أما أنا فلا أريد أن أقول إني سئلت أن ألقي خطابا. بالطبع لو لم يسألوني لما خطبت. ولا أقول إني ترددت بالقبول شاعرا بعجزي، فأنا - بالعربي المفلطح - لا أشعر بالعجز، ولا أقول ترددت؛ لأني لم أتردد بتاتا، فلقد صرت إلى يوم أشتهي فيه أن أدعى إلى إلقاء خطاب.
ولقد ذكرت إدارة هذه المدرسة في رسالة الدعوة أن أتفضل فلا أبحث في السياسة والأحزاب، فأجبتها أن مثل ذلك مثل من يدعو ضيفا إلى وليمة ويسأله ألا يأكل برجله، ولا يرمي بالملح والبهار في عيون الضيوف. ألا فلتطمئن الإدارة، وليطمئن الضيوف، فإني أعرف آداب السلوك على المائدة، فلن أكسر الصحون، ولن أسرق الملاعق، ولن أضع «زنود الست» في صحن الشورباء، وفوق ذلك، وأهم من كل هذا أني لن أغمس اللقمة خارج الصحن.
أسائل نفسي: لم هذا التحذير؟ ما هذه الخشية؟ ما هو سبب الخوف من دعوتي إلى الحفلات؟ وما هذه الحجارة التي تتساقط حولي كل يوم؟
الجواب بسيط وواضح، وهو أنني كنت بالأمس في سيران العيش، والدنيا لهو وأكل وشراب ودعاب ومباسطة، والناس كلهم صديق وعشير ونديم وزميل مثلي يتنزه على رصيف الحياة، واليوم أنا في جبهة الحياة.
جبهة الحياة هو موضوع حديثنا اليوم.
نحن الآن مجتمعون في حفلة تقليدية لنمنح وثائق لفئة من فتياننا وفتياتنا الأحباء؛ تشهد أنهم تجاوزوا إحدى مراحل الدراسة، فمنهم من يثابر على تحصيل العلوم، ومنهم من ينزل إلى معترك العيش.
يتبادر إلى الأذهان فورا حقيقتان، كلتاهما مؤلمة؛ الأولى: أن في بلادنا ألوفا وألوفا من الفتيان والفتيات يملكون كل مؤهلات النجاح، ولكن المجتمع لم يفسح لهم سبيل تحصيل العلم، فهم أيضا المحرومون من فرصة الإنتاج، والأمة - ونحن منها - محرومة من الانتفاع من إنتاجهم الكامل، والحقيقة الثانية - وهي أبشع وأشد إيلاما: هي أن مصائب هذه البلاد جاءت على أيدي أبناء المدارس لا على أيدي الأميين.
إذن فمسئولية الذين يتمتعون بنعمة الدراسة تتضاعف على قدر الحرمان الذي ينزل بمن يبقون عن المدارس منفيين، وهذه المسئولية تتضاعف من جديد حين نذكر أن الجيل المتعلم القديم لم ينتج في مجموعه، بالرغم من مروءة بعض أفراده وإخلاصهم، إلا ما أنزل في البلاد الفساد والتدمير. إذن، وقد أفلس الجيل القديم، فما هي مسئوليات الجيل الجديد؟
إنها تختصر بعبارة واحدة؛ وهي أن يفهموا وحدة الحياة. ليست الأمة محمديين ومسيحيين، ما هي بمثقفين وغير مثقفين، ما هي سياسة واقتصاد، ولا مادة وروح، ما هي رجل وامرأة، ولا عسكريون ومدنيون، ولا هي منطقة تضاف إلى منطقة، وكتلة تتعاون مع كتلة. الحياة هي جوهر واحد، وكل ما ذكر ولم يذكر هو أحد مظاهر الحياة.
متى وضحت هذه الحقيقة التي يقرها العلم، وتفرضها المصلحة، وتصقلها العاطفة، ويجوهرها التاريخ ويقيمها برهانا نجاح الأمم التي آمنت بها ومارستها دستورا مشى بها إلى القوة، وتثبتها النكبات التي نزلت بالأمة التي خرقت هذا الدستور؛ متى وضحت هذه الحقيقة الكبرى تجلت طريق كل فرد منا، وجعلت من كل فتى وفتاة يحمل شهادة أو لا يحمل مقاتلا يعرف مكانه في جبهة الحياة وفي خط النار.
نامعلوم صفحہ