إهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
إهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
سنوات الثقب الأسود
سنوات الثقب الأسود
تأليف
حسين مهران
إهداء
إلى تلك السنوات الضبابية الغائمة التي لا أذكر ما كنت أفعل فيها.
إلى السنوات الجرداء الخالية من الذكريات وكأنها لم تكن.
إلى السنوات التي لم تضف إلي إلا بعض الشيب والكثير من الدهون.
قد كنت أحذر أن أشقى بفرقتكم
فقد شقيت بها لم ينفع الحذر
المرء في كل يوم يرتجي غده
ودون ذلك مخبوء له القدر
القلب يأمل والآمال كاذبة
والنفس تلهو وفي الأيام معتبر
السهروردي المقتول
شاعر وفيلسوف صوفي (1155-1191م)
الفصل الأول
يوليو 2018م
تستمر أعمدة الكهرباء في التوالي بسرعة خاطفة عبر زجاج نافذة القطار، متطابقة كلها، متكررة لا نهائيا في إيقاع يثير الملل ويعرقل استغراقه في مراقبة مشهد الحقول المنبسطة في وداعة وخمول من شريط السكك الحديدية حتى تخوم البيوت الريفية البعيدة، لطالما سحرته هذه الأراضي الشاسعة التي لم تزل خضراء رغم أن كل ما حولها قد صار رماديا كالحا. لم تزل سخية خصيبة منذ قديم الأزل، قبل أن تكون هناك بيوت ريفية، وقبل أن تخترق القضبان الحديدية والقطارات الثقيلة صفحتها الهادئة، وقبل أن تشوه جمالها تلك الكتل الخرسانية القبيحة التي تناثرت داخلها في عشوائية وقحة كطفح جلدي لا شفاء منه. كانت تلك الأعمدة المتوالية اللعينة تفسد عليه متعة السكون في حضرة هذا الجمال، وكانت ثرثرة المسافرين وأصوات رنين هواتفهم الفجة تفسد يومه كله، وتثير أعصابه المثارة أصلا من قبل أن يستقل القطار الفاخر الجديد من محطة قطارات العاصمة الرئيسية بميدان رمسيس قاصدا الإسكندرية في مهمة عمل ثقيلة على قلبه. لقد أضحت كل مهام العمل ثقيلة على قلبه منذ زمن لم يعد يتذكر متى بدأ، لكنه يتذكر دائما أنه قد ضاق بهذا العمل، وأنه قد مل أيامه المتطابقة المتوالية في تكرار سقيم كتلك الأعمدة الغبية على جانب شريط السكك الحديدية.
أخرج هاتفه المحمول من جيبه وفتح غطاءه الجلدي الرمادي ثم أخذ يحرك إبهامه على الشاشة بحركة آلية متنقلا بين تطبيقات التواصل الاجتماعي المزعجة تلك. الكثير من التنبيهات كما هو المعتاد، زملاء عمل، عملاء قدامى، أقارب بعيدون، زملاء دراسة لا يكاد يتذكرهم، جميعهم يرفع الكلفة ويدس أنفه بمنتهى الأريحية في أدق تفاصيل حياته. لا يكاد يكتب خاطرة مرت برأسه أو ينشر صورة هنا أو هناك إلا وتنهال عليه التعليقات؛ هل اشتريت سيارة جديدة؟ لم تقل لي إنك مسافر إلى أوروبا. لماذا يرتدي ولدك سلسلة ذهبية؟ لا تجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. لا تترحم على هذا الرجل الذي مات بالأمس؛ ألا تعرف أنه غير مسلم؟ أتعجبك مقالة هذا الإخواني حقا؟ لقد صدمت فيك يا رجل! هل أصبحت تؤيد العسكر الآن؟ ألا ترى إلى أين يذهب هذا الرجل بالبلاد؟ يكره اختراق خصوصيته بهذا الشكل الفج، ويكره المتطفلين ويكره المتطرفين، ولا يحب مناقشة قناعاته وتفاصيل حياته هكذا على الملأ؛ لأنه ببساطة لا يعبأ بما يعتقده الآخرون عنه. في كل مرة ينقر إصبعه على زر الإرسال في أي من تلك التطبيقات اللعينة كان يعرف جيدا أنه سيندم على ذلك. أغلق غطاء الهاتف وأعاده إلى جيبه وعاد إلى تأمل المشهد بالخارج، لم تزل الأعمدة اللعينة تتوالى بلا انقطاع.
لم يعد قادرا على تحمل كل ذلك الإزعاج البصري القادم من الخارج، والإزعاج السمعي الذي بلغ منتهاه بالداخل بهذين المراهقين اللذين لم يتوقفا عن المزاح المبتذل بصوت مرتفع، بينما هما يستمعان لأغان مثيرة للغثيان عبر هاتفيهما المحمولين في ذات الوقت، لم يبد على أهلهما أي مبالاة بما يسببه ولداهما من إزعاج لبقية المسافرين الذين لم تبد عليهم كذلك أي علامة عن الامتعاض، وكأنما هناك اتفاق ضمني غير معلن على حق الجميع في ممارسة الإزعاج. يمكن أن يفقد الناس في هذا البلد كل حق آخر، لكنهم لن يفرطوا قط في حق ممارسة القبح بكل حرية.
