل هذا التقديس والإسراف بالاستشهاد بأبيات من الشعر والأمثال التي طغت على الأدب العربي والطرائف التي نرددها في كل يوم، سنة بعد سنة، بل جيلا بعد جيل.
إذن فالحياة إذ تسخو بتثقيفنا هي كذلك تنذرنا أن كل ما نحسبه خبرة يجب أن يبقى دائما رهن إعادة النظر أو الفحص من جديد. يجب أن يبقى أبدا موضوعا للتحوير والتبديل والتكييف والتقميص. ذلك الأفق الذي لاح فيه دخان ألف باخرة، وسطعت منه ألف شمس، يجب أن يبقى دائما تحت منظارك، فبعض ما ترى ليس له من وجود؛ لأنه خداع بصري، وأشياء تبدو كبيرة هي في حقيقتها صغيرة أو تقترب منها، وخلف أشرعة الزوارق التي زحمت أنفك أساطير جبابرة أنت تراها لو أنك اعتضت عن منظارك الضعيف بمنظار جبار.
كذلك يجب أن تحسب حسابا لما لا يرى من تيارات، وأن تحسب حسابا للمفاجآت، وأن تقف على أخمص قدميك كالملاكم مشدود العضلات، مجموع القبضتين، مستعدا للكر والفر.
إذن والحياة لا تعلم شيئا بشكل جازم نهائي، فما الذي علمتني إياه الحياة ؟
أمامنا دقائق فلنقتصر على غير المعروف وغير المألوف.
علمتني الحياة أن أحتمل زوادة من ذكريات جميلة لانتصارات أغذي بهما نفسي بنفسي كلما أصبت بهزيمة.
في زمن الدراسة عام 1919، ظفرت بجائزة ثلاثة جنيهات في مباراة كتابية عنوانها «مضار المسكرات». وبعد سنتين، كنا في مباراة البسكتبول السنوية وقد سجلت فرقتنا - وكنت من لاعبيها - 30 نقطة ضد 31 لأخصامنا، وقبل انتهاء اللعب بثوان، سجلت أنا إصابة فربحنا المباراة السنوية 32-31. بعد ذلك بثماني سنوات؛ أي سنة 1928، كنت تاجرا واستوردت في المهجر أول شحنة من الحقائب (شنتات) الكرتون، صنع ألمانيا، وربحت الشحنة الأولى ثلاثة آلاف دولار.
وكر الزمن وانقطعت عن الكتابة نحوا من اثنتي عشرة سنة، وضعف إيماني بنفسي ككاتب، ونزلت بي نكبة مالية فأفلست، وأصابني من ازدراء الناس ما هم أن يقنعني بأني في الحياة شيء لا قيمة له ومفروغ منه، غير أني لما يئست استعدت ذكرى الجائزة والمقالة الرابحة، فقلت لنفسي: إني كاتب ورسمت أمام عيني صورة الطابة تسجل الإصابة الأخيرة الفائزة، وأنا ورفاقي اللاعبون على أكتاف التلامذة. وكيف لن أفوز بالاتجار؛ شحنة حقائب الكرتون من همبورج ألم تربح 3000 دولار؟ سأكتب. أنا كاتب. سأتجر، أنا تاجر قدير لا يهمني ما يقول الناس.
زوادة النجاح أحتملها دائما. لا بأس أن تكون ذكرى تافهة كربحك سبع كلل، أو كأن تكون قد ضربت ابن الجيران فهرب منك، أو كأن تعجب بك بنت الباشكاتب. تزود ذكريات الظفر لتقوي معنوياتك إذ تنهدم. ولا ريب أنه يمر بك فترة في الحياة وقواك المعنوية في شلل، غير أنه من الضروري أن تقنن هذا الأفيون جرعات صغيرة، فتكون لك حافزا لا مخدرا.
ثم علمتني الحياة أن أعيش حياة ثانية صالحة لا واعية. زوادة الأوهام ضرورية للعيش. كل منا يحلم في يقظته أنه ديكتاتور، أو غني كبير، أو مخترع، أو أديب عالمي. هذا ضرب من الجنون النافع، شرط ألا يجمح، فإنه من هذه الأوهام المضطربة تتبلور فكرة واقعية أو حوار قد تستعمله في المستقبل، أو مشروع تجاري، أو روحي واقعي غير عادي. ولهذه الأوهام فائدة ثانية: ماذا أصابك البارحة من فشل؟ هل أرسلت مقالة إلى جريدة «مضرب الفجر» فلم ينشرها رئيس التحرير شمدص جهجاه؟ هل أقامت المفوضية «البلو كوفتشية» حفلة كوكتيل فدعت إليها جارك بندر بك علوش ولم تصلك ورقة دعوة؟ هل رأيت الأستاذ عوسج شنديب راكبا سيارة فخمة وهو صعلوك وأنت منتظر الترامواي تحت الأمطار؟ كل هذه أمور بسيطة يجب ألا تزعجك. افتح زوادة الأوهام حالا تصبح أكبر كاتب في الدنيا، ورئيس تحرير الجريدة شمدص جهجاه. مسكين شمدص جهجاه! ها هو يحاول أن يدخل إلى منزلك يرجوك راكعا على ركبتيه أن تجود عليه بمقال. أطل من النافذة وانظر إلى خادمتك «أبركسيا» والمكنسة في يدها تضرب بها شمدص جهجاه، وهذا يصيح: آخ ... آخ ... دخيلك اضربيني إنما أريد مقالا؛ مقالا قصيرا فقط لا غير.
أما سفير دولة «بلو كوفتشيا»، فمن أسهل الأمور أن تثأر منه. زوادة الأوهام. هذا أنت قد منحوك بالإجماع «جائزة نوبل» العالمية. أعلنوا اليوم في البلاد عيدا قوميا، وها هي الشوارع مزدانة، ورئيس الوزارة بالثوب الرسمي يرأس الحفلة لتقليد الوسام، وتسليمك الجائزة، فهل تحضر الحفلة؟ بالطبع تحضر الحفلة بشرط واحد؛ وهو ألا يدعى إليها سفير دولة «بلو كوفتشيا»، يا سيدي، يوجد بروتوكول. علاقات دولية. أبدا، أنت لا يهمك البروتوكول ولا العلاقات الدولية. سفير «بلو كوفتشيا» بدلا من مجيئه إلى الحفلة ليذهب فيزور بندر «بك» علوش الذي كان يدعى إلى حفلات الكوكتيل ولا تدعى أنت. أما الأوتوموبيل الفخم وعوسج شنديب وأنت منتظر الترامواي فهذا أمر تافه. زوادة الأوهام: هو ذا سيارة - أول سيارة تسري بقوة الاندفاع الذاتي وعزم الذرة يقودها شوفران اثنان بوقت واحد. وفيها راديو وتلفون ... و... و... من يقدر أن يصف ما فيها وهي تجري بك في الشارع، والثلوج تتساقط، والأرياح تثور - من ترى في الشارع؟ بالطبع بندر علوش. ماذا يعمل؟ مسكين منتظر الترامواي. ها هو يناديك أن تقف له. فهل تقف؟ وهل تفتح له الباب وتجلسه إلى جانب أحد السائقين؟ وهل تجود بالمقال على شمدص جهجاه؟ هل تأذن لرئيس الوزارة بدعوة سفير «بلو كوفتشيا»؟ كل هذا غير مهم. المهم أنك بنيت من الأوهام ملجأ تحلم فيه أنك قد قتلت في نفسك النقمة التي تتأكل قلبك. زوادة الأوهام ضرورية في الحياة، وهي مفيدة شرط ألا تأكل منها بنهم.
