السيل
الرقص في نصف الليل
المذهبان
السلام الحي
القيثارة والجازباند
في ملاهي باريس
في ملاهي باريس
لحن إلى كروترز
الحب
الوصل
نامعلوم صفحہ
الصحو
المحصنات
ميشيل بوبير
الإغواء
الغربان
صوت
أنتوانيت سابرييه
الشاب الجميل
الفؤاد المقسم
سعادة اليوم
نامعلوم صفحہ
زوجا ليونتين
الملهى
زوجها
السيل
الرقص في نصف الليل
المذهبان
السلام الحي
القيثارة والجازباند
في ملاهي باريس
في ملاهي باريس
نامعلوم صفحہ
لحن إلى كروترز
الحب
الوصل
الصحو
المحصنات
ميشيل بوبير
الإغواء
الغربان
صوت
أنتوانيت سابرييه
نامعلوم صفحہ
الشاب الجميل
الفؤاد المقسم
سعادة اليوم
زوجا ليونتين
الملهى
زوجها
صوت باريس
صوت باريس
تأليف
طه حسين
نامعلوم صفحہ
السيل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «موريس دونيه»
وأي السيلين أراد؟ ذلك الذي نحسه ونراه ونحبه ونخشاه؛ نحبه لأنه رائع مهيب يمثل ناحية من جمال الطبيعة الرائعة المهيبة، ونخشاه لأنه يعرضنا للخطر أحيانا حين يغشانا ولا ننتظره، وحين يدفعنا ولا نستطيع له مقاومة؟ أما هذا السيل الذي لا نحسه ولا نراه، بل لا نشعر به، وهو يغمرنا في كل وقت ويدفعنا في كل لحظة دفعا عنيفا لا رحمة فيه ولا إشفاق حتى تتم كلمة القضاء؟ أي السيلين أراد! أهذا السيل المادي الذي ينحط من شعاف الجبال فلا يذر شيئا أتى عليه إلا اكتسحه، ولكن العقل الإنساني يستطيع مع ذلك أن يدبره ويسخره لمنافعه؟ أم هذا السيل المعنوي الذي لا سبيل للعقل عليه، وربما لم يشعر به العقل ولم يفرض له وجودا إلا حين لا ينفع الشعور به ولا التفكير فيه؟ أأراد هذا السيل من الماء؟ أم أراد هذا السيل من قوانين الحياة التي لا مرد لها ولا منصرف عنها؟
أي السيلين أراد؟ فالقصة تمثل السيلين؛ فيها السيل المادي، عنيفا خطرا، ينحط من أعلى الجبل في قوة وعنف، فيراه الناس على اختلاف منازلهم من العلم والجهل، ومن الذكاء والغباء، ومن رقة الشعور وصفاقته، فيتأثرون له وينتفعون به على مقدار ما أوتوا من ذكاء وغباء، ومن علم وجهل، ومن رقة وكثافة. يراه العالم فيعلله ويسخره، ويراه الجاهل فيخافه ويخشاه، ويراه الشاعر فيعجب به ويتغنى بروعته، وفيها هذا السيل المعنوي الذي لا تراه العين ولا يدركه الحس، ولا يستطيع أن يسخره عالم ولا أن يخشاه جاهل، ولا أن يفر منه إنسان. فيها سيل الحياة وقوانينها الصارمة التي يخضع لها كل شيء دون أن تخضع لشيء. فيها هذان السيلان، وهو يريد هذين السيلين، يمثلهما وينتفع بهما، فلست أعرف قصة عنيفة كهذه القصة، ولست أعرف قصة محزنة كهذه القصة، ولست أعرف قصة موئسة كهذه القصة؛ فهي عنيفة، محزنة، موئسة؛ قد بلغت من العنف، والحزن، واليأس أقصاها. وهي لا تخلو من ابتسام، ولكنه ابتسام المغرور. وهي لا تخلو من ضحك الجاهل المخدوع. هي قصة موئسة، والشر كل الشر أنها قصة صادقة برئت البراءة كلها من الغلو والإسراف.
زعموا أن «لامرتين» دعا إليه الكاتب الفرنسي المشهور «فلوبير» عندما نشر قصته «مدام بوفاري»، فلامه لأنه أبكاه بهذه القصة، وكل إنسان يشعر ويفكر ويحسن الشعور والتفكير يستطيع أن يصنع مع كاتب هذه القصة التي نتحدث عنها اليوم ما صنعه «لامرتين» مع «فلوبير»، فيلومه لأنه أبكاه. وكذلك نحن، فطرنا ضعافا، نؤثر الغفلة والغرور والجهل والانخداع على أن نعلم بالحقائق كما هي، وننظر إليها مجردة في صورها الصحيحة الصادقة. نحن ضعاف نكره العلم ونخشاه؛ لأننا أضعف من أن نحتمله. ونؤثر الظلمة ونهواها؛ لأن أبصارنا أضعف من أن تثبت للضوء. ونحب أن نظل مخدوعين لأن ظهورنا على الحق يوئسنا ويثنينا عن العمل ويزهدنا في الحياة، وربما بغضها إلينا. ومن يدري! لعل الخير كل الخير في أن نكون جاهلين مخدوعين، فلولا الجهل والانخداع ما عمل الناس ولا أملوا ولا أحبوا. وأي شيء هي الحياة وما فيها من عظيم لولا العمل والأمل والحب! لعل الخير كل الخير في أن نجهل أنفسنا، وفي أن نجهل هذه القوانين التي تسيطر عليها، ولعل هؤلاء الفلاسفة والكتاب الذين يكرهون الناس على أن يفتحوا أعينهم وينظروا فيما حولهم، لعل هؤلاء الفلاسفة والكتاب مخطئون يسيئون إلى الإنسان أكثر مما يحسنون إليه. أيهما خير: العلم أم الجهل؟ مسألة ليس إلى حلها من سبيل. في العلم رقي الإنسان وشعوره بنفسه، ولكن فيه يأسا وضعفا وزهدا في الحياة، وفي الجهل انحطاط الإنسان واتصاله بغيره من هذه الكائنات التي لا تقدر نفسها ولا تعرف للوجود خطرا، ولكن فيه أملا وعملا وإقداما. أيهما خير؟ ...
في هذه القصة - كالقصة التي حدثتك عنها في الأسبوع الماضي - جهاد عنيف بين الأمومة والحب، وفيها جهاد آخر ليس أقل عنفا، ينشأ بين العقل والدين، وأنت تشهد هذا الجهاد فيعجبك ثم يسحرك، وإذا أنت مقسم بين هذين الطرفين اللذين يتجاهدان، وإذا أنت لا تدري إلى أيهما تميل، وإذا أنت مضطرب أشد الاضطراب، شاك أشد الشك؛ لأن الجهاد ليس متكلفا ولا مصطنعا، وليس من اليسير عليك أن تحكم فيه هادئا مطمئنا غير متأثر، وإنما الجهاد طبيعي يكون جزءا من فطرتك وحياتك، أو هو كل فطرتك وحياتك. فالإنسان بطبعه متأثر بعاطفة الأمومة والأبوة، هذه العاطفة التي تصله بمن قبله ومن بعده والتي تكون النوع، والإنسان بطبعه متأثر بعاطفة الحب، وكثيرا ما تصطدم هاتان العاطفتان، ثم الإنسان بطبعه متدين، والإنسان بطبعه عاقل، وكثيرا ما يصطدم العقل والدين، ولسنا نعني الآن بهذا الجهاد الذي يقع بين العقل والدين في المسائل النظرية، هذا الجهاد الذي يعني الفلاسفة وعلماء الدين؛ فليس لهذا الجهاد خطر يذكر إلى جانب جهاد آخر بين العقل والدين، يقوم في النفس الواحدة ويضطرها إلى طائفة من الآلام قد تنتهي بها إلى اليأس. هذا هو الجهاد الذي يعنى به الكاتب في هذه القصة، وأنا أحس أنك لم تفهمه كما ينبغي؛ لأني لم أوضحه كما ينبغي، فلتوضحه لك القصة نفسها؛ فلست أريد أن أطيل في شرحها ولا في تفسيرها، وإنما أريد أن تفسر لك القصة نفسها بنفسها، كما يقولون. •••
نحن في إقليم من أقاليم فرنسا الوسطى، في قصر من قصور الأقاليم فخم، كل شيء فيه يدل على الثروة والترف، ومن حوله أرض واسعة ليست بالمهملة ولا قليلة الإنتاج، وإنما يدل كل شيء على أنها خصبة، يستغلها صاحبها استغلالا قويا منتجا، ونحن نشهد في هذا القصر رجالا وامرتين قد انصرفوا عن مائدة العشاء وأقبلوا على سمرهم، فلنعرفهم؛ فقد خصص الكاتب الفصل الأول من قصته ليقدم إلينا هؤلاء الناس، وأولهم صاحب القصر «جوليان فرسان»، وهو شاب مستوي السن مكتمل القوى، شديد الذكاء، عظيم الحظ من النشاط. نشأ في باريس، وعاش عيشة شبانها الأغنياء، وتزوج فتاة هي «شارلوت»، جميلة خلابة حادة الذهن، ولكن حظها من التعليم قليل، بل نستطيع أن نقول إن حظها من التعليم سيئ؛ فلم تؤثر المدرسة في عقلها ولا في شعورها، وإنما علمتها طائفة من الأشياء يحتاج إليها أمثالها من الفتيان والفتيات اللاتي سيعشن عيشة الترف، وسيقضين الحياة في لهو ونعيم، يزرن ويستقبلن الزائرين، ويختلفن إلى المراقص وملاعب التمثيل، ويعنين بالزينة والحياة الظاهرة، أكثر مما يعنين بغيرهما من الأشياء.
تزوج «فرسان» هذه الفتاة، ولم يمض على زواجهما أشهر حتى مرض له عم كان يقيم في هذا القصر، فدعاه إليه فأقبل، وإذا عمه مشرف على الموت، فأوصاه ألا يبيع القصر والأرض ولا يؤجرهما، واستحلفه على ذلك، فحلف مشفقا على الشيخ المحتضر. فلما مات الشيخ انصرف الشاب إلى هذه الأرض يستغلها ويثمرها، وأقام في هذا القصر. وما هي إلا أن أحب حياته الجديدة ونشط لها وكلف بها، ثم كانت نتيجة عمله ونشاطه مشجعة له على هذه الحياة؛ فقد أثمرت أرضه ثمرا حسنا، وأخذت ثروته تنمو وتضخم. انصرف هو إلى هذه الحياة، ولكن امرأته لم تفهمها ولم تمل إليها، وعاشت في الأقاليم على نحو ما كانت تعيش في باريس، وهي متأثرة بكل ما يتأثر به أمثالها من المترفات في باريس: تحب اللذة واللهو ولا تؤثر عليهما شيئا آخر، تحب زوجها ولكن على أن يكون وسيلتها إلى هذه اللذة وهذا اللهو، لا تحب الواجب ولا تريد أن يذكر لها؛ لأنها لا تفهمه بل لا تعرفه، هي تكره مثلا أن تكون أما، وتكره أن يتحدث الناس إليها في ذلك؛ لأن الأمومة تصرفها عن اللذة وتعرضها لآلام شاقة خطرة، ولا ينبغي أن تذكر لها حاجة وطنها إلى النسل فهي لا تفهم ذلك، وماذا يعنيها أن يحتاج وطنها إلى النسل؟ وماذا يعنيها أن تنتصر الأمم الأخرى على أمتها في الجهاد الاقتصادي؟ فهي لا تفهم الجهاد الاقتصادي ولا نتائجه، على أن نتائج هذا الجهاد إن كانت شرا فلن تمسها؛ فهي غنية مطمئنة إلى ثروتها، ولن تخلو فرنسا من السكان اليوم ولا غدا، وإنما سيكون ذلك بعد زمن طويل؛ أي بعد أن تموت، وإذن فما يضرها أن تخلو فرنسا من السكان أو أن تكتظ بهم بعد أن تموت هي؟
ثم في القصر جاران لهذين الزوجين؛ هما «كميل لمبير» وامرأته «فلنتين»، ليسا أقل تناقضا واختلافا فيما بينهما من جاريهما اللذين وصفتهما لك؛ فأما الزوج فشاب ذكي ماهر في تثمير الثروة، ولكنه عملي، وعملي ليس غير، ليس له حظ من الشعور، ولا يفهم أن في الحياة مثلا عليا تطمح إليها النفوس الراقية، أو هو يفهم ذلك، ولكن مثله الأعلى ضيق محدود منحط، هو صورة لمطامعه المادية لا أكثر ولا أقل. لا تذكر له الحب؛ فهو لا يفهمه. ولا تذكر له الجمال؛ فهو لا يشعر به. أما المرأة فوسيلة إلى إحدى اثنتين: وسيلة إلى إرضاء الحاجة المادية ما دام الإنسان شابا غير مسئول، ثم وسيلة إلى تأسيس الأسرة يوم يصبح الإنسان رجلا مسئولا. وهو قد اتخذ المرأة وسيلة لهذين الغرضين.
كان طالبا يدرس في باريس، فاتخذ الخليلات والإخوان ليلهو ويلذ، واشتدت الصلة بينه وبين واحدة منهن، فكان لهما ولد من هذه الصلة، ثم فرغ من درسه ورجع إلى إقليمه؛ ليخلف أباه في العمل وليؤسس لنفسه أسرة، فترك صاحبته وابنها وكأنهما لم يوجدا، وماتت هذه المرأة موتا شنيعا في أحد المستشفيات، وتعرض ابنها للفقر والفاقة، وعلم أبوه ذلك فلم يحفل به ولم يلتفت إليه. ثم تزوج لا لأنه كان يحب خطيبته أو يعجب بجمالها؛ بل لأنها كانت غنية من جهة، ولأنه كان يريد الولد من جهة أخرى. وقد حملت إليه امرأته الثروة وأتته بصبيين ذكر وأنثى، فأدرك كل ما كان يريد، وانصرف عن زوجه الانصراف كله، وقدر أن واجبه إنما هو تثمير ثروته، وأن واجب امرأته إنما هو تربية هذين الصبيين، ولكن امرأته ركبت تركيبا آخر وفطرت فطرة أخرى؛ ففيها ذكاء وفهم، ولكن فيها قبل كل شيء شعورا قويا دقيقا وعواطف حادة متقدة، وهي تفهم الحياة على نحو آخر؛ فليست الحياة عندها تثمير الثروة، ولا تأسيس الأسرة كما يحددها القانون، وإنما الحياة عندها شيء أرقى من هذا؛ الحياة عندها حب وعطف وحنان ولذة، قوامها هذا الحب والعطف والحنان. لها في الحياة مثل أعلى يخالف كل المخالفة ما هي فيه من طعام وشراب ونوم وعناية بالأعمال اليومية. ليست الحياة مقصورة على الجسم وما يتصل به من الغرائز، وإنما هي تتناول القلب وما له من شعور وعاطفة. تريد أن تحب، وأن تجد من يحبها. وهي لا تكتفي بحب ابنيها؛ فإن الأمومة عاطفة شديدة التأثير في المرأة، ولكنها ليست حياة المرأة كلها إلا في أوقات خاصة يتعرض فيها الأبناء للخطر.
نامعلوم صفحہ
وليست هناك امرأة هادئة تستطيع أن تتعزى بأمومتها وحب أبنائها عن هذه العاطفة الطبيعية التي نسميها الحب، هي إذن تريد أن تحب، وتريد أن تجد من يحبها، وهي لا تحب زوجها ولم تحبه قط، ولم تتخذه زوجا لها إلا لأن أبويها اضطراها إلى ذلك. وزوجها لا يحبها ولم يحببها قط، ولم يتخذها زوجا إلا لأنه كان في حاجة إلى مالها، ولأنها كانت تكفي لترزقه هذين الصبيين، ولكن هناك فرقا آخر عظيما بين هذين الزوجين؛ فأما الرجل فسعيد راض بحياته، يرى أنه قد بلغ أقصى ما كان يريده من الأماني، ويرى أن ليس لأحد أن يطمع في خير مما وصل إليه، أما امرأته فشقية تعسة، تفكر دائما في مثلها الأعلى، وتشعر دائما بحاجتها إليه وبأنه لم يتح لها. وزوجها لا يحس منها هذا الشقاء، ولو أحسه لما فهمه، والأمر على هذا النحو بين الزوجين الآخرين اللذين وصفتهما لك منذ حين. «ففرسان» سعيد بحياته المادية، مغتبط بنشاطه ونتائجه، ولكنه يشعر بأن شيئا ينقصه، وأن هذا الشيء هو الحب، أو قل هو المرأة التي تفهمه ويفهمها، وتقدره ويقدرها ، وتشعر أن في الحياة شيئا غير الطعام والشراب والنوم والزينة، وامرأته «شارلوت» لا تشعر بشيء من هذا، بل هي لا تقاسم زوجها نشاطه وعنايته بالعمل المادي، فالحياة عندها مقصورة على هذا الجزء الحيواني الذي رفهته الحضارة بألوان الترف.
الأسرتان إذن متشابهتان تشابها عكسيا: المرأة شقية في إحداهما والرجل سعيد، والمرأة سعيدة في الأخرى والرجل شقي.
وفي القصر رجل آخر هذه الليلة خليق أن نعنى به عناية ما؛ هو «موران»، صديق قديم لصاحب القصر، معني بالفلسفة والبحث عن حياة النفس وظواهرها من الوجهة الاجتماعية، اتصلت الفرقة بينه وبين صديقه أعواما، ثم أقبل يزوره ويقضي عنده أياما، ولنلاحظ أنه عالم قبل كل شيء لا يؤمن بالدين ولا يطمئن إلى أصوله.
ورجل آخر يجب أن نعنى به أيضا؛ وهو القسيس «بلوكان»، قسيس الناحية، وهو من رجال الدين المستنيرين الذين يستطيعون أن يوفقوا بين أصول الدين وأحكامه والحياة الحديثة وما تدعو إليه. كان قسيسا في باريس، ولكنه أظهر شيئا من الميل إلى الحياة الحديثة، فأنكر ذلك الأسقف ونفاه عن باريس إلى هذه الناحية، فهو مقيم فيها منذ عشر سنين، يحب الناس ويحبونه، ويرضى عنهم ويرضون عنه، وهو مستنير حقا. انظر إليه يستخدم نوعا من «الموتوسيكل» كلما انتقل من مكان إلى مكان، والناس يعجبون لذلك، والأسقفية تتبرم به؛ لأن استعمال هذا النوع من «الموتوسيكل» لون من ألوان البدع في ذلك الوقت، كما كان اتخاذ الأحذية الإفرنجية لونا من ألوان البدع عند الأزهريين منذ خمسة عشر أو عشرين عاما.
ثم في القصر رجل آخر أقبل زائرا أيضا، وهو «سان فوان»، رجل خفيف الروح، يفهم الحياة كما هي، ولكنه يبسم لها ويتقاضاها حظه من اللذة فيها، ضاحكا أبدا حتى حين لا يدعو شيء إلى الضحك.
ولعل من الخير أن أذكر لك هذا الرجل الآخر «كورزاك»، وهو جار أعزب يحب صاحبة القصر منذ سنين، وهو يتتبعها ويلح عليها فتطمعه وتمنيه دون أن تتجاوز ذلك إلى شيء آخر، وهو شقي بهذا الحب الذي لا ينتهي إلى غايته، وهي سعيدة بهذا الحب الذي يمكنها من أن تعبث، ويشعرها بأن لجمالها سلطانا على القلوب.
أتريد بعد هذا أن ألخص لك حوادث الفصل الأول؟ ولكن ما نفع هذا التلخيص وكل هذا الفصل إنما خصص ليعرض علينا أشخاص هذه القصة ومميزاتهم. لا ألخص لك إذن حوادث هذا الفصل، فلسنا في حاجة إلى هذا التلخيص، ولكنني لا أنسى أن أذكر أن هذا الفصل يشعرنا شعورا قويا - ولكنه دقيق - بأن هناك شيئا غير عادي، فنحن نرى «فلنتين» محزونة متأثرة، يأخذها نوع من الإغماء مرة أو مرتين، ونرى «فرسان» يهتم لذلك ويغتم له، ثم نراهما يتحدثان لحظة، فنفهم أن بينهما حبا، وأن هذا الحب هو مصدر ما نشهد عند «فلنتين» من حزن وضعف، ولا ينتهي السمر حتى يتفق «لمبير» مع أصحابه على أن يجتمعوا عنده للغداء إذا أصبحوا، فهو يريد أن يظهرهم على داره وأرضه وعلى مصنع الورق الذي يديره، والذي يستحق أن يرى لموقعه الطبيعي مشرفا على سيل ينحط في قوة وعنف، مستمدا من هذا السيل قوة كهربائية هي التي تدير أدواته الضخمة. •••
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن عند «لمبير»، وقد فرغ القوم من غدائهم، وأقبلوا على الحديث، وهم يعبثون إلا «فلنتين»؛ فهي كما كانت أمس محزونة كأنها ذاهلة، وقد دعاهم صاحب البيت ليشهدوا مصنعه، فهم يستعدون لذلك و«شارلوت» أشدهم استعدادا؛ فهي تهيئ نفسها وتتزين وتريد أن تأخذ معها أدوات زينتها، فينكر عليها زوجها ذلك ويشتد بينهما خصام، نفهم منه أن الصلة بين الزوجين ليست من المودة واللين على ما ينبغي؛ فالرجل يكره من امرأته خفتها وإسرافها في الميل إلى الزينة، ولا سيما حين تذهب إلى مصنع فيه العمال الكثيرون الذين يشقون اليوم كله ليكسبوا ما يتبلغون به، والذين لا يضمرون الخير للأغنياء ولا للمترفين، وامرأته تزدري هذا كله وتسخر منه، ولا تجيب زوجها إلا لائمة أو مزدرية. وقد انصرفوا جميعا إلا العاشقان «فلنتين» و«فرسان» فيبقيان، ولا يكادان يتحدثان حتى ننتهي إلى عقدة القصة في أقصى أطوارها من العنف والشدة، ولكنه انتهاء لم نفاجأ به؛ فقد أعددنا له الفصل الأول إعدادا كافيا. لا يكادان يتحدثان حتى يظهر حبهما قويا قد بلغ أقصى أطواره، وهما ضيقا الذرع بما يضطران إليه من التكتم والحذر والاحتياط، ولكن الأمر قد تجاوز ألم العاشقين، وضيق ذرعهما بالرقباء وبما يضطران إليه من حيلة، تجاوزا هذا كله إلى شيء آخر أشد منه ألما وأعظم منه خطرا؛ فلفلنتين سر تريد أن تلقيه إلى صاحبها، وهي وجلة مشفقة على أن هذا السر قد نغص عليها الحياة وحرمها النوم، ويوشك أن ينغص عليها الحب أيضا، وما يزال بها صاحبها حتى يفهم هذا السر، وهو أنها حامل، حامل ولا تشك في أن صاحبها مصدر هذا الحمل، فالصلة منقطعة بينها وبين زوجها منذ سنتين، وهي جزعة لهذا لأنها تقدر نتائجه، ونتائجه كثيرة خطرة كلها.
ماذا عسى أن يكون وقع هذا النبأ في نفس صاحبها؟ أليس من المعقول أن يكون هذا الوقع سيئا؛ لأنه ينغص الحياة والحب على هذا العاشق الذي لعله لم يكن يبتغي من الحب إلا لذة النفس والجسم خالية من كل شائبة معصومة من هذه الصعاب التي تنغص الحياة، وتجعل احتمالها عسيرا؟ فلهذا الرجل زوجه وله حياته الخاصة، وإنما كان هذا الحب لذيذا محببا إليه حين لم تكن تشعر به زوجه، ولم يكن يعرض حياته المنزلية للخطر، أما الآن فلن يستطيع هذا الحب أن يظل مكتوما، ولا بد من أن يعرف غدا أو بعد غد. أفيسره هذا النبأ أم يسوءه؟ يسره من غير شك؛ فهو يحب ابتغاء للذة أو التسلية لا إرضاء للشهوة أو الهوى، وإنما يحب حقا، وأي نبأ يسعد له العاشق حقا إذا لم يسعد لمثل هذا النبأ؟ أليس هذا الحمل نتيجة لهذا الحب الذي يكبره ويحرص عليه؟ أليس صلة مادية ومعنوية قوية بينه وبين من يحب؟ هو سعيد مغتبط، وهو لا يخفي سعادته واغتباطه، ولكنه لا يقدر النتائج الأخرى كما تقدرها هي، فماذا عسى أن يكون شأنه مع امرأته؟ وماذا عسى أن يكون شأنها مع زوجها؟ بل هو يقدر هذه النتائج، فهو لا يحفل بامرأته، ولا ينبغي أن تحفل هي بزوجها، وإنما ينبغي أن يستجيبا للطبيعة، وأن يخلص كل واحد منهما لصاحبه، يجب أن يطرح كل منهما رفيق حياته ومصدر شقائه وألمه، يجب أن يفرا إلى حيث يعيشان سعيدين، وإلى حيث يقفان حياتهما على هذا الحب السعيد، وعلى تربية هذا الطفل الذي سيقبل عليهما بعد أشهر.
يجب أن يفرا، وما أيسر الفرار، وما أحبه إليهما! ولكن هناك ما يمنع من الفرار، وهو لم يكن فكر في ذلك؛ هناك هذان الطفلان اللذان رزقتهما «فلنتين» من زوجها، هما ابناها، وهما ابناها بمقدار ما سيكون هذا الجنين ابنها أيضا، وإذن فكيف تستطيع أن تفر مع عاشقها، وتترك ابنيها هذين؟! بدأ الجهاد إذن بين الحب والأمومة، فهي مضطرة إلى أن تختار؛ فإما أن تؤثر حبيبها على ابنيها، وإما أن تؤثر ابنيها على هذا الحبيب، وهذا الجهاد هو الذي أظهرها لنا حزينة ذاهلة، وهو الذي عرضها للضعف وما يعاودها من الإغماء. لم تكن تبتغي بهذا الحب لذة ولا سلوى، وإنما كانت تحب صاحبها حقا كما كان يحبها حقا، وإذن فاضطرابها شديد، وترددها لا حد له، وصاحبها ليس أقل منها ترددا واضطرابا؛ فهو لا يحبها حب الأثر الذي يبحث عن سعادته وحده، وإنما يحبها لنفسه، ويحبها من أجلها أيضا، وهو يشفق عليها من فراق ابنيها، ويتردد في حملها على هذا الفراق، ولكن ما حل هذه المشكلة؟ وأين السبيل للخروج من هذا المأزق؟
نامعلوم صفحہ
وهناك عقدة أخرى، فهبها أقامت ولم تفر، فما موقفها بإزاء زوجها، والصلة الزوجية منقطعة بينها وبينه؟ أتظهره على هذا الحمل؟ وإذن فهي الفضيحة والطلاق وحرمانها أولادها وعشرتهم والإشراف على تربيتهم! أم تخفيه وتخادعه وتتقرب منه حتى تتجدد الصلة بينهما وحتى يخيل إليه أن الجنين ابنه؟ وإذن فهو النفاق والتضليل، وهو قبل كل شيء إنكار هذا الحب والتضحية به، وهل تملك التضحية بهذا الحب؟ أترى إلى العقدة وإلى أي حد انتهت من الإحكام؟ ومع ذلك فلا بد أن تحل، ولن يحلها إلا التفكير والتروية، فسيفكران وسيرويان وسيلتقيان غدا ليفضى كل منهما إلى صاحبه بنتيجة الروية والتفكير.
وقد أقبل القسيس يلقي درسه على الطفلين، وأقبل «موران» تاركا أصحابه في شيء من اللهو، ومضت «فلنتين» مع القسيس تشهد درس ابنيها، فخلا الصديقان وأخذا يتحدثان، وما أسرع ما انتهى بهما الحديث إلى هذا الموضوع! فليس «موران» بالرجل الغافل الذي يخفى عليه مثل هذا الحب، بل قد أحسه ثم استيقنه، وهو الآن يلوم صديقه على خيانته امرأته وصديقه، ثم لا يلبث أن يعذر هذا الصديق، فهو يعترف بأن امرأته لا تستطيع أن تسعده، وهو يعترف بأن «لمبير» لا يستطيع أن يسعد «فلنتين»، وهو يعترف بأن هذين العاشقين قد خلقا ليتحابا، وليكون كل منهما مصدر سعادة الآخر، وقد كان ما لم يكن بد من أن يكون؛ فما المخرج من هذا المأزق؟
يسأله صديقه هذا السؤال ويذكر له أنه قادر على أن يجد لهما مخرجا؛ فهو باحث ماهر، وهو فيلسوف ينشر الكتب ويدرس فيها أخلاق الناس وصلاتهم؛ فليفرض أنه يكتب كتابا، وأنه بإزاء معضلة فلسفية يجب أن تحل، ولكن صديقه يبتسم، فهو ليس بإزاء معضلة من هذه المعضلات التي تحل في الكتب، التي يستطيع العقل الإنساني أن يتخذها رياضة ونوعا من أنواع التمرين، وإنما هو بإزاء معضلة من معضلات الحياة التي لا تحلها إلا الحياة، وكيف يستطيع أن يحل هذه المعضلة دون أن يؤذي ناسا من حقهم ألا ينالهم الأذى؟! ثم يمضي في حديثه وتحليله وحوار صاحبه، فإذا استوثق أن هذا الحب الذي جمع بين هذين العاشقين ليس عبثا ولا لهوا، وإنما هو من هذا الحب النادر الذي لا نلقاه كثيرا في الحياة، تشجع ونصح لصاحبه بالفرار مع حبيبته، فليضح إذن بامرأته؛ فهي تستحق أن يضحى بها، وهي لا تفهم الحياة ولا تقدرها، وهي لا تفهم الواجب ولا تقدره. إنها تكره النسل، ولو رزقت زوجها ولدا لصرفته عن الحب إلى العناية بابنه، ثم هي لن يشقيها هذا الفرار فستسلو عن زوجها وستستأنف الحياة السعيدة في باريس. ولتضح «فلنتين» بزوجها؛ فهو يستحق أن يضحى به؛ فهو لا يفهم الحياة ولا الحب ولا الزواج، وإنما يرد هذا كله إلى مسألة مالية، ومن الحق لكل إنسان أن يسعد، وإذن فمن الحق لهذين العاشقين أن يسعدا بحبهما، فليلتمسا هذه السعادة حيث يجدانها. والطفلان، ماذا يصنع بهما؟ ثم يقبل القوم جميعا فيستأنفون حديثهم وعبثهم وكأن شيئا لم يكن. •••
فإذا كان الفصل الثالث، فنحن أمام بيت حقير، يسكنه رجل من العمال، ومعه امرأته المتقدمة في السن أيضا، وقد أوت إلى هذا البيت خادم كانت عند «فلنتين»، أغواها أحد العمال فحملت وأشرفت على الوضع وظهر أمرها فطردها «لمبير»، وأشفقت عليها «فلنتين» فآوتها إلى هذه العجوز، وأخذت تنفق عليها وتتعدها حتى يتم الوضع وتبرأ من آلامه. وقد أقبل القسيس يتعهد هذه الفتاة، ونفهم أن قد رزقت صبيا، وأنها بخير، وتقبل «فلنتين» تعود الفتاة، ثم تخلو إلى القسيس أمام البيت ويتحدثان، فنفهم أن «فلنتين» ذهبت إلى القسيس فاعترفت له بأمرها وطلبت إليه المشورة، هي إذن تستشير القسيس كما أن صاحبها يستشير الفيلسوف، والقسيس يشير عليها بعكس ما أشار به الفيلسوف على صاحبها؛ يشير عليها بأن تقطع الصلة بينها وبين حبيبها، وأن تستأنف الحياة الزوجية وأن تخادع زوجها حتى يخيل إليه أن الجنين ابنه، فإذا نفرت من هذه المذلة وكرهت هذا النفاق وأنكرته، أجابها القسيس في عنف ورفق معا أنه لا ينكر أن في هذا مذلة ونفاقا، ولكنه يعلم أنها قد اقترفت إثما عظيما حين خانت زوجها، وأن من الحق أن تحتمل الألم في سبيل هذه الخيانة، وأن تكفر بالذل والهوان عن هذه الخطيئة. ويشتد بينهما الحوار على هذا النحو؛ فإذا هي تنكر ما يدعوها إليه القسيس مخلصة، وإذا القسيس يلح عليها في ذلك مخلصا، فإذا ذكرت الفرار أو الطلاق أنكرهما القسيس إنكارا شديدا، فالكنيسة لا تبيح الطلاق، وهي تقبل دونه كل شيء؛ لأن الكنيسة تعلن أن الزواج عقدة أحكمها الله، وما أحكم الله فليس له انفصام. - وإذن فالكنيسة تضحي بسعادتي وحياتي وكرامتي وعرضي، وهي تبيح لي الفجور والإثم اجتنابا للطلاق ؟ - نعم! وذلك هو الخير للإنسانية، فنحن نشهد آثار العلم والحضارة الحديثة وعملها في تفكيك العرى وقطع الصلات حتى كادت الأسرة ألا توجد، فلو أبحنا الطلاق، فماذا عسى أن تكون النتيجة؟
لا يقنعها ولا تقنعه، وقد أقبل القوم جميعا وكانوا في الصيد، ثم كانت أحاديث لا تعنينا، وانصرفوا وتركوا «فلنتين» وحدها، فتتقدم قليلا فإذا هي مشرفة على السيل من مكان مرتفع شاهق، وهي مضطربة ذاهلة قد أخذها ما هي فيه من تفكير، وإذا عاشقها قد أقبل فيدعوها، فكأنها تفيق من نوم، وهي تلقي نفسها بين ذراعيه، ثم يتحدثان، فتقص عليه ما كان من مشورة القسيس، فيظهر أنه لا ينتظر من القسيس إلا هذه المشورة، فالكنيسة ورجالها لا يقدرون الفرد ولا شخصيته ولا سعادته ولا عواطفه، وإنما هم منصرفون إلى عقائدهم يضحون في سبيلها بكل شيء، وهم يعتقدون أن في ذلك الخير، وهو مشفق يخشى أن تكون متأثرة بمشورة القسيس، وفي الحق أنها ليست متأثرة بمشورة القسيس، فلن تستطيع أن تذعن لهذا النفاق، ولا أن ترضى هذه الذلة، وفي الحق أيضا أنها ليست مطمئنة للفرار، فلن تستطيع أن تترك ابنيها، فيذكر لها صاحبها هذا الجنين، وأنها قد تجد فيه سلوة، فتجيبه: كلا، فما كان أحد الأبناء ليسلي عن الآخرين. ويظهر الدهش، فهذا الجنين نتيجة الحب، وهذان الطفلان نتيجة القسوة والعنف، فمن المعقول أن تؤثره عليهما، ولكن الأمومة لا تفرق بين الأبناء إلى هذا الحد، وليس يعنيها أن يكون مصدرهم الحب أو غير الحب، وإنما يعنيها أن يكون هناك ابن خليق بالعطف والحنو؛ ولكن الحوار قد اشتد بينهما، وأخذ الحنان يغلب عليه قليلا قليلا حتى صار حنانا كله، وهو يضمها إليه ويستعطفها ويتلطف لها.
وقد أخذت حجج الأمومة تضعف أمام حجج الحب، وإذا هي مستسلمة قد قبلت ما يدعوها إليه من الفرار. سيفران إذن إذا كان الغد، وسيلتقيان في المحطة إذا كانت الساعة التاسعة. •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن في بيت «لمبير» حيث كنا في الفصل الثاني، وقد أقبلت الخادم فأنبأت أن الطبيب يستأذن، فيأذن لمبير للطبيب، ويأمر الخادم أن تنبئ سيدتها بمكانه، وأنه صاعد ليراها. وقد دخل الطبيب وأخذ يتحدث إليه «لمبير»، ففهمنا أن «فلنتين» لم تنم ليلتها، وأنه يصف للطبيب مرضها واضطرابها وحزنها وهذا الإغماء الذي يعاودها، فيقول الطبيب: لعل من الحق أن تغتبط بهذا؛ فهو من إشارات الحمل. ولكن «لمبير» يجيبه بأنه واثق كل الثقة أن ليست هذه إشارات حمل؛ فلديه ما يحمله على هذه الثقة. وإذا «فلنتين» مقبلة، لم ترد أن يصعد إليها الطبيب؛ لأنها ليست في حاجة إلى الطبيب، ولأن زوجها دعا الطبيب دون أن يستشيرها. وقد انصرف الطبيب، ولم يفحصها، ولم يتبين من أمرها شيئا؛ لأنها أبت أن تنبئه بشيء، وتخلو إلى زوجها فيكون بينهما حديث آية في الأحاديث، تظهر فيه العواطف المختلفة، والميول المتباينة المتضاربة، يكون عتاب من «فلنتين» لزوجها فلا يفهم منه شيئا. تذكر له أنها لم تكن سعيدة، وأنها لم تلق منه ما كانت تأمل، وأنها لم تحببه، وأنه لم يحبها، فلا يفهم من هذا شيئا؛ لأنه لم يتزوج إلا وهو يعلم أنه لا يحب امرأته، وأن امرأته لا تحبه، وأن الزواج شركة الغرض منها تنمية الثروة وإيجاد الولد، وقد نمى الثروة وقد وجد الولد، ففيم تطمع امرأته؟ وماذا تريد؟ ومهما تذكر له من الحب واللين والحنان، فهو لا يجيبها إلا ساخرا مزدريا، ولكنها قد أنبأته أنها التمست عند رجل آخر ما لم تجد عند زوجها، وأنها أحبت رجلا وأحبها هذا الرجل، وكانت بينهما صلة! وإذا هو مغضب، ولكنه يملك نفسه. هو لا يحب إمرأته؛ فلا يعنيه أن تكون قد خانته، ولكنه يحتفظ بالقوانين والعادات الموروثة، فلا يستطيع أن يمسك هذه المرأة في بيته ولا سيما حين أنبأته أنها حامل، وقد عرف من تحب، وهم أن يذهب إليه ليخاصمه، فتنبئه بأنه لن يجده، وبأنهما كانا قد أزمعا الفرار. - وما يمنعكما منه؟ - لا أستطيع أن أترك ابني، وقد أتيت ذليلة ضارعة مستعطفة، أسألك ألا تتركني، وألا تفرق بيني وبين هذين الطفلين، وقد كنت أستطيع أن أخادعك وأكذب عليك وأخفي عليك كل شيء، ولكني أبيت هذا الخداع وصارحتك، فلا تفرق بيني وبين ابني، ولن يغير هذا من عيشتنا شيئا؛ فالصلة بيننا منقطعة منذ حين طويل، وستظل منقطعة أيضا، لا تفرق بين الأم وابنيها ...
ولكنه يأبى أشد الإباء؛ يأبى لأن هذه المرأة قد انحطت بهذه الخيانة، فهي ليست أهلا لأن تجاور ابنيه أو تعاشرهما. ثم هو لن يسمح بأن يكون هذا الجنين ابنا له أمام القانون وأمام الناس، ولا يسمح بأن يكد ويعمل ليرزق هذا الطفل الذي ليس له، ولا يسمح بأن يعتقد ابناه أن هذا الطفل أخوهما لأب وأم. يجب إذن أن ترحل، وهي إذا لم تفعل مختارة فستطرد من البيت طردا، وليس إلى تغيير رأيه من سبيل.
هي مذعنة لهذا الأمر تريد أن تذهب، وتريد أن تودع ابنيها، ولكنه يأبى أن تخلو إليهما فيأمر بالطفلين فتحضرهما الخادم، وتودعهما أمهما باكية وهما يبكيان، وتنصرف.
وقد خلا الطفلان إلى أبيهما، فأمرهما أن ينتحيا ناحية ويلهوا في هدوء، فهما ينظران في كتاب، وهو إلى مكتبه يكتب. وتمضي على ذلك دقائق، وإذا رجل من العمال يقبل مسرعا مضطربا كأن قد حدث حدث، وقد حدث حدث بالفعل، فأسرع «لمبير» وأمر بالطفلين فأقصيا عن البيت، وخلا المسرح لحظة، ثم يقبل القوم الذين رأيناهم في الفصول الماضية وكانوا على موعد مع أهل البيت، فإذا لم يجدوا أحدا أنكروا ذلك، وأخذوا يبحثون في أعلى البيت وأسفله، ثم يندبون من بينهم من يذهب ليستقصي الأمر، فيمضي «سان فوان» ويعود مضطربا مذعورا ينبئ بأن «فلنتين» قد سقطت في السيل حيث الأداة الكهربائية، فهي معلقة في العجلة من ثيابها بعد أن مزقتها تمزيقا، وسيحمل جسمها بعد حين.
نامعلوم صفحہ
أما «شارلوت» فلا تكاد تسمع هذا النبأ حتى تذعر، وتريد أن تنصرف؛ لأنها تكره أن ترى هذه الجثة. وقد انصرفت مع «سان فوان»، وخلا الفيلسوف إلى القسيس، فهما يتحاوران وينتظران الجثة.
وهل أترجم لك الحوار؟ أم هل ألخصه؟ ولم أترجمه أو ألخصه؟ وما نفع هذه الترجمة أو هذا التلخيص ؟ الفيلسوف يدافع عن مشورته الفلسفية، والقسيس يدافع عن مشورته الدينية، وكلاهما مخلص في دفاعه، وكلاهما غير مقنع لصاحبه، وكيف يستطيع أحدهما أن يقنع الآخر؟! فإذا عجز الدين عن أن يوفق بين سعادة الناس ومنافعهم، فليست الفلسفة أقل عجزا منه عن التوفيق بين هذه السعادة وهذه المنافع؛ ذلك لأن في الحياة عقدا ليس إلى حلها من سبيل. وهما يتحاوران والحوار يشتد بينهما، ولكن حركة تدنو، وإذا القسيس يطلب إلى صاحبه الصمت، ويشير بيده إلى قوم يدنون وقد حملوا الجثة.
مايو سنة 1924
الرقص في نصف الليل
قصة تمثيلية للكاتب الفرنسي «شارل ميري»
حدثتك عن هذا الكاتب منذ حين، يوم حللت لك قصة من قصصه هي «الأمير جان».
1
ولست أدري أتذكر هذه القصة أم قد نسيتها، ولكني أذكرك بأني أشرت حين كتبت عن هذه القصة إلى أن هذا الكاتب ليس من الكتاب الذين يقصدون إلى فكرة فلسفية أو إلى نظرية من النظريات، فيدرسونها ويبعثون فيها الحياة، وإنما هو يريد أن يلهى لا أكثر ولا أقل، أو قل هو يريد أن يلهى دون أن يخلو لهوه من نفع خلقي ما، ولكن هذا النفع الخلقي ليس هو الذي يعنى به أو يقصد إليه، وليس هو الغرض الأساسي من القصة، إنما قصصه حركة متصلة قلما يكون فيها وقت للتفكير والروية أو للبحث وتحليل العاطفة، فإن عرض لشيء من ذلك فهو لا يعرض له ليتخذه موضوع قصته، وإنما يعرض له لأنه احتاج إليه احتياجا. هو كاتب عملي لا يريد أن يتخذ ملعب التمثيل مدرسة فلسفية أو اجتماعية، وإنما يريد أن يتخذه ملعبا ينفق فيه الجمهور شيئا من وقته لاهيا عابثا دون أن يضيع هذا الوقت أيضا.
ولقد قرأت هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم، والتي وصلت إلينا في الأسبوع الماضي، فترددت في أن أتخذها موضوعا للحديث؛ فقد يكون من الناس من يميل إلى هذا النحو من القصص الذي تكثر فيه الحركة ويتصل فيه العمل، ولكنه يخلو أو يكاد يخلو من فكرة قيمة تكون موضوعا لهذه الحركة أو هذا العمل. قد يكون من الناس من يميل إلى هذا النحو من القصص، أما أنا فلست أحبه ولا أميل إليه، ولست أرضى عن قصة تمثيلية إلا إذا جمعت إلى الحركة والعمل معنى فلسفيا قيما، أو جمالا فنيا خليقا بالإعجاب. ولا أستطيع أن أقول إن في هذه القصة جمالا فنيا خلابا، ولا أستطيع أن أقول إن فيها فكرة فلسفية قيمة مبتكرة، وإنما هي قصة عادية إن يكن لها امتياز فهو سرعة الحركة واتصالها. ومع ذلك فسأحدثك عنها، لأنها ظهرت حديثا، وعني الناس بها وأكثروا الكلام فيها، ومن حقك علي أن أظهرك من حين إلى حين على ما يعنى به أهل التمثيل ومحبوه في باريس.
ثم إن هذه القصة قد لا تخلو من نفع؛ فهي إذا لم يمكن أن تقرن إلى القصص التي يكتبها زعماء الفن، ك «فرنسوا دي كوريل» و«موريس دونيه» و«ألفريد كابو» و«بول هرفيو»، فليس معنى هذا أنها خليقة أن تطرح وتزدرى. وأنا بعيد كل البعد عن إطراحها وازدرائها؛ فقد وجدت فيها شيئا من اللذة غير قليل، وكل ما أريد أن أقول هو أنها لا تحقق المثل الأعلى الذي أسمو إليه عندما أفكر في القصص التمثيلي، على أنها لا تخلو من تحليل دقيق ومن مواضع خلابة مؤثرة. ولعلها لا تخلو من شيء آخر أريد أن أشير إليه مع احتياط شديد؛ فالاحتياط الشديد واجب على الكتاب المصريين في هذه الأيام، لا تخلو من إشارات إلى الحياة السياسية الفرنسية، بل لا تخلو من عبث بالبرلمان الفرنسي وبالحكومة الفرنسية وبنظام الحكم في فرنسا بوجه عام، فلنشر إلى هذا أثناء التحليل حذرين محتاطين؛ حتى لا ينالنا ما نال قوما آخرين، وإن كان البرلمان الفرنسي لا البرلمان المصري، هو موضوع هذا العبث الذي سنمر به مضطرين في هذا التحليل، وربما لم نكره أن يظهر القراء على هذا النحو من العبث الذي يسمح به الكتاب الفرنسيون لأنفسهم بالقياس إلى مجالسهم النيابية وإلى وزاراتهم المختلفة، ففي هذا مثال لشيء من الحرية السياسية في البلاد التي تفقه الحرية السياسية وتقدرها وتريد أن تستمتع بها حقا، وفي هذا مثال لهذا التصور الديمقراطي الصحيح، الذي نتمنى أن نصل إليه في بلادنا غدا أو بعد غد، وهو هذا التصور الذي لا يجعل أعضاء المجالس النيابية آلهة، ولا أنصاف آلهة، ولا أرباع آلهة؛ بل لا يجعلهم مقدسين أو كالمقدسين، بل لا يعصمهم من النقد، ولا يجعلهم بمأمن من عبث العابثين ولهو اللاهين.
نامعلوم صفحہ
آه! لقد أحب أن يقرأ المصريون «أناتول فرانس» وغيره من الكتاب. لقد أحب أن يقرءوا «ألفونس دوديه»، ولا سيما قصته «نومار ومستان». لقد أحب أن يقرءوا «الكونت دي فوجيه»، ولا سيما قصته المشهورة التي هي آية من آيات البيان، وهي «حديث الموتى». لقد أحب أن يقرءوا «موباسان». لقد أحب أن يقرءوا الكتاب الفرنسيين جميعا، ليعرفوا كيف يعبث الكتاب الفرنسيون في قصصهم الروائية والتمثيلية بأعضاء المجالس النيابية وبالوزراء ورؤساء الوزراء، بل برؤساء الجمهورية، بل بأعضاء المجامع العلمية. لقد أحب أن يقرأ المصريون هذه الكتب، ليعلموا أن البرلمانات والحكومات والمجامع العلمية والهيئات السياسية في أوروبا ليست سكرا يخاف عليه أن يذوب أمام النقد، فيبالغ في حمايته والاحتياط له. ولكني قد بعدت عن القصة التي أنا بإزائها، وأنا معذور في هذا الاستطراد؛ فقد اضطررت إليه اضطرارا؛ لأن في هذه القصة عبثا بأعضاء البرلمان الفرنسي، ولنقد أعضاء البرلمان قضية في مصر.
فلننتقل إلى باريس ولنترك القاهرة لأهل القاهرة. •••
نحن في قصر فخم من قصور باريس، يسكنه رجل غني، ضخم الثروة، منقطع إلى الأعمال المالية، له مصرف، وهو في الوقت نفسه يرأس جماعة مالية كبرى؛ هو «البارون رينو»، وهو رجل متقدم في السن، ضعيف، مدمن على الكوكايين، فقد أسرف في ذلك حتى أصابته علة من علل القلب، عرضت حياته للخطر، ولا سيما إذا دهمته داهمة أو نابته نائبة. وهو في هذا الوقت تعس الحظ؛ لأن نازلة قد نزلت به فعرضته للموت وعرضت شرفه للضياع؛ وذلك أنه ضارب فأضاع رأس مال المصرف، ثم ضارب فأضاع رأس مال الجماعة المالية التي يرأسها، وهو في بيته مضطرب ذاهل يفكر في هذه الكوارث التي ألمت به، ونراه يتحدث إلى خادمه حديثا متقطعا يقطعه الضعف كما يقطعه الهم، ونراه لا يكاد يستقر ولا يثبت، ونراه لا يكاد يمسك نفسه إلا بعلبة الكوكايين يأخذ منها القبضة من حين إلى حين فترد إليه رمقا من حياة، وخادمه يتحدث في التليفون فينبئه أن امرأة تريد أن تتحدث إليه، فإذا تحدث إليها ضرب لها موعدا للقائه بعد قليل، وهو ينتظر سكرتيره، وينتظره متحرقا، وكأن هذا السكرتير قد أبطأ عليه، وهو يسخط لذلك ويتململ.
وقد أقبل السكرتير، فهو يسأله عن الأنباء، والسكرتير يقص عليه أنباء «البورصة»، ثم أنباء المصرف، ثم يقدم إليه صحيفة من الصحف قد بدأت تحمل عليه وعلى مصرفه وجماعته المالية حملة منكرة، وتذيع أسراره، وتشير إلى أن النيابة قد تحقق، فيضطرب الرجل لذلك، ولكنه قد تعود مثل هذه الصدمات، فهو يعرف كيف يحتملها، يعرف بنوع خاص كيف يخدع الجمهور ويكذب عليه، كيف يداوره ويماطله، فلم يكد يفرغ من قراءة هذا الفصل حتى أخذ يملي على سكرتيره بلاغا يكذب فيه ما أذيع عن المصرف والجماعة في لهجة قوية حازمة مقنعة حتى ليتأثر السكرتير ويقتنع، ولكن الرجل ينبئه مبتسما أن بلاغه كاذب وأن لهجته كاذبة، وأن الصحيفة صادقة وأنه قد أضاع رأس ماله وعبث برأس مال الجماعة، وأنه لم يرد إلا الخير، ولكنه لم يوفق، وأنه يعلم أنه سواء أراد الخير أم لم يرده فقد أخطأه التوفيق، ومن يخطئه التوفيق فالناس حرب عليه.
وقد دهش سكرتيره لهذا، وأصابه شيء من الجزع؛ فهو يهدئه ويبعث في قلبه الطمأنينة ويعلن إليه أنه لم يفقد كل أمل، وأنه في حاجة إلى مهلة، في حاجة إلى أسبوعين، وأنه يستطيع أن يظفر بهذه المهلة، وأن يصلح من أمره كل ما فسد دون أن يشعر بحقيقة الأمر أحد. فيسأله السكرتير: ومن لك بهذه المهلة؟ فيجيب «موران»: سكرتير رئيس الوزراء الذي نعلم أنه هو رئيس الوزراء؛ لأن رئيس الوزراء شيخ لا إرادة له ولا عمل، وقد أسلم أمره إلى هذا السكرتير، فهو الذي يدبر أمور الدولة الآن، حتى إذا سقطت هذه الوزارة فهو رئيس الوزارة المقبلة من غير شك؛ لأنه عضو في مجلس النواب، هذا الرجل يستطيع أن يمنحني هذه المهلة إذا أصدر أمره إلى النيابة سرا ألا تتعجل التحقيق، وأن تماطل وتتباطأ أياما، وهو قادر على ذلك إن أراد. فإذا ذكر له سكرتيره الواجب والأمانة والشرف ابتسم ساخرا؛ لأنه يعلم قيمة هذه الألفاظ ولا سيما عند رجال السياسة ورجال المال.
والآن وقد ذكرت لك شخصين غير صاحبنا المحامي فيحسن أن أقدمهما إليك؛ أحدهما هذا السكرتير الذي يتحدث إلى «البارون رينو»، وهو شاب في الثلاثين من عمره، اسمه «دنيال» شريف أمين وفي متعلم، بل له من العلم والأدب حظ عظيم، ولكنه فقير، أقبل إلى باريس وكان يريد أن يكون قصصيا، ولم يكن له بد من أن يكسب رزقه، فأقبل إلى مدام «رينو» بوصية من أحد أصدقائها، وتقبلته هذه السيدة قبولا حسنا، وأوصت به زوجها فاتخذه سكرتيرا له؛ فهو وفي للزوجين وفاء شديدا، وربما كان يضمر للمرأة شيئا آخر غير الوفاء ستراه بعد حين.
وأما الآخر «موران» فشاب اندفع في الحياة السياسية فأصابه الفوز فيها، وصل إلى مجلس النواب، ولم يلبث أن امتاز ببلاغته وفصاحته ومهارته السياسية، فاشترك في الوزارة القائمة حتى إذا سقطت فسيؤلف هو الوزارة المقبلة، فإذا أردت أن تعرف الصلة بين هذا الرجل المالي وهذا الرجل السياسي فسينبئنا بها «رينو» نفسه حين يتحدث بها إلى سكرتيره. يخرج غلافا مختوما ويدفعه إلى السكرتير ويأمره أن يحتفظ به عنده إلى وقت الحاجة، فإذا سأله عما فيه أجاب إنها أوراق تمس الحياة السياسية لموران، وتستطيع أن تسقطه وتحول بينه وبين أطماعه! كلا! بل تجلله خزيا وعارا، فإذا أظهر السكرتير شيئا من الدهش - لأن هذا الرجل السياسي مشهور بحسن الخلق والاستقامة والحرص على أداء الواجب - ابتسم المالي ساخرا. وإذا سأله السكرتير كيف يدبر الكيد لصديقه، أجاب: ليس صديقي، ولكنه خليل امرأتي. فلا تسل عن دهش السكرتير؛ فهو يقدس هذه المرأة ويكبرها ويراها فوق هذه الدنيات، ولكن الزوج ينبئه بأنها غير ما يظن، وأنها امرأة تستمتع بجمالها وشبابها وتأخذ بحظها من اللذة، وأن الصلة الزوجية بينهما منقطعة منذ سنين، وأنها قد خانته مع كثيرين، وهي تخونه مع هذا الرجل منذ سنتين، والناس جميعا يعرفون ذلك ويتحدثون به، فلا أقل من أن يؤدي له «موران» هذه الخدمة فيخرجه من هذا المأزق الذي اضطره إليه سوء الحظ.
وقد أقبلت سيدتان، إحداهما تعنينا قليلا وهي «مدام دي فونتانج»، أقبلتا فخلت إحداهما إلى البارون وأخذت تضرع إليه في أن يرد إليها الأوراق التي يحتفظ بها والتي تمس الحياة السياسية لموران، وأخذ هو يرفض ويلح في الرفض، ثم تقبل امرأته «ماري تريز»، وهي امرأة جميلة رشيقة خلابة، تعيش مع زوجها عيشة الجوار لا عيشة الزواج، منصرفة عنه إلى لذاتها وأهوائها، وهي الآن مقبلة من السباق، فهي تقص أمره على صاحبتيها.
ثم ينصرفن ويقبل رجل من أعضاء الجماعة المالية قد بلغه النبأ السيئ، فجاء مضطربا ساخطا يلوم ويسرف في اللوم، والبارون هادئ مطمئن يسخر منه ويعبث به. وقد دق التليفون، فإذا أسرع إليه السكرتير عاد فأنبأ البارون بأن المصرف يطلبه فورا؛ لأن الشرطة قد ذهبت إليه وهي تريد أن تبحث وأن تحقق. يهم بالانصراف، وقد أقبلت سيارة، فيسأله صاحبه من في هذه السيارة، ثم ينظر من النافذة فيرى «موران»، وإذا هو قد اطمأن وابتهج؛ لأنه يقدر أن «موران» يستطيع أن يصلح من أمر المصرف والجماعة، ولكن القوم جميعا ينصرفون ويدخل «موران» فلا يجد أحدا. ثم تأتي «ماري تريز» فإذا هي تلقاه لقاء المحبة المشتاقة المتلهفة، وإذا هي مسرفة في ملاطفته والعناية به؛ يريد أن يشرب شيئا من النبيذ فتسقيه كأنه الطفل، يريد أن يجلس فتقدم الوسائد وتحيطه بضروب الرفق والعناية، كل ذلك في دعابة وخفة وفي شوق ولهفة، وهي تتحدث عن الموعد المقبل وعن اللذة المنتظرة، وهو يجيبها متلطفا مداعبا، ولكنه في هدوء كأنه مشغول البال، وهو مشغول البال حقا؛ فقد عرف ما كان من أمر البارون وإشرافه على الخطر، وأقبل ينذر صديقته يريد أن يحميها، فهو ينصح لها أن تسافر من باريس، ويلح عليها في أن تغيب أشهرا، وهي تأبى لأنها لا تريد أن تفارقه، وهي تؤثر كل شيء على هذا الفراق، وهو يلح ويبالغ في الإلحاح حتى تعده بالتفكير والروية.
ولا يكاد ينصرف حتى يعود الزوج، فتهم هي أن تنصرف، فيمسكها زوجها ويقص عليها كل شيء، ويعلن إليها أنه إن يكن قد أنفق ما أنفق وتورط فيما تورط فيه، فقد بذل ما استطاع ليضمن لها حياة رضية سهلة. ألم ينفق مائتي ألف فرنك لزينتها في هذه السنة! ألم ينفق نصف مليون من الفرنكات لحفلاتها في هذه السنة! أما هي فتزعم له أنها لم تطلب شيئا من هذا، وأنه لم يفعل هذا إلا لمنفعته الخاصة؛ لأنه أراد أن يظهر مظهر الرجل الغني الذي يبعث على الثقة، ثم تغلظ له في القول وتتهمه بالضعة والاختلاس وما إلى ذلك، ويحتمل منها هذا كله مطمئنا ساخرا، ثم يطلب إليها ما كان يريد وهو أن تسعى عند «موران» ليؤجل التحقيق، فإذا أرادت أن تعتذر صارحها بما يعلم من أمرها مع هذا الرجل، وبأنه قد أنفق عليهما وهيأ لهما ما استمتعا به من لذة، فالحق عليهما الآن أن يعيناه، أما هي فتأبى الإباء كله؛ تأبى لأنها لا تريد أن يسعى صاحبها في شيء دنيء كذا، وتأبى لأنها لا تريد أن يشعر صاحبها أنها لا تحبه لنفسه بل لمركزه وسلطانه. تأبى وتعرض حليها، وتعرض أن تقترض المال، ولكن زوجها لا يريد إلا هذا السعي، فإذا رأى إصرارها على الإباء ذكر ما عنده من الأوراق، وأنذر بنشره في صحيفة من الصحف، وإذا زوجه قد سخطت عليه سخطا لا حد له؛ فهي تهينه وتزدريه وتنذره، وهو يجيبها بأنه إن قدر له أن ينسف فلن ينسف وحده بل سينسف معه خليلها، فتجيبه: بل سننسف جميعا. •••
نامعلوم صفحہ
فإذا كان الفصل الثاني، فنحن في القصر نفسه وقد مضت أيام على ما قدمت لك، وفي القصر حفلة راقصة أراد صاحب القصر أن تكون آية بين حفلات الرقص، ودعا إليها جمهور أصحاب الثروة والمكانة «ليذر الرماد في العيون» كما يقولون، وليخيل إلى الناس أن هذه الأنباء التي تذاع لا خطر لها، ولكن الناس لا يصدقون من هذا شيئا، وإنما أقبلوا يلهون ويرون ويشمتون، وهم يتحدثون بهذا ويتوسمون في الرجل وامرأته أمارات الاضطراب، وقد خلت في لحظة من اللحظات «ماري تريز» إلى السكرتير «دنيال» فهي مضطربة جزعة، وقد سمعت باعة الصحف يصيحون، فطلبت إلى السكرتير أن يسرع فيبتاع الصحف. وهي كذلك إذ يقبل «موران»، أقبل خلسة دون أن يشعر به أحد وأقبل جزعا مضطربا؛ لأنه سمع أن أحد النواب سيلقي سؤالا في مجلس النواب هذه الليلة، وسيكون موضوع السؤال هذه الفضيحة المالية، وسيشير هذا النائب في سؤاله إلى الصلة بين «موران» وبين البارون، والنواب يتحدثون فيما بينهم بأن لموران حظا في هذه الفضيحة ويذكرون صلته «بماري تريز»، ويذكرون أنه أوحى إلى النيابة بتأجيل التحقيق، وهم يريدون أن يفضحوا هذا كله الليلة؛ ولذلك أقبل صاحبنا مسرعا غير حذر لينبئ صديقته وليعلن إليها أن زوجها قد يقبض عليه من حين إلى حين.
ولكنه أقبل لشيء آخر أيضا؛ أقبل لأنه علم أن لدى هذا الرجل أوراقا بخطه، وأنه يريد أن يرى البارون، ولا يزال يلح حتى أتى البارون، فإذا التقى الرجلان كان بينهما حوار ثم خصام عنيف؛ لأن البارون أنبأه بما في هذه الأوراق التي كتبها بخطه والتي ازدرى فيها حزبه وسخر منه، وهزأ فيها بالنظام الجمهوري كله، وكتب أنه يميل إلى قلب هذا النظام، وأن أقدر الناس على قلب الجمهورية هم أنصارها الحقيقيون، فإذا نشرت هذه الأوراق فقدر وقعها في الحزب السياسي وفي مجلس النواب، وفي الكثرة الجمهورية التي يعتمد عليها صاحبنا ليكون رئيس الوزارة؛ لهذا يشتد الخصام بين الرجلين، ويلح الرجل السياسي ليأخذ أوراقه، فيلح الرجل المحامي ليؤجل التحقيق، ثم يشتد بينهما العنف حتى يهجم الرجل السياسي على خصمه فيأخذ بعنقه حتى ليكاد يخنقه، ثم يتركه وقد أخذ الجهد من رجل المال الذي هو ضعيف مشرف على الخطر كما قدمنا، وإذا هو يضطرب وإذا هو يمشي إلى صاحبه متثاقلا ثم ينكب على وجهه، فيسرع إليه «موران» وتسرع إليه زوجه، ولكنه قد فقد الحركة. فإذا أجلساه أخذا يتجسسان نبضه ويتسمعان قلبه، ولكنه قد مات! ولست أصف لك اضطرابهما وجزعهما، فأنت تقدره، وقد استطاعت المرأة أن تقنع صاحبها بالانصراف إلى مجلس النواب، واتفقا على أن تنصرف هي إلى الحفلة فتنفق الليلة في لهو ورقص.
وقد أغلقت على الميت باب مكتبه، حتى إذا كان الصبح أظهرت أنه مات وهو يعمل، وقد أراد النائب أن يأخذ الأوراق التي جاهد من أجلها، فلما ظفر بها لم يجدها إلا صورة مطابقة للأصل. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت «دنيال» سكرتير البارون، وقد مضت أيام على ما قدمت لك، وعني الجمهور الباريسي بهذه الحادثة، وأخذ القضاء في التحقيق، والصحفيون يختلفون إلى هذا السكرتير يسألونه ويتحدثون إليه، وهو محتفظ لا يجيب إلا بأن البارون قد مات موتا طبيعيا، ولكن «ماري تريز» قد أقبلت وهي تذكر ما هي فيه من حزن وحرج، وتذكر هذه الجماعات التي تحيط بقصرها، وهذا الجند المرابط حول القصر، وهذه الجماهير التي تنظر إليها وتزدريها إذا خرجت، فهي متهمة بقتل زوجها، وهي تذكر هذا كله فلا تسمع من السكرتير إلا ألفاظ عطف ومودة وحنان، فيطمعها ذلك فتطلب إلى السكرتير أن يدفع إليها الأوراق التي ائتمنه عليها زوجها. يأبى الشاب لأنه يريد أن يدفع هذه الأوراق إلى قاضي التحقيق، ولا يكاد ينبئها بذلك حتى تجزع وتلح عليه وتضرع إليه في أن يدفع إليها هذه الأوراق، ثم تعترف بحبها «لموران» وتبالغ في التضرع، فيأبى الشاب، ولكنها تعلم موضع ضعفه، فتذكر حبه إياها وتسأله إن كان يحبها حقا أن يدفع إليها الأوراق. وقد فقد الشاب كل مقاومة فدفع إليها الأوراق، وأنبأها بأن امرأة أخرى طلبت إليه هذه الأوراق وعرضت نفسها ثمنا لذلك فأبى، فإذا سألته عن هذه المرأة ذكر «مدام دي فونتانج» التي ذكرناها في الفصل الأول.
يقع هذا النبأ من «ماري تريز» موقعا سيئا، وتحاول أن تبحث عن السر في علم هذه المرأة بهذه الأوراق وسعيها في أن تظفر بها، ولكنها لا تتكلف البحث، فقد أقبلت المرأة نفسها مرة أخرى تستأنف طلب الأوراق إلى الشاب، فتخلو إلى «ماري تريز» ونفهم من حديثهما أن هذه الأوراق كانت ملكا لهذه المرأة؛ لأن «موران» كان يحبها وهي التي مكنته بمالها من الفوز في الانتخاب، وأنه كتب إليها هذه الكتب أثناء حبهما ثم كانت بينهما قطيعة، فأرادت أن تنتقم فدفعت هذه الرسائل إلى البارون، ثم استؤنف الحب بينهما الآن فهي تريد أن تسترد هذه الرسائل. ولا تكاد «ماري تريز» تسمع هذا الحديث حتى تكذبه، فهي تعلم أن الرجل يحبها هي، ولكن أنى لها أن تمضي في تكذيبها والبرهان قائم على أن المرأة لم تكذب! أليس «موران» ينتظرها في العربة أمام البيت! تبعثان إذن فتطلبانه، وإذا هو قد أقبل فلم يبق شك عند ماري تريز في أنه يخونها، وقد تركتها المرأة فكانت بينهما خلوة، وجرى بينهما حديث طويل فيه تمثيل صادق لضعف هذه المرأة التي ترى نفسها محتقرة مزدراة، وتشعر بأن صاحبها يخونها، وتريد أن تكون كريمة أبية، وأن تقطع الصلة بينها وبين هذا الخائن، ولكنها لا تستطيع؛ لأن سلطان الحب عليها أقوى من سلطان الكرامة، وفيها تمثيل صادق أيضا لهذا الرجل الذي لا يحب ولا يعشق، وإنما يريد أن يلهو ويستمتع باللذة على ألا يحول ذلك بينه وبين مطامعه السياسية؛ فهو لا يحب تلك المرأة وإنما يداريها ويتقيها، وهو لا يحب هذه المرأة وإنما يخادعها لأنه يشتهيها، وهو منتصر عليهما معا لأنهما ضعيفتان وهو قوي. وقد استطاع أن يخرج بعد أن تم له رضا صاحبته وضربت له موعدا للقاء، وقد سمع الشاب كل هذا الحديث حيث كان مستخفيا، فأقبل إلى «ماري تريز» وأعلن إليها - تدفعه الغيرة - أنه منصرف إلى القاضي فمنبئه بكل ما سمع. •••
فإذا كان الفصل الرابع فقد مضت ستة أشهر على هذا كله، وقد قدمت «ماري تريز» إلى المحاكمة، ولكنها برئت، ثم كانت كل هذه الحوادث قد أثرت فيها تأثيرا قويا، فاضطربت أعصابها وأصابها شيء يشبه الجنون، فهي الآن في مستشفى، وقد أقبل الطبيب فعادها لآخر مرة وأعلن أنها قد برئت وأنها تستطيع أن تترك المستشفى. وهو يعلن ذلك إلى الممرضة وقد أقبل «دنيال»، فلم يكد يسمع ذلك حتى ابتهج له، وهو يريد أن يرى «ماري تريز» وأن يخرجها من المستشفى، ولكن غلاما يقبل ومعه بطاقة، فإذا نظر فيها «دنيال» رأى اسم «موران»، فيأذن له ويتحدثان قليلا، فإذا هما رجلان مختلفان أشد اختلاف؛ أحدهما، وهو النائب، شديد الطمع يضحي في سبيل أطماعه بكل شيء، والآخر، وهو دنيال، متواضع قانع لا يطمع في شيء إلا أن يعيش شريفا. وقد صدم النائب صدمة عنيفة بهذه الحوادث كلها، فاستقال من الوزارة وعاش عيشة المستخفي، وهو الذي كان ينفق على هذه المريضة في هذا المستشفى، وقد علم أنها برئت فأقبل يراها، أما «دانيال» فلم ينفق عليها، ولكنه أخلص لها، فعني بتنظيم التركة وما نشأ عن موت زوجها وإفلاسه، وكان يأتي كل يوم ليراها ويتعرف أخبارها، وقد اتفق الرجلان على أن يراها «دنيال» أولا ثم يراها بعد ذلك «موران».
وانظر إليها وقد أقبلت ضعيفة ناحلة شاحبة، ولكنها فرحة مبتهجة؛ لأن الطبيب قد رد إليها حريتها، فهي تستطيع أن تخرج وأن تعيش عيشة هادئة خاملة بعيدة عن الناس. أما «دنيال» فيذكر أنه قد أقبل اليوم لوداعها؛ لأن عمله قد انتهى، فتغضب لذلك وتعاتبه فيه، فإذا ذكر لها «موران» أنكرت هذا الاسم، وكيف تعرفه وقد نسيها منذ ستة أشهر، فإذا أنبأها بأنه لم ينسها وأنه أقبل يراها، نسيت هي كل شيء، ونسيت «دنيال» ومودته وألمه، وتعجلت لقاء «موران»، فينصرف الشاب محزونا كئيبا، ويرسل إليها موران، ولا أصف لك ابتهاجها بلقائه، وسعادتها بالتحدث إليه، ولا أصف لك هذه الآمال الواسعة اللامعة التي تملأ نفسها؛ فستعيش مع «موران» عيشة سعيدة، وستكون زوجة، وهي مغتبطة بابتعاده عن الحياة السياسية، فسيكون لها وحدها، وستكون له وحده، وكان يلاطفها ويلاعبها ويظهر الحب ، ولكنه لم يكد يسمع هذه الآمال حتى أنكرها، وأخذ يرد إلى صاحبته شيئا من العقل، فهو لم يترك السياسة وإنما تجنبها تجنبا، وهو يريد أن ينسى الناس ما كان من أمره، ثم يستأنف عمله حتى يصل إلى رياسة الوزراء، وإذن فلن يستطيع أن يتزوجها، بل لن يستطيع أن يظهر معها في باريس، وإنما استأجر لها بيتا في الضواحي يريد أن يئويها إليه على أن يزورها من حين إلى حين، وهو كلما نطق بشيء من هذا هدم أملا من آمالها ورد إليها الكآبة قليلا قليلا، حتى تعود محزونة كئيبة كما كانت.
وقد ذكرت تلك المرأة فينبئها بأنها هجرته؛ لأنها لم تكن تحبه هو، وإنما كانت تحب مركزه السياسي، فلما ترك هذا المركز انصرفت عنه، وقد ذكر الكتب حين ذكرت هذه المرأة، فهو يسأل عنها وينبئ أنه أقبل وهو يفكر في استرجاعها، فتشعر «ماري تريز» بأنه لم يئوها إلى المستشفى ولم ينفق عليها، ولم يقبل الآن ليراها، ولم يظهر لها الحب والمودة إلا لأنه يريد أن يظفر بهذه الكتب التي تعرض مستقبله السياسي للخطر. تقوم متثاقلة إلى مكتب فتخرج منه الغلاف وتفضه وتستخرج ما فيه من الكتب فتمزقها، وتلقي بها في النار، ثم تطلب إلى صاحبها في رفق ودعة أن ينصرف، فهي لا تريد أن تتبعه ولا تستطيع أن تتبعه؛ وإن خارج هذه الحجرة لشابا هادئا مخلصا متواضعا قانعا، يحبها ولا يطلب على حبه أجرا، وما أشد حاجتها إلى أن تعيش مع رجل يحبها ولا يرجو منها شيئا. يلح عليها صاحبها إلحاح المتكلف في أن تتبعه، فإذا أبت عليه انصرف مستخزيا، وأقبل «دنيال» فتلقته في لطف ورفق، وطلبت إليه في لهجة الواثقة أن يعينها على أن تعيش.
يونيو سنة 1924
المذهبان
نامعلوم صفحہ
فكاهة تمثيلية للكاتب الفرنسي «ألفريد كابو»
نعم فكاهة، وأظن أن الوقت والجو والظروف التي نعيش فيها منذ حين تجعل حاجتنا إلى الفكاهة شديدة، وتزهدنا في الجد قليلا أو كثيرا. فلنتفكه، ولنأخذ بحظنا من اللهو البريء، مجتهدين في ألا يخلو هذا اللهو من عظة وعبرة، ولكني محتاج قبل كل شيء إلى أن أعترف بحقيقة كنت أحب ألا أعترف بها، وكنت أستطيع ألا أعترف بها، لولا أني أخذت نفسي بألا أخدعك فيما أكتب، وبأن أظهرك في وقت واحد على نفس الكاتب الذي أحلله، وعلى نفسي أنا أيضا وقت التحليل؛ فأنا لا أنتقب أو أستتر حين أتحدث إليك، وإنما أظهر كما أنا، وأتحدث إليك صادقا مخلصا، وإذن فأنا مضطر إلى أن أعترف بهذه الحقيقة، وهي أني قد لا أبلغ من تفكهتك وتسليتك ما أريد ولا ما تريد؛ لا لأني لا أجد بين الآثار التمثيلية الفكاهية ما تبلغ من التفكهة والتسلية أقصاها؛ فأنا أجد من ذلك أكثر مما أطلب، بل لأن عهدي بهذا الفن حديث، فلم أحلل قبل اليوم فكاهة تمثيلية. وأحسب أن اللغة العربية التي أحب أن أصطنعها في هذه الفصول لا تسع في سهولة ويسر هذه الألوان من العبث الأجنبي، فلا بد من جد، ولا بد من جهاد لأستطيع أن أوفق بين اللغة العربية وبين عبث الفرنسيين وغير الفرنسيين. وكم من فكاهة تمثيلية قرأتها فاستغرقت لها في الضحك، وسعدت بها يوما أو بعض يوم، ووددت لو استطعت أن أوثر القراء بشيء من هذا اللهو، ولكني أعرضت عن ذلك عجزا وقصورا!
وليس يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن هناك عقبات أخرى تحول بيني وبين ما أريد من إظهارك على هذه الناحية المبتسمة من التمثيل الأجنبي والحياة الأجنبية، وأهم هذه العقبات اختلاف الأخلاق في الشرق والغرب، وتباين ألوان الحياة فيهما، فنحن قوم نؤثر الجد على الهزل، أو قل نؤثر العبوس على الابتسام، فإذا لهونا - ونحن نلهو كثيرا - فنحن نختلس اللهو اختلاسا، ونسترق العبث استراقا، ونشعر حين نلهو ونعبث بأنا نأتي أمرا غير مألوف ولا مباح؛ فنحن نعبس حتى حين نلهو. أما الغربيون، وبخاصة الفرنسيون، فليست حياتهم جدا كلها، وليست حياتهم لهوا كلها، وإنما هم يجدون ويلهون، ويستفيدون من الجد كما يستفيدون من اللهو، ويعلمون أن الجد عليهم واجب، كما يعلمون أن اللهو لهم حق، فهم لا يتسترون ولا يستخفون ولا يتحرجون، إلا أن يأتوا منكرا من الأمر لا يبيحه خلق ولا نظام. هم أحرار، يفهمون الحرية ويستمتعون بها خيرا مما نفهمها نحن ونستمتع بها، ومن هنا كانت حياتهم أيسر احتمالا وأكثر إنتاجا من حياتنا.
ومع هذا كله فسأجتهد في أن أحلل لك طائفة من الفكاهات التمثيلية، لربما عدا بعضها طور المألوف مما تقرأ وتسمع، وهل علي في ذلك بأس وأنا قبل أن ألهيك أريد أن أظهرك على نحو من أنحاء الأدب الغربي له خطره ومكانته؟! وهل منعني مجون أبي نواس وأصحابه أن أحدثك عن أبي نواس وأصحابه؟!
فلنجرب إذن هذا النوع من التمثيل، ولست أطلب إليك إلا شيئا واحدا، وهو أن تعذرني إذا لم أبلغ رضاك، فلعلي أوفق لأن أبلغه بعد قصة أو قصتين.
أما قصة اليوم ففكاهة لا تخلو من جد، ولست أقدم بين يديها المقدمات، فهي لا تحتاج إلى شيء من ذلك، وإنما أريد ألا تبحث فيها عن الظهر في الساعة الرابعة عشرة، كما يقول الفرنسيون، وألا تلتمس فيها فلسفة عميقة أو شيئا من العجب، فليس فيها من ذلك شيء. •••
نحن في باريس، في بيت أسرة مثرية شابة، تأتلف من زوجين: أحدهما موبران وهو محام، ولكنه قد أهمل مهنته وانصرف عنها إلى لهوه وعبثه، فهو غني لا يحتاج إلى أن يكسب حياته، وهو رجل غزل مشغوف بالنساء، ضعيف لا يستطيع أن يقاوم امرأة ولا أن يثبت لنظرة.
والآخر «هنرييت»، وهي امرأة شابة بارعة الجمال راجحة الحلم خفيفة الروح، تحب زوجها حبا شديدا، ولكنها قد ضاقت بخياناته التي اتصلت أعواما والتي لم ينقضها عفو ولا ألم.
فإذا رفع الستار رأيت زائرة تتحدث إلى الخادم تسألها عن سيدتها، فتجيب أنها خرجت، فتسألها عن سيدها فتجيب أنه خرج، فتسألها: أيهما خرج أولا؟ فتجيب: هي السيدة. ويقبل زائر يجب أن نذكر اسمه؛ لأنه من أبطال القصة، «لوهوتوا» وهو مستشار في مجلس الدولة، جاد لا يحب اللهو ولا يميل إليه، صادق، دقيق، منظم الحياة، يتحدث إلى الزائرة فنفهم من حديثه أنه أحب «هنرييت» وأراد أن يقترن بها فرفضت، ولكنه قد حفظ لها الحب والوفاء.
وهما يتحدثان إذ تقبل هنرييت مضطربة حادة المزاج لا تكاد تملك نفسها، فما هي إلا أن تحاور زائريها حوارا قصيرا حادا حتى تصرفهما عنها؛ لأنها لا تريد أن تتحدث إلى أحد الآن؛ فهي مشغولة البال بأمر سيعلمانه بعد حين. ينصرفان ويأتي أبواها، وكانت قد دعتهما لزيارتها، ولا بد من أن نقدمهما إليك في إيجاز.
نامعلوم صفحہ
أما الأب وهو «جولان» فرجل متوسط السن يظهر عليه الجد وشيء من الاستقامة، ولكنه ليس من الجد في شيء، وإنما هو رجل يحسن التكلف، وأما الأم فامرأة من الجيل القديم محافظة، لا تخلو من ذكاء وفطنة، ولا يكادان يتحدثان إلى ابنتهما حتى تنبئهما في حدة وغضب مضحكين أنها قد اعتزمت الطلاق، فإذا سألاها عن ذلك، قصت عليهما خيانة زوجها إياها وإسرافه في الخيانة. أما الأم فتكره الطلاق لأنها محافظة، وأما الأب فيكره الطلاق لأنه يحب صهره، وقد أقنعتهما هنرييت بأن زوجها يخونها، وأنها احتالت حتى رأته منذ حين يدخل مع خليلته بيتا اتخذه للهو، وهذه الخليلة صديقة لها، ومع ذلك يلح عليها أبوها في أن تعدل عن الطلاق. أما الأم فترى أن كرامة المرأة وسعادتها ليستا في أن يكون زوجها وفيا لها؛ بل في أن تعتقد أن زوجها وفي لها، ويجب عليها أن تجهل خيانة زوجها، فإذا علمت بهذه الخيانة وجب عليها أن تتجاهلها، فإذا لم تستطع وجب عليها أن تزدري زوجها وألا تسأله عن شيء، وهي تقيم الأدلة على صدق هذا الرأي وتبحث عن هذه الأدلة في حياتها الخاصة؛ فانظر إليها تحدث ابنتها بما كان من عبث زوجها الشيخ منذ عشرين سنة مع خادم أحد الفنادق، وكان الشيخ يحسب أن امرأته تجهل هذا العبث، وانظر إليها تحدث ابنتها عن عبث زوجها الشيخ مع امرأة قروية منذ سنين، ثم مع امرأة من أهل باريس منذ يوم أو يومين، والشيخ يسمع هذا كله فيتلقاه في اضطراب وخجل مضحكين.
ثم يحاول الشيخ أن يقنع ابنته بالعدول عن الطلاق؛ فزوجها ظريف خفيف الروح حلو الحديث، قد يخطئ كما يخطئ غيره من الناس، ولكنه قد يعدل عن هذا الخطأ. وهو يكره هذا الطلاق؛ لأنه يحب صهره حبا شديدا؛ فهما يأكلان معا ويتنادمان ويتعلمان معا فنون النضال، وقد أقبل الزوج فتنبئ هنرييت أمها بأنه سيكذب عليها عشر كذبات في خمس دقائق، ولا تكاد الأم تتلقى الفتى حتى يبدأ في كذباته وهو يكذب وزوجه تحصي عليه في أذن أمها؛ يزعم أنه سعيد بلقاء حمويه، وأنه كان يريد أن يزورهما الساعة لولا ... فتهمس هنرييت في أذن أمها: الكذبة الأولى. وما يزال يكذب وتحصي حتى يبلغ العشر، فلا تتمالك هنرييت أن تقول بصوت بصوت عال: العاشرة. فيسألها زوجها: ماذا تقولين؟ تجيب: لاشيء!
ثم يخلو الرجلان، فيأخذ الشيخ في لوم صهره وتأنيبه، وهو يرى أن خيانة الزوج إثم، ولكن الرجل قد يضطر إليه، وإذن فيجب عليه أن يتحفظ ويحتاط حتى لا تجد امرأته عليه سبيلا، فليس الإثم حقا في الخيانة، وإنما هو في الألم الذي تجده الزوج حين تشعر أن زوجها قد خانها، وهو نفسه قد تحفظ واحتاط، فخان زوجه أثناء ثلاثين سنة دون أن تعلم ودون أن تشقى ودون أن يحتاج هو إلى الاستعطاف أو الاعتذار، ثم يذكر لصهره أمر امرأة تعنيه وهي زوج مجلد الكتب الذي يجلد له كتبه، خاصمت زوجها وتريد الطلاق، ولكنها تجهل القانون، وقد وعدها أن يجد لها محاميا يعينها، ونفهم من هذا الحديث أن الشيخ يحب هذه المرأة البائسة، وقد قبل صهره أن يعنى بأمرها، فسر الشيخ، ووعده بأن يزيل ما بينه وبين زوجه من الخلاف. وتقبل امرأة المجلد واسمها «أستيل»، فإذا جمال وسذاجة وخفة وروح، وإذا هي مدينة للشيخ بكل شيء، تحسب أن الرجل يحسن إليها ابتغاء مرضاة الله وتشكر له ذلك، ويألم الشيخ لهذا، ولكنه يخفي ألمه، فإذا خلت إلى الصهر أخذت تقص عليه أمرها في سذاجة ودعابة لم تلبثا أن تفتناه، فإذا هو ميال إليها مشغوف بها، ولكنه يجاهد نفسه ويمانعها، يريد ألا يضيف خيانة إلى خيانة، ولكن هذه المرأة جميلة فتانة، والرجل ضعيف لا إرادة له، وانظر إليها تقص عليه في وداعة وسذاجة أنها ذهبت إلى العرافة فنظرت في يدها، وأنبأتها بأن في يدها خطا يدل على أن زوجها سيخونها، وكانت لا تصدق ذلك، ولكنها اضطرت إلى تصديقه، وهي تعرض يدها على المحامي وتدله على هذا الخط، وقد أخذ المحامي يدها وأخذ ينظر إلى الخط، لكن هذه اليد لطيفة، فهو لا يستطيع أن يتركها، وإذا هو يداعب المرأة، وإذا المرأة تقبل دعابته، وإذا هو يعرض عليها أن تكون له خدنا فتقبل مبتهجة.
ويدخل الشيخ فلا تلبث المرأة أن تنبئه في سذاجة أيضا بما كان بينها وبين المحامي من اتفاق وتنصرف. والشيخ مغضب محنق يوجه إلى صهره مر القول! ألم يكن منذ حين يتوسل إلى ابنته في أن ترضى وتعدل عن الطلاق! كان هو يفعل هذا وكان صهره يدبر خيانة أخرى، ونحن نفهم أن الشيخ لا يغضب لخيانة ابنته، وإنما يغضب لهذا العدوان الذي حرمه صاحبته، وتقبل هنرييت وقد رفضت الصلح وأصرت على الطلاق، فيكون بينها وبين زوجها حوار بديع، ويستعطفها ويعتذر إليها فلا تعطف ولا تقبل عذرا، وهو صادق في اعتذاره؛ فهو لا يخون امرأته عن عزيمة وإصرار، وإنما يضعف أحيانا، ويتورط أحيانا، ويخشى أن يتهم بالجفوة والغلظة أحيانا أخرى، فيأتي ما يأتي من الإثم، وهو يريد أن يمنع زوجه من ترك البيت، ولكن امرأته صادقة العزم على الرحيل، وقد أمرت خادمها بالاستعداد له، وأقبل أبواها فهي تنبئهما بذلك، وإذا الزائرة التي رأيناها في أول الفصل قد عادت مبتهجة تنبئ بأنها زارت فلانة فعرفت عزمها على الطلاق أيضا، فتقول هنرييت: وخبر ثالث تستطيعين أن تذيعيه هذا المساء؛ وهو أني أيضا قد اعتزمت الطلاق. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في أحد المطاعم العامة التي يختلف إليها أهل الثراء والترف، والمطعم مزدحم بالذين يريدون أن يشهدوا التمثيل، فهم يطعمون بالقرب من الملاعب، ومن بين هؤلاء الناس «موبران» ومعه زوج المجلد التي اتخذها خليلة له في الفصل الأول، وقد تم الطلاق بينه وبين هنرييت منذ عشرة أشهر، وهو يتحدث إلى صاحبته، ولكنها كئيبة ضيقة الصدر تجيبه في عنف وغلظة، فإذا أقبل الخادم يسألهما عما يريدان أجابت هي أنها لا تريد شيئا ولا تشتهي الطعام، ولكن صاحبها لا يكاد يطلب إلى الخادم لونا من الألوان حتى تستزيد من هذا اللون، ولا يكاد يفرغ من طلبه حتى تضيف إليه ألوانا أخرى، وهي مع ذلك لا تريد شيئا ولا تشتهي الطعام، فإذا أقبلت الألوان أكلت وأسرفت في الأكل، ولكنها ليست جائعة ولا مشتهية للطعام! وهي في أثناء هذا كله تتحدث إلى صاحبها فتثقل عليه وتسوءه، وكان هذا الرجل لا يستطيع أن يرضيها في شيء، ولكنا نفهم من هذا الحديث أن سلطانها عليه عظيم، وأنها استطاعت أن تحول بينه وبين مرضه، فلم يخنها مرة واحدة في عشرة أشهر، وهما كذلك إذ تقبل هنرييت ومعها أبواها يريدون أن يطعموا ويذهبوا إلى دار التمثيل، وما هي إلا أن تراهم «أستيل» فتنبئ صاحبها، فإذا هو مضطرب، ولست أستطيع أن أصف لك الحركات المضحكة التي يأتيانها ليتبينا هؤلاء المقبلين دون أن يظهر منهما ذلك.
وقد جلس القوم، وما هي إلا أن عرفوا مكان موبران وصاحبته، فأما الأبوان فاضطربا، وأما هنرييت فابتسمت لأنها لا تكره زوجها القديم، وإنما ترى أن الحياة معه لا تلائمها وقد افترقا، فليس ما يمنع من أن يلتقيا كما يلتقي الأصدقاء، وما هي إلا أن تبودلت التحية بين الفريقين.
ولكن رجلا آخر يقبل وهو «لوهوتوا» الذي رأيناه في الفصل الأول وعرفنا أنه يحب هنرييت، وما زال يحبها، فلما كان الطلاق استأنف الأمل وخطب هنرييت فقبلت الخطبة، فإذا أقبل ورأى الزوج القديم غاظه ذلك، فهو محنق، له ألفاظ وحركات تضحك، ولكن هنرييت لا تحفل بألفاظه ولا حركاته وإنما تضحك، فإذا رأت إلحاحه غضبت وكلفته أمرا فينصرف له، وقد انصرفت كذلك «أستيل» فانضمت إلى نفر من أصحابها في المطعم، واتصل الحديث بين هنرييت وأبويها وزوجها القديم؛ لأن الخادم أخطأ فدفع إلى الأب حساب الزوج وإلى الزوج حساب الأب. اتصل الحديث فانتقل الزوج إلى مائدة الأسرة وجلس يشاربهم ويحادثهم، ثم يعود «لوهوتوا» فلا يزيده ذلك إلا غيظا، فتشفق عليه المرأتان وتنصرفان معه إلى الملعب ويبقى الشيخ لحظة على أن يلحق بهم بعد أن يتم الحديث، ولكنه لا يلحق بهم، فقد أخذ يذكر الأيام الأولى، وانضمت إليهما «أستيل» فنسي زوجه وابنته وخطيبها وقضى الليل في لهو وعبث. •••
فإذا كان الفصل الثالث فنحن في بيت الأب في الساعة الرابعة بعد الظهر، وهو متعب يتحدث إلى أستاذه في السلاح بما أنفق فيه ليله من لهو، فإذا أقبلت زوجه - ولم تكن رأته منذ المطعم - أنبأها بأنه أمضى الليل في أمر هام سيغل عليه أرباحا كثيرة، فتجيبه بأنها لا تريد أن تعلم من أمره شيئا وإنما أقبلت تسأله أيريد الشاي. ونفهم من حديثه مع امرأته أنه يريد أن يصلح بين ابنته وزوجها القديم، وهو يفكر في ذلك ويلتمس له الحيلة، فتحاول زوجه أن تصرفه عن هذا، أليس الطلاق قد تم؟! أليست ابنتهما تريد أن تستأنف حياتها مع رجل آخر؟!
ولكن الشيخ يحب صهره القديم، ويكره صهره الجديد، ويرى أن ابنته لن تكون سعيدة معه، وهو في حقيقة الأمر لا يحب إلا نفسه، ولا يريد إلا أن يصل إلى «أستيل»، وتقبل هنرييت فتتحدث إلى أمها، فإذا هي مضطربة مترددة، تحب زوجها القديم؛ لأنه شاب جميل مبتهج فيه نشاط وخفة، وتحب خطيبها؛ لأنه رجل جد وثقة ووفاء تستطيع المرأة أن تطمئن إليه، ولو أنها خيرت لاختارت أن تقضي النهار مع خطيبها والليل مع زوجها القديم. تسخر منها أمها لأنها تطلب محالا، وليس للمرأة مطمع في السعادة الكاملة، وإنما الخير في أن تعتزم أمرا وتمضي فيه.
ثم تنصرف المرأتان، ويستعد الشيخ لدرسه، وإذا صهره القديم قد أقبل، فيتلقاه فرحا مسرورا، واستأنفا ما كانا قد تعودا من نضال وحديث، حتى إذا فرغا من التمرين أشار الشيخ على صهره أن يذهب إلى الحمام كما كان قد تعود، فيقبل بعد تردد ، ولا يكاد يستخفي حتى تأتي هنرييت تحمل الشاي إلى أبيها، وهي تحدثه إذ يظهر زوجها القديم، ويحتال الشيخ في الانصراف، فيخلوان ويتذكران أيامهما الأولى، فإذا هي تحب زوجها، وإذا زوجها قد بدأ يحبها الآن، وما يزالان يمضيان في الحديث حتى ينتهيا إلى الاضطراب والتأثر، وإذا هو يجذبها إليه، وإذا هي تنجذب، ولكنها تملك نفسها في اللحظة الأخيرة فتوسعه لوما وتأنيبا، وتعلن إليه أن ليس إلى استئناف الحياة معه من سبيل، فيخرج محزونا وقد أعلن إليها أنه يألم لهذا الفراق حقا، ولا يكاد يخرج حتى تقول هي: ومن سوء الحظ أني سأقترن بالآخر! •••
نامعلوم صفحہ
فإذا كان الفصل الرابع، فنحن في بيت الخطيب وهو يقرأ رسالة وصلت إليه من «أستيل» تنبئه فيها بأنها رأته يوم كذا في المطعم، وتريد أن تستشيره في أمر هام ستراه بعد ساعة، وهي تأمل أن يلقاها، يدهش لهذا الكتاب، ولكن الزوج القديم قد أقبل يزوره، فيسأله: أحقا أنك ستتزوج هنرييت؟ - نعم. - فأنا ألح عليك في ألا تفعل! - ليس هذا من حقك! - بلى! لأني أحبها! - وأنا أيضا أحبها! - كلا! أنت لا تحبها، ولا تستطيع أن تحبها، بل لا تستطيع أن تحب! - ولماذا؟ - لأنك رجل منظم منصرف إلى الدرس، أنفقت حياتك كلها في الجد، لم تقترف إثما ولم تبدد ثروتك ولم تحزن أهلك، ومن لم يفعل شيئا من هذا فليس خليقا أن يحب. - ولكني سأتزوجها! - وإذن فأنا أعلن إليك أني سأنفق حياتي في طلبها والإلحاح عليها بحبي!
ثم يغضبان، وينصرف الزوج القديم، وتأتي هنرييت فرحة مبتهجة تعرض على خطيبها ألوان الأثاث الذي يتخذانه لبيتهما الجديد، ولكنه يلقاها ثائرا يغلي، ويعلن إليها أنه يحبها. - أنا أعلم ذلك. - كلا إني أحبك حبا لا تعلمينه، حب من لم ينفق حياته في الدرس بل في اللهو، سأقترف الآثام وسأبدد ثروتي، وسأحزن أهلي، سأحبك كما ينبغي أن أحبك. - ولكنك تعرض علي ما لا أريد، فلم أقبل خطبتك إلا لأنك هادئ مطمئن جاد منظم. - ليس هذا هو الحب، أتحبينني أنت؟ - إن لم أكن أحبك فأنا أميل إليك. - ليس هذا هو الحب! - وأنا أجلك. - ليس هذا هو الحب! - ويسعدني أن أكون لك زوجا. - ليس هذا هو الحب!
فتنبئه بأنها تعرض عليه ما تملك، فإن قبله فذاك وإلا فلا زواج، فيقبل، ويتفقان على لون الأثاث، وتنصرف هنرييت، وتقبل: «أستيل» فيلقاها في جلال ووقار، ويسألها عن أمرها، فتقص عليه ما كان من خيانة زوجها إياها، ومن حياتها مع زوج هنرييت، وتنبئه في سذاجة وطفولة أنها قد قطعت الصلة مع خليلها، وأنه يعرض عليها مالا، فهي تريد أن تستشيره أتقبل هذا المال أم ترفضه، فإذا ظهر عليه الارتباك أنبأته بأنها ذهبت إلى العرافة وعرضت عليها يدها فأنبأتها العرافة بأنها ستتزوج رجلا من أهل القضاء، وسيكون لها منه ثلاثة أولاد، ثم قدمت إليه يدها اللطيفة لتدله على الخط، فإذا نظر في الخط لم يسهل عليه أن يرد هذه اليد، ولا ينبغي أن ننسى أنه يريد أن يأثم، وأن يبدد ثروته، وأن يحزن أهله. وتحس المرأة منه ذلك، فتعلن إليه أنها تحبه، وأنها تريد أن تقبله، والرجل مضطرب أمام هذا الهجوم الغريب، وإذا المرأة قد وثبت إليه فقبلته وجلست على فخذيه، وفتح الباب فإذا هنرييت! أما «أستيل» فنهضت وانصرفت مسرعة، ولا أحدثك عن غضب هنرييت، وما يصيبها من اليأس وخيبة الأمل. ويحاول صاحبها أن يعتذر، فإذا هو يعتذر بنفس ما كان يعتذر به زوجها القديم من أنه تورط وكره أن يوصف بالجفوة والغلظة. - إذن فكلكم سواء، وإذا كان هذا شأنك أنت فليس لي أن ألوم الآن زوجي القديم، علي أن أعتذر إليه، وهنا يقبل الزوج القديم فيلقاه الخطيب مغضبا. هو يقول: تعال فإنها تريد أن تعتذر إليك. ويهم بالانصراف فيهمس الزوج القديم في أذنه: إن أستيل تنتظرك في العربة. ينصرف ويجثو الزوج القديم أمام هنرييت ضارعا مستعطفا وقد عفت عنه.
وهما يعتنقان إذ يدخل الأبوان؛ أما الشيخ فمبتهج لأنه قد ظفر بما كان يريد، وأما الأم فمضطربة أمام هذا الأمر الواقع: أملائم هو للأخلاق أم غير ملائم؟ ولكن ما أسرع ما تنتهي إلى الجواب! هي محافظة مؤمنة لا تعترف بالطلاق، وإذن فما زالا أمام الله زوجين.
يونيو سنة 1924
السلام الحي
قصة روائية بقلم «بول رينيه»
تلك قصة كتبت بعد الحرب الكبرى، ونشرت على الناس في هذا العام، ولكل ما كتب بعد الحرب الكبرى طابع يمتاز به؛ ذلك هو اضطراب الذهن وعدم استقراره، ومهما يكن الكاتب أو المفن مؤمنا بالنظرية التي يريد إبرازها للناس فهو عرضة دائما لأن تغشى على فكرته الحين بعد الحين سحابة ولو شفافة، تبدو من خلالها هذه الحرب التي لم تضع بعد أوزارها، والتي لا تزال مستعرة الأوار بين الفكرة والعاطفة والشهوة، وإن شئت فقل بين الإيمان والتجريد والعلم، وذلك طبيعي بعد إذ قلبت الحرب النظم الاجتماعية، فأفسدت بمقدار عظيم فوارق الطبقات القديمة، بما أغنت من فقراء وأفقرت من أغنياء، ورفعت من وضيعين ووضعت من ذوي الرفعة، وبما غلبت به قوة الساعد على حكمة العقل، وترهات الساسة على منطق الحكماء.
ولهذا الانقلاب الاجتماعي أثره في الفن والأدب، وله كذلك أثره في العلم والفلسفة، فأنت قل أن تجد اليوم الحكمة المطمئنة إلى ما أثبت العلم وحده، وقل أن تجد الفن أو الأدب الصادر عن فكرة عميقة ممتلئة بها نفس الكاتب أو المفن، بل يغلب أن تختلط بحكمة العالم مظاهر التجريد أو الإيمان، وأن تضطرب في نفس المفن فكرته فتختلط بأكثر من نقيض من نقائضها؛ ولذلك قل أن تجد اليوم في منشآت العلم والأدب والفن ذلك الصفاء الذي كنت تجده قبل الحرب، وإن كنت قد تجد فيها أكداسا من الثروة الذهنية التي لم تعرف من قبل ثم لم تستقر بعد إلى نظام.
وقصة «السلام الحي» خاضعة لهذه الظاهرة كل الخضوع، وإن يك كاتبها قد جاهد نفسه، فنزع بمقدار إلى ذلك النوع من القصص البسيكولوجية التي تصف حياة نفس وتحلل مشاعرها وآثار الحياة فيها وآثارها هي في الحياة.
نامعلوم صفحہ
هذا النوع من القصص البسيكولوجية يجب لكماله الفني أن يكون غير ذاتي، بأن يضع الكاتب نفسه من النفس التي يحللها موضع العالم من أي مظهر حيوي أو غير حيوي، فيلاحظ ويسجل مشاهداته عنه، وقد حاول «رينيه» أن يقف هذا الموقف، لكنه - وهو متأثر بفكرة خاصة هي: أن لا سلام إلا في حمى الله والدين - قد جعل من غاياته إثبات هذه الفكرة في قصته، بل هو قد جعل هذه الفكرة غاية قصته. وقد اضطر لذلك أن يكون ذاتيا، فاضطرب وأخفى اضطرابه تحت وابل من الألفاظ، ويخيل إلينا أن هذه الفكرة ليست ثابتة في غور نفسه، بل هي فكرة طارئة عليه أو غير متمكنة منه؛ لأنه - برغم كثير من الملاحظات الدقيقة والمشاهد الأخاذة بالنفس والأوصاف الحية التي تتجلى في كثير من مواضع قصته - لم ينجح في بلوغ غايته، ويكفيك مقنعا بهذا أنه لم يصل ببطلة روايته إلى حمى الله إلا بعد أن كدس فوق رأسها كل صور الأهوال والأرزاء، وبعد أن كرهت كل صور الحياة، ثم لم يفتح عليها بشيء من السعادة، و«من السلام الحي» إلا في اللحظة التي كانت تلفظ فيها آخر أنفاسها، حين اشتملتها الغابة جوف الليل وغطتها الثلوج التي عاقتها عن الحركة ومنعت عليها أن تبلغ حمى الحياة. •••
وبطلة هذه الرواية هي لورنس داسلييه، وهي فتاة لم تؤت حظا من الجمال، وإن كانت ذات ذكاء وعلم، وكانت تقيم في فونتنبلو مع أبيها بول داسلييه ومع ابنة عم لها تدعى أرسيل، وكان أبوها ضابطا من ضباط الجيش العظام، ولد في سيدان، فظلت ذكرى حرب السبعين وما أصاب فرنسا بسببها من ذلة حاضرة في ذهنه آخذة بنفسه مالكة عليه كل عواطفه؛ لذلك كان أكبر أمله أن يرى يوما تنتقم فيه فرنسا لنفسها، وتمحو عن جبينها أثر الذلة وتسترد الألزاس واللورين، وأن يكون في ذلك اليوم في مقدمة العاملين لمجد وطنه ولسعادته.
وكان للورنس أخ هو أندريه داسلييه، وكان أكبر هم بول أن يجعل من هذا الابن ضابطا عظيما مثله؛ كي يقف إلى جانبه يوم الصدام، أو يقف موقفه إذا لم ير بعينه هو ذلك اليوم. لكن أندريه لم يكد يتم دراسته حتى عكف على الأدب والشعر، ولم يبد أي ميل لإنفاق حياته بين صفوف الجيش، فغضب الأب لهذا، وانبت ما بين الرجلين، وأقام أندريه في باريس ينفق مما تركته له أمه ومما كان يفيده من عمله وصناعته، وتركت هذه القطيعة من سوء الأثر في نفس الأب ما همه وأحزنه، وزاد هذا الحزن في حدة طبعه، فكان شديدا مع ابنته، وكانت لورنس تلقى استبداده بشيء غير قليل من الثورة عليه، ولم تكن تجد من هذا الاستبداد ملجأ إلا في القراءة وفي مشاهد الطبيعة في غابة فونتنبلو، وفي وساطة ابنة عمها وساطة كان مقضيا عليها بالإخفاق أغلب الأحيان.
وإنهم يوما في المنزل إذ جاء خطاب من أندريه يبلغ أباه عزمه على التزوج من باريسية ذات أهل ومال، ويدعوه ويدعو أخته لحضور الزفاف. فبدا على الرجل شيء من الغضاضة، لكنه طلب إلى ابنته أن تذهب فأبت، فأمر فاختلفا، وخرجت الفتاة كئيبة مغضبة، وأرادت «أرسيل» أن تجد الوسيلة لتزيل ما بينهما من غضب فذهبت مساعيها هباء، وزاد بلورنس الهم، ولم يكن لها أن تتعزى عن همها بمخالطة الناس ومعاشرتهم؛ فقد ورثت من أبيها الميل عنهم والزهد فيهم، وزادها حبها القراءة حبا للوحدة وبعدا عن الناس واعتدادا بنفسها. لكن النفس الإنسانية ضعيفة مهما تبلغ من القوة، وهي بحاجة دائما إلى عزاء تجده في الناس وفي مخالطتهم؛ لتتعزى عن ألمها بآلامهم وعن همها بمصائبهم. فإن لم تجد في ذلك ما يكفيها كان لها من الاشتغال بتافه شئونهم ما تنسى معه ذاتها حينا، ونسيان الذات خير طب لدواء النفس الكليم.
لم يكن للورنس في فونتنبلو أصدقاء غير مدام هلر وابنتها أوديت، وكانت تحب أمها حب عبادة، ولقد كانت ليتسيا هلر ذات جمال بارع، وحديث فتان، وسحر يخضع له كل طيب القلب وكل ذي غفلة وكل رغوب في الجمال. وبلغ من سحرها أن انتحر أحد ضباط الجزائر هياما بها، فكان ذلك سببا في نقل زوجها إلى فونتنبلو. وكانت ابنتها أوديت ذات جمال، لكنها كانت فانية الشخصية في أمها، فلم تكن تلبس إلا كما تلبس، أو تتزين إلا كما تتزين؛ فأضاع ذلك كل ما لجمالها من ثمن. لكنها كانت لا تزال طفلة غضة لما يجئ دورها لتكون فتنة الناظرين.
وعرفت لورنس «أوديت» في المدرسة، ومنها عرفت أمها، وعلقتها وهامت بها هيام كل فتاة بعيدة عن الناس ولم تؤت حظا من الجمال ولم يتملقها أحد ببارعة ذات دل وسحر، ولم يخفف من هيامها ما ألفت «ليتسيا» عليه من خفة وطيش لا اتصال بينهما وبين رزانتها وعلمها، وهل الحب إلا تكامل؟! فكفى لورنس ما عندها من رزانة وعلم وما في بيتها من قطوب وقسوة، لتجد في جمال ليتسيا وخفتها وطيشها وحبها الحياة ومسراتها موضعا لهيام لا يعدله هيام.
وبعد سنوات أربع من تعارف الفتاة والسيدة كانت دعوة أندريه أباه وأخته لحضور حفل زواجه، وكان الحوار الحاد بين الأب وابنته، وكان التجاء لورنس للغابة تحتمي فيها ثم عودها إلى منزل مدام هلر، وهناك بقيت زمنا تنتظر مقابلة صديقتها؛ لأنها علمت أن صديقا جديدا - هو الكونت دسران - قد ألف الحضور إلى هذا المنزل واطمأن إلى صاحبته.
ولم يطل أمد النزاع بين الأب وابنته فقد حضر أندريه ومعه عروسه وابنة عم لها إلى منزل أبيه، واستقبلهم الكولونيل في فتور بادئ الرأي، لكنه لم يلبث طويلا حتى شعر في نفسه بعطف على عروس ابنه، أما لورنس فقد ألفت جوليان وابنة عمها على غير ما يسيغه ذوقها؛ ألفتها من هذا الطراز الرقيق الحواشي المهذب الألفاظ الدائم الابتسام المعد بتربيته ليعيش مع سواه لسواه، لا مع نفسه ولا لنفسه، ووجدت الفتاة المنجاة من هم المقام بين جوليان وابنة عمها في الغابات وفي بيت مدام هلر. لكن البارعة ليتسيا، لكن هذه الجميلة الجذابة الهيئة المملوءة حبا وقسوة، كانت قد بدأت تشغل بحب جديد اتصل بينها وبين الكونت دسران، وحرصت على هذا الحب، فجذبت محبوبها إليها بما كانت تقيمه من حفلات أبعدت عنها لورنس، ثم استبدلت بهذه الحفلات خلوات كانت تخرج فيها مع حبيبها، فإذا عادت ذهبت إلى منزل داسلييه فقضت مع صديقتها الشابة زمنا ثم تركتها قائلة: «إذا رأيت أوديت في الدرس غدا يا عزيزتي فأدخلي في روعها أني أمضيت يومي كله من أوله إلى آخره في بيتكم.»
ولم تقف لورنس على حقيقة أمر هذه المرأة. لكن شكوكا بدأت تدب إلى نفسها: «ما بال هذه الفاتنة لنفسها وللناس لا تستقر على حال!» وكان من أثر هذه الشكوك أن جاهدت لكي لا ترى أوديت؛ حتى لا تكذب عليها في شأن أمها. لكن هذه الأم أعفتها من هذا العناء إذ انقطعت عن زيارتها، ثم ما لبثت الفتاة أن علمت بعد أيام أن ليتسيا الجميلة قد فرت مع الكونت دسران، بعدما انتشر خبر حبهما في فونتنبلو وتناقلته الألسن وامتلأت به الآذان.
وقع هذا الخبر على لورنس فأثار ألمها، وبلغ منها الهم، وهدها الحزن، وبكت على حب حسبته عزاء عن الحياة فولى بين أذرع حب ألذ وأشهى. وجعلت الفتاة تتلمس للفاتنة ليتسيا المعاذير عن فعلتها، والحب أعمى يزيده البعد وتزيده الغيرة عمى واضطرابا. لكن للحب دواء، هو الدواء لكل ألم، ولكل حزن ولكل لوعة، هو البلسم المبرئ والطب الشافي لكل جروح العاطفة؛ هو النسيان.
نامعلوم صفحہ
وعوض القدر لورنس أوديت عن أمها، وكانت الفتاة قد كملت شبابا وجمالا وزادها ما أصابها في أمها رزانة وكمالا.
لكن لورنس لم تكن قد خلقت في رأي مؤلف الرواية لتعرف صفاء في العيش أو نعمة في الحياة، فلم تك محنة تمر إلا لتعقبها محنة، ولم يك هم ينقضي إلا ليظهر في أثره هم جديد. لم يكد أبوها يطمئن إلى نفسه بعد سفر ابنه حتى كان ذات يوم مع ضباط من أمثاله يتذاكرون ما أصاب فرنسا سنة 1870، فرجا بول داسلييه أن تقوم حرب تمحو بها فرنسا ذلة الهزيمة وتسترد بها الألزاس واللورين، فسخر الضابط دوران من رجائه وقال هازئا: «ليس من حقنا نحن رجال الحرب أن نرجو الحرب إلا أن يكون من حق رجال المطافئ أن يرجوا شبوب النيران لإطفائها.»
وبهت داسلييه لما لقيته كلمة دوران من إعجاب الزملاء جميعا، لكنه لم يسلم لهذا الضابط الشاب، الذي كان يوما في الصفوف تحت إمرته ثم وصل من طريق الدسائس إلى أن صار مساويا له. فلما كانت أيام بعد هذا الحوار كان حوار آخر انتهى داسلييه فيه بأن أهان دوران قائلا: «خير لك أن تحطم سيفك، فهو لن يحدث ساعة الخطر إلا شرا ما دام قلبك لا يحتوي غير الجبن والهزيمة.»
وأسف داسلييه لهذه الحدة من جانبه، لكن لا بد مما ليس منه بد؛ لا بد من المبارزة بين الضابطين، لا بد أن يتقدم داسلييه، الذي كان يرجو في ابنه رجلا يخدم فرنسا، ليقتل أو ليجرح فرنسيا يستطيع أن يخدم فرنسا، وتبارز الضابطان وتمت الغلبة لداسلييه وجرح دوران، لكن داسلييه خر بعد ذلك مغشيا عليه وأصابه ذهول فحمى ظل يهذي على أثرها ستة أيام تباعا، وظلت لورنس إلى جانبه تعاني الهم والألم وترقب الحين بعد الحين ما يخبئه القدر من مصاب لها جديد.
وعاودت الصحة داسلييه وعاد إلى عمله. لكن دوران لم يغفر لخصمه انتصاره عليه، وللنفوس الدنيئة غرام بالانتقام الدنيء، فروج بين الناس أن ما أصاب داسلييه إنما هو مظاهر الجنون التي توشك أن تصيبه الحين بعد الحين، وأنه لم يجرح في مبارزة ولكن في نوبة، ولم يقف بهذه الأوهام عند فونتنبلو، بل أراد أن يستخدمها للقضاء على داسلييه كضابط، فاستخدم دسائسه في وزارة الحربية، وكادت تثمر وتصل به إلى ما يريد، وداسلييه! داسلييه الشهم الشجاع الطيب النفس والقلب، لم يكن له هم إلا الندم على ما فرط منه، وإلا التفكير في التوبة والتكفير.
وكان لداسلييه في باريس صديق قديم هو الضابط آريل، وكان كداسلييه شجاعا طيب النفس والقلب، وكان على الضد من داسلييه ممتلئ النفس من الإيمان بالله، فلما وقف على ما يروج حول صديقه في الوزارة من دسائس عمل لمحاربتها، ثم ذهب إلى فونتنبلو وقابل لورنس وتلطف في إخبارها بما يهدد مركز أبيها من خطر، وأنهى إليها أن خير ما يفعلونه إقناع بول بترك العمل ستة أشهر، ولكي لا يحس الرجل شيئا وكلوا الأمر إلى طبيبه المعالج الذي نصح له بعد رجائهم بهذه الراحة، فتردد داسلييه كثيرا، ثم انتهى بالموافقة وترك عمله حزنان أسفا.
وعمل الأسى في نفس هذا الضابط الشهم لتركه العمل، فانحدرت صحته وساورته الهموم، وانعكست آية همه على نفس ابنته، فبدأت تضمحل وبدأ يدب إلى شبابها وصحتها الانحلال، وكان آريل يتردد عليهم منذ بدء هذه المحنة مرة كل خمسة عشر يوما، وكان يجاهد خلال ذلك يريد أن يفسد دسائس دوران وصحبه، وكاد يوفق لولا أن سقطت الوزارة وجاء في الحربية وزير اصطفى دوران كاتم سر له، فعادت الدسائس. ولم يكن إلا أن يجدد داسلييه راحته سنة من جديد وأن يترك هو وأهله فونتنبلو إلى باريس، آملين أن يكون لجوها ولمجتمعاتها من الأثر في لورنس ما يعيد إليها شيئا من صحتها المنحدرة.
واتصل ما بينهم وبين أندريه وزوجه، وعالج الجميع تسلية لورنس. لكن الفتاة كانت قوية النفس، والنفس القوية إذا لم تتمكن من إخضاع الجماعة لحكمها ازدادت شعورا بين الجماعة بالوحدة، وكان ذلك حال الفتاة وحال أبيها، سرتهم باريس ومناظرها وجماعاتها حينا، ثم لم يكد يتم بينهم وبين باريس التعارف حتى بدأ عهد التقاطع والتنابذ وكان بول داسلييه أسرع من ابنته إلى هجرة الناس وإلى الاحتماء بالانقطاع وبالوحدة. وشعر بذلك أصحابه، فلم يروا إلا أن تتزوج لورنس حتى إذا عدا القدر على أبيها كان لها من زوجها أنيس يعينها في وعثاء الحياة.
وأخذت جوليان نفسها بتزويج أخت زوجها، فخرجت بلورنس من عزلتها إلى الصالونات والمجتمعات. ولم تجد لورنس بين الطامعين في يدها من الشبان إلا كل فج تافه لا وزن له ولا قيمة، وكل من ليس همه إلا ما لها من بعض الثروة، فأما ذوو الرأي فوجدوا في لورنس شخصا قوي النفس مستعدا للنضال، والرجل الطموح في الحياة لا يعنيه بعد أن يناضل الناس إذا اطمأن إلى أهله أن يجد نضالا جديدا في زوج ذات شخصية قوية؛ لذلك طال بجوليان الأمل، وطول الأمل مدعاة لليأس، فاستشارت جوليان رجلا من رجال المال كان يقوم بتدبير ثروتها وثروة زوجها، فيرد لهم من أرباحها ما يغنيهم عن التفكير للغد.
وكان مسيو هيكن هذا رجلا جاوز الخمسين، على جانب من قبح الوجه ورجاحة العقل ومرونة الضمير، طويل القامة، بارز العظام، ليس فيه شيء يحب، ولشد ما عجبت جوليان أن أبدى هذا العجوز لها ميلا للورنس وأن طلب يدها. حقا أن لكل ساقطة لاقطة لورنس يحبها هيكن! لكن عجب جوليان لم يطل، وأقنعت الفتاة بقبول التزوج من هذا الصديق، وقبلت لورنس على أن يكون صديقا، وانتهى بول داسلييه بالاقتناع وتم الزواج.
نامعلوم صفحہ
وذهب هيكن ولورنس يقضيان شهر العسل في الضواحي، وخيل إلى هذا الزوج المنحدر إلى غاية الحياة أن به بقية شباب، فأراد زوجه! فردته في قسوة، وظلت طول ليلها لم يغمض لها جفن، وصارحته أول ما طلع النهار أنهما تعاقدا على غير تفاهم، فخير أن ينحل عقدهما في غير ضجة. لكن رجل المال أظهر في مودة أنه نازل عند ما تريد زوجه، وكذلك كان. وعادا إلى باريس فكانا على مقامهما معا منفصلين تمام الانفصال.
أما بول داسلييه فقد تعزى بزواج ابنته عن هم الحياة زمنا. لكن عزاءه لم يطل، فقد أسلمته الوحدة إلى كل هموم الفراغ، وامتلأ خياله بذلك الماضي حين كان رجلا نشيطا قويا قديرا على خدمة فرنسا، وبما صار إليه اليوم من عجز واستسلام للأمراض التي لم يكن لها من سبب إلا امتلاء نفسه شعورا بأنه رجل فقد كل قيمة له في الحياة؛ لأن قيمة الرجال عنده إنما توزن بما يؤدونه في الحياة من عمل. وشغل بخياله هذا فكان له منه ألم في النهار وهم بالليل، ومضض في اليقظة وفزع في النوم، ثم لم يجد نفسه منه بمنجاة إلا مذ فكر في الانتحار.
وكانت لورنس تزوره كل يوم، وكانت تشهد تغير حاله وتحدثه لتقف على ما يكنه صدره، فلما أحست ما يدور في خلده جزعت واستحلفته إلا ما عاش من أجلها وحدها، فأقسم الرجل. لكن الفكرة كانت قد ملأت كل وجوده وأخذت عليه مسالك نفسه، فلم يكن يهتز فيه عصب أو تتحرك فيه عاطفة أو يفتر عن بسمة إلا كانت فكرة الانتحار صاحبة السلطان عليها جميعا. لذلك لم تمض على قسمه ساعات حتى نحر نفسه بموساه أمام المرآة وهو يتزين لاستقبال يوم باسم من أيام الحياة.
واستيقظت لورنس صباح ذلك اليوم باسمة مغتبطة بوعد أبيها. لكن غبطتها كانت قصيرة الأمد، فقد سمعت وهي في حجرة نومها شهيق البكاء وزفيره ينفذان إليها من غرفة مجاورة، فقامت في حذر تسترق السمع، فراعها منظر خادم أبيها منهدة يعلو صدرها ويهبط وقد ابتلت وجنتاها واختنق صوتها، ولم يطل بلورنس الشك، وما لبثت أن استيقنت الأمر فخرت مغشيا عليها، ولما أفاقت وذهبت إلى بيت أبيها رأت جثته الهامدة مضرجة اختلطت بالدم. وجاء من بعدها أخوها وزوجه وقابلاها وألفياها سيئة الحال مضطربة، لم تستطع الذهاب معهم إلى مقبرة العائلة لتشهد ساعة من تلك الساعات التي تختلط فيها الحياة بما بعد الحياة، حين تنزل إلى غيابات الرمس رفات عزيز راحل رحلة رحلة الأبد.
وعادت بعد أداء فرائض الحزن إلى حياتها مع زوجها، فاجتمع عليها في هذه الحياة هم لا هم بعده، وما شأنك بحزين ينقطع عن الناس لينغمس في بطون الكتب، تختلط سطورها أمام نظره، ويظل محدقا بالصحف، مأخوذا بحزنه عن كل ما تحتويه من صورة أو معنى، فإذا كان فيها ما يجذبه فذلك حزن يتجاوب مع حزنه، وأسى يحبب إليه أساه، ودموع عزيزة تجعل دموعه أعز عليه وأثمن عنده، فإذا طوى النسيان حرقة الهم أبقت الذكرى لوعة الشجن، وإذا انقضى عهد الألم واللوعة تجدد على أثره عهد الأمل المفقود والسعادة الذاهبة!
كان لهيكن ذو قرابة اسمه سيريل، وكان شابا ممن يحبون السفر ولهم به علم، وكثيرا ما عرض هذا الزوج المنبوذ أن يحدث بين زوجه وبين هذا الشاب التعارف، فكانت لورنس تعاف ما يعرض، وأغلب الظن أنها كانت تعافه لأنه هو الذي كان يعرضه، فلما باغتها المصاب بفقد أبيها كان «سيريل» وكانت أمه «مدام دكليه» ممن سارعوا إلى لورنس يعزونها. وأحسن الشاب الشاعر التحدث إلى نفس الشقية بكل ظروف حياتها، حتى لقد شعرت أنه أكثر من أخيها حزنا على أبيها، وأكثر من زوجها توجعا لمصابها. وتردد «سيريل» بعد ذلك عليها، ووجدت في تردده مخففا للوعتها، وأخذت نفسها بالقراءة في كتبها وكتبه، فألفته شابا ذكي النفس عظيم الهمة، وألفته إلى جانب ذلك حلو النادرة رقيقا، فهو لم يكن من صنف زوجها، ولا من صنف أخيها، ولم يكن من صنف هؤلاء الشبان الذين لا يقدرون للمرأة ثروة غير جمالها؛ فاتصل بينهما عطف، وربطت بينهما الصداقة بأوثق رباط.
وظل «سيريل» يزور لورنس، فتجد في زيارته من العزاء ما ينسيها ما بها من هم وألم، وظل يعالج الوصول إلى نفسها كي تتعزى عن مصابها، ولم تكن وسيلته لذلك يسيرة؛ فقد حاول أن يؤثر في هذه المرأة الشابة التي أمضت حياتها ثائرة على كل نظام؛ ليدخلها في حمى الله والدين. وكانت لورنس تستمع إليه؛ لأنها كانت تجد فيه صديقا صادقا، لكنها لم تكن لتسرع السير في الطريق الذي يريد بها أن تسير فيه؛ لأنه لم يكن طريق عقلها ونفسها.
وتوثقت عرى هذه الصداقة، ولم يصرف الشابة عنها صارف، فقد تركها زوجها حرة من كل قيد، ومد لها من حريتها؛ فلم يكن يضن عليها بمال، وليزيدها حرية، جاء إليها يوما فعرض عليها أن تمضي له توكيلا بإدارة أموالها، حتى لا تشغلها هذه الإدارة عن مطالعاتها وكتاباتها، فلم تتردد طويلا، وأمضت التوكيل فرحة بالخلاص من هم كان زوجها يجد الوسيلة لمضايقتها من سبيله.
ولم تمض على ذلك أسابيع، فإذا هيكن قد اختفى، وإذا دائنوه يبحثون عنه، وإذا الصحف تنشر أنه أفلس، وإذا لورنس وسيريل وأمه شأنهم شأن كثيرين ممن وثقوا بهذا الآفاقي، قد ضاعت أموالهم في مضارباته، وإذا هذا التوكيل حيلة أراد بها أن ينجو من مضايقات دائنيه، فذهب بمال زوجه وتركها صفر اليدين.
عالج سيريل حياة الكد، وعالجت لورنس سبل القصد، وباعد ذلك ما بين زيارات الفتى، فلم يهد الشابة فقرها بمقدار ما هدها انقطاع سيريل، ومباعدته بين زياراته. لكن ضرورات الحياة قاسية، فاضطرت لورنس آخر الأمر أن تقنع بالقليل الذي أبقته صروف الأيام لها من صديقها، مكتفية حين غيابه بتذكره في مراجعة ما كان يقرأ معها أيام النعمة، من النثر ومقاطيع الشعر.
نامعلوم صفحہ
وأعلنت الحرب، فالتحق سيريل بها بعد إذ كان بينه وبين لورنس وداع بدا عليها فيه ما يكنه قلبها من عطف بلغ الحب، وصداقة هي الهوى. وجمع غياب الفتى بين أمه وصديقته، فكانتا تتزاوران، وكانت كل منهما تجد في صاحبتها صورة هذا الواقف في صف القتال، تحت وابل القنابل ترعاه عنايتهما بعد عناية الله، وتجدان في كل كلمة يكتبها لهما ريح الحياة يمد في أملهما إلى أن تجئ منه كلمة جديدة تبعث الحياة إلى الأمل بعد إذ يضطرب، ويرتجف لما يتتابع على مسامع المرأتين من أخبار الموت.
وإن لورنس لفي بيتها يوما، إذ جاءتها من مدام دكليه كلمة، فيها «مات سيريل فاحضري.» ارتجفت يد الشابة، ولم تصدق نظرها، ولم تستطع أن تصور لنفسها موت أملها في الحياة.
وأسرعت إلى الأم، فإذا بيتها تعلوه أمارات الموت، فبقيت إلى جانبها زمنا كانت خلاله تلمح من كلماتها معاني الأمومة التي لم تعرفها صغيرة، وكانت دائمة التفكير في العالم الآخر - الذي طالما وصفه سيريل لها - دائمة الهيام به، والأمل في أن يكون حقا حتى تلقى هناك هذا الصديق الذي سمح لها في حياته القصيرة الأليمة أن تعرف شيئا من معنى السعادة.
لكن مدام دكليه شعرت بصحتها تتداعى تحت أحمال الهم، فرأت أن تهجر باريس وضواحيها إلى وسط فرنسا، حيث الجو صحو والهواء عليل. وهناك في أحد الأديرة وجدت غرفة استأجرتها بقية حياتها، فإذا كان اليوم الذي ودعتها فيه لورنس، ودعت لورنس معها الأمل في الحياة.
أكذلك يكون الناس؟ حتى مدام دكليه التي كانت ترى لورنس فيها أما تحنو عليها لم تحفظ لها عهدا، ولم تذكر كيف أوصاها ابنها بها! ومن قبل مدام دكليه كان الناس جميعا مواضع ألم لورنس. حتى مدام هلر، حتى هذه الجذابة التي فتنتها في صباها نسيتها، فلم تذكرها عند مصابها إلا بزيارة تافهة، خالية من كل معاني العطف والإشفاق! ألا ما أشد لؤم الناس!
لكن للورنس صديقا لن تنساه؛ هو الطبيعة؛ لذلك ذهبت يوم سفر مدام دكليه إلى فونتنبلو، وانحدرت من محطتها إلى الغابة، وكان يوما ماطرا ممتلئا بالثلوج، فوقفت إلى جانب هاته الأشجار التي عرفتها صديقة البأساء في شبابها، تستعيدها ذكرى الماضي، وتأمل فيها عزاء عما أثقل نفسها من هموم.
وغطت الثلوج الغابة، وانحدرت الشمس إلى المغيب، فعالجت لورنس الطريق فإذا السير عسير، وإذا الظلام يحول دون تعرف المسالك، وإذا الثلج قد كسا كل أثر، وإذا هذه الغابة الصديقة قد تجهمت فأصبحت عدوا لدودا، وإذا الوجود لم يبق فيه من صديق لهذه النفس المعذبة إلا ذكرى «سيريل» هناك في مجاهل الأبدية.
وتحت غطاء من الثلج نامت الشابة، تذكر في احتضارها البطئ هذا اللقاء السعيد في أحضان القدر، فلما أتى عليها الموت، كان قد أتى نفسا مطمئنة، كانت قد عرفت في الساعة الأخيرة أن لا سعادة ولا سلام إلا في حمى الله! •••
هذه قصة السلام الحي، وهذه وقائعها التي سردها المؤلف في أربعمائة صفحة، وهي كما ترى وقائع كثيرة، كلها الهم والحزن تكدس فوق رأس المسكينة لورنس، فلم تعرف خلالها سلاما إلا ساعة فارقت هذا العالم، ولعلك ترى الكاتب إذ نزع فيها إلى نوع القصص البسيكولوجي، قد تخطى كثيرا مما كان يجب لكمال هذا النوع، وربما عدنا لبيان ذلك في فصل آخر.
يوليو سنة 1924
نامعلوم صفحہ
القيثارة والجازباند
قصة تمثيلية للكاتبين الفرنسيين «هنري دوفرنوا» و«روبير ديودوني»
وربما كان لنا أن نضع لهذه القصة عنوانا آخر لا يترجم عنوانها الفرنسي ولكنه يوضحه ويجلي معناه؛ وهو «القديم والحديث»، بل ربما كان لنا أن نضع لهذه القصة عنوانا ثالثا يزيد عنوانها الفرنسي وضوحا وجلاء؛ وهو «ابنة باريس وابنة الأقاليم»، فكلا هذين العنوانين صادق، وكلاهما يعطيك فكرة موجزة ولكنها صحيحة من هذه القصة الجيدة قبل أن تقرأها وقبل أن تعبث بنفسك وتأخذ عليك هواك مواقفها المختلفة، ولكني لا يمكنني أن أدخل في تحليل هذه القصة قبل أن أقدم بين يديك مقدمة موجزة لا أرى منها بدا.
لم يضع الكاتبان الفرنسيان هذه القصة التمثيلية مباشرة، وإنما اتخذاها من قصة صغيرة كتبها أولهما على أنها أحدوثة فظفرت بفوز عظيم، كما ظفرت بهذا الفوز أحاديث أخرى لهذا الكاتب نفسه. فقد اختص هذا الكاتب أو كاد يختص بكتابة هذه الأحاديث القصار، يصف فيها الحياة الباريسية وصفا صادقا، ولكنه على صدقه خلاب، مؤثر، يستهويك ويملك عليك نفسك، حتى تنسى أنك تقرأ أحدوثة وتستيقن أنك تشهد الحياة. وقد اشتد الإعجاب بهذه الأحاديث القصار حتى وصفها النقاد بأنها آيات أدبية، وحتى أحس الكتاب والممثلون أن هذه الأحاديث القصصية التي ترسم الحياة رسما قويا صادقا شديد التأثير؛ خليقة أن تستحيل إلى حياة واقعة؛ أي خليقة أن تدخل ملاعب التمثيل، وأن تشهدها جماهير النظارة حية تتحرك وتنطق في الملعب، فأقبلوا على الكاتب يعرضون عليه معونتهم، ولم يكد الكاتب يقبل هذه المعونة ويرضى أن تحول أحاديثه إلى قصص تمثيلية حتى كان فوز هذه القصص التمثيلية عظيما، باهرا، ليس أقل خطرا من فوز تلك الأحاديث القصصية. ولن تكون هذه القصة التي أحدثك عنها اليوم آخر ما سأذكره لهذا الكاتب وأعوانه، بل سأحدثك بعد حين عن قصة أخرى أعانه على تحويلها إلى التمثيل الكاتب الفرنسي الكبير «موريس دونيه»، وهي القصة التي أستطيع أن أسميها «المثل» والتي تعنى بها باريس الآن عناية كبيرة.
إذن ففي الإمكان تحويل الأحاديث القصصية إلى قصص تمثيلية، وقد قام الدليل على ذلك فلم يصبح موضعا للشك، قام الدليل على ذلك، فحولت قصص مختلفة لكبار الكتاب الفرنسيين إلى التمثيل، وظفرت بالفوز الذي لا يقل عما لغيرها من القصص التمثيلية التي وضعت للتمثيل مباشرة. ونحن نشهد الآن انتشار هذه الظاهرة وقوتها، واشتداد الاتصال بين القصص والتمثيل، بل نشهد شيئا آخر أيسر من هذا وأهون، ولكن يعين عليه ويدني منه، وهو هذا التوسط الذي تقوم به السينما بين القصص والتمثيل، فكثير جدا من القصص النابهة وغير النابهة استطاع أن يدخل ملاعب السينما؛ أي إنه استطاع أن يقطع نصف المسافة التي تقع بين القصص والتمثيل، وهي تتألف من شيئين: أولهما الحركة، والآخر الحوار. وظاهر أن تحقيق الحركة الصامتة أيسر من تحقيق الحركة الناطقة، فإذا كان من اليسير أن تصبح القصة تمثيلا متكلما، وإذا كان التمثيل الصامت من ملاعب السينما لا يحتاج إلا إلى مهارة الممثلين، فإن التمثيل المتكلم يحتاج إلى شيء آخر؛ هو قدرة الكتاب الممثلين على أن يضعوا الحوار ويلائموا بينه وبين موضوع القصة من جهة، وبينه وبين التمثيل ومزاج النظارة من جهة أخرى.
مهما يكن من شيء فقد أصبح تحول القصص إلى التمثيل شيئا عاديا مألوفا. بل ماذا أقول؟ ليس في هذا شيء من الجدة؛ فالتمثيل ابن القصص منذ نشأته الأولى، وقد استطاع أن يستقل استقلالا قويا، ولكنه لن يستطيع في يوم من الأيام أن يبلغ الاستقلال المطلق.
التمثيل ابن القصص منذ نشأ في القرن السادس قبل المسيح، حين كان الشعراء الممثلون يلعبون فصولا يستمدونها من الشعر القصصي. ثم أخذ التمثيل يستقل، فجعل الشعراء الممثلون يأخذون معانيهم من الشعر القصصي وينظمونها في شعر يحدثونه، وتظهر فيه شخصيتهم القوية النابهة ويلائمون بينه وبين عصورهم ومعاصريهم. والتمثيل ابن القصص من القرن السابع عشر بعد المسيح، حين كان الشعراء الممثلون من الفرنسيين يستمدون موضوعاتهم من القصص أو التاريخ. والتمثيل ابن القصص من هذا العصر الحديث؛ لأن الكاتب الممثل قصاص قبل كل شيء، ولكنه يتخذ الحركة والحوار وسيلة إلى القصص. كل هذا واضح بين، ولكن شيئا آخر لا يزال غامضا عسيرا؛ لأنه يخالف طبيعة الأشياء؛ وهو تحويل التمثيل إلى القصص. على أني لا أريد أن أمضي في هذا البحث الفني، وإنما عرضت له مضطرا لألفتك إلى أصل هذه القصة التي اتخذتها موضوعا لحديث اليوم.
قلت إننا نستطيع أن نسمي هذه القصة «الحديث والقديم»، أو «ابنة باريس وابنة الأقاليم»، وإن هذين العنوانين إذا لم يترجما العنوان الفرنسي فهما يوضحانه توضيحا قويا، ومن الحق أن القصة كلها جهاد بين القديم والحديث، وجهاد بين ابنة باريس وابنة الأقاليم، ولكن موضوع هذا الجهاد ليس هو ما تعودناه من مظاهر الحياة الاجتماعية وفروعها المختلفة، يتنازعها القديم والحديث أو تتنازعها العاصمة التي هي مأوى الحديث، والأقاليم التي هي ملجأ القديم، وإنما موضوع هذا الجهاد هو الشعور الإنساني، أو قل - بعبارة جلية واضحة - موضوع هذا الجهاد هو قلب رجل تتنازعه امرأتان: إحداهما باريسية تمثل هذه الحياة الباريسية الحديثة وما تمتاز به من الضجيج والحركة العنيفة، ومن الاضطراب الشديد، والميل إلى كل جديد غير مألوف، والنفور من كل قديم غير مألوف؛ والأخرى فتاة من أهل الأقاليم ألفت هذه الحياة الهادئة المطمئنة، العاملة المنتجة في غير جلبة ولا ضجيج ولا عنف ولا اضطراب، ساذجة كالطبيعة التي نشأت فيها، صادقة كهذه الطبيعة أيضا، ولكنها كالطبيعة التي نشأت فيها قوية، صلبة، قادرة على المقاومة.
القصة جهاد بين هاتين المرأتين، وأظنك تشعر منذ الآن بأنها قيمة ممتعة، وذلك حق، ولكن شيئا آخر لا تستطيع أن تشعر به إلا إذا قرأت القصة في أصلها الفرنسي، وهو جمالها الفني الذي ليس إلى ترجمته من سبيل، فالقصة حلوة خلابة، خفيفة الروح، مبتسمة اللفظ والمعنى حتى في أشد الأوقات عبوسا وأعظم المواقف حرجا. تقرؤها فإذا أنت هادئ مطمئن، لا يزعجك من هذا الهدوء والاطمئنان إلا جمل تسمعها من حين إلى حين، فتستخفك حينا إلى الضحك، وتستخفك حينا آخر إلى الغضب والإشفاق، ولكنك لا تتجاوز الحد المعقول في الرضا والسخط، وإنما أنت مبتسم طول القراءة، وربما سقطت من عينيك دمعة في بعض المواقف، ولكنها لا تعقبك هذا الحزن العميق الذي تحدثه القصص العنيفة، فإذا فرغت من قراءة القصة لم تكن شديد الحزن ولا شديد السرور، وإنما أنت مطمئن ترى أن القصة جيدة وأنها لذيذة تمتاز خاصة بشيء من الدقة كثير.
أستطيع أن أجد لفظا يصف هذا النوع من القصص وصفا صادقا صحيحا؛ وهو أنه قصص صريح لا يشق عليك بالحزن ولا بالسرور، ولا يثقل عليك بالرضا ولا بالسخط. ويرى النقاد الفرنسيون أن لهذه القصة خطرا عظيما؛ لأنها تظهر الأجانب الذين يختلفون إلى باريس على أن فرنسا شيء آخر غير باريس التي يراها الأجانب ويكلفون بها كلفا شديدا، على أن الثروة الحقيقية لفرنسا من هذه الوجهة الخلقية والاجتماعية، بل المميزات الحقيقية لفرنسا من هذه الوجهة، ليس فيما يختلف إليه الأجانب من المراقص والحانات والملاعب وأندية اللهو، وإنما هي في باريس الهادئة، وفي أعماق هذه الأقاليم المطمئنة المنصرفة إلى هذه الحياة العاملة المنتجة، تلطفها من حين إلى حين بشيء من اللهو البريء.
نامعلوم صفحہ
ولكنك لم تفهم بعد معنى هذا العنوان الذي وضع لهذه القصة، وليس فهمه عسيرا؛ فأنت تعرف القيثارة ومكانها من الأدوات الموسيقية، وأنها أداة متواضعة هادئة تلذ وتطرب ولكن في غير عنف ولا شدة، أما «الجازباند» فاسم لهذا النوع من الضجيج والعجيج الذي نقله الأمريكيون إلى أوروبا ثم الشرق، وهو ضرب من العنف أكره أن أسميه بالموسيقى؛ لأنه بريء من الموسيقى يرافق ألوان الرقص الحديث، ولا تكاد تخلو منه حانات باريس، ولقد ضحكت منه غير مرة. ولست أنسى ليلة في السفينة أراد المسافرون فيها أن يلهوا هذا اللهو الأمريكي، فجلست سيدة إلى البيانو وأخذت تستخرج أغلظ أصواته في غير نظام ظاهر، ووقف من حولها رجال يحمل بعضهم زجاجات فارغة يضربون عليها بملاعق صغار، ويحمل بعضهم الآخر أطباقا يضربون بعضها ببعض، ويحمل آخرون مراجل صغارا استعاروها من المطبخ وهم يضربون عليها بالملاعق ومقابض السكاكين، وهم يرافقون هذا الضجيج كله بضجيج آخر يحدثونه حين يضربون الأرض بأقدامهم ضربا عنيفا، والناس يرقصون على هذا الضجيج رقصا مضطربا، فيه فحش وفتور لا يبعث في النفس إلا حزنا وانقباضا. وأما القيثارة في قصتنا فهي هذه الفتاة المريضة الوادعة الصادقة في كل شيء، وأما «الجازباند» فهو هذه المرأة الباريسية المضطربة المتكلفة في كل شيء. •••
نحن في باريس في دار رجل من رجال الأعمال اسمه «ماكسيم برترو»، وقد أقام حفلة راقصة فأقبل عليه الناس من أهل اللهو والعبث. ونحن لا نرى صاحب الدار ولا امرأته إذا رفع الستار، وإنما نرى منظرا يضحكنا حينا؛ نرى شابا قد خلا في المقصف إلى فتاة يحبها وهو يريد أن يعلن إليها حبه فلا يستطيع؛ لأن الحياء قد عقد لسانه فهو يتلجلج، وهي تسخر منه وقد تركته لتعود إليه بعد حين، فدخل عليه صديق له يجب أن تحتفظ باسمه؛ لأنه من أبطال القصة وهو «ديني كرانسلان»، محام في محكمة الاستئناف، غني، جميل الطلعة، رشيق الحركة، معروف بفتنة النساء، فإذا رأى صاحبه في هذا الاضطراب سأله عن أمره، فإذا أنبأه أخذ يلقي عليه درسا في إغواء النساء والطرق التي تسلك إليه. وهما كذلك إذ تقبل الفتاة، فما أسرع ما يتملقها المحامي فيفتنها، فتدعوه إلى الرقص، فينصرفان ويتركان الفتى محزونا مغضبا. وإذا صاحبة الدار قد أقبلت، ويجب أن تحفظ اسمها؛ فهي من أبطال القصة، وهي «مارتين»، جميلة، فاتنة، لعوب، مسرفة في حب العبث، لا تكاد تتحدث إلى هذا الفتى حتى يأتي زوجها، فينصرف الفتى، ويخلو الزوجان. ثم لا يكادان يتحدثان حتى تحس أنهما غير مؤتلفين، وأن كلا منهما قد استرد حريته، فهو يلهو ويعبث كما يريد بسمع صاحبه وبصره، ولكن الزوج قد أقبل الآن ليعلن إلى امرأته نبأ ذا خطر؛ ذلك أن أعماله تضطره إلى أن يترك باريس وإلى أن يقضي في مراكش ثلاثة أشهر، وهو لا يريد أن تظل امرأته في باريس وحدها، ولا أن تذهب إلى ساحل البحر وحدها؛ لأنه يكره أن تظهر امرأته لاهية عابثة في غيبته فتعرض كرامته للخطر.
هو يبيح لها أن تعبث ولكن بمحضر منه لا في أثناء غيبته، وإذن فهو يعرض على امرأته أن تقضي هذه الأشهر الثلاثة في الريف عند أبيه الشيخ وأخته الفتاة، وهي تأبى ذلك، وتظهر مقاومة شديدة، ثم لا تلبث أن تطيع. وقد انصرف زوجها، وأقبل المحامي الذي رأيناه في أول القصة، فلا يكاد يحييها حتى نعلم أنه خليلها، وقد أخذا يتحدثان، فتقص عليه في سرعة ومزاح سفر زوجها واضطرارها إلى الحياة في الريف، وهي لا تريد أن تفارق خليلها، وخليلها لا يريد أن يفارقها، وإذن فلا بد من رسم خطة لهذا اللقاء . وما أسرع ما ترسم الباريسية هذه الخطة، فهي ذكية قاسية لا خلق لها ولا كرامة. تنبئ صاحبها بأنه سيرى بعد حين أبا زوجها وأخته: فأما الأب فشيخ من أهل الريف كلف بالزراعة ينفق حياته في درس الأسمدة وتحسينها، وإذن فيجب أن تظهر علما بالزراعة وميلا إلى تحسين الأسمدة، وأما الأخت ففتاة تخرجت في الجامعة، وهي تنفق بياض يومها في درس الفلسفة، وإذن فيجب أن تظهر علما بالفلسفة وميلا إليها. والشيخ يريد أن يزوج ابنته، والفتاة حديثة لا تعرف الحب، ولا تكره أن تتزوج، وإذن فيجب أن تظهر إعجابا بالفتاة ورغبة فيها، ويجب أن تظهر ذلك الآن وأن ترقص مع الفتاة وأن تسحرها، وأنت ماهر في سحر النساء، ولا ينبغي أن تتردد في ذلك إن كنت تحبني حقا وتحرص على ألا نضيع الصيف.
وهو مطيع، وقد أقبل الشيخ فتعارف الرجلان، وأظهر المحامي ميلا إلى الزراعة فأحبه الشيخ، ثم أقبلت الفتاة فقدم إليها المحامي على أنه فيلسوف، وما أسرع ما تظهر الفتاة ميلا إليه، وما أسرع ما يدعوها إلى الرقص فتجيب، وقد خرج فغاب حينا ثم عاد، فإذا الفتاة ذاهلة يأخذها الدوار، وإذا أبوها مضطر إلى أن يسعفها بما يرد إليها الحياة، وإذا نحن نفهم أن المحامي قد نفذ الخطة فأظهر في أثناء الرقص من بوادر الحب ما هز أعصاب الفتاة الريفية الجاهلة. وإذا نحن نشعر أن هذه الفتاة قد أخذت تحب المحامي وتزدري نفسها؛ لأنها ريفية، ولأن زيها الريفي بعيد كل البعد عن أزياء البدع الجديد، وقد أظهر المحامي عطفا عليها فأعجبها ذلك ورد إليها القوة. وقد علمنا أن هذا المحامي سيقضي الصيف في قرية قريبة جدا من القرية التي تقيم فيها الفتاة، فسيتزاور القوم، وإذا الفتاة سعيدة تنصرف مع أبيها وهي تبتسم للحياة، أما العاشقان فلا يكادان يخلوان حتى يسخرا من الفتاة والشيخ، وحتى نشعر بأنهما ينتهزان انصراف الراقصين ليقضيا ليلة حب ولذة. •••
فإذا كان الفصل الثاني فنحن في الريف في قصر الشيخ وابنته الفتاة، وقد تقدمت الأشياء تقدما سريعا ، فتزاور القوم، ثم دعي المحامي للإقامة حينا في قصر الشيخ، فهو في القصر مضيف، ونحن نفهم أن صلات الحب الآثم ما زالت قوية بينه وبين صاحبته «مارتين»، ولكننا نفهم من جهة أخرى أن الفتاة الريفية واسمها «أستيل»، مازالت تحب هذا المحامي، وما زال حبها ينمو ويعظم. نفهم هذا كله، ونرى «مارتين» ضيقة الذرع بحياة الريف، تكرهها كرها شديدا، وتريد أن تعود إلى باريس، فإذا ذكر لها جمال الطبيعة وروعة الريف إذا جن الليل، اضطربت لذلك اضطرابا شديدا؛ لأنه يخيفها ويفزعها، وهي تفضل أضواء الكهرباء على ضوء القمر، وتؤثر ضجيج الحانات على هدوء القرى، وقد خرجت بعد العشاء مع صاحبها يمشيان في الحديقة حينا، وخلا الشيخ إلى ابنته، فإذا هي تتمنى عليه أن يمسك المحامي حتى لا يسافر غدا، وإذا الشيخ يقبل ذلك ليرضي ابنته، أما هو فلا يحفل بهذا المحامي؛ لأنه يعلم الآن أنه جاهل بالزراعة. وقد أقبل المحامي فطلب إليه الشيخ أن يبقى أياما وقبل. ثم ينصرف الشيخ وتأتي الفتاة، فيكون بينها وبين المحامي حديث نفهم منه أن الفتاة تحبه حبا قويا عنيفا، وأن المحامي نفسه قد أخذ يحب الفتاة ويكبرها، وهو الآن يدافع نفسه لا يريد أن يقع في الشرك الذي نصبه، والفتاة تتحدث إليه فتظهره على نفسها وأخلاقها وآمالها، فإذا هدوء ودعة، وإذا قوة وصبر، وإذا قدرة على احتمال الصدمات، وإذا كل هذا قد ملك على الفتى نفسه فيوشك أن يعلن حبه، ولكن الفتاة قد تركته وانصرفت مسرعة، ولا يكاد الشلب يخلو إلى نفسه حتى تقبل خليلته «مارتين» باسمة متهالكة تعرض اللذة وتطلبها والشاب عنها منصرف، وقد أحست ذلك فهي تلوم الفتى هذا اللوم المطمع المغري، وتسخر من الفتاة والشيخ، ولكن صاحبها قد فتح النافذة وهو ينظر إلى جمال الطبيعة ويفنى فيها، وصاحبته تصرفه عن ذلك، فما تزال به حتى يقفل النافذة ويضيء الكهرباء، وهي تعرض نفسها وهو يأبى، فتنصرف وهي مغضبة، وقد أعلنت إليه أنها تنتظره في غرفتها، فإن لم يذهب فلن تراه بعد، ولا يكاد الفتى يخلو إلى نفسه حتى يسمع نغما هادئا لذيذا هو نغم القيثارة، فيفتح النافذة فلا يرى شيئا، ولكنه يسمع النغم؛ ذلك لأن «أستيل» تلعب بقيثارتها بين الأشجار، والفتى يسأل: ما هذا؟! فتجيبه الفتاة، فيتحدثان، ثم تأتي الفتاة إلى غرفة الفتى وهنا لا تستطيع أن تخفي حبها فتعلنه، وهو لا يستطيع أن يمضي في عشقه فينبئها بأنه لا يليق بها، وبأن ماضيه لا يخلو من إثم، وقد نهضت الفتاة لتنصرف محزونة يائسة، ولكنه يدعوها ويلح في الدعاء كأنه يستغيث بها لتطهره من إثمه وقد لحقها وضمها إليه، وإذا كلاهما يعلن حبه إلى الآخر. •••
فإذا كان الفصل الثالث فسيفتضح كل شيء؛ سيفتضح أمر العاشقين الآثمين، وسيفتضح أمر هذا الحب الطاهر الجديد. تقبل خادم فتنبئ الشيخ بأنها رأت الضيف يقبل مولاتها، ويقبل رجل أجنبي فينبئ الشيخ بأنه لا يشك في أن صلة آثمة تجمع بين ضيفه وامرأة ابنه، وإذا الشيخ قد وقف هذا الموقف العنيف، يرى ابنته ضحية لهذه المؤامرة الآثمة التي دبرها العاشقان، وهو مشفق على ابنته أن يقتلها الحب، وهو مغضب لهذه الإهانة التي لحقته، وهو يريد أن يعاقب امرأة ابنه، ولكنه لا يكاد يتحدث إليها حتى تظهر له كتابا من زوجها يرد إليها حريتها ويعرض عليها الطلاق، وإذن فهي حرة تريد أن تعيش مع عاشقها، أما الشيخ فيطردها وسيطرد ضيفه، ولكن ابنته قد أقبلت وعلمت كل شيء، وهي والهة ذاهلة، ولكنها ابنة الطبيعة الهادئة المبتسمة، فهي ليست يائسة، وإنما هي معتزمة أن تجاهد لتحتفظ بحبها وخطيبها، وهي ترى أن هذا الحب قد غير الفتى وطهر نفسه من الآثام، وإذن فالجهاد عنيف بين المرأتين. وقد انصرفت الفتاة مع أبيها، وأقبل المحامي، فأعلنت إليه صاحبته كل شيء، وانصرفت وقد ضربت له موعدا يلتقيان فيه ليسافرا معا إلى باريس، أما المحامي فيريد أن يعتذر إلى الشيخ وأن يظهره على جلية الأمر، ويريد أن يرى الفتاة، ولكن الشيخ يطرده طردا عنيفا، ويحول بينه وبين ابنته. ونحن نعلم أن الفتاة كانت تريد أن تراه، وأنها ما زالت شديدة الحرص على أن تراه. •••
فإذا كان الفصل الرابع فنحن في المحطة في غرفة الانتظار في أول النهار، وقد انهمر المطر طول الليل وما زال ينهمر، ولم تكد تفتح الغرفة حتى أسرعت إليها فتاة هي «أستيل»، كانت قد هربت من قريتها وقضت الليل كله أمام المحطة تنتظر القطار لترى المحامي حين يسافر، وهي الآن تأوي إلى هذه الغرفة تنتظره فيها، ولست ألخص لك ما يجري بينها وبين العامل وبائعة الصحف من حديث مؤلم مضحك، ولكن الجرس قد دق وخرجت الفتاة تلتمس صاحبها، ولم تكد تخرج حتى أقبل العاشقان، فأما «مارتين» فراضية مبتهجة، وأما صاحبها فمذعن للقضاء وقد خرج ليأخذ القطار، وأقبل الشيخ مضطربا يبحث عن ابنته، وعادت الفتاة إلى غرفة الانتظار تبحث عن صاحبها فيلقاها أبوها، يلومها في رفق، ويهدئ من اضطرابها، ولكن اضطرابها شديد، فقد يوشك القطار أن يتحرك وهي لم تر حبيبها. انظر إليها؛ لقد أخذها شيء من الهلع، رأت صاحبها ورأته يصرف وجهه عنها! انظر إليها؛ قد استحال هلعها إلى جنون، فأفلتت من يد الشيخ إلى القطار وقد هم بالحركة! ثم انظر ماذا ترى؟ ترى المحامي مقبلا مضطربا يحمل الفتاة مغمى عليها ويمدها على أحد المقاعد؛ كانت تريد أن تقتل نفسها! والفتى الآن جالس أمامها يتلطف لها ويتحدث إليها في حنان عذب، والحياة تعود إليها شيئا فشيئا، والأمل يعود إليها كذلك، والشيخ يرقب من كثب هذا الحب الناشئ القوي الذي استطاع أن ينتصر على الأحداث، وأن يطهر النفس الآثمة من إثمها، وأن يكفل الفوز لهذه الطهارة الهادئة المطمئنة، على ذلك الفساد المضطرب العنيف الذي يمضي القطار به الآن إلى باريس.
نوفمبر سنة 1924
في ملاهي باريس
نعم فقد لهوت، وكانت رغبتي في اللهو من البواعث القوية التي حببت إلى الذهاب إلى باريس، ولم أخفي ذلك وأكتمه وأنا أعلم والناس جميعا يعلمون أن المسافر إلى باريس أو غيرها من مدن أوروبا، إنما يتخذ اللهو غرضا من الأغراض السياسية في برنامج رحلته؟! وهل كان السفر نفسه إلا ضربا من اللهو وفنا من فنون العبث يعمد إليه المتعبون ليستريحوا ويرغب فيه المستريحون؟! وكنت أرى الراحة في أن ألهو عن هذه الأشياء التي قضيت فيها العام كله فأجهدتني وبغضت إلي الحياة. وكنت وما زلت أعتقد أن من الحق للناس علي وأن من الحق لي على نفسي أن أعود إلى هذه الأشياء التي سئمتها وسئمتني، وأن أستأنف هذا العمل الذي أجهدني طوال العام الماضي حتى بغض إلي الحياة. وكنت أعلم أني لن أستطيع العودة إلى هذه الأشياء واستئناف هذا العمل إلا إذا استرحت ولهوت، وأخذت من الراحة واللهو بحظ عظيم، وقد فعلت، وقد عدت إلى مصر، وقد استأنفت هذا العمل الشاق، فإذا هو هين لين لا عسر فيه ولا مشقة، ولكني أعلم أنه سيعسر، وأنه سيشق، وأني سأسأمه، وأنه سيسأمني، وأني سأنصرف عنه، وأنه سيزهد في، وأني سأحتاج إلى الراحة واللهو، وأني سأستريح وألهو ثم أستأنف الجد والعمل، وكذلك حياتنا: نتعب لنستريح، ونستريح لنتعب، حتى يأتي هذا اليوم الذي لا تعب بعده ولا راحة.
نامعلوم صفحہ