نهض من كرسيه وتناول سترته المعلقة بجوار النافذة، ثم ارتداها معدلا ربطة عنقه متوجها ناحية مؤخرة العربة. كان يحرص دوما على حجز كرسي مفرد بالدرجة الأولى حتى لا يكون بجواره كرسي آخر ربما يجلس عليه من يمكن أن يضايقه، وبما أنه بات مؤخرا يتضايق من غالبية البشر فقد أراد أن يتخلص من ذلك الاحتمال. سار ببطء حتى مؤخرة العربة متأرجحا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد مع اهتزازات القطار السريع على القضبان، فتح باب العربة ليفاجئه الهواء الحار المشبع بدخان التبغ الكثيف والضوضاء المزعجة الناتجة عن صرير العجلات الثقيلة وارتطامها الرتيب بين فواصل القضبان الحديدية. كان ذلك الباب يفصل بين ركاب العربة الفاخرة وبين كل ذلك الأذى، لكن ماذا بوسعه أن يفعل إن كان أذى الركاب أنفسهم أشد؟ لم يكن يدخن ولم يكن يحتمل رائحة التبغ بهذه الكثافة، لكنه أراد قتل بعض الوقت والهروب من الملل والإزعاج بالداخل؛ فقرر أن يقضي بضع دقائق في تلك المساحة الشحيحة بين عربتين فاخرتين من قطار سريع يقطع المسافة بين المدينتين الأكبر في البلاد دون التوقف في أي محطات.
سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية التي تكدس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ، حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرة إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله؛ صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا، لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.
بات في وسعه الآن التعرف على ملامح وجوه الموجودين بالمكان، وصارت رئتاه متعايشتين مع ذلك الهجوم الخاطف غير المعتاد من الدخان. كان بجوار الباب على الجانب الأيسر رجل أشيب محني الظهر يضيق وجهه بالتجاعيد العميقة، ويرتدي ثيابا قديمة الطراز يبدو أن جسده قد نحل كثيرا عما كان عليه في الزمن الذي اشتراها فيه. كان الرجل ذاهلا عن الدنيا محملقا في فراغ بعيد عبر النافذة، رافعا يده اليمنى بسيجارة بدا أنه قد نسيها؛ فقد كانت تكاد تسقط منها كتلة من الرماد التهمت أكثر من نصف السيجارة. وعلى الجدار المجاور له يستند بظهره شاب طويل القامة في بدلة رسمية يعبث بيد في هاتفه المحمول ويدخن سيجارة بالأخرى. أما على الجانب الأيمن المواجه للشمس فقد وقف رجل في مثل طوله مواجها للنافذة فلم يتبين وجهه، وإن كان قد بدا له مألوفا لسبب لم يعرفه. أغراه الفضول بالانتظار قليلا؛ لم يكن هناك كذلك ما يفعله بالداخل، وكانت الرحلة لم تزل في بدايتها.
انتبه الشاب الطويل إلى وجوده بعد أن رفع نظره لأول مرة عن شاشة هاتفه، ثم نظر نحوه في فضول؛ بعدها ابتسم في ود وهو يدس الهاتف في جيب سترته ثم يمد يده داخل الجيب الآخر مخرجا علبة سجائر أجنبية. فتح العلبة ووجهها ناحيته قائلا في نبرة مرحة: يبدو أنك نسيت سجائرك؛ تفضل واحدة.
ارتبك للحظة ثم أجاب وقد ابتسم بدوره في امتنان: لا لا، أشكرك على ذوقك. أنا لا أدخن.
أردف الشاب في إصرار: يا «برنس»، إذا لم تكن مدخنا فما الذي جاء بك إلى هذا المكان الضيق المعبق بالدخان؟ تناول سيجارة ولا تخجل!
أجاب في بعض الضجر وقد ساءه هذا الرفع غير المبرر للكلفة: شكرا، أنا فعلا لا أدخن.
كان الرجل الأشيب لم يزل مستغرقا في شروده وإن انتبه أخيرا لسيجارته فسحب منها نفسا شديد العمق ربما ليعوض ما فاته منها، أما الرجل المواجه للنافذة على الجانب الآخر فقد استدار بغتة وكأنما انتبه للصوت. كان قرص الشمس الآن في ظهره تاركا وجهه في ظلمة يصعب معها التحقق من ملامحه، لكنه لم يزل يجد فيه شيئا مألوفا كأنما قد التقاه من قبل في مكان ما. كان الآخر الذي لا تظهر ملامح وجهه جيدا قد وقف متسمرا في مكانه محدقا ناحيته؛ هنا بدا له كشخص يعرفه جيدا لا كأحد من التقى بهم لقاء عابرا. حاول التذكر، حاول ربط هذه الهيئة والملامح غير الواضحة بأي خيط في عقله لكنه لم يفلح، اقترب الرجل منه ببطء مبتعدا عن النافذة وعن ضوء الشمس الذي كان يحجب ملامحه فبدأ يظهر وجهه رويدا رويدا. كان يعرفه، يعرفه جيدا وهو واثق من ذلك، لكنه لا يدرك من هو. فجأة توقف الرجل الآخر الذي بدا هو الآخر بدوره مذهولا ومتأملا ملامحه. قال الرجل الآخر في صوت مرتجف وإن بدا له مألوفا كذلك: غير معقول! من أنت؟
أجاب وقد كاد الفضول يقتله: نحن ... نعرف بعضنا البعض بالتأكيد يا أستاذ، لكنني غير قادر على التذكر بالضبط.