علمتني الحياة أن الحسد غريزة بهيمية نهاشة هدامة، وأنك لا تستطيع أن تقهرها بغير أن تقاتلها بكل ما تملكه من أسلحة، من تقوى وواقعية وكبر نفس. كنت حسودا إلى درجة قصوى، وكدت أختص بالحسد أصدقائي ورفاقي في المدرسة. من قوانين هذه المحطة ألا نذكر أسماء. إذن فأكتفي أن أقول أن بين بعض أصحابي الجامعيين أشخاصا لهم شهرة عالمية، وكنت كلما وقعت على إخبارهم أتحسر وأحسد وأنقم أن يكونوا هم في رفيع المقامات وأنا إذ ذاك خامل الذكر. لقد تغلبت على هذه الرذيلة بتطور بطيء وبقفزات طفرة. يصعب تحديد الساعة التي أعلنت فيها الانتصار، غير أنه من الممكن الإشارة إلى حدوثها بوجه عام إثر سماعي عبارة من محامي، فقد كان لي في «الفلبين» محام صديق يتولى شئوني القضائية والحكومية العارضة، وكانت شيئا تافها. وفي ذات يوم، اتفق له أن يعالج من أجلي أمرا هاما، فرحنا نطوف في الدواوين من مدير إلى وزير إلى نائب رئيس الجمهورية، وكان صديقي المحامي حيث دخلنا يجد الأصدقاء ويعرفني «هذا ابن صفي. هذا يسبقني بسنة في الدراسة. هذا كان منافسي في الركض. هذا غلبته في السباحة.» وكان صديقي المحامي رجلا غير شهير ولا عظيم. ولما انتهى بنا الطواف في السراي وركبنا التاكسي نحو المكتب التفت إلى صديقي المحامي وقال: «أتعلم يا سعيد؟ كلما رأيت أصدقائي يحتلون المراكز العالمية.» قلت مقاطعا وكنت أكشف عن شعوري: «طبعا حدثت نفسك: الله يلعن الحظ.» فضحك وقال: «لا، كلما قوي أصدقائي شعرت بالقوة في نفسي.»
منذ تلك الساعة عكست موقفي العاطفي نحو أصدقائي الناجحين، وهم اليوم يلمسونه، ووجدت في نفسي القوة بدلا من الحسرة، وجمال الحب بدلا من بشاعة البغض، وواقعية الربح بدلا من الخسارة. قلت إن أصدقائي الناجحين في الحياة يلمسون اليوم شعوري . كيف يلمسونه؟ الإحساس يجد طريقه إلى الآخرين. الحسد غريزة بهيمية نهاشة هدامة. علمتني الحياة أنه من الجميل والنافع والممكن أن أقهرها. علمتني الحياة - آخ - ضاع الوقت، وعلى ذكر الوقت علمتني الحياة أن أفهم الوقت، فأنا اليوم أعلم أن حياة الإنسان طويلة؛ أربعون خمسون ستون سنة هي ساعات كثيرة في وسع أي واحد منا أن يحقق فيها أمورا مهمة، شرط ألا نهدم الوقت. هذه السهرات ساعات، ساعات لماذا؟
قدم لضيوفك القهوة والشراب، ولكن لا تقدم الوقت، هو أثمن من أن يهدر، والوقت ليس له من بديل. بعض الأمور كالخمرة يلزمها التحقيق. وقبل أن يدهمنا الوقت - وقت المحطة - فإليكم الأمثولة الأخيرة التي ألقتها علي الحياة. عامل الناس كأنك مرشح للانتخابات، وكأنهم كلهم ناخبون، وكأن يوم الاقتراع غدا.
على أعتاب هيكل
جلسنا على منصة الخطابة وخلفنا مكتبة الجامعة الأميركية، تلك البناية التي أهداها آل يافث إلى الجامعة، وقد كلفت ما يزيد عن مليوني ليرة. وحقا إن المنصة التي جلس عليها نحو من عشرين بأثوابهم العامية، ونياشينهم يواجهها الحشد يترأسه فخامة رئيس الجمهورية، ولفيف من الدبلوماسيين، والدرج الذي استدار بالمنصة. كل هذا أوهم الناظر أن هنالك جمعا من المتعبدين.
بدأت الخطاب ب «فخامة الرئيس»، ثم خاطبت وزير البرازيل بكلمات برتغالية سرغس لها الجمهور، ثم «سيداتي وسادتي».
صاحب الفخامة.
سيداتي وسادتي.
أمام بطولة الأعمال باطلة هي الأقوال.
ليس للكلام قيمة في هذا الاحتفال إلا أنه تجسيد لعاطفة تنحني بتقدير وخشوع أمام إنتاج الكبر.
إذن فلتكن الألفاظ قليلة رصينة متواضعة هادئة.
فإنما نحن جالسون على أعتاب هيكل.
إن أول ما يمثله هذا التمثال هو التمرد، فلقد ولد نعمة يافث في مجتمع لم يسهل لأفراده الثقافة، فطلب الثقافة ثائرا على أوضاع أرادت أن تحرمه نعمة العلم والدرس والتهذيب، فاقتنصها جهادا متغلبا على الحرمان.
وجاء المجتمع يفرض الحدود على نعمة يافث محاولا أن يسمره إلى مكانه، لا يحقق فيه إمكانيات سخت عليه بها الأجيال من قوة جسدية وأخلاقية وعقلية، فتمرد وهبت به روح الصراع فاغترب.
أقول اغترب ولا أقول انهزم. إن أكثر المنهزمين يهربون وهم قاعدون.
وفي البرازيل وجد تربة لا صحارى: تربة تسخو على الحبوب الجيدة، فنبت ونما وازدهر دوحة هي أسرة اليافث.
وجاء دور الانتقام، فنفذ انتقامه على ذروته من السمو الاجتماعي؛ إذ جاد على الحياة التي اضطهدته وحرمته وشردته بأن أعطاها ما يخفف الاضطهاد والحرمان والتشريد.
وها هو الانتقام يطل باسما من مكتبة على شرفة بيروت، ويشرئب في دار بلدية تنهض في ضهور الشوير، وينهمر إحسانا جوادا، ويشع في ألف سراج وضاء هنا وعبر البحار.
ونفذ نعمة يافث في المجتمع خلال حياته وبعد مماته حقيقة اجتماعية وضرورة هي الاستمرار والرقي والنمو والتوسع والقوة التصاعدية، فجاء أبناؤه وبناته حاملين رسالة المعلم أبيهم.
كان أيسر على هؤلاء الأفراد أن يسبحوا في بحر من السعة والترف، ثم فيه يغرقون.
كان أهون عليهم أن يشيدوا من أتعاب سواهم أهراما من الجاه يشمخ على الناس، وفيه أجسادهم المحنطة يدفنون. كان من المغري أن تتحجر قلوبهم بنايات؛ طوابقها يستغلون، ولكنهم آثروا ممارسة الخير فانطلقوا شاعرين بالمسئولية الكبرى يفعلون.
ليس في مقدور هذه الأمة أفرادها وحكوماتها أن تهب شيئا لآل يافث يزيد في مكانتهم السياسية أو المالية أو الاجتماعية. ليس في وسعنا أن نسخو على هؤلاء الأسخياء.
غير أن جمعية متخرجي الجامعة، وقد كان نعمة يافث أحد أفرادها، وبعض أعضائنا العاملين هم من أسرة يافث، تود الجمعية أن ترمز إلى فخرها به وبهم، فهي تمنح لأول مرة في تاريخها الآن وهنا الوسام الوحيد: وسام دانيال بلس، يحمله إلى السيد كارلوس يافث؛ حفيد دانيال بلس الكبير، وحامل اسمه الدكتور دانيال بلس.
إن القوة تجوهر نفسها حين تصبح قوة، ولقد أعطى بنو يافث من قوتهم قدوة. علينا أن ننفذ الشطر الثاني والأهم والأصعب؛ وهو أن نقتدي.
قافلة جمال
كانوا على همة أن يمثلوا رواية في حفلة «عبية» المدرسية، وراح الخطباء يقفون أمام الستار الذي يحجب المسرح. وقفت وقلت: «الحمد لله، فهذا مكان لا يخاف الإنسان فيه أن يدير ظهره إلى ستار لا يدري ما وراءه .» ولسبب ما، شد أحد التلامذة الممثلين بالستار فتمزق، وانكشف المسرح، فأضفت: «والحمد لله، فنحن في مكان لا نهرب منه إن بان ما اختفى خلف الستار.» وألقيت خطابي. يسرني، وقد أتاح لي طبع هذا الكتاب، أن أسجل على نفسي شيئا من نقيصة التملق الذي تغلغل في كلامي.
للرجل في حياته حادثتان: الولادة والموت.
نقيم الأفراح للأولى، وللثانية المناحات والمآتم.
أما أنا ففي هذا المعبد، هنا في عبية، وفي هذه الساعة أجد أني أهم أن تصيبني في حياتي حادثة ثالثة هي حادثة الكهولة.
فحين أمد يدي إلى جيبي وانتزع منها هذه النظارات لأضعها على عيني أكون قد فعلت هذا لأول مرة في حياتي. هكذا أعترف أنني أصبحت كهلا.
