فكانت أمي تلقى هذه المداعبة وأمثالها بفتور ملحوظ لا يخفى على مخاطبتها، ولا علي؛ فازددت شعورا بالحياء وبالنفور، وبالخوف خاصة حيال المرأة. ثم لا تفتأ - عقب انصراف الزائرات - تنتقد مداعباتهن الفاضحة المفسدة للأخلاق! .. ومضيت في حياتي الوحيدة الموحشة أتململ تحت ضغطها المتواصل دون أن أبدي حراكا، أنتهب لذاتها الخفية في جزع ويأس، وأجني مر الشعور بالذنب وقد شق علي الخلاص، في عزلة غابت بي عن خضم الحياة. على أنني كنت أدرك إدراكا غامضا أنه توجد حياة واسعة فيما وراء أفقي الضيق. كنت أسترق السمع إلى ما يتناثر من أحاديث التلاميذ عن السياسة والسينما والألعاب الرياضية والبنات، وكأنني أصغي إلى سكان كوكب آخر. وددت لو كان لي بعض فصاحتهم ومرحهم وحبورهم، وددت لو يرفع ذاك الحاجز الأصم الذي يحبسني دونهم. ولكم رمقتهم بعينين محزونتين كأني سجين ينظر من خلال القضبان إلى الطلقاء. بيد أني لم أحاول قط أن أنطلق من سجني، لم يكن ليغيب عني ما ينتظرني في دنيا الحرية من قسوة ومهانة، بل إني لم أسلم في سجني من أذى وسخرية وتهجم، ذاك سجني فلأقنع به، فيه لذاتي وألمي، وفيه أمان من الخوف. إنه سجن مفتوح الباب، ولكن لا سبيل إلى تجاوز عتبته، ولم أجد من متنفس غير الأحلام. كنت أمكث في الفصل غائبا عما حولي وخيالي يصنع المعجزات؛ يحارب ويقتل ويقهر، يمتطي متون الجياد ويعتلي الطائرات ويقتحم الحصون ويستأثر بالحسان، وينكل بالتلاميذ تنكيلا مروعا، حتى لابست أحيانا حركات رأسي وتقلصات وجهي انعكاسات من تلك الأخيلة، يرتفع لها الرأس كبرياء، ويقطب الوجه قسوة، وتشير اليد بالنذير والوعيد!
ولم تقف أحلامي عند حد الخلق فطارت إلى ملكوت الخالق .. وكان إيماني قديما راسخا يعمر قلبي وروحي بحب الله وخوفه معا. وقد أديت الفرائض في سن مبكرة أخذا عن أمي ومحاكاة لها. ولما أجدت لي لذاتي الخفيفة شعورا بالذنب لم يكن لي به عهد؛ قوي شعوري الديني، ولفحت إيماني لهفة حارة إلى الله ورحمته، فما ختمت صلاتي مرة حتى بسطت يدي مستغفرا. بيد أن أشواقي لم تقف عند حد، وانقلبت طلعة لمعرفة الله، وتمنيت من صميم فؤادي لو كان أتاح لعبيده رؤيته وشهود جلاله الذي يحيط بكل شيء ويوجد في كل مكان.
وسألت أمي يوما: أين يوجد الله؟
فأجابتني بدهشة: إنه تعالى في كل مكان!
فرنوت إليها بطرف حائر وتساءلت في خوف: وفي هذه الحجرة؟
فقالت بلهجة تنم عن الاستنكار: طبعا .. استغفره على سؤالك هذا!
واستغفرته من أعماق قلبي، ونظرت فيما حولي بحيرة وخوف، وذكرت بقلب موجع كيف أني ألم بالإثم تحت بصره القريب، لشد ما حزني الألم، وغصني الندم! ولكني ما فتئت أغلب على أمري. •••
وشق علي النزاع المتواصل فانتهى بي إلى التفكير الجدي في الانتحار. بلغت وقتذاك السابعة عشرة، وكنت أستعد لامتحان الابتدائية للمرة الثالثة بعد أن أخفقت مرتين في عامين متتاليين. تملكني الفزع والقنوط وازددت فزعا وقنوطا للامتحان الشفوي، فما كانت لي قدرة على الكلام، ولا قلب أواجه به الممتحن. وقد سألني الممتحن الإنجليزي في العام السابق عن معالم القاهرة التي زرتها؟ وكان كلما سألني عن أثر من آثارها أو موقع من مواقعها أجبت بأنني لا أعرفه، فظنني أتهرب من أسئلته وأسقطني. تملكني الخوف وأوردني مهالك القنوط، ووجدتني لأول مرة ألقي على الحياة نظرة عامة شاملة متأثرا خط الحياة من البداية إلى النهاية، حتى لم أعد أرى منها إلا البداية والنهاية، متعاميا عما بين هذا وذاك .. ميلاد وموت، هذه هي الحياة! وقد فات الميلاد فلم يبق إلا الموت .. سأموت وينتهي كل شيء كأن لم يكن، ففيم تحمل هذا العناء؟! فيم أكابد الخوف والضيق والوحشة والجهد والامتحان؟! وازدحمت برأسي ذكرياتي المحزنة عن الحياة التي أحياها .. امتحان لا حيلة لي فيه ثم سقوط فسخرية مريرة، حرمان من أفراح الحياة التي يحظى بها التلاميذ. دعاؤهم لي بالأبكم، رميهم إياي بثقل الدم، حتى رآني تلميذ مرة قادما، وكان قريبا من باب مسجد المدرسة فكور كفه على أذنه كأنه يدعو للصلاة وصاح في وجهي منشدا «يا ثقيل الدم!» وقهقه الآخرون ضاحكين. وأذكر أن مدرسا أراد يوما أن يختبر معلوماتنا العامة، فلما جاء دوري ووقفت مبهوتا لا أجيب عن شيء، سألني عن اسم رئيس الوزراء؟ ولازمت الصمت، فصاح بي: «هل أنت من بلاد الواق؟!». كانت مناسبات الإضراب كثيرة، ولكني لم أشترك في مظاهرة على الإطلاق، وقد أضربت المدرسة يوما وخرجت في مظاهرة عن بكرة أبيها، إلاي، فقد تخلفت في الفناء مرتبكا خائفا على كوني من أكبر التلاميذ سنا، ورآني على تلك الحال مدرس عرف وقتذاك بوطنيته فقال لي معنفا: «لماذا خرجت عن الإجماع؟ أليس هذا الوطن وطنك أيضا؟!»، ووجدتني في حيرة شديدة بين تعنيف المدرس وبين وصايا أمي التي تحلفني كل صباح على اتباعها. يا لها من ذكريات خليقة بأن تفقد الحياة كل قيمة! أليس في الموت غناء عن هذا كله؟ بلى، وإني لأتمنى الموت. وملأت تلك الأفكار علي شعاب قلبي، فأجمعت على أن أرمي بنفسي إلى النيل .. وعندما أتى المساء صليت طويلا، ثم نمت ويدي قابضة على يد أمي، وأنا أظنني في عداد الأموات. وجعلت في الصباح أسترق النظر إلى وجه أمي في خوف وحزن، وأثر في نفسي هدوءها وجمالها، فغالبني شعور بالبكاء، وأكربني ألا أستطيع توديعها، وساءلت نفسي في إشفاق: كيف تتلقى الصدمة؟ وهل تطيق الصبر عليها؟ سأكون المسئول عن تكدير هاتين العينين الصافيتين، وتجعيد صفحة هذا الوجه المنبسط، وزوال هذه الطمأنينة إلى الأبد، ثم خفت الخور فجأة فأمدني اليأس بقوة جديدة، وحفزني إلى الهرب. وأتيت على قدح الشاي وعيناي لا تفارقان وجهها، ثم حييتها وغادرت الحجرة منقبض الصدر مرير النفس، وركبت الحنطور، وألقيت على البيت نظرة وأنا أغمغم: «الوداع يا أماه، الوداع يا بيتنا العزيز!» وانطلقت العربة حتى طالعني جسر الملك الصالح فدق قلبي بعنف حتى شق علي التنفس. ينبغي أن ينتهي الآن كل شيء .. دقائق معدودات ثم الراحة الأبدية. ولم يكن لدي علم عن عذاب المنتحر في الآخرة، فلم أشك في أني أستهل حياة مطمئنة. واقترب الجسر رويدا، وراح توقيع سنابك الخيل يصك قلبي، ولاحت مني التفاتة إلى النيل، فرأيت لآلئ تنتشر على صفحته الدكناء، وخلتني أتخبط على أديمه، والأمواج الهادئة الصامتة تتقاذفني بغير مبالاة، مطمئنة إلى نتيجة الصراع. وتوثبت لما عقدت العزم عليه بجنون، فغاب عن خاطري كل شيء في الحياة، فهتفت بالحوذي العجوز وهو ينعطف إلى الجسر: قف!
فشد الرجل على الزمام وتوقفت العربة، فغادرتها متعجلا وأنا أقول له: اسبق إلى نهاية الجسر وسألحق بك مشيا على الأقدام.
وانتظرت ريثما ابتعد عني عدة أذرع، ثم ملت إلى سور الجسر، وأشرفت على النهر بقامتي الطويلة، وحادثت نفسي قائلا: يقولون إنني لا أحس شيئا في الحياة .. ولكنني سأفعل الآن ما لا يسع أحدا الإقدام عليه! وألقيت على الماء نظرة متحجرة، وتمثل لي ما سأفعله بسرعة البرق .. ينبغي أن يتم كل شيء في ثوان وإلا أفسد علي تدخل المارة غرضي، أتسور السور ثم ألقي بنفسي، ولن يستدعي ذلك مع حزم الأمر إلا لحظات. وانقبض قلبي وأنا أنظر إلى الماء الجاري، وقد بدا تحت النظرة العمودية سريعا صاخبا فدار رأسي. واحد .. اثنان .. وسرت في بدني قشعريرة، ترى ما إحساس الإنسان إذا هوى من شاهق؟ .. وكيف يكون اصطدامه بالماء؟ وكيف إذا غاص تحت لجته؟ ومتى يخلص الإنسان من عذاب الغرق؟! وشدت قبضتي على حافة السور، وتقلصت ساقي، وقلت بلساني أن سينتهي كل شيء حالا، ولكني كنت في الواقع أتراجع وأتقهقر وتخور قواي؛ هزمتني الخواطر والتصورات التي اعترضت عزمي. لا ينبغي للمنتحر أن يفكر أو يتخيل؛ لقد تفكرت وتخيلت فانهزمت. واشتد خفقان قلبي، وتراخت قبضتاي عن السور، ثم تحولت عنه متنهدا كالذاهل. وحملتني ساقاي المخلخلتان إلى نهاية الجسر حيث تنتظر العربة، فركبت، واستلقيت على المقعد في إعياء حتى غالبتني رغبة في النوم.
نامعلوم صفحہ