أريد أن أعترف أنني أنا الذي كسرتها. أريد أن أعترف أن عواطف عنيفة في نفسي كانت تتماوج في صباي، وأن أعنفها كان بغضي للمسيحيين.
كنت في ذلك الحين كأكثر غلمان الدروز يبهجني أن أسمع بمقتل مسيحي. وليلة أمس ضافنا في بعقلين رفاقي الثلاثة: بطرس سماحة، وميشال سماحة، وبطرس عواد. ولقد أكد لي هؤلاء الضيوف - إخوتي الثلاثة - أنهم في صباهم كانوا يفرحون لأمور ثلاثة: تعطيل المدرسة، وقبض الخرجية، والسماع بمقتل درزي.
ها نحن اليوم، نجتمع في هذا المحفل وقد سلكنا إليه طرقا متفرقة، وها نحن وقد بلغنا هدفنا؛ هذه الروضة الثقافية الروحية، لم يقاتل بعضنا بعضا بسبب الدروب المختلفة التي سلكناها للوصول إلى هذا الهدف، ولكننا في زمن الغباوة يوم كنا جهلة عميا، كنا نتباغض ونتقاتل ونتطاحن بسبب الطرق المختلفة التي نسلكها للوصول إلى الهدف الواحد؛ هذه الدروب التي نسميها الأديان، وهذا الهدف الأسمى: الخالق العظيم.
أما القرميدة المكسورة فقصتها أنني مرت بهذه الناحية خلال الحرب الأولى في طريقي إلى جزين، وكنت يومئذ غلاما فسألت رفيقي المكاري عن هذه البناية الفخمة في الوادي فقال لي وهو يصرف بأسنانه: «دير مشموشة!» فصوبت نحو الدير نظرة عداء فانكسرت القرميدة. ولئن صعد الآن أحد منا إلى السقف فوجده سليما؛ فلأنني إذا أطللت على دير مشموشة هذا منذ ساعة - أي بعد ثلاثين عاما - تطلعت إلى السقف ثانية بنظرة حب وحنان، فالتحمت القرميدة المكسورة وعادت سليمة.
بين الإنسان والحيوان فوارق كثيرة، ولعل أظهرها أن الإنسان يتبدل خلال ربع قرن، والحيوان لا تتبدل عاداته في عشرات السنين. ونحن في هذه البقعة الجنوبية من جبل لبنان أثبتنا أننا بشر على الرغم من أننا لم نستبدل المحراث بالتراكتور، ولم تكثر القصور التي بنيناها خلال هذه السنين، وعلى الرغم من أنه ليس بوسعنا أن نزدهي بمشاريع عمرانية، ولكننا تغلبنا على ما هو أفتك بنا من الفقر المادي والعلمي والعمراني، وحققنا أمنية أسمى من الثروة والرفاه.
هنا كانت الطائفية على أقذرها وأفتكها، وهنا قتلناها ودفناها، إلى الأبد دفناها.
إن في وسعنا أن نباهي سائر لبنان، وأن ندعو إخواننا في المدن والأرياف من جمهوريتنا ليتخذونا مثالا للألفة والتسامح والأخوة.
حين اغتربت عن لبنان عام 1925، كانت عصاباتنا من دروز ومسيحيين تقطع الطرق حول هذه الهضاب والأودية للفتك بأي فرد من الطائفة المعادية. كان أفراد تلك العصابات أبطالا نعجب بهم، ونفتح لهم منازلنا ومعابدنا ملجأ. يا ويل قوم أبطالهم مجرمون!
في تلك الأيام، أقمنا للبغضاء أصناما وعبدناها، غير أنه كان منا أناس لا يسمون المجرمين أبطالا، ولا يدعون التناحر الطائفي تقوى وعبادة. ولقد كان لي حظ حضور حلقة في بيروت بعض أشخاصها ميشال زكور، وبشارة عبد الله الخوري، وجبرائيل نصار، وأمين تقي الدين، وسليم تقلا، وكامل وفؤاد حمية، ووديع وأسعد عقل. كانوا يجتمعون في مقهى تباريس. هؤلاء كانوا يعرفون أنهم وجيرانهم مواطنون، ومواطنون فحسب، وكان يؤلمهم مقتل المسيحي كما يؤلمهم مقتل الدرزي. وكانوا يفهمون أن في التشاحن على اختيار أي سبيل نسلكه للوصول إلى الله كفرا بالله. هؤلاء الرجال وألوف مثلهم في لبنان، من مقيمين ومغتربين، هم الذين طهروا لبنان من جرائم الطائفية، وصهروا عناصره الدينية، فصار الواحد منا يشعر بأنه مواطن لا درزي ولا مسيحي.
سنة البشر التغير، ولكن التغير قد يكون من سيئ إلى أسوأ، أو من حسن إلى سيئ، أو من سيئ إلى حسن. ونحن فيما نفخر بالتبدل الجميل من التعصب الديني إلى التسامح، يجب أن نعترف أننا في سائر مناحي الحياة قد تصدعنا حتى الانهيار.
نامعلوم صفحہ