حين يولد الطفل يأتي المهنئون فنطعمهم «المغلي»، ولو أني أقمت حفلة لكهولتي وجاءني الناس، لطفت عليهم بكئوس ملأت أنصافها بالمغلي، والأنصاف الثانية بزوم الزيتون، ووضعت في كل كأس شيئا من حب الصنوبر؛ لأذكرهم بأفراح الحياة، وشيئا من شظايا حجارة الصوان؛ لأذكرهم بتلك البلاطة التي ستعلو صدورنا حين نموت؛ تلك البلاطة التي ستغطي القميص الحريري، أو القميص القطني، أو الجسد الذي لا يرتدي قميصا.
وبعد، فقد لا يكون من مغزى لكأس ملئت بالمغلي وبزوم الزيتون، ومزجت بحبوب الصنوبر وحصى الصوان، فنحن في كل يوم نحيا قليلا ونموت قليلا.
يسمون هذا الشهر شهر توزيع الشهادات المدرسية، موسم الخطابة، غير أنه وقد كثرت وقفاتي في هذا الموسم لا أدري إن كنت زارعا أو حاصدا، ولا أعرف إن كنت جئت لأبيع أو لأشتري. في الأحد الماضي، كنا في حفلة مدرسة الشوير حيث ألقيت خطابا، وفي الساعة نفسها كانت مدرسة كفر شيما تقيم حفلتها، وكان يلقي فيها خطابا أخي بهيج.
وتقدمت سيدة من بهيج تقول: أنت هنا وسعيد في الشوير، وفي الأسبوع القادم خطاب في عبية؟!
أجاب بهيج: ما العمل؟ هذه بضاعتنا.
سؤال عادي، وجواب قد يكون عاديا، ولكن الحكيم يجد المغازي في الأقوال العادية. كلنا صاحب بضاعة، كلنا بائع وشار، مصدر ومستورد، منتج ومستهلك. هذا المعهد تشترون فيه الثقافة بمال جناه آباؤكم من بضاعة باعوها، وبأموال أخرى قدمها رجال جنوها من بضاعة باعوها. ليس الاتجار بعار. العار إن ساءت البضاعة أو فسدت السوق. كلنا يذكر الحداء: «نحن نبيع الروح للي يشتري.» لقد باعها - وهي كل ما يملك من بضاعة في السوق التي تعرفونها - فتى الجبل فتاكم: عادل النكدي.
في مثل هذا المعهد تدرسون وتجهدون لأمرين؛ الأول: لتعدوا نفوسكم لبيع البضاعة غير المغشوشة، والثاني: لتتدربوا على شراء البضاعة غير المغشوشة. بين الاثنين علاقة وثيقة؛ لأن الحياة مثل التجارة: عرض وطلب. وصحيح القول أنه من الصعب أن يجزم المفكر في أيهما أكبر أهمية؛ معرفة ما يبيعه الإنسان أو معرفة ما يشتريه؛ لأن الطلب يخلق العرض. لقد راجت في لبنان بضائع لم يعرف مثلها الألمان ولا الأميركان ولا الإنكليز ولا الطليان، ولا شهدوا لها شبيها لا في الصين ولا في الأرجنتين ولا في اليابان ولا في بلوخستان، وربح بها تجارها وأثروا واعتزوا؛ ذلك لأن تلك البضاعة نحن نشتريها.
حول بيتنا في بيروت - الآن وقد جاء الصيف - أرى في كل صباح السجاد يتدلى على بلكونات الجيران، وأسمع أصوات العصي تنهال على السجاد تطرد منه الغبار. إني كلما أرى الخادمة تهوي بالعصا على السجادة أشعر كأن تلك العصا نزلت على رأسي، وأذكر ذلك اليهودي في مانيلا «الفلبين» الذي عريت قاعته من السجاد، وازدانت حيطان صالونه بوصولات التبرع للجمعيات الصهيونية. واليوم ذلك اليهودي له دولة، وأصحاب السجاد بعضهم على الحصيرة، وبعضهم على أحقر من الحصيرة.
ونحن لو احترمنا الناس لا بسبب الأوتوموبيل الذي يركبون، ولا المأدبة التي بها يسخون، ولا الكرافتات التي بها يزدانون، ولا السجاد الذي به بيوتهم يفرشون، بل لأجل المساهمة بمثل هذه الأعمال النبيلة التي قام بها هذا المعهد، وهذا الميتم، لاغتصبنا النبل والعمل الكريم، ولطغت قيم الروح على قيم المادة.
أعود إلى نظاراتي فأذكر أن من مظاهر الكهولة إبداء النصح.
أود أن أستميحكم عذرا فأقدم لهؤلاء الفتيان الأحباء لا نصيحة واحدة، لا جملا واحدا بل قافلة جمال.
فأولا:
ليتعلم الواحد منكم مهنة أو حرفة وليتقنها. في نظر الله وفي نظر أشراف البشر العمل طبقة واحدة. سائق الترامواي وطبيب الأسنان، أستاذ المدرسة ومصلح الأحذية، الممرضة وخادمة البيت، كلهم عند الله وعند الراقين من الناس في صف واحد. أتقنوا عملكم. كثيرون من الإخوان يأتون في طلب عمل. تسأل الواحد ما الذي في وسعك أن تعمل يجيب: «إشمكان.» إن الذي يطلب «إشمكان» يحصل على عمل في الحياة اسمه «إشمكان.» الصخر بضاعة غير رائجة، الحجر المنحوت تقدرون أن تبيعوه.
ثانيا:
ليس لكم من عدو. ابن العائلة الثانية ما هو بعدوكم. ابن الضيعة المجاورة ما هو بعدوكم. ابن الطائفة الثانية ما هو بعدوكم. إن الذي يبيعكم العداء والخصام والمشاكسة يبيعكم سما ويتجر بجهلكم. بضاعة العداء تدر الربح على بائعها فقط. وحين ترفضونها لن يجدوا لها مشتريا. لن تجنوا من العداء والبغضاء إلا الجريمة والخسارة. حين وصلت «الفلبين» عام 1925 جاءني نسيب لي رحمه الله فهمس في أذني أن لي هناك عدوين كامل حمادة وزوجته، فصدقت لأنني كنت قد صحبت من هنا «ستوك» من سقط المتاع، ما يسميه التجار «جوبا» من البغضاء. وصرنا إلى يوم أصبح فيه كامل حمادة وزوجته أحب إلي من أهلي، وصرت أحب إليهم من أهلهم. وجنينا كلنا من هذه الألفة ربحا ماديا، وما هو أثمن من الربح المادي: هو الشركة الروحية؛ إذ يشاطر الإنسان أخاه الإنسان ضحكاته ودموعه. امش نحو هذا الذي تتوهمه عدوك خطوة وابتسم، تر أنه هو الآخر كذلك مشتاق إلى أخوتك والتعاون معك.
ثالثا: - أي الجمل الثلاث - اشتروا البضاعة الجيدة حيث وجدتموها. بعض البضائع الجيدة لا تباع في «الأوكازيون» ولا يعلن عنها. من أقبح التعابير التي اخترعتها الصحف هو اصطلاح «الطبقة المثقفة»، وبشاعة هذا التعبير هو أن يخلق من المثقفين «طبقة»؛ هذه الطبقة قد لا تطلب البضاعة إلا في الأسواق الشهيرة؛ حيث عمرت الثقافة. قصب السكر دسم وشهي في «الدامور»، وهو كذلك دسم وشهي في «أنطلياس». اقرءوا كتب الفلسفة وطالعوا سير العظام، وقولوا لي هل تجدون الإيمان والتقوى والقناعة والنزاهة أعمر وأصلب في أي مكان من الدنيا، منها ها هنا في قلوب أجاويد الدروز؟
النصيحة الرابعة، الجمل الرابع: هو نصيحة سلبية. لقد وهبنا الله فصاحة في النطق وبلاغة في التعبير وكياسة في السلوك. كل هذا نفخر به ولكننا فيه مسرفون. ليس من الضروري إن تزوج واحد منا أو مات منا رجل أن يحضر العرس أو المأتم كل أهل الأرض.
ورد سلام، تهان وتعاز، تلغرافات شكر وتلغرافات معايدة، بطاقات، باقات زهور، سهرات، مجاملات ... لقد كركبنا الحياة كثيرا.
