وإنها كلمة جد: إن أكثر المحاضرات التي غمرت «بازار» الثقافة في بيروت كانت لها أضرارها؛ لأنها ضخمت شأن بعض الناس الذين ليس لهم تفكير أصيل، ونشرت الفوضى الفكرية، وأشبعت الأثرة في بعض حملة الشهادات والسياسيين، والمشتغلين بذلك الفن المبهم الذي يدعى «أدبا»، وشلت إمكانية بعض فتياننا الذين لو لم يفسح لهم سبيل المجد الموهوم على المنابر، لطلبوه عملا فعالا بين مواطنيهم، أو ثقافة صحيحة ينبتها التفكير الهادئ، وتفولذها التجارب، وتعتقها وتغذيها الأصالة.
وتنطبق هذه الملاحظات بشكل أدق على الأبحاث الاجتماعية والسياسية. كثيرا ما نسمع مثلا: «والمعلوم أن القبائل إن فعلت كذا وكذا صار كذا وكذا» أو «من المعترف به أن الحكم الجمهوري إذا نزل به كذا وكذا وصار الملك كيت وكيت لنشأت عن ذلك الحالة الفلانية.»
والحقيقة أن السياسة والاجتماع والتاريخ ما هي بمعلوم بالمعنى الدقيق؛ إذن فليس لأحد أن يقول: «إن المعترف به» أو «المعلوم» أو «المسلم به.» إن الاجتماع ما هو بمعادلات جبر، وأربعة أربعة في السياسة والاجتماع ما كانت ولن تكون ثمانية. هناك كميات مجهولة، هناك كثير من ال
X . هناك عامل الإنسان بعاطفته وجشعه،
ال
X .
وليس غرضي اليوم أن أهدم بالتهكم محاولات بعض محاضرينا. قد تكون هذه المحاضرات محاولة صادقة لاستعراض مواطن الضعف فينا ووصف علاجها، ولكن هذا الأسلوب - لأنه في غالب الأحيان يتوخى الأهداف الضخمة - قد يكون صدى لأحلام الضعف النفسي المتوطن في كثرتنا؛ فنحن نرقب مستعجلين حصول العجيبة التي تنقذنا، بل في كثير من الأحيان نطلب هذا العون من مصادر غريبة عن نفوسنا نحن. وهذه الأحلام الأفيونية هي تلازم الضعف، فلا عجب أن تأتي المواضيع التي يعالجها أكثر كتابنا وخطبائنا ومحاضرينا من النوع الضخم. من أجل هذا، يظهر من يدعون النبؤات. وفي حالات هذا الضعف تروج الرقى، وتزدهر تجارة «البصارة براجه». وبعض من شاع عنهم أنهم مفكرون هم في حقيقة الأمر منجمون. وبعض محاضراتنا هي رقى تصفها «البصارة براجه»، والفرق بين عقلية «البصارة براجه» وبين العقلية الواقعية العملية يتضح لمن يكثر الاختلاط بالأجانب، فيتسنى له المقابلة بين ما يعالجون من المواضيع وما يعالجه مواطنونا.
تسمع الأجنبي - وهو عادة مواطن دولة تركزت واستقرت - يتحدث عن قنينة حبر ، عن برغي، عن كرسي، عن صندوق خشب، أو كتاب. وتسمع الكثيرين من مواطنينا يعالجون 23 موضوعا في أربع دقائق، فيختصرون الحالة الدولية، ويقابلون بين قوى المعسكرين الغربي والشرقي، ويشرحون أفعل السبل لتحسين زراعة البطيخ، وكيف يجب أن يحدد الاستيراد، ثم يصفون طريق استرجاع فلسطين. ما سبب البون الشاسع بين التفكير الأجنبي - أو لنسمه الغربي - بحوادث معينة ومواضيع هي في نظر الكثيرين منا تافهة، وبين تفكير أكثرنا في الشئون الضخمة من عالمية ومحلية؟
ما السبب؟
كأكثر الأمور، هذه المشكلة ليس لها سبب واحد، بل عدة أسباب نقتصر منها على ذكر سببين؛ الأول: أن مواطن الدول الأجنبية لا تواجهه الصعاب التي تواجهنا؛ ففي ميدان السياسة الخارجي له حكومة هو انتخبها، وهو يثق بها، تكفيه عناء التفكير فيما قد يواجه دولته من مخاطر، وفي الميدان الداخلي يجد أن نظامه قد حل مشاكله الأساسية من حقوق متساوية أمام القضاء، وضمان اجتماعي هو متوفر في أكثر الدول المتمدنة على درجات متفاوتة بالطبع. ولعل السبب الثاني والأهم هو أنه مواطن دولة قوية، ومجتمع مستقر ثابت صحيح، فليس هو من الضعف بحيث يحلم بالعجائب وينادي على كل «بصارة براجه».
نامعلوم صفحہ