وغادرت العربة بعد أن نقدته الأجرة، فوجدت نفسي حيال حانة صغيرة لا تزيد في الحجم على حجرة كبيرة وقد وقف الندل ببابها لأنه لم يكن أمها أحد بعد، وانتابني التردد لأول مرة، ففكرت في أن أعود من حيث أتيت. ووقفت متحيرا، ثم تولاني الشعور الذي ملكني يوم اندفعت إلى سور جسر الملك الصالح لأرمي بنفسي إلى النيل، فانطلقت صوب الحانة ودخلت، وتبين لي أنه يوجد في نهايتها مدخل إلى حديقة صغيرة في حجم المكان الخارجي، في وسطها نافورة، وتظلها عريشة عنب، وفي جنباتها الموائد، فوجدتها آمن للمختلس، وانتقلت إليها وجلست إلى إحدى الموائد بعيدا عن مدخلها. كنت متوتر الأعصاب، ولكن لم أعد أفكر في الهرب، وجاءني نوبي في سروال أسود وسترة بيضاء فابتسم في أدب ووقف منتظرا أمري، فقلت بصوت مهموس والدم يتصاعد إلى وجهي: خمرا!
فلم يبد عليه أنه فهم شيئا، وتساءل في نبرات كرنين النحاس: ويسكي؟ .. كونياك؟ .. جعة؟ .. نبيذ؟
وتولتني حيرة الجاهل، فقلت بارتباك: أريد خمرا.
فابتسم الرجل ابتسامة آلمتني وتساءل: أي نوع منها تريد؟ .. ويسكي؟! .. كونياك؟! .. جعة؟! .. نبيذ؟!
فسألته في ارتباك أشد: أيها أفضل؟ - هذا يتعلق برغبتك، ولكن الجو حار فالجعة شراب مفضل.
وخرجت من حيرتي وطلبت جعة، وغاب دقائق ثم عاد بقدح يفور ووضعه أمامي، وقبل أن يبتعد سألته: كم قدحا من هذه يسكر؟
فنظر صوبي كما نظر الحوذي من قبل وقال: تختلف النسبة تبعا للناس، ولكن إذا كنت مبتدئا يحسن ألا تجاوز القدح الثالث.
فقبضت على القدح فوجدته باردا لطيفا، وأدنيت منه أنفي فشممت رائحة حمضية لم أرتح لها ، ولكن فات وقت التردد، وقربت وجهي وأدليت لساني، ولعقت من رغوتها لعقة في خوف وحذر. واشتد توتر أعصابي فرفعت القدح إلى فمي وأفرغت ما فيه دفعة واحدة في تقزز كأنما أتجرع شربة. وأنعشتني برودته، وشعرت به في بطني يتلوى نافثا حرارة غريبة. وانتظرت ذاك الأثر السحري الذي سمعت عنه الكثير. وفي تلك اللحظة جاءت لمة من الأجانب يرطنون ويتضاحكون وتحلقوا مائدة كبيرة، فداخلني شعور بالضيق، بيد أنهم لم يلتفتوا نحوي على الإطلاق؛ فسكن روعي، وعاد شعوري إلى الحرارة الطيبة التي تنتشر في بطني. وحمل الدم المتصاعد إلى الرأس نفحة من هذه الحرارة إلى المخ، فتمطى كما يتمطى المستيقظ لدى تلقيه أول شعاع من الشمس، ونفض عنه القلق والحذر، فأحسست ارتياحا عاما لذيذا، وانبسطت أسارير وجهي .. وما لبثت أن طلبت قدحا آخر بشجاعة لم أعهدها في نفسي من قبل، وما كاد النوبي يضعه أمامي حتى رفعته إلى فمي وتجرعته على دفعتين. وانتظرت في ارتياح شامل وإحساس مركز في باطني، وسرى في جسمي سرور عجيب أغمضت له جفني استسلاما؛ سرور دار مع دمي، ورقص في مخي، باعثا لذة هي الجنون نفسه، حتى وجدتني مخلوقا أثيريا طليقا من متاعب عقله وقلبه وحياته. وداخلني إحساس لا عهد لي به بالثقة والعظمة، فرفعت رأسي عاليا في سلطنة وأنا أعجب للنشوة السحرية التي لم يدر بخلدي قط أنها توجد في هذه الدنيا. ثم فركت يدي في سرور ومددت ساقي لا أبالي أين تقعان .. وبغتة تخايلت لعيني صورة حبيبتي بقامتها الهيفاء ونظرتها المستقيمة المحتشمة؛ فأترع قلبي حنانا وشوقا، وهزتني نشوة فوق نشوة الخمر. ما ألطفك يا حبيبتي! إني أدرك الآن سر نشوة الخمر. إنه الحب .. الحب ونشوة الخمر من عصير واحد يقطر من صميم الروح، وهل الحب الموفق إلا سكرة طويلة؟! فإن فاتني الحب بين يديك فلن يفوتني في الخمر! لماذا أخاف دائما؟ ألا إن المخاوف جميعا لأوهام، وإلا فما لها اختفت من أفقي في غمضة عين؟! لقد تكشف لي وجه الحكمة، ولن أتردد بعد اليوم، سأومئ لحبيبتي إذا وقعت عليها عيناي أو ألوح لها بيدي. ستعقد الدهشة لسانها ويحمر منها الخدان! ويجيء دورها في الخجل، دقة بدقة والبادئ أظلم. وسوف تتساءل في استغراب: هل تحرك أخيرا؟ أجل يا حبيبتي، تحرك، ولن يوقفه شيء .. ورأيت عند ذاك النادل يحوم حولي، فطلبت القدح الثالث، ثم ألحقته بصاحبيه. وعدت إلى خيال حبيبتي بجسم كله قلوب، وما به من عقل. وقلت بصوت مهموس وكأني أعظ جليسا غير منظور: «إذا أحببت فبح بحبك إلى حبيبك، وليكن ما يكون!» ثم ذكرت أمي؛ ولكن دون خوف هذه المرة، لم أشك في أنها ستحب حبيبتي إذا رأتها، وستذهب مخاوفي القديمة إلى غير رجعة، أما جدي فما أحراه إذا علم بالنبأ السعيد أن يقهقه ضاحكا، وهنا ضحكت بصوت مسموع لفت إلي الحاضرين. وألقيت نظرة على ما حولي فرأيت الحديقة اكتظت بالوافدين .. وقد تضاحك الأقربون، ولكني لم أرتبك، بل ابتسمت إليهم وقلت بجسارة غريبة: «اضحكوا!»، فضحكوا، وتساءل أحدهم مبتسما: هل من أمر آخر؟
وكنت من السكر في غاية فقلت بلسان ملعثم: هاتوا لي حبيبتي!
فسألني الشاب: أين هي؟ .. وأنا كفيل بإحضارها.
نامعلوم صفحہ