من أشهر رجال هذه البلدة حكيم اسمه الدكتور جميل كنعان. لقد عرفته منذ ربع قرن وعالجني موفقا. وحين رجعت من غربة هذه السنوات الكثيرة كنت أشتهي أن أراه لنتبادل كلمة «مرحبا»، على أنه وقد «قصر في السلام علي» أحب أن أؤكد لكم أنه لم يصبح من أعدائي. حين أجتمع به قد أعاتبه وقد لا أعاتبه. على كل حال طمئنوه أنني «مش رح قوسه.»
ما دامت بضاعته جيدة فلا أبالي إذا هو لم يناد علي: «تفضل يا خواجة.»
هنا تزدوج النصيحة، فهاكم توءم جمال خوفا من أن تطول القافلة. حذار أن تعجبوا بشخصين: الأديب وموظف الحكومة.
أما الإعجاب بالأديب فيرجع أمره إلى الماضي القريب يوم كان أكثرنا أميين، فسطع كل من نظم بيتا أو خط سطرا أو ألقى كلمة. صدقوني أيها الفتيان، إنه لا يستحق الإعجاب أكثر هذا الذي تقرءون وتسمعون. لقد سموا بحق «حملة أقلام». أكثر ما ينشر الفرق بينه وبين العادي والمبتذل أنه كلمات طبعت. لا تحسبوهم أبطالا هؤلاء الذين باعوا أقلامهم كما باعت البغي عرضها.
إن أقل ما في مقدوركم فعله هو ألا تحذوا حذوهم.
أما إن كان بينكم «فلتة» عبقري، فلست أرجوه أن يصم أذنيه عن سماعي؛ لأنه لاه عن الاستماع إلي وإلى سواي بالإصغاء إلى خفقات قلبه.
أما موظف الحكومة فيرجع عهد الإعجاب به إلى يوم كان الباشا باشا. صدقوني؛ إن هذه الهالة من العظمة التي تحيق بأي كان من موظفي الحكومة ستختفي.
وهذه النصيحة الأخيرة ما هي بجمل ، بل هي ناقة ذلول.
أعطوا شيئا من جهودكم وتفكيركم وأموالكم للخدمة العامة. أقول أموالكم؛ على العلم بأن أكثركم ليسوا بموسرين. ليس في الدنيا فقير، كلنا أغنياء. من ليس في قدرته أن يعطي المليون فليعط المائة ألف أو الليرة أو القرش الواحد. فقرنا ليس في الجيوب، بل هو في القلوب.
كثيرون منا لا يعرفون السباحة، وما انغمسوا في البحر قط: هؤلاء تفوتهم نشوة الانطلاق في الماء المنعش، ولا يعرفون لذة الابتراد متحررين من أثوابهم.
تحرروا من أثواب الأنانية والتقتير وانغمسوا في بحر العطاء. أعطوا القليل أو الكثير. إنكم تحسنون إلى أنفسكم إذ تحسنون إلى سواكم. أعطوا من الوقت والجلد والمال خدمة عامة مجردة. إنكم إذ ذاك تقتربون من أخيكم الإنسان.
قلت في بدء خطابي: إني لا أعرف إن كنت حاصدا أم زارعا، شاريا أم بائعا. أما الآن فقد وضح الأمر. لقد جئت إلى هذا المعهد الكريم لأبيع قافلة جمال ولا أدري ما حظي في هذه الصفقة. كل ما أعرف أنه في مثل هذا السوق أحب أن أتجر.
الأعمدة السوداء
هذه أبهج حفلة حضرتها أو خطبت فيها. لن أنسى كيف مشى ذلك الشيخ المثلج الشعر تسبقه دموعه نحو منبر ليلقي كلمته ويتقبل وسامه. كانت الحفلة في بناية الأونسكو والقاعة شبه ملأى، ومرح الحضور يعلن أننا في مهرجان. عفو القارئ إن اعترفت أنني خلال الحفلة كنت أزغرد في نفسي: «أكثر هذا الجمال من صنع يدي.» فلقد كانت تكريما للشاعر وديع بستاني، الذي ترجم من الهندية إلى العربية ملحمة «مهيرانا»، وطبعتها جمعية متخرجي الجامعة الأميركية يوم كنت رئيسها. من خطباء الحفلة تلك: سعيد عقل، وعبد الله العلايلي، وكمال جنبلاط، وفؤاد أفرام البستاني.
سألت المحتفى به حين لقيته لأول مرة: بماذا أناديك؟ أستاذ؟ لفظة لا تتناغم مع الشاعرية. وليس لي أن أدعوه باسمه عاريا. أجاب أديب الملاحم الذي نحتفل به اليوم: «نادني يا عمي. أنت لا تدري أنني كنت صديقا حميما لأبيك.»
فيا عمي، بل يا عمنا جميعا، لا تحضرني عبارة أحييك بها أجمل من المثل اللاتيني: «الفضيلة تتوج رأس من يعبدها.» وأنت عبدت الفضيلة من زمن بعيد، فزانت رأسك بتاج ليست «المهابهاراتا» إلا جوهرة هندية جديدة تترصع فيه.
كثيرا ما واكب الإنتاج الأدبي جهدا عمليا فيه غمار. فكم وراء قصة من قصة، وخلف رواية من رواية!
وإن لهذه الملحمة ملحمة غير معروفة، كانت آخر صفحة فيها شاشة ظهر عليها مطران ودكتور وجريح ومجنون، وكبير المجانين، وكيلو من «النفتلين»، وخمسمائة متر ماء، وضيعة الدبية وعاليه وبتدين، وبالطبع بعقلين، وأربعة آلاف من متخرجي الجامعة الأميركية.
كان ذلك منذ سنتين حين شخصت إلى كاهن الشوف سيادة المطران بستاني منتدبا لمهمة سياسية ازدوجت بمحاولة الحصول على خمسمائة متر ماء، تضاف إلى ألفي متر نالتها بلدتي بعقلين من كرسي المطرانية المارونية في بيت الدين.
وجلست إلى كاهن الشوف فأمر لي بكأس من النبيذ المعتق، نبيذ عتيق يرجع عهده إلى زمن ماض سحيق، يوم كنا في الشوف دروزا وكنا نصارى. وبدأنا الحديث عن الملاحم، وأنهيناه عن الملاحم. هكذا غرقت السياسة بخمسمائة متر ماء، وتبخر الماء قبل أن ينهمر، وخرجت متطوعا لطبع ملحمة «المهابهاراتا.»
ثم كان اجتماع عاليه في بيت الدكتور جورج حنا، حضره أحد مجانين هذا البلد عزمي البحيري؛ صاحب «دار الأحد». أسميه بالمجنون؛ لأنه يفهم مهنته فنا ورسالة فقط لا غير.
وأقبل فؤاد بستاني - ابن عمي وديع، ابن عمنا - حاملا من «الدبية» جرابا يخنقه حبل وخيطان. وفك الجراب وأفرغه في زاوية البيت، فتهاوت من الجراب ثلاث عشرة مخطوطة شعرية؛ ترجمات لكنوز الهند، حنطها «النفتلين» وانتشرت من النفتلين في الغرفة غيمة بيضاء أحرق فوحها أنوفنا، وتأجج في نفوسنا نقمة وثورة.
من ظلمة الجراب المخنوق تدحرجت مجهودات أربعين سنة. أين سيد هذا المجهود؟ أسير جريح الروح في «إسرائيل» ما صان حريته الناطقون باللغة التي أغناها، وما حرر مواطنوه أسر الحروف التي انحبست في مخطوطاته.
وتجسدت النقمة والثورة في إيجابية مشروع «المهابهاراتا»، وجاء ذلك العمل بعض واجبات جمعية متخرجي الجامعة الأميركية التي تزهو بأن وديع بستاني أحد أعضائها.
جمعية المتخرجين التي نشرت هذا الكتاب يترأسها اليوم أميل بستاني - ابن أخ عمي - وقد ظفر بالرئاسة لأسباب عديدة، أهمها أنني قاومت انتخابه بشدة، ولكنه أعلن فور فوزه أنه خلف خير سلف. وقلت يومئذ: ومعاذ الله أن أكون (صرحت): سأحتفظ بالجواب على هذا المديح حتى أرى أعمال الخلف. أما اليوم وقد ظهرت الأعمال - وإنجاز طبع «المهابهاراتا» أحدها - فإنني أعلن، لا أصرح، أن رئيس جمعية المتخرجين اليوم هو خير خلف لمن سلف، وأنه قد نال مني ثقتي بالإجماع، ومن غير خبط على الطاولات.
