وعوض القدر لورنس أوديت عن أمها، وكانت الفتاة قد كملت شبابا وجمالا وزادها ما أصابها في أمها رزانة وكمالا.
لكن لورنس لم تكن قد خلقت في رأي مؤلف الرواية لتعرف صفاء في العيش أو نعمة في الحياة، فلم تك محنة تمر إلا لتعقبها محنة، ولم يك هم ينقضي إلا ليظهر في أثره هم جديد. لم يكد أبوها يطمئن إلى نفسه بعد سفر ابنه حتى كان ذات يوم مع ضباط من أمثاله يتذاكرون ما أصاب فرنسا سنة 1870، فرجا بول داسلييه أن تقوم حرب تمحو بها فرنسا ذلة الهزيمة وتسترد بها الألزاس واللورين، فسخر الضابط دوران من رجائه وقال هازئا: «ليس من حقنا نحن رجال الحرب أن نرجو الحرب إلا أن يكون من حق رجال المطافئ أن يرجوا شبوب النيران لإطفائها.»
وبهت داسلييه لما لقيته كلمة دوران من إعجاب الزملاء جميعا، لكنه لم يسلم لهذا الضابط الشاب، الذي كان يوما في الصفوف تحت إمرته ثم وصل من طريق الدسائس إلى أن صار مساويا له. فلما كانت أيام بعد هذا الحوار كان حوار آخر انتهى داسلييه فيه بأن أهان دوران قائلا: «خير لك أن تحطم سيفك، فهو لن يحدث ساعة الخطر إلا شرا ما دام قلبك لا يحتوي غير الجبن والهزيمة.»
وأسف داسلييه لهذه الحدة من جانبه، لكن لا بد مما ليس منه بد؛ لا بد من المبارزة بين الضابطين، لا بد أن يتقدم داسلييه، الذي كان يرجو في ابنه رجلا يخدم فرنسا، ليقتل أو ليجرح فرنسيا يستطيع أن يخدم فرنسا، وتبارز الضابطان وتمت الغلبة لداسلييه وجرح دوران، لكن داسلييه خر بعد ذلك مغشيا عليه وأصابه ذهول فحمى ظل يهذي على أثرها ستة أيام تباعا، وظلت لورنس إلى جانبه تعاني الهم والألم وترقب الحين بعد الحين ما يخبئه القدر من مصاب لها جديد.
وعاودت الصحة داسلييه وعاد إلى عمله. لكن دوران لم يغفر لخصمه انتصاره عليه، وللنفوس الدنيئة غرام بالانتقام الدنيء، فروج بين الناس أن ما أصاب داسلييه إنما هو مظاهر الجنون التي توشك أن تصيبه الحين بعد الحين، وأنه لم يجرح في مبارزة ولكن في نوبة، ولم يقف بهذه الأوهام عند فونتنبلو، بل أراد أن يستخدمها للقضاء على داسلييه كضابط، فاستخدم دسائسه في وزارة الحربية، وكادت تثمر وتصل به إلى ما يريد، وداسلييه! داسلييه الشهم الشجاع الطيب النفس والقلب، لم يكن له هم إلا الندم على ما فرط منه، وإلا التفكير في التوبة والتكفير.
وكان لداسلييه في باريس صديق قديم هو الضابط آريل، وكان كداسلييه شجاعا طيب النفس والقلب، وكان على الضد من داسلييه ممتلئ النفس من الإيمان بالله، فلما وقف على ما يروج حول صديقه في الوزارة من دسائس عمل لمحاربتها، ثم ذهب إلى فونتنبلو وقابل لورنس وتلطف في إخبارها بما يهدد مركز أبيها من خطر، وأنهى إليها أن خير ما يفعلونه إقناع بول بترك العمل ستة أشهر، ولكي لا يحس الرجل شيئا وكلوا الأمر إلى طبيبه المعالج الذي نصح له بعد رجائهم بهذه الراحة، فتردد داسلييه كثيرا، ثم انتهى بالموافقة وترك عمله حزنان أسفا.
وعمل الأسى في نفس هذا الضابط الشهم لتركه العمل، فانحدرت صحته وساورته الهموم، وانعكست آية همه على نفس ابنته، فبدأت تضمحل وبدأ يدب إلى شبابها وصحتها الانحلال، وكان آريل يتردد عليهم منذ بدء هذه المحنة مرة كل خمسة عشر يوما، وكان يجاهد خلال ذلك يريد أن يفسد دسائس دوران وصحبه، وكاد يوفق لولا أن سقطت الوزارة وجاء في الحربية وزير اصطفى دوران كاتم سر له، فعادت الدسائس. ولم يكن إلا أن يجدد داسلييه راحته سنة من جديد وأن يترك هو وأهله فونتنبلو إلى باريس، آملين أن يكون لجوها ولمجتمعاتها من الأثر في لورنس ما يعيد إليها شيئا من صحتها المنحدرة.
واتصل ما بينهم وبين أندريه وزوجه، وعالج الجميع تسلية لورنس. لكن الفتاة كانت قوية النفس، والنفس القوية إذا لم تتمكن من إخضاع الجماعة لحكمها ازدادت شعورا بين الجماعة بالوحدة، وكان ذلك حال الفتاة وحال أبيها، سرتهم باريس ومناظرها وجماعاتها حينا، ثم لم يكد يتم بينهم وبين باريس التعارف حتى بدأ عهد التقاطع والتنابذ وكان بول داسلييه أسرع من ابنته إلى هجرة الناس وإلى الاحتماء بالانقطاع وبالوحدة. وشعر بذلك أصحابه، فلم يروا إلا أن تتزوج لورنس حتى إذا عدا القدر على أبيها كان لها من زوجها أنيس يعينها في وعثاء الحياة.
وأخذت جوليان نفسها بتزويج أخت زوجها، فخرجت بلورنس من عزلتها إلى الصالونات والمجتمعات. ولم تجد لورنس بين الطامعين في يدها من الشبان إلا كل فج تافه لا وزن له ولا قيمة، وكل من ليس همه إلا ما لها من بعض الثروة، فأما ذوو الرأي فوجدوا في لورنس شخصا قوي النفس مستعدا للنضال، والرجل الطموح في الحياة لا يعنيه بعد أن يناضل الناس إذا اطمأن إلى أهله أن يجد نضالا جديدا في زوج ذات شخصية قوية؛ لذلك طال بجوليان الأمل، وطول الأمل مدعاة لليأس، فاستشارت جوليان رجلا من رجال المال كان يقوم بتدبير ثروتها وثروة زوجها، فيرد لهم من أرباحها ما يغنيهم عن التفكير للغد.
وكان مسيو هيكن هذا رجلا جاوز الخمسين، على جانب من قبح الوجه ورجاحة العقل ومرونة الضمير، طويل القامة، بارز العظام، ليس فيه شيء يحب، ولشد ما عجبت جوليان أن أبدى هذا العجوز لها ميلا للورنس وأن طلب يدها. حقا أن لكل ساقطة لاقطة لورنس يحبها هيكن! لكن عجب جوليان لم يطل، وأقنعت الفتاة بقبول التزوج من هذا الصديق، وقبلت لورنس على أن يكون صديقا، وانتهى بول داسلييه بالاقتناع وتم الزواج.
نامعلوم صفحہ