قال الرجل الآخر بنبرة مرتعبة وما زال صوته مألوفا: ياسين عمران؟
أجاب بسرعة: نعم أنا ياسين عمران بالفعل. لكن من أين تعرفني حضرتك؟ هل يمكنك أن تذكرني باسمك؟
ساد السكون لثوان قليلة مرت عليه كدهر كامل قبل أن ينطق الرجل الآخر دون أن يقل ما في نبرة صوته من رعب: أنا ياسين عمران.
صحراء
حرارة الصحراء قاتلة، وهدوءها قاتل كذلك، كثبان رمالها ساخنة وغزيرة كمحيط لا نهائي، صامتة وغامضة، لا تبوح بأسرارها ولا تكشف دخائلها، تبدو لمن لا يخبرها بحق ميتة منذ دهور، رغم أنها في الحقيقة تموج بالحياة وتتصارع بداخلها كائنات لا يدرك حصرها إلا خالقها. الصحراء كالمحيط، كلاهما ليس كما يبدو على الإطلاق، كلاهما عالم قائم بذاته، كلاهما صامت وغامض، وكلاهما قاتل.
في منتصف اللامكان وقفت منتصبة شامخة رغم ما يظهر عليها من إرهاق يفضحه ذلك الشحوب الواضح، في موضع لا يمكن وصفه إلا بأنه مكان ما وسط الصحراء، لا تميزه علامة، ولا شيء فيه مختلف عن بقية المواضع؛ في الصحراء كل المواقع متشابهة، وكل الرمال متطابقة، لا تتميز حبة رمل عن مثيلاتها، ولا تختلف شجرة بعينها عن بقية الشجر. كانت مستقرة في موضعها المبهم ذاك منذ سنوات طويلة، تمر عليها فصول ومواسم، تلفحها شمس قاسية لشهور طويلة، وتعصف بها ريح باردة في بعض ليالي موسم الشتاء القصير، يصيبها نزر يسير من ماء السماء المبارك مرة كل شتاءين أو ثلاثة. تتبدل عليها أقمار كثيرة، ليال مضيئة حميمة وأخرى مقفرة حالكة الظلام، تتبدل الأحوال حولها وهي كما هي، لا يتبدل فيها إلا مولد القليل من الأوراق الجديدة على أغصانها بعدما ترتوي ببعض قطرات المطر الشحيح، وتساقط أوراق أخرى عندما لا تحتمل قسوة الجفاف، تظل باسقة في ثبات بجذعها الباهت المتشقق وأغصانها المتعبة وأوراقها الشحيحة، لا يؤنس وحشتها في تلك الأرض المقفرة إلا جاراتها من الأشجار المتناثرة بغير ترتيب كيفما توافقت الظروف. وكائنات الصحراء البائسة من زواحف وقوارض وحشرات حكم عليها - ربما بجريرة خطيئة ما ارتكبها أسلافها القدماء - بالحياة حيث يصبح إيجاد قوت اليوم حلما بعيد المنال، ثم تلك الطيور الهزيلة شاحبة اللون التي تتقافز بين الأغصان لاهثة. كان ذلك الطائر الصغير ذو الريش كاحل السواد، والمنقار الأصفر المنفرج دائما في شهور الصيف ربما من شدة العطش هو أزهى ما في المشهد كله، كان ينشر البهجة في ذلك المشهد المقفر بقفزاته بين الشجيرات وبتغريداته التي تتصاعد عندما تلتقي جماعات منه على أغصان الشجر في نهاية النهار بعد يوم حار، كان هو الكائن الوحيد ذا اللون الواضح بين عناصر كلها صفراء أو مائلة للصفرة أو بلا لون محدد.
الفصل الثاني
يوليو 2018م
لم يدرك أي من الرجلين كم مر عليهما من الوقت ساكنين، متواجهين، محدقين كل منهما في وجه الآخر. كانا خارج المكان والزمان معا، يجاهد كل منهما لكي يستوعب حقيقة الأمر. كان كل منهما يقف أمام نفسه، كان كلاهما ياسين عمران ذاته، كان كل منهما ينظر إلى نفسه في هيئة رجل آخر. يمكن لكل شخص بالقطع أن يتعرف على صورته عندما يراها في مرآة، لا يمكن لأحد أن يخطئ نفسه؛ لذلك كان كل منهما على يقين كامل بأنه ينظر إلى نفسه، لا إلى شبيه له أو توأم أو مستنسخ، بل إلى نفسه بذاتها. وكان ذلك ما تركهما ذاهلين كأنما كان كل منهما يحدق في وجه ملك الموت.