ذكرت فضيلة «عمنا» ولم أذكر مواهبه، مع أن ترجمته لرباعيات عمر الخيام هي رائعة عالمية، كما أن ترجمة سامي جريديني ل «يوليوس قيصر» عن شكسبير هي رائعة عالمية نثرية.
ما تغنيت بالمواهب لأن النبوغ شيء تغرسه الحياة وتتعهده، ولكن الفضيلة تنظمه إنتاجا صادقا نافعا.
قال رجل الساعة في الهند البانديت نهرو: «في الهند كل شيء مليح، وكل شيء قبيح، فاختر لنفسك ما يحلو.» في الهند المهاتما غاندي «أراد أن يمسح كل دمعة عن كل عين.» وفي الهند اليوم كبير تلامذة غاندي Bavay يبارز نفسه ويخاصمها ويلاكمها، ففيما هو يبشر بعقيدة معلمه غنديجي داعيا إلى
Ahimsa ؛ أي اللاعنف، إذا به يقول: «إن ولادة حضارة جديدة يصحبها أبدا اغتسال بدم.» في الهند مئات اللهجات والأديان واللغات والعلوم والخرافات والأوهام والحقائق، غير أن وديع بستاني نفذ عن قصد أو غير قصد نظرية هندية اسمها
Apurva ، وهي تختصر كما شرحها
وتفهم وتعمق عشرا، عشرين، ثلاثين، أربعين سنة، ظهر على الناس بالثمار التي جناها ونقدرها ونستطيبها.
هذه اللفتات نحو الهند وأميركا وأوروبا وسواها هي من خلجات عيوننا، وفي سياق تقاليدنا؛ فنحن أمة لا تغلق نوافذ بلادها، ولكننا ما سرحنا الطرف مرة عبر حدودنا إلا ارتد ليكشف عن أن كنوزنا ومناهل قوتنا هي فينا، في نفوسنا لا في سواها .
ففي عالم الملحمة، نجد الشائع المعروف أن الملاحم الموجودة هي إغريقية وهندوية، والحقيقة أن أقدم الملاحم وأعظمها هي ملاحمنا. ملحمة ما بين النهرين «جلقامش» التي تروي - في شاعرية تتألق - قصة تحضير الإنسان، وتناقش في فلسفة مولدة سر الوصول إلى الحياة الأبدية، منتهية بأسطورة الطوفان، وقصة «أدابا»؛ إنساننا الذي كاد يظفر بالحياة الأبدية، وأسطورة التكوين والخليقة «أينومآليش» وملاحم رأس شمرا، وفيها ملحمة الملك «كارت»، وملحمة الملك «دانل»، وملحمة الصراع بين بعل ويم، ملحمة الصراع بين بعل وموط، وأساطير اليسار وعشتار في صور وجبيل. ويحسن بكل منا أن يتمتع بروائع الصور التي ظهرت في عدد ك 2 عام 1951 من مجلة الأبحاث الجغرافية، في مقال عنوانه «نور ما خبا»، بقلم العلامة سبيرز. وليس هذا العلامة بالبحاثة الوحيد الذي يثبت أن ملاحمنا هي أقدم ملاحم الدنيا وأعظمها، وأن ملاحم الإغريق كالإلياذة أخذت عنا، بل هنالك جمع من العلماء يؤيد سبيرز أقتصر على ذكر خمسة منهم:
شار، إدوار، دورم، ألن، كاردنر، كامبل تامسن، فون أبنهايم.
وأذكر أني استمعت إلى العلامة كلودشيفر يلقي محاضرة في الملاحم سنة 1950، معلنا كما اتضح من حفريات رأس شمرا وملاحمها أن أمتنا كانت أول أمة قالت بالتوحيد.
أية فائدة من التفاخر بماضينا؟ من أساطيرنا أن امرأة تطلعت إلى خلفها فاستحالت عمودا أسود. كثيرون منا تجمدوا عواميد محدقين بالماضي فاسفنكسوا. نحن إن تلفتنا إلى الماضي فلنتزود للمستقبل. وإذا آمنا في غدنا فلأننا نخلق في يومنا؛ ففي الشهور المقبلة ستطلع على دنيا الأدب ملحمة شعت من براعة أحد شعراء نهضتنا الفتى «أدونيس». اسمحوا لي ما دمنا في جو هندوي أن أقرأ منها أبياتا تشير إلى الهند:
نحن والهند خافقان ... ففي الشمس
دروب مرت عليها خطانا
ضمنا في القديم توق إلى السر ...
إلى أن نرى الإله عيانا
هو فينا حب عميق وفيض
وهو أقوى من القديم الآنا
آمن العقل أن لبنان روى
ضمأ الناس فكرة ولسانا
بحرنا البحر ... كل لفتة جيد
سرقت عن شطوطه الأرجوانا
سائلوه فموسم الفكر في عينيه
ما زال حافلا ريانا
بحرنا البحر ... لمت الأرض كفيه
ومدت أمواجه أجفانا
فر من شطه الصغير فقد صارت
حدود الدنيا له شطآنا
حملتنا خضر النجوم وشكتنا
على كل مشرق مهرجانا
لم نحدد لبنان فكرا وحبا
إن في كل موطن لبنانا
يسألنا إخوان لنا: ما هذه النقمة تغمر نفوسكم، واللهب يتطاير من عيونكم وكلماتكم وأعمالكم؟ على ماذا أنتم ناقمون؟ ماذا تريدون؟ الجواب نعطيه هنا ونعطيه الآن:
نحن نرى «الدبية» في كل ضيعة، وفي كل مواطن نرى وديع بستاني. نحن نرى الحروف الحبيسة. نحن ننشق رائحة «النفتلين». إن الأعمدة السوداء ما تزال تعترض طريقنا. نحن نرى ونتحسس الحبل والخيطان الظاهرة والخفية الملتفة على أعناق مواطنينا الخانقة كنوز أمتنا. نريد أن نبتك الحبل والخيطان كي تنطلق قوى الخير وقوى الحق والجمال.
هذه مهمتنا في الحياة، ولا نستطيع تنفيذها إلا إذا بقيت نفوسنا موارة بتحرق من يفهم أمسه، ويخلق في يومه، فهو مؤمن بغده. بعض هذه الحفلة هو غد ليوم بيت الدين، ولنا في كل يوم حفلة هي غد لوعد قطعناه:
فيا يومنا إلى غد «يا غدا يؤثر»
لنصغ إلى همسة الضياء
كثيرا ما تعكس الحياة أدوار من يظهرون على مسرحها. في فتوتي كان إبراهيم منذر خطيبا نتسابق إلى الاستماع إليه. ويا طالما جلست بين نظارة محدقة بمنبر يعتليه. مرة واحدة كنت أنا على منبر وكان هو بين النظارة. كان ذلك في حفلة تكريمه في «بكفيا» والشيخ إبراهيم هرم على ثلاث إحداهن عصاه.
في المهرجان يغلب المرح على النفوس. أما أنا فنفسي في هذا المهرجان يستبد بها الخوف.
الخوف من أن ألحن في اللغة أمام شيخ الطهارة اللغوية، فإن بيني وبين قواعد اللغة مثل ما بين الحكومة والمعارضة.
لقد زينت هذا الخطاب وشكلته بالضمة والفتحة والكسرة، خوفا من غلطة نحوية أو صرفية تستفز الشيخ إبراهيم، فيثب إلي بعصاه! وإني أطمئن جمهور أصدقائه ألا يقلقوا على صحة المحتفى به، فإن رجلا لا تزال عصاه تخيف الناس لهو رجل لم يبرح في شرخ شبابه!
غير أنا عصا الشيخ ليست وحدها التي تخيفني . صرت أخاف أن أمدح الناس. في هذا الزمن الذي طغى فيه الفساد، صار أسلم للذي يعبد ضميره أن يشتم جيرانه من أن يثني عليهم. لقد سطرت في الماضي القريب عبارات مديح وددت لو أعطي لي أن أمحوها، ولو حكا ببؤبؤ عيني.
غير أن الرجل الذي نحاول اليوم تكريمه عجمته عقود السنين وسقت فولاذه نيران الحياة، فكان مصباحا لم ينطفئ في الإعصار، وبارودة لم تغالط في المعركة.
لقد استأثرت بكفيا بالكثيرين من العظام، فلا ندري لما دعينا إليها. أنحن ننزل بكفيا ضيوفا أم نؤمها حجاجا؟
إن لبنان الذي قلت وثباته وطال سكونه لعظيم حين يخشع أمام هذا القروي الفقير، ولكنه كان أعظم في أمسه حين قذف بهذا القروي الفقير فولاه شرف نيابته، وقال له: كن من أسياد هذا الشعب؛ لأنك كنت من خيرة خدامه.
ونحن اليوم لن تصلح أمورنا ما لم نختر الأسياد من الخدمة الصالحين.
في جنوب لبنان، ألوف من مشردين يتضورون تحت أفياء الشجر، وينتظرون وصول الأرغفة من بيروت. لماذا؟
عشنا ثلاثين عاما نقول لليهود: لن نقبلكم فاتحين في أرض ورثناها، واليوم نضرع إليهم أن اقبلونا لاجئين في أرض فقدناها. لماذا، لماذا؟
حين تعالت صرخات نساء العرب الثكالى، من أخرس المدافع العربية؟ من أخرسها؟ من جمد الجيوش في مراكزها؟
من الذين أقاموا للمستعمرين عرشا للجهل والخيانة والصغارة والعبودية، وقدموا فلسطين أكلة دسمة لليهود، وطافوا على اليهود بأقداح ملئت بدماء ضحايا العرب؟
من هم أساطين الخداع الذين يصقلون بالدم البريء كذبهم البراق؟
من هم؟
أناس ولدوا أسيادا!
حينما ندعو النجار ليصلح نافذة الغرفة نتثبت من مقدرته ومن معداته الميكانيكية، ولكننا في الأقطار العربية لا نزال نسلم مقاليد أمورنا وأسباب موتنا وحياتنا لأناس لا نسألهم من أنتم، بل من كان جدكم الأعلى.
إن لبنان الوطن الذي نشتهي له أن يمشي طليقا من الأغلال لن يصبح ما نشتهي، ولن يكون نصيبه بأفضل من نصيب جيرانه إلا إذا تحرر من عبودية الماضي، وأفسح المجال لأمثال المنذر كي يشقوا طريقهم إلى الطليعة. إنه لنظام فاسد فاسق مجرم فتاك بالقومية ذلك الذي يعزل عن الأمة كفاءات الأحياء ليفرض عليها نزوات بيولوجية الأموات.
هذا الليل المدلهم الذي يحيق بنا سينجلي إن سهرناه يقظين؛ فلنصغ إلى همسة الضياء قبل أن تخنقنا العتمة.
يتحدثون متألمين عن المرافق الاقتصادية التي أهملناها، ولكن أثمن ما أهملنا من موارد لبنان هو الرجال الأكفاء. هذا هو النقد النادر الذي هدرناه ونبدده كل يوم.
إن المحتفى به يمثل كل ما يصبو إليه لبنان من فضائل سلبية وإيجابية. هو رمز للاطائفية، والعصامية، واللبنانية الصميمة التي تبسط جناحها، والثورة في وجه الغريب المغتصب، ومثلث الطهارات قلبه ويده ولسانه.
هو ابن الفطرة الذي آخى المسلم والدرزي لأنه مسيحي حقيقي، هو المسيحي الذي لم يحب أعداءه؛ إذ ليس له أعداء.
وهو الذي مشاها فتى فقيرا من الكوخ إلى السراي، ثم عاد أدراجه من السراي إلى الكوخ شيخا فقيرا، وليس بينه وبين الذي يمشيها فقيرا إلى السراي ثم يتهاداها غنيا إلى القصر إلا أمر واحد مشترك؛ وهو أن كليهما لا يدفع ضريبة الدخل!
كل رجل أوتي نعمة تسطير سيرته بأنامله؛ وإنها لأوتوبيوغرافية رائعة اختصرها شيخنا بلفظتين كبيرتين: إبراهيم منذر.
جبهة الحياة
كانت الدعوات تنهال علي من كل المدارس في حفلاتها السنوية، فلما انضممت إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي انقطعت هذه الدعوات، إلى أن ضربت النخوة في رأس مدرسة الأميركان في طرابلس فوجهت لي دعوة وحبلا طوله عدة أميال قيدتني به، فكان هذا الخطاب.
ملاحظة: نهر البارد قريب من طرابلس، وفيه مخيم للمشردين من فلسطين.
كانوا فيما مضى - وبعضهم لا يزال حتى اليوم - يبدأ أحدهم؛ أي الخطيب، خطبته بقوله إنه سئل أن يلقي خطابا فتردد بقبوله شاعرا بعجزه.
أما أنا فلا أريد أن أقول إني سئلت أن ألقي خطابا. بالطبع لو لم يسألوني لما خطبت. ولا أقول إني ترددت بالقبول شاعرا بعجزي، فأنا - بالعربي المفلطح - لا أشعر بالعجز، ولا أقول ترددت؛ لأني لم أتردد بتاتا، فلقد صرت إلى يوم أشتهي فيه أن أدعى إلى إلقاء خطاب.
ولقد ذكرت إدارة هذه المدرسة في رسالة الدعوة أن أتفضل فلا أبحث في السياسة والأحزاب، فأجبتها أن مثل ذلك مثل من يدعو ضيفا إلى وليمة ويسأله ألا يأكل برجله، ولا يرمي بالملح والبهار في عيون الضيوف. ألا فلتطمئن الإدارة، وليطمئن الضيوف، فإني أعرف آداب السلوك على المائدة، فلن أكسر الصحون، ولن أسرق الملاعق، ولن أضع «زنود الست» في صحن الشورباء، وفوق ذلك، وأهم من كل هذا أني لن أغمس اللقمة خارج الصحن.
أسائل نفسي: لم هذا التحذير؟ ما هذه الخشية؟ ما هو سبب الخوف من دعوتي إلى الحفلات؟ وما هذه الحجارة التي تتساقط حولي كل يوم؟
الجواب بسيط وواضح، وهو أنني كنت بالأمس في سيران العيش، والدنيا لهو وأكل وشراب ودعاب ومباسطة، والناس كلهم صديق وعشير ونديم وزميل مثلي يتنزه على رصيف الحياة، واليوم أنا في جبهة الحياة.
جبهة الحياة هو موضوع حديثنا اليوم.
نحن الآن مجتمعون في حفلة تقليدية لنمنح وثائق لفئة من فتياننا وفتياتنا الأحباء؛ تشهد أنهم تجاوزوا إحدى مراحل الدراسة، فمنهم من يثابر على تحصيل العلوم، ومنهم من ينزل إلى معترك العيش.
يتبادر إلى الأذهان فورا حقيقتان، كلتاهما مؤلمة؛ الأولى: أن في بلادنا ألوفا وألوفا من الفتيان والفتيات يملكون كل مؤهلات النجاح، ولكن المجتمع لم يفسح لهم سبيل تحصيل العلم، فهم أيضا المحرومون من فرصة الإنتاج، والأمة - ونحن منها - محرومة من الانتفاع من إنتاجهم الكامل، والحقيقة الثانية - وهي أبشع وأشد إيلاما: هي أن مصائب هذه البلاد جاءت على أيدي أبناء المدارس لا على أيدي الأميين.
إذن فمسئولية الذين يتمتعون بنعمة الدراسة تتضاعف على قدر الحرمان الذي ينزل بمن يبقون عن المدارس منفيين، وهذه المسئولية تتضاعف من جديد حين نذكر أن الجيل المتعلم القديم لم ينتج في مجموعه، بالرغم من مروءة بعض أفراده وإخلاصهم، إلا ما أنزل في البلاد الفساد والتدمير. إذن، وقد أفلس الجيل القديم، فما هي مسئوليات الجيل الجديد؟
إنها تختصر بعبارة واحدة؛ وهي أن يفهموا وحدة الحياة. ليست الأمة محمديين ومسيحيين، ما هي بمثقفين وغير مثقفين، ما هي سياسة واقتصاد، ولا مادة وروح، ما هي رجل وامرأة، ولا عسكريون ومدنيون، ولا هي منطقة تضاف إلى منطقة، وكتلة تتعاون مع كتلة. الحياة هي جوهر واحد، وكل ما ذكر ولم يذكر هو أحد مظاهر الحياة.
متى وضحت هذه الحقيقة التي يقرها العلم، وتفرضها المصلحة، وتصقلها العاطفة، ويجوهرها التاريخ ويقيمها برهانا نجاح الأمم التي آمنت بها ومارستها دستورا مشى بها إلى القوة، وتثبتها النكبات التي نزلت بالأمة التي خرقت هذا الدستور؛ متى وضحت هذه الحقيقة الكبرى تجلت طريق كل فرد منا، وجعلت من كل فتى وفتاة يحمل شهادة أو لا يحمل مقاتلا يعرف مكانه في جبهة الحياة وفي خط النار.
مكانكم أيها الفتيان والفتيات في جبهة الحياة وفي خط النار؛ لأن الحياة كانت سخية عليكم حين وفرت لكم أسلحة العلم، ولأننا اليوم يجب أن نعيش في حالة طوارئ من عمل وتفكير.
أما الذين يؤثرون النزهات على كورنيش العيش، ويؤثرون أنس المجالس ورفاهيتها، فلتمش بهم خطاهم نحو نهر البارد، لعلهم ينظرون إلى خيام اللاجئين ويعتبرون. إن أول واجباتكم هو العمل؛ فالجيل الذي تقدمكم جعل فضيلتين مزيفتين من نقيصتين معيبتين؛ الأولى: أنه لا يشتغل بيديه، والثانية: أنه لا يقاتل بيديه. ولقد ذهبت به الأنانية فاغتصب مركزا مفضلا في المجتمع بسبب منطق جشع مغلوط، كان من نتيجته قبول الناس بنظرية هدامة؛ وهي أن الذين ظفروا بالشهادات هم أرفع منزلة في المجتمع الذي حرم سواهم ويسر لهم هذه الشهادات؛ لذلك أمسى هذا الشعب فرقتين: (أساتذة - وغير أساتذة). إني أفهم أن ينادى معلم المدرسة أو المحامي بيا أستاذ. أما سواهما، فالأستاذ هو المواطن صاحب المكانة واللقب المزيف الممتاز.
إن أول حاجاتنا هو العمل: العمل الجريء، والعمل الجريء يبدأ بالتفكير الجريء، بل إن الجرأة هي أحد عناصر الفكر؛ فالذي يشد عقله إلى عقال من قيود التقاليد خائفا من التفلت منها لا يستطيع الانطلاق في فضاء الفكر الحر. كثيرون بيننا - وأغلبيتهم أساتذة - من يرسلون الآراء رصاصات تطلق في الفضاء؛ رصاصات لا تفتك برذيلة، بل كل فضيلتها أنها تدوي موهمة الناس أن مطلقها من أبطال التحرر والتبصر. هؤلاء ما هم برجال فكر، بل قبضايات آراء. إن نظام السير الذي ليس له من مزية إلا أنه يعرقل السير، ويسبب الاصطدام تلو الاصطدام، يجب أن ينسف من أساسه أو يبدل. ونحن منذ أربعمائة سنة نستبدل شرطيا بشرطي خائفين أن نفعل الفعل الكبير، وهذا الفعل الكبير يبدأ بالنطق الكبير، وهو القول إن نظامنا وتفكيرنا ومحاولاتنا كلها مغلوطة من أساسها. إن السير فوضى، والاصطدامات كثيرة، وأكثرنا أساتذة يزيدون البلبلة بالتزمير.
إن العمل الجريء يثب بكم حالا من ملاجئ العيش الآمنة إلى جبهة الحياة وخط النار. هناك ينتظركم الاضطهاد والحرمان. هناك تتجهم لكم الوجوه الباسمة. هناك تتساقط حولكم الحجارة وتتفجر القنابل. هناك ينتشر حولكم ضباب من غازات الإشاعات السامة، ولكن لا تخافوا؛ إذ إنكم هناك، وإذ ذاك تستشعرون في نفوسكم ضياء من الإيمان يطرد عنكم الخوف والوحشة.
قلت إن العمل هو أول الواجبات. عمل ماذا؟ ولمن؟ وما هو الحافز على العمل؟
متى عرفنا الحافز فهمنا لماذا يجب أن نعمل، وعرفنا لمن نعمل، وما الذي يجب أن نعمل.
إن العلم يفسر سلوك الإنسان والثقافة توجهه. إن الإنسان حين يخلق نظاما يحاول أن يبدع وسيلة تحميه. لقد جربنا هنا النظام الطائفي، فتذابحنا طوائف، وتباعدنا شيعا، وجربنا النظام الفردي فكان الإقطاعي المستعبد الثري، وكان الخانع الفقير زلمة الإقطاعي. وازدهر الفرد الذي تحفزه إلى العمل كلمة «أنا» يغني نفسه على حساب سواه، ويحتل مكانا يقذف عنه مواطنه أو مواطنيه، ولا يهمه على جثة من يمشي، ومصلحة من يدوس حتى ينفذ مآربه. إن النكبات التي حلت بنا ومظاهر الانحلال التي تغمرنا أكثر سببها أننا لم نفهم أن الحياة هي وحدة، وأن الولاء يجب أن يكون لا لمدينة ولا لمنطقة ولا لطائفة ولا لفرد، بل يجب أن يكون للأمة، ومتى أعطينا هذا الولاء المطلق للأمة أولا وأخيرا استقامت أمور المدينة والطائفة والمنطقة والفرد، ولم يعد بيننا ظالمون ومظلومون، ولا مفضلون ومضطهدون، وقمنا بالعمل الكبير حين نستعيد الحلم الكبير. هنا أقف خوفا من أن أتهم نفسي بأنني أستاذ يزمر، فيما يرى السير معرقلا، فأتوجه بالكلام البسيط إلى الفتيان والفتيات الذين نحتفل بفوزهم فأختصر القول:
إن المجتمع الذي سهل لكم سبيل الثقافة فيما هو حرم سواكم، له عليكم دين كبير يجب وفاؤه.
إن أكثرنا لا يشعر أو لا يريد أن يشعر بوجود النار حتى تحرقه. أما أنتم فعليكم أن تعترفوا بالمخاطر التي تحيق بنا، وتهدد كياننا، وتتجندوا حالا لقتالها.
حذار أن تصبحوا أساتذة. إن الخطر والفساد والتفكك توحي بالصراع، والصراع يفرض النظام، فيجب أن يكون لنا دستور واضح يقيد أعمالنا وينظمها ويضبطها. والنظام يفرض الانتظام.
إن العمل يعني الإنتاج، فلا تذهبن جهودكم في التهديم والبغض والعداء. يجب ألا ننسى أن كل من يخالفنا في الرأي يبقى أبدا مواطننا؛ له علينا واجب الود.
إن المواطن حين يذيب فرديته في مجتمعه لا يمحق شخصيته ولا يحقرها؛ إذ ليس من سبيل إلى تمجيد الفرد مثل وحدته في مجتمعه. هذه مناقب بشرت بها الأديان قبل أن أثبتت حقيقتها الوقائع.
حذار المسكرات. إن أفتك أنواع الخمور هو سكرة الألفاظ. نحن نكاد نغرق في سيل من الكلمات، وهذا الطوفان الكلامي طغى على أعمالنا. لقد تسلح الجبن بالكلمات فكان أكبر مخترع للمعاذير. إن أكثر مواطنينا يعيشون في ترف الذل متكئين على مخدات ناعمة من معاذير، متأنقين بالفصاحة، يقولون إن هذه الأمة انتهى أمرها. أما أنتم - والعلم حليفكم - فيجب أن تكون لكم الثقة بأمتكم، ومتى احترمتموها منعتم الغير من تحقيرها واضطهادها.
ما هذه انفعالات أسجلها كلاما، ولكنها حقائق دفعنا ثمنها بكرامتنا وبخيراتنا، وقبضها عملة مصكوكة بدمائنا بعض مواطنينا، وبعض الأجانب العائشين بين ظهرانينا؛ فلقد عرفنا الأجانب في إيران، وفي البلدان التي تحترم نفسها يعطون فيما هم يخضعون. أما هنا فإنهم يتغطرسون فيما هم ينهبون.
متى فهمنا أن الحياة وحدة لا شذرات ولا شظايا، نذرنا النفس لخدمة الكل، فاستقامت أمور الأجزاء، ومن هذه الأجزاء كل فرد منا. إذ ذاك لا يعود عندنا شذرات ولا شظايا، بل حياة مفعمة بالخير خصبة ، نحياها لأننا نفعل فيها.
لا أدري إن كنت أطلت الجلوس على هذه المائدة، وعساي لم أكسر صحنا، ولم أغمس لقمة خارج الصحن، ولكني واثق وأؤكد لكم أن جيوبي خالية من ملاعق مسروقة.
بنو بكر وبنو شيبان
أسطورة القبيلتين بكر وشيبان اخترعتها. هذا خطاب عمره ثلاثون سنة، فقد ألقيته في المأدبة الوداعية لصفنا المتخرج من الجامعة الأميركية سنة 1925. تراني أثبته هنا لعاطفية الذكرى أم زهوا بنجاح مدرسي لم أقو بعد على التفلت من مجد ذكرياته؟
بنو شيبان قبيلة شديدة البأس تفوق سائر القبائل بالمنعة والإقدام، ولكن بني بكر أشد منها بأسا وأصلب عودا، فكان إذا اصطدمت القبيلتان خرج من بني شيبان ستة أبطال، ولم يخرج إلا بطل واحد من بني بكر، وإذا أقيم ميدان تسابق ستة فرسان من بني شيبان لكل فارس من بني بكر، وإذا تبارى الأدباء في سوق عكاظ جاء ستة شعراء من الشيبانيين وشاعر واحد من بني بكر. ونحن كم قد أكبرنا الحكمة التي نزلت على منظمي هذه الوليمة الذين يعرفون مقادير الرجال، فاختاروا ستة خطباء من بني شيبان، وهم المتخرجون القدامى، ولم يختاروا إلا خطيبا واحدا من بني بكر.
رجل من المتخرجين الجدد لكل ستة من القدماء. قسمة عادلة ونسبة محفوظة. فنحن نفضل الذين تقدمونا في كل شيء.
لئن يكونوا قد أنشئوا المجلات، أو جمعوا الأموال، أو أشغلوا عاليات المناصب، أو تمتعوا بالشهرة الواسعة، فنحن في هذا أعلى منهم شأنا؛ ذلك لأننا نملك الأحلام التي تذهب الأماني، وتزين لنا المستقبل المجهول. إنشاء مجلة؟! ذلك أمر تافه. دع المتخرج الجديد يختلي بنفسه دقيقة واحدة فينشئ لك في لحظة مجلة تفوق المقتطف والهلال، ويجمع لها الاشتراكات في ثانية. الأموال أمر بسيط! حدثوا أيا منا نحن المطلين على الحياة عن مقادير الأموال التي سيفوز بها تسمعوا العجب العجاب من صناديق ملؤها الذهب الوهاج، وأوتوموبيلات للخدم والحشم والأتباع والأنصار وحدائق تجري من تحتها الأنهار، حتى إذا فرغ من وصف غناه وأدار يداه في جيبه لم يجد فيها من الأموال إلا «محرمة » ممزقة يمسح بها عرق جبينه.
أما عن فخم القصور والعروس التي لا تدانيها في جمالها الست بدور، فتلك أمور شرحها يطول. الأحلام هي التي تملأ رأس المتخرج الجديد، وهي التي تجعله في مقام أسمى من زميله القديم. الأحلام هي للواحد منا كتلك العصا لذلك الأعرابي الذي حين سئل عما في يده أجاب: هذه عصاي أركزها لصلاتي، وأعدها لعداتي، وأسوق بها دابتي، وأعتمد عليها في مشيتي، أقرع بها الأبواب، وألقى بها عقور الكلاب، تنوب عن الرمح في الطعان، وعن السيف في مجالدة الأقران. ورثتها عن أبي، وسأورثها ابني من بعدي، وأهش بها على غنمي، ولي فيها مآرب أخرى!
على أن أحلام الخريج الجديد وإن تكن كعصا ذلك الأعرابي، فليست منيلته كل الغايات، فإن كلمة «الخريج» أو «المتخرج» قد اختلف الناس في تعريفها، والبعض يقول إن «الخريج» هو الذي «خرج» من عالم الدروس والتنقيب إلى عالم الكد والتجريب.
والبعض يقول إن المتخرج هو الذي أصبح يكسب المال ولم تعد جيبه «متخرجة»، غير أن أبلغ تحديد هو الذي جادت به قريحة خطيبنا شحادة أفندي شحادة؛ فقد حدده بقوله: الخريج هو من دفع خراجا سنويا لوقفية المتخرجين، فإذا آمنا بهذا التحديد، فنحن - بني بكر المتخرجين الجدد - خاسرون؛ إذ إن الأحلام لو دفعت لوقفية المتخرجين لحار سكرتيرها بما يفعل بها؛ لأنها لا تدخل تحت باب «من» ولا تحت باب «إلى».
يروى أن رجلا فاضلا من أتقياء الإسكندرية أخذ على نفسه أن يشيد معبدا، فكان يجمع الإحسانات من الناس، فالتقى ذات يوم فتى يسأل عن الطريق إلى حمام سنجاب. قال الرجل الفاضل أنا أدلك، ثم مشى وإياه، ولكن بدلا من أن يدله على حمام سنجاب اقتاده إلى بيته ثم قال: لا أدلك على الحمام ما لم تدفع إعانة لبناية معبد الإسكندرية، قال الفتى: فتش جيوبي، فليس فيها فلس، قال: هذا لا يعنيني، فما أنت بخارج من هذا المكان من غير أن تدفع الإعانة. فخاف الفتى فقال: حسنا، خذ طربوشي وارهنه، وخذ نصف قيمة رهنه إعانة للمعبد . فلما أن خرج الرجل من البيت ليرهن الطربوش خف الفتى إلى الصندوق؛ حيث أودعت الإعانات، فاحتملها وفر بها هاربا. رجع الرجل إلى البيت فما وجد الفتى ولا الإعانات، فأخذ يطوف المدينة صائحا:
يا من رأى رجلا قد كان يسألني
كيف السبيل إلى حمام سنجاب
فلما أعياه التطواف ولم يجبه أحد أطل فتى من شرفة منزله وصاح:
قل للذي أخذ الطربوش يرهنه
ما ضره لو يضع قفلا على الباب
ونحن - جماعة المتخرجين الجدد - لو زرنا مكتب السكرتير العام للمتخرجين فالأفضل له «أن يضع قفلا على الباب.»
ولكن لنا ميزة على القدماء - على بني شيبان - هي أعظم الميزات؛ ذلك أنهم تخرجوا يوم كان محيطهم متعطشا لأمثالهم، ونحن نتخرج اليوم ومحيطنا غاص بأمثالنا. يوم نزلتم إلى معركة الحياة، يا بني شيبان، كانت المزاحمة غير حادة، فكانت اللقمة سائغة. أما اليوم فالمزاحمة خطرة، والعراك قاتل في بعض الأحيان.
فنحن إذن لنا الميزة عليكم؛ فاللقمة التي نأكلها سنختطفها من فم الأسود؛ فهي إذن ألذ طعما، وقد قال الشاعر الاسكتلندي
Leigh Hunt
في هذا المعنى: «ألذ الحلويات تلك التي نسرقها على غفلة من عين الرقيب، وأطيب القبلات تلك التي نغتصبها اغتصابا من خد الحبيب.»
حذار اليوم يا شيبان منا
بنو بكر عليكم حاملونا
ألما تعرفوا منا ومنكم
كتائب يطعن ويرتمينا؟
فنحن الآكلون إذا طعمنا
ونحن الشاربون إذا سقينا
ونحن الدافعون إذا قبضنا
لوقف جماعة المتخرجينا
وفي إسبانيا شدنا قديما
من الأحلام «قعقورا» مبينا
لئن ضاقت بنا كل المناحي
وأفلسنا نصير معلمينا •••
وداعا جنة الدنيا وإنا
على رغم لربعك تاركونا
على أنا إذا اليوم انتثرنا
نظل على العهود محافظينا
إذا الأشبال جالت في الفيافي
هل التجوال ينسيها العرينا؟
تخذنا حبها دينا علينا
ولولا الكفر سميناه دينا
ولو أن الخمور لنا أتيحت
شربنا النخب كاسات مئينا
نهز لواءها في الأرض فخرا
وإن متنا سيرفعه بنونا •••
أذيعوا في الملا نبأ مريعا
بأنا للمعارك خارجونا
بنو بكر عليكم قد أغاروا
بني شيبان فروا هاربينا!
نامعلوم صفحہ