وانعقد لساني حياء وخجلا، وربتت هي على خدي لتسري عني، وقالت بصوت ينم عن العتاب: يا لك من طفل جحود! ألا تستأهل تضحيتي في نظرك كلمة شكر؟ .. أتراك تذكرها فيما يقبل من العمر أبدا؟! .. لتتزوجن يوما ولتغادرني وحيدة بلا رفيق ولا أنيس!
وقطبت ساخطا، وقلت بحماس: لن أفارقك ما حييت.
عبثت بشعري مبتسمة، ولاحت في عينيها الجميلتين نظرة ساهمة.
11
سارت حياتي المدرسية في بطء وتثاقل يدعوان لليأس، فبلغت الرابعة عشرة وما جاوزت السنة الثالثة الابتدائية، وكان جدي يقول متأففا: متى تقبل على الدراسة بهمة ونشاط؟ متى تعرف واجبك؟ ألا ترى إذا اطردت دراستك على هذا المنوال فستنتهي منها وقد استوفيت سن المعاش؟!
ولشد ما كانت تأسى أمي لذاك التهكم المر، وكانت تسأله دائما ألا يلقيه في وجهي؛ أن تنكسر نفسي فأزداد بلادة، أو تقول له: الذكاء من عند الله، وحسبه ما جمله به من كريم الخلق، لأنه كالعذراء حياء وأدبا!
وكان أن كابدت حياتي تطورا خطيرا لا أذكر متى بدأ ولا كيف بدأ، وأخشى أن يكون الخيال قد زور منه أمورا على الذاكرة. دبت في النفس والجسم يقظة غريبة، سرت في أطرافي قلقا واضطرابا. طافت بي في وحدتي أحلام جديدة، وغيبني في المدرسة شرود ركز شعوري كله في نفسي. وكنت إذا انطلقت بي العربة من المدرسة إلى البيت سرحت طرفي في آفاق السماء، وبنفسي لو أحلق إلى ذراها المتلفعة بتلك الزرقة الغامضة. ولشد ما انتابتني الكآبة وغشيني الكدر، فروحت عن قلبي بالدمع الغزير. ولا أنسى الأشواق الغامضة، والمخاوف المجهولة، والأنات المهموسة، والشعيرات النابتة. رباه إني كائن يتمخض عن حياة مخوفة مجهولة، تعبث بي شياطينها في النهار والليل، في اليقظة والأحلام.
واكتشفت بنفسي - تحت ضغط تلك الحياة - هواية الصبا الشيطانية، لم يغرني بها أحد؛ إذ كنت معدوم الرفاق، فاكتشفتها أول مرة في حياة البشر، واستقبلتها بالدهشة واللذة، ورضيت بها عن كل شيء في الوجود، ووجدت فيها أنسا لوحدتي الغريبة، وعكفت عليها في إدمان، وراح خيالي يقطف لي من صور المخلوقات ما أزين به مائدة العشق الوهمية.
ومن عجيب أن خيالي في عشقه لم يعد دائرة الخوادم بالمنيل اللاتي يسعين حاملات الخضر والفول. ولم تكن تلك ظاهرة عارضة ثم ولت، إنها سر دفين، أو هي داء دفين. كأني موكل بعشق الدمامة والقذارة! إذا طالعت وجها ناضرا مشرقا يقطر نورا وبهاء ملكني الإعجاب، وبردت حيوانيتي، وإذا صادفني وجه دميم ذو صحة وعافية أثارني وتملكني، واتخذته زادا لأحلام الوحدة وعبثها. وأفرطت إفراط جاهل بالعواقب. وخيل إلي جهلي المفرط أن أحدا سواي لا يدري بها، حتى سمعت يوما - في فناء المدرسة - بعض التلاميذ يتقاذفون بها في غير حياء؛ فانزعجت انزعاجا فظيعا وتولاني خجل أليم. ومنذ تلك الساعة أمضني الألم، وكدر صفوي تأنيب الضمير والشعور بالذنب .. ولم يكن ذاك ليصدني عن ممارستها، فقضيت وحدتي في لذة جنونية سريعة يعقبها نكد طويل.
وكانت تسطع في أيامنا الرتيبة ساعات باسمات فتزورنا أسر من الجيران والأقارب؛ سيدات وبنات في سن الصبا، وربما قدمت سيدة بنتها على سبيل المداعبة: هذه عروس كامل.
نامعلوم صفحہ