لم يكونا متطابقين في الهيئة رغم ذلك لمن ينظر إليهما للوهلة الأولى، كانا في أواخر الأربعينيات من العمر، في نفس الطول وبنفس ملامح الوجه بالضبط، نفس العينين والأنف والشفتين، وكانت علامات الكهولة قد بدأت تظهر على كليهما بدرجات متفاوتة قليلا؛ كان جسد الأول أسمن بعض الشيء وأكثر ترهلا، بينما كان للثاني جسد يبدو عليه أثر الاعتناء والمواظبة على الرياضة، وإن ظل مع ذلك جسد كهل لا جسد شاب. كان للأول كرش واضح وإن لم يكن كبيرا، بينما كان بطن الثاني مشدودا بشكل مقبول بالنسبة لمن هم في مثل عمره. كان الشيب متناثرا في رأس الأول، لكن اللون الأسود ظل هو المسيطر، بينما غزا الشيب رأس الثاني بالكامل تقريبا فلم يتبق من السواد الكثير. كان الأول حليق اللحية والشارب بعناية، قصير الشعر في قصة رسمية وقورة، يضع على عينيه اللتين أحاطت بهما تجاعيد دقيقة وهالات داكنة نظارة طبية أنيقة ذات عدسات رقيقة بلا إطار، بينما كانت للثاني لحية قصيرة غير مهذبة بعناية، وقد بدت أقرب للمسة أناقة منها لرمز تدين، وشارب قصير وشعر لامع متوسط الطول ملتوي الأطراف ومصفف للخلف، وكان جلد وجهه أكثر صفاء ونضارة من الآخر. كان الأول في بدلة عمل رسمية رمادية وقميص سماوي تعلوه ربطة عنق يغلب عليها لون الدم القاني، وحذاء جلدي أسود ملمع بعناية، وفي معصمه ساعة ثمينة كلاسيكية الطراز من المعدن الفضي، بينما كان الثاني يرتدي فانلة قطنية بيضاء غير مكوية جيدا، وعليها شعار كبير لفريق كرة سلة أمريكي شهير، وبنطلونا قطنيا واسعا كثير الجيوب من النوع الذي يرتديه السياح والمغامرون، وحذاء رياضيا خفيفا، وكانت في معصمه ساعة إلكترونية ضخمة تزدحم بالكثير من المؤشرات كما لو كانت تستخدم للتحكم في طائرة. بشكل عام كانت الفروق بينهما شكلية؛ فقد كان الأول مسافرا في مهمة عمل، بينما كان الثاني على ما يبدو في عطلة، كما كان واضحا أن الثاني أكثر اهتماما بصحته ورشاقته، وربما كان يمارس الرياضة ويلتزم بنظام طعام صحي، أما فيما عدا ذلك فقد كان من السهل ملاحظة الشبه الكبير بينهما.
كان الثاني هو أول من كسر حاجز الصمت الطويل عندما خرج صوته أخيرا وكأنه قادم من أعماق مغارة سحيقة قائلا في مزيج من الدهشة والصدمة والفضول: كيف؟! هل تعني أن كلينا شخص واحد؟!
أجاب الأول بعد أن أطرق برهة ليفكر فيما يمكن أن يرد به على أغرب سؤال وجهه له مخلوق في حياته كلها: لست أفهم شيئا! هل أنت حقيقي أم جن أم ماذا؟!
نظر إليه الثاني في اندهاش - وكأنما لم يدهشه كل ما سبق كما أدهشه هذا السؤال - وأجاب في سخرية وهو يتلمس وجهه بكف يده: والله أنا متأكد تماما من أنني حقيقي، فماذا عنك أنت، هل أنت حقيقي أم أنك جن؟!
عادا للتحديق في وجه بعضهما البعض مرة أخرى، ربما كان كل منهما يحاول استكشاف وجه الآخر للوصول إلى حقيقة تلك الخدعة، كانت التساؤلات الدائرة في ذهن كل منهما في تلك اللحظة متطابقة؛ أين الخدعة؟ أهي مزحة ما؟ هل تكون هذه حلقة من أحد برامج المقالب التليفزيونية السخيفة تلك؟ هل هو حلم؟ أم إيحاء؟ أم هلاوس وضلالات؟ كلاهما كان مرهقا بالفعل لعدة أيام سابقة، ولكن هل يمكن أن يكون قد فقد السيطرة على عقله لتلك الدرجة؟ كانت التساؤلات لا نهائية، وكذلك كانت الاحتمالات، فقط احتمال واحد لم يكن متصورا أو مقبولا لدى أي منهما بأي حال رغم أنه كان - وحده دون سواه - هو الحقيقة، كان كلاهما حقيقيا، وكان كلاهما ياسين عمران بذاته.
نطق الأول هذه المرة حين حلت على رأسه فكرة ظن أنه يمكنها أن تفك هذا الاشتباك فقال: حسنا، ماذا أفطرت هذا الصباح؟
بوغت الثاني بالسؤال ثم ضحك من الفكرة فأجاب ببساطة: أنا لم أفطر هذا الصباح، فقط أخذت بعض القهوة قبل مغادرتي لكي أستطيع التركيز؛ لأنني استيقظت متأخرا وخفت أن يفوتني القطار إن بقيت لتناول الإفطار.
أجاب الأول في حيرة وهو يطرق إلى الأرض: أما أنا فأفطرت جيدا كعادتي عندما أكون مسافرا!
رد الثاني وقد لمعت عيناه بفكرة أخرى: أنا كذلك معتاد على أن أفطر جيدا عندما أكون مسافرا، لكنني كما أخبرتك استيقظت اليوم متأخرا ولم يكن لدي الوقت. اسمع، سأسألك عن أحداث قديمة بعض الشيء، فلنحاول الوصول إلى شيء ما مشترك بيننا يفسر هذا الوضع العجيب.
أجاب الأول في فضول وقد بدأ يتحمس لتلك اللعبة: لا بأس. اسأل.
فكر الثاني لثوان قليلة ثم قال في حماس: حسنا. الامتحان الذي ضبطت فيه متلبسا بالغش.
أجاب الأول بسرعة: امتحان إدارة الأعمال في السنة الثالثة بالكلية، مادة الدكتور مصطفى عبد القادر، وقد انتقلت إلى السنة الرابعة وأنا راسب في هذه المادة.
تسمرت حدقتا عيني الثاني واكتسى وجهه بالرعب ثم قال في نبرة منهارة: لا يعلم أي مخلوق شيئا عن هذه الحادثة! لم أحك عنها لأحد قط حتى إنني اعتقدت أنني نسيتها! في البيت أخفيت عن أبي وأمي القصة كلها، حتى الزملاء لم يروا ما حدث لأنني كنت في آخر صف من القاعة ولم تصدر المعيدة التي ضبطتني أي صوت عندما سحبت مني الورقة. لقد تظاهرت يومها بمغادرة اللجنة طواعية كأنني انتهيت من الإجابة. استغرب الزملاء فقط خروجي مبكرا، وأفهمتهم فيما بعد أنني لم أكن أجد ما أكتبه. لكن لم يعرف أي منهم شيئا عن حادثة الغش!
كان الأول يستمع وهو في حالة بين الذهول والحيرة، كان ما يقوله الثاني صحيحا، وكانت التفاصيل التي ذكرها دقيقة ولا يعلمها غيره، أو غيرهما، لا يعلمها إلا ياسين عمران وحده بالتأكيد. - حسنا، وفريدة؟
قالها الثاني فجأة وكأنما تذكر أمرا هاما. رفع الأول رأسه إليه متطلعا في حيرة بالغة ثم أجاب: نعم صحيح! كيف لم أنتبه لذلك؟! لا يمكن أن تكون أنت أيضا قد تزوجت فريدة! إذن ماذا عن أطفالي هؤلاء! أبناء من يك...
قاطعه الثاني في حدة لا تخلو من عصبية: ماذا؟! أنت تزوجت فريدة؟!
أجاب الأول في حيرة بادية: ما ... ما الذي يعنيه هذا؟ أليس المفترض أننا واحد؟
أجاب الثاني في نفس الحيرة مع مسحة من الأسى: أنا لم أتزوج فريدة! بل إنني لم أرها قط منذ آخر لقاء لنا في العجمي! يوم ذلك الحفل على شاطئ بيانكي قبل سنوات طويلة. كيف تزوجتها أنت إذن؟! ومتى؟
وضع الأول كفيه على رأسه كأنما يمنعه من الانفجار، ثم قال محاولا التمسك بما بقي له من هدوء: أنا تزوجت فريدة بعد لقاء العجمي ذلك بسنتين تقريبا، لا ... سنتان بالضبط. ألم يكن ذلك اللقاء يوم ذكرى مولدها؟ لقد تزوجنا في ذكرى مولدها كذلك لكن بعد ذلك اليوم بسنتين! لكن، كيف يكون ذلك؟ ألم تكن أحداث حياتنا متطابقة؟! ألم تتزوج أنت؟
رد الثاني وقد تحولت مسحة الحزن في نبرة صوته إلى الصدمة: بلى تزوجت بعد ذلك اللقاء بخمس سنين، لكنني تزوجت امرأة أخرى وأنجبت منها بنتين.
أجاب الأول: أما أنا فطلقت فريدة؛ انفصلنا بعد زواج دام سبع عشرة سنة، أنجبت لي ولدين وبنتا.
قالها بنبرة من الأسى الواضح، بينما ظل الأول ينظر إليه نظرة تحمل الكثير من المعاني لدرجة أنه لا يمكنك تمييز ما تعنيه بالتحديد. صمت الأول لبرهة ثم قال بنبرة معاتبة: طلقت فريدة؟!
فهم الأول مغزى تلك العبارة فواجهه محدقا في عينيه ثم قال ببرود: وأنت، تركت فريدة وهربت؟
صحراء
كل ما هو غير مرئي أسفل مشهد الصحراء الباهت الظاهر للعيان هو ذاته ما يربط جميع الكائنات بتلك الأرض، كان كل ما يجعل تلك الصحراء وطنا للجميع مختفيا تحت سطحها المرئي، لا تدركه الأبصار؛ فالشجر تضرب جذوره المتشعبة في عمق الرمال كأنما يغرس كيانه داخل الأرض، ليس فقط بحثا عن الماء الشحيح أو عن الدفء، بل بحثا عن الأمان، وتشبثا برفات أسلاف سبقوا في ذات المكان ولم يعد يتبقى منهم إلا ذرات مدفونة في أعماق الرمال تحمل رائحتهم وتبعث الطمأنينة في كيان الأحياء. كان الشجر يمد جذوره في أرضه عميقة قدر المستطاع، يكاد يصل بجذوره إلى نواة الأرض بحثا عن هويته وعن رائحة أسلافه. وكانت الزواحف تحفر جحورها في باطن الأرض بحثا عن المأوى الذي لم تجده على السطح حيث كل شيء معرض للانجراف مع تيارات الهواء. كان السبيل الوحيد للأمان والاستقرار مدفونا في عمق الأرض. كانت تلك الأرض - وإن رآها من لا يعرفها قاسية جدباء - هي الملاذ والأمان للجميع، كانت مصدر الخير والحياة للجميع، وكان في باطنها كذلك هوية وذاكرة الجميع.
الفصل الثالث
يوليو 2018م
كانا الآن جالسين على أرضية العربة متقابلين، مجاورين للباب ومستندين بكتفيهما إليه، كانا منفصلين تماما عن العالم الصاخب حولهما، لا يسمعان ضجيج العجلات ولا يشمان رائحة دخان التبغ، ولم يكن يلحظهما أحد كذلك. ظل الكثيرون من المدخنين يجيئون، يختطفون دقائق عابرة مع سجائرهم في صمت، ينفثون دخانها في الهواء ويحملقون بلا اكتراث في التكوينات التي يصنعها الدخان في الهواء ثم يغادرون عائدين إلى الداخل دون أن ينتبه أي منهم إلى الشخصين - أو إلى النسختين من نفس الشخص - الجالسين على الأرض بجانب باب العربة يحدقان في بعضهما البعض أكثر مما يتبادلان الكلمات. لم يلحظ أي من أولئك العابرين الشبه بينهما؛ ربما لاختلاف هيئتهما، أو ربما لأنه ببساطة لم يكن أي من المدخنين العابرين ليشغل نفسه بمقارنة وجوه مسافرين لا يعرفهم في مساحة تدخين ضيقة بين عربات قطار سريع.
كان حديثهما قد تحول إلى ما يشبه الدردشة بين صديقين قديمين التقيا بالمصادفة، كان كل منهما يبحث عند الآخر عن إجابات لأسئلة تخصه هو. قال الأول وهو لم يزل محدقا في وجه الثاني في محاولة دءوبة لاستكشاف شيء ما: ألا زلت تسمع المديح؟
ابتسم الثاني وقد لمعت عيناه من أثر دفقة الذكريات المفاجئة تلك وأجاب بنبرة فيها بعض الحماس: ليس كما كنت في الماضي، لكن نعم طبعا ما زلت. الحمد لله على نعمة الإنترنت على أي حال؛ أجد فيه كنوزا بالمصادفة من آن لآخر. هل تذكر أيام زمان؟ كان أحدنا يدور بالشهور هنا وهناك بحثا عن شريط عليه تسجيل ليلة أو حفل!
أجاب الأول مبتسما وقد سرح ببصره إلى السماء التي يراها من النافذة الزجاجية في أعلى الباب المقابل: هل تذكر شريط الشيخ التوني الذي سافرت أنا وشاذلي خصيصا لنحضره من قريبه ذاك في المدينة الجامعية بالمنصورة؟ يا إلهي! أين يا ترى هذا الشريط الآن؟
ابتسم الآخر بدوره وأجاب: أغلب الظن أنه قد ضاع أو انتهى به الأمر في سلة المهملات مثل غالبية مقتنياتي التي كانت في بيتنا القديم في بولكلي. لم يبق عندي من تلك الأشياء غير حفنة من صور لأبي وأمي، رحمهما الله.
رد الأول رافعا كفيه في الهواء كعلامة على الاستسلام: ثم إنك حتى لو وجدت الشريط، فهل يملك أي شخص جهاز كاسيت في هذه الأيام؟
أكمل الثاني في بعض الحماس: لقد وجدت تسجيل تلك الليلة للشيخ التوني على ساوند كلاود بالمناسبة. أنا على يقين من أن من رفع هذا التسجيل على الإنترنت كان قد حصل عليه من نفس الشريط الذي كنت قد أحضرته من قريب شاذلي هذا؛ نفس الأجزاء التي يشوبها التشويش، نفس المقاطع التي ينخفض فيها صوت التسجيل، نفس التوقيتات التي يصفق فيها الجمهور، وحتى نفس الأشخاص الذين يتحدثون ويهللون في الخلفية. لقد كنت أحفظ تفاصيل ذلك الشريط كما أعرف اسمي.
أجاب الأول في نبرة حزينة: أما أنا فلم يتبق لدي لا الوقت ولا الطاقة لكي أسمع أو لكي أبحث عن شيء بالمرة.
ثم أردف وقد تغيرت نبرته فجأة إلى المرح: هل تذكر عندما نسخت من ذلك التسجيل شريطا آخر لأشغله في السيارة لكيلا أخرجه من جهاز كاسيت البيت؟
أجاب الآخر بسرعة وبنفس المرح: أذكر بالطبع! لم يخرج ذلك الشريط من جهاز الكاسيت بالفعل حتى أحضرت الشريط الذي سجلته بنفسي من حفل الشيخ ياسين التهامي في مولد السيدة زينب.
صمت قليلا ثم بدأ ينشد وهو يتطلع إلى الفراغ:
من لامني في الحب يرم بسهمه
يصبح محزون الفؤاد عليل
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سيف نعم مسلول
ليكمل الآخر بنفس النظرة الساهمة:
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سم الأفاعي قليل
الحب عذب لا يذقه مقيد
بحدود شهوته ولا معلول
ساد صمت جميل لدقيقة أو نحو ذلك، صمت حالم، وكأن لم يرد أي منهما أن يقطع شريط الذكريات الدائر في عقله، أو في عقلهما معا. ثم قال الثاني وقد اتسعت ابتسامته ولمعت عيناه: الانتخابات الرئاسية! لا أقصد الأخيرة بالطبع، ولكن تلك السابقة التي كان فيها عشرة مرشحين.
أجاب الأول في فضول: ماذا عنها؟ آه، صحيح. أتقصد لمن أعطيت صوتي؟
أردف الثاني: ما زلت أذكر تلك المناظرة الانتخابية التي أذاعها التليفزيون. لقد كان حلما جميلا أفقنا منه على كابوس.
أجاب الأول مجددا وقد أثار الموضوع فضوله: دعني أخمن. لا يمكن أن تكون قد انتخبت أيا من المرشحين الإخوانيين أو أيا من أولئك اليساريين؛ ليس ذلك ياسين عمران بالتأكيد. أحمد شفيق؟ ربما، وإن كنت لا أرجح هذا الاحتمال.
قال الثاني في هدوء وثقة: لقد كان الاختيار واضحا في عقلي منذ البداية.
أجاب الأول بنفس اللهجة الواثقة: وكذلك أنا، حتى إنني لم أذهب للتصويت في جولة الإعادة.
حدق الاثنان في عيني بعضهما البعض لفترة ثم ابتسما وقد فهم كل منهما ما في عقل الآخر وقالا في نفس اللحظة: عمرو موسى!
ضحكا في صوت واحد ضحكا طويلا، ثم عادا إلى الصمت مرة أخرى، كانت تلك اللعبة قد استغرقتهما تماما حتى أخذ كل منهما يبحث في ذاكرته عن موضوع جديد يمكن أن يكمل به اللعبة المشوقة. سأل الثاني بعد برهة: لا تقل لي إنك لا تزال تلعب الكرة!
اتسعت ابتسامة الأول كذلك وأجاب في حماس: هذا هو الشيء الوحيد الذي لا أزال أفعله، وإن لم تعد لياقتي تسمح باللعب لفترات طويلة. يوجد بالقرب من بيتي ملعب كرة قدم خماسية، أذهب أنا ومجموعة من الأصدقاء للعب فيه مساء كل ثلاثاء، ما لم تستجد ظروف أخرى بالطبع.
رد الثاني في عدم اكتراث: أما أنا فنسيت حكاية الكرة هذه تماما؛ لأن دائرة معارفي الآن تهتم برياضات مختلفة ليست كرة القدم من بينها للأسف؛ أحافظ على لياقتي وأواظب على التمرين بالأثقال والجري وبعض التجديف عندما يسمح الطقس، لكن ليس كرة القدم.
ارتسمت على وجه الأول فجأة ملامح الجدية وسأل نسخته الأخرى: لم تقل لي أين تسكن ؟
انتبه الثاني فجأة كذلك وأخرجه هذا السؤال من خيالاته وذكرياته فارتسمت على وجهه نفس الجدية وأجاب: لقد هاجرت منذ زمن! تنقلت لسنوات طويلة بين أكثر من بلد؛ عملت في السعودية ثم انتقلت إلى الإمارات، ولكنني أعيش الآن في ضاحية من ضواحي تورونتو بكندا حيث استقر بي المقام أخيرا منذ سبع سنوات! لكن ألا زلت تعيش في الإسكندرية؟
سرح الأول ببصره خارج النافذة مرة أخرى ثم قال في نبرة تحمل تلالا من الإحباط: كندا! يا رجل! أتعرف أين ذهبت أنا يوم أن قررت الهجرة من الإسكندرية؟ ذهبت إلى القاهرة!
التفت إليه الثاني باستغراب شديد قائلا: لكنك لطالما حلمت بالعيش في كندا، أتذكر؟ بلاد الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص، لقد كان ذلك هو هدف حياتك منذ كنت في المدرسة الثانوية، ألا تذكر أيام كنت تراسل تلك الفتاة الكندية؟ ماذا كان اسمها؟ لا أذكر اسمها الآن لكنني أذكر أنها كانت تعيش في كيبيك، فقد كانت ترسل صورا كثيرة لمدينتها، وكانت تكتب بعض التعليقات أحيانا بفرنسية معقدة لم أكن أفهمها، كان ذلك أيام المراسلة بالخطابات البريدية! لكن لماذا لم تهاجر إذن؟ ما الذي حدث؟
كان الأول قد غاص أكثر وأكثر في سرحانه، فأجاب بعد برهة صمت وقد خرج صوته وكأنما كان صادرا من أعماق سحيقة: أتسألني ما الذي حدث؟ يبدو لي أنك أنت الذي حقق أحلامي! أنت من هاجر إلى كندا، أنت الذي يبدو كشاب في الثلاثين بينما يعتقد من لا يعرفونني أنني في الستين. إنك حتى الذي وجد تسجيل الشيخ التوني على الإنترنت! أما أنا فكل ما حققته هو أنني لا أزال ألعب الكرة مع الأصدقاء في الملعب المجاور لبيتي مساء كل ثلاثاء لنصف ساعة على الأكثر، هذا ما لم تستجد ظروف أخرى بالطبع.
صحراء
كان صباحا عاديا، لا يميزه شيء عن أي صباح آخر، تماما ككل ما في هذه الصحراء؛ شمس حارقة وظل مفقود وهواء حار ساكن ورمال ملتهبة، زواحف كسولة وطيور قليلة. لكنه بعد شروق شمس ذلك الصباح بساعات قليلة لم يعد كمختلف الصباحات؛ كان ذلك هو الصباح الأول في الزمن الجديد، اليوم الذي يمكن أن يؤرخ به تحول تلك الصحراء وتبدل الحال ورحيل الجميع، كان ذلك الصباح تدشينا رسميا لزمن الوحدة والخواء.
تردد في الصحراء الشاسعة صدى أصوات صاخبة، ضوضاء قبيحة ودخيلة على المشهد، لا تشبه حفيف الأغصان ولا تغريد الطيور ولا فحيح الأفاعي، أصوات أزعجت ساكني الصحراء الآمنين في وطنهم فهرعت الزواحف خارجة في ذعر من جحورها ورفرفت الطيور بعيدا، وحده الشجر المتناثر ظل واقفا لا يجد مهربا ولا يعرف لتلك الأصوات المقتربة معنى ولا تفسيرا. لا يملك الشجر سوى الانتظار، يغدو الجميع ويروحون ويبقى وحده الشجر منتظرا، لا يدري ماذا ينتظر، لكنه لا يكف عن الانتظار.
تبزغ في الأفق البعيد بوادر القادمين؛ كائنات ضخمة عجيبة الشكل والألوان، تزحف بسرعة وتصدر ضوضاء مقبضة، تفوح منها روائح كريهة وتملأ السماء بأبخرة داكنة كسحب من رماد. لم تشهد تلك الصحراء من قبل قدوم كائنات كهذه، ربما شهدت على فترات متباعدة ذئبا ضل طريقه أو ناقة شردت خلف قطيعها، لكن كائنات بهذه الضخامة والوحشية لم يسبق لها قط أن وطئت تلك الرمال.
صارت الصحراء الآن خالية من كل مظاهر الحياة فيما عدا الشجر، فمع حط تلك القافلة القبيحة رحالها هرعت البقية القليلة من الزواحف والطيور هاربة، مترقبة ما ستحدثه تلك الكائنات الهائلة في أرضها. لم يكن هناك أمل في قتالها بالطبع؛ فتلك معركة خاسرة لن يفلح فيها كل ما في أفواه الأفاعي من سموم، ولا كل ما على ظهور القنافذ من أشواك. ظل الجميع يتابعون من بعيد، وحدها - كالعادة - كانت الأشجار واقفة على خط المواجهة، في قلب المعركة، وكانت - كالعادة كذلك - أول من دفع ثمن ذلك.
الفصل الرابع
يناير 1992م
في المبنى المهيب المخصص للقسم الإعدادي بكلية الهندسة، حيث كان مكانهما المفضل على درجات أحد فنائي المبنى الخارجيين المنعزلين عن ضجيج الداخل وصخب الطلبة، كان ذلك الموقع مثاليا إلا حين كانت سماء الإسكندرية تغضب وتنذر بالبرق ثم تمطر بغزارة لا تجدي معها المظلات، ولا يبقى من سبيل لاتقاء غضبها إلا الهرولة إلى داخل المبنى الذي تدفئه أنفاس مئات الطلبة وملابسهم الشتوية. دقائق قليلة تنفث فيها السماء غضبها على المدينة، ثم تصالحها بشمس رقيقة دافئة تنشر البهجة في أفنية الكلية المفتوحة، وتزيد من سحر رائحة التربة المبللة والزهور الصفراء الصغيرة التي تنبت تلقائيا، وأشجار النخيل المغسولة لتوها بماء السماء المبارك. كان لعينيها تألق ساحر بعد المطر، كانت تبتهج وتمرح كطفلة وجدت حلواها المفضلة، كانت طاقتها الإيجابية تكفي لبهجة كل الكائنات في محيط الكلية وما حولها، كانت ابتسامتها هي النسمة الرطبة التي يشتاق إليها وسط جفاف معادلاته وجداوله ودراسته المرهقة للعقل والروح معا، كانت عيناها طاقتي الأمل اللتين يطل منهما على الدنيا، كانت محور حياته ونور روحه، لكنه لم يقل لها قط شيئا من ذلك!
أمام البهو الكبير لذلك المبنى العتيق رآها لأول مرة، كان قد اعتاد الحضور في أوقات فراغه الكثيرة بين محاضراته في كلية التجارة إلى كلية الهندسة - حيث يدرس بعض رفاقه - لقضاء الوقت معهم حين لا يكونون منشغلين حتى أذقانهم في تلك اللوحات الورقية الكبيرة التي يرسمونها، أو في دروسهم العملية وامتحاناتهم التي لا تنقطع.
قالت له وهي تناوله لفافة ورقية تغلف شطيرة منزلية الصنع من الجبن الأبيض وشرائح الطماطم: أتعرف أن هذا القميص الذي ترتديه اليوم هو نفس القميص الذي كنت ترتديه في أول مرة عرفتنا فيها رحاب إلى بعضنا البعض؟ أتذكر، أمام البهو الرئيسي؟
أجابها بتقطيب جبهته كمن يحاول التذكر، ثم ابتسم وقال في شيء من اللامبالاة جعلها تشعر بالحرج: أنا لا أذكر ما كنت أرتديه بالأمس يا فريدة، ولكن ربما تكونين محقة؛ فهذا القميص اشتريته من بورسعيد قبل عامين تقريبا.
أجابت وهي تحاول إخفاء حرجها: أنا متأكدة من ذلك بالطبع وأتذكره جيدا، كنت ترتدي هذا القميص ذاته ولكنه بدا عليك بشكل أفضل في تلك الأيام؛ فقد كان جسدك أكثر امتلاء، كنت تبدو رياضيا، وكانت لك ابتسامة رائقة. عرفت منذ النظرة الأولى أنك لا تنتمي لهذه الكلية؛ لم تكن تبدو عليك سمات البؤس والذعر التي ترتسم على وجوه طلاب السنة الإعدادية هنا.
أكمل ابتلاع آخر قطعة من الشطيرة التي كانت في يده ثم انتصب واقفا وقال في لهجة روتينية: هل تودين شرب الشاي من الكافيتريا أم ربما تفضلين الذهاب لتناول العصير من المحل المجاور للمكتبات في الخارج؟ أنا ذاهب على أي حال من ناحية بوابة المكتبات لأن صديقا لي سيمر علي بسيارته في طريقه للكلية، لدينا اليوم محاضرة مهمة في مادة المحاسبة سيحدد فيها الدكتور الأجزاء