فقلت: البيت أمام المحطة!
فسألني مبتسما: أية محطة؟
فتفكرت قليلا حتى عثرت على شاهد للمحطة فقلت: المحطة أمام المرحاض العمومي!
فضحكوا جميعا، وانهالوا علي قفشا وتنكيتا، وشاركتهم ضحكهم بغير مبالاة، ثم آثرت أن أغادر المكان، فدعوت النادل ونقدته الثمن وحييت رفقاء السكر، وذهبت وقفشاتهم تواصل توديعي بلا رحمة، كنت أترنح، فقصدت عربة في الموقف، وتوسطت مقعدها في خيلاء، وقلت للحوذي بصوت مرتفع: إلى بؤر الفساد!
وتحركت العربة وسرعان ما ارتحت إلى سيرها الواني، وجعلت أنظر إلى الطريق في لذة وبهجة، حتى وددت أن يطول المسير إلى غير نهاية، وأدركت أني مقبل على تجربة جديدة لا تقل خطورة عن الأخرى، فساورني بعض القلق، ثم غلبتني اللهفة. ووقفت العربة في شارع معربد، ولوح الحوذي بسوطه وهو يقول ضاحكا: هنا الفساد الأصلي!
وسألته بعد تردد: ألديك فكرة عن الأسعار؟!
فقال مقهقها: أغلى مرة بريال!
وآلمني التعبير على رغم سكري، وغادرت العربة فوجدتني في دنيا تتوهج بالأنوار كالصواريخ، وتزدحم بالسكارى والعابثين، وتختلط بها أصوات الضحك بالشتم والصراخ، وتنبعث من جنباتها دقات الدفوف وأنغام مبتذلة من كمان مسلول أو بيان محشرج. وقد سطع أنفي شذا بخور طيب. ولم أجد من نفسي الجرأة على التخبط وسط الجموع المعربدة، فعرجت إلى أقرب باب ودخلت، وجدت نفسي عند مدخل فناء واسع مستدير تفتح عليه أبواب كثيرة، وعلى محيط دائرته صفت الأرائك والكراسي يحتلها رجال ونساء، وفرشت أرضه برمل أصفر فاقع، وراحت ترقص عليه امرأة نصف عارية، وكأن الجسارة التي خلقتها الخمر قد طارت فتسمرت في مكاني لا أجاوزه ولم أدر ما أنا فاعل. ثم ثبتت عيناي على الراقصة في دهشة؛ لأني كنت أشاهد الرقص أول مرة، ألقيت على الجسد الملتوي، الشبه العاري نظرة اشمئزاز وخوف، وأزعجتني حالة وجهها إذ أثقله الطلاء الفاضح، وانفرجت شفتاها عن أسنان ذهبية، فكانت بعرائس الحلوى أشبه. وفجأة لاح أمامي رجل ذو جلباب مقلم زاهي الألوان تنطق قسماته بالدمامة والدناءة ودعاني للجلوس، فتراجعت مبتعدا عنه، فاصطدمت بشخص ورائي، فدرت على أعقابي لأتفادى منه فرأيت امرأة من جنس الراقصة، ولا شك حالت بذراعها بيني وبين الذهاب. كانت تبتسم ابتسامة كريهة، وتمضغ لادنا مفرقعة بأسنانها، فبردت أطرافي، وانقبض قلبي جفولا، وقرأت في وجهي الخوف والخجل فأطلقت ضحكة كالصفير، ومدت يدها بسرعة فخطفت طربوشي، ووضعته على رأسها ومضت صوب باب قريب في خطوات سريعة. وقال لي الرجل وهو ما يزال بموقفه: اتبعها بلا تردد، هذه زوزو المنبهجة، لا مثيل لها ولا في المذبح!
ولم أطق الوقوف أكثر من ذلك، فغادرت البيت لا ألوي على شيء، غير مكترث لفقدان طربوشي، وركبت أول عربة صادفتني وقلت للحوذي: «إلى المنيل!» عدت إلى البيت قبل منتصف الليل مهيض الجناح، يمضني الشعور بالهزيمة والإخفاق والخيبة. لم أكن أتصور أن يتمخض الحلم المرموق عن هذه البشاعة الفظيعة. وكانت النشوة الساحرة قد طارت مخلفة وراءها خمارا ثقيلا باخت له روحي، ولم أدر كيف أيقظت أمي وأنا أخلع ملابسي، فجلست في فراشها ونظرت في «المنبه»، وهي تغمغم متثائبة: «تأخرت كثيرا!» ولم أجبها بكلمة، وواصلت نزع الملابس حتى خذلتني قدماي فارتميت على المقعد، واستجمعت قواي ونهضت، ولكني ترنحت في موقفي وكدت أهوي إلى الأرض لولا أن أمسكت بعمود السرير .. وانزلقت أمي من فراشها وأقبلت نحوي متسعة العينين دهشة وفزعا، وتفرست في وجهي قليلا دون أن تنبس بكلمة، ثم أجلستني على المقعد وراحت تنزع عني ملابسي، ثم أنامتني على فراشي، فما مس جانبي الحشية حتى سارع إلي النوم، وخيل إلي، أو حلمت، أن أمي تنتحب!
23
نامعلوم صفحہ