فإذا كان الفصل الثالث فقد مضى أسبوعان على ما كان في الفصل الثاني، ونحن نرى الشيخ في عيادته يستقبل المرضى ويطب لهم. ولكنه متعب قد ظهر عليه السأم والضيق، حتى إذا انصرف آخر مرضاه دعا الخادم، فيأمرها بأن تذهب إلى الصيدلي وتطلب إليه أن يحتال في ألا تدفع إليه إحدى مرضاه ثمن الدواء، فهو كثير وهي فقيرة، ولكنها عزيزة النفس لا تقبل الصدقة، فليخدعها الصيدلي إذن وليخيل إليها أن الدواء رخيص، وليضف قيمته الحقيقية إلى حساب الطبيب.
وانظر إلى امرأة الطبيب قد أقبلت محزونة تشكو إلى زوجها ضيق ابنها وانصرافه عنها وعن خطيبته، وتلتمس لذلك العلل والأسباب، وتخبر زوجها بأن الرسائل متصلة منذ أيام بين ابنها وبين وزارة الحرب. وهي مشفقة من ذلك، والشيخ يعزيها في مودة وحب، ولكنه لا يظفر من تعزيتها بشيء، وهي تطلب إليه أن يتحدث إلى الفتى ويعظه لعله يكشف من أمره شيئا، ولعله يرده إلى حب أمه وخطيبته والرفق بهما، فيتردد ثم يذعن، وتنصرف امرأته وترسل إليه الفتى.
وما هي إلا أن يتحدثا حتى نعلم أن الفتى قد طلب إلى وزارة الحرب عملا، فعرضت عليه بعثة في الصين حيث الحرب قائمة فقبل. ومهما يفعل الشيخ ومهما يحتل ومهما يتلطف للفتى، فلن يغير رأيه ولا عزمه. والموقف هنا بديع مؤثر حقا، فالشيخ يصطنع اللين حينا، والاستعطاف والعنف حينا، والنذير، والفتى ثابت لا يتزحزح عن موقفه قيد شعرة، ولم يتزحزح عن موقفه وهو ابن الحرب قد كونته كما أرادت لا كما أراد! لقد أنفق من عمره أربع سنين في قتل وتدمير، يقتل النساء والأطفال والشيوخ والشبان، لا رأي له في ذلك ولا إرادة، ويواجه الموت يتقيه مرة ويرسله على الناس مرة أخرى، فكيف تريده على أن يكون كغيره من أبناء السلم! إنه يعلم حق العلم أنه يمزق قلب أمه وخطيبته وقلب الشيخ أيضا، ولكن ماذا يعنيه من هذا كله؟! أليس ابن الحرب قد صورته في هذه الصورة؟! فليكن مصدر ألم، وليكن مصدر موت، فكذلك أرادت الجماعة أن يكون. وقد يئس منه الشيخ، وأقبلت أمه يائسة أيضا تسأله: أحق ما أنبأتني به خطيبتك من أنك مرتحل إلى الصين؟ يجيبها: نعم! فما أشد تأثير هذا الموقف بين الفتى وأمه: تستبقيه ضارعة فلا يحفل، تحاول أن تعرف السر الذي يضطره إلى هذا العزم فلا تفلح. وهي تفترض الفروض، وتتوسل إلى الفتى بخطيبته، ثم يخيل إليها أنه لا يحب هذه الفتاة، فتجتهد في صرفه عنها. ويكون بينهما حوار بديع مؤلم نتمثل فيه نحن إلى أي حد أنسيت هذه المرأة إثمها وانصرفت عن خطيئتها، وإلى أي حد أثر هذا الإثم في نفس الشاب وأفسد عليه أمره.
وينصرف الشاب وقد أيأس الشيخين من نفسه، ولكن أمه قد عرفت الآن أنه قد ظهر على جلية من الأمر ... فانظر إليها منتحبة بين ذراعي زوجها، وهو يعزيها وينبئها بأنه قد اتهم نفسه ما استطاع ليخفف عنها الوزر أمام ابنها. فإذا رآها تسرف في البكاء خيل إليها أنها تبكي ندما لما تذكر من إساءتها إليه. ولكنه لا يلبث أن يتبين أنها تبكي على ابنها لا عليه. فليضح بنفسه مرة ثالثة! أليس يحب هذه المرأة؟! أليس يحب هذا الفتى؟! فليعز هذه، وليجتهد في إمساك ذاك، ولكن ليس إلى إمساك الفتى من سبيل. •••
فنحن في الفصل الرابع، وقد أخفق الشيخ وامرأته والفتاة في صرف الفتى عن عزيمته. ونحن في طولون ثغر فرنسا الحربي، حيث يأخذ الفتى سفينته الحربية إلى الصين. وقد أقبل الجماعة كلهم يودعونه، ونحن في أحد المطاعم المطلة على البحر حيث السفينة وحيث يستطيع المودعون أن يروا السفينة حين تقلع ويتبعوها بأبصارهم حتى تغيب. وأنا أعفيك من هذا الحوار اللذيذ الطويل بين الشيخ وصاحب المطعم، وأنتهي مسرعا إلى هذا الموقف البديع بين العاشقين، فقد التقيا وتعاهدا على الحب والأمانة والوفاء، وأعلن كل منهما إلى صاحبه خبيئة نفسه. ولكن انظر إلى الفتاة تطلب إلى صاحبها أن يرفق بأمه فقد أثمت كارهة، ومن ذا الذي يستطيع أن يزعم لنفسه العصمة من الإثم؟! وأن يحب الشيخ ولو قليلا، فقد كان زوجا برا وأبا رحيما، وما ذنبه في كل ما كان؟!
فإذا سأل الفتى صاحبته: كيف عرفت سره؟ أجابته: لقد أخبرتني به أمك واتخذتني سبيلا إلى استعطافك وحملك على الرفق. وانظر إلى الفتى وقد تأثر بهذا كله، بمكان أمه من نفسه، ومكان هذا الشيخ الخير البريء، ومكان هذه الفتاة الطاهرة المحبة تستعطفه على هذين البائسين. وقد أقبل الشيخان، فالفتى رفيق بهما ما استطاع، يظهر لأمه من العطف والمودة ما يملؤها رضا، ويقبل الشيخ ولكن دون أن يقول له شيئا، والشيخ يرضى بهذه القبلة وهو واجم؛ لأنه كان ينتظر كلمة مودة لم يظفر بها.
وأقبل ضابط من السفينة يتعجل الفتى، فيودع القوم جميعا، ولكنه قد لا يقول للشيخ هذه الكلمة التي كان ينتظرها. وقد مضى نحو السفينة، وهم جميعا يتبعونه بأبصارهم، إلا الشيخ فهو على كرسيه واجم محزون. ولكن القوم يسمعون من الفتى صوتا لا يتبينونه، ثم لا يلبثون أن تبينوا، فإذا الفتى يدعو أباه، وإذا هم جميعا يدفعون الشيخ دفعا إلى النافذة حيث يرى الفتى ويسمعه يدعوه بهذه الكلمة التي كان ينتظرها: «إلى اللقاء يا أبت! ...»
إبريل سنة 1927
زوجا ليونتين
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ألفريد كابو»
نامعلوم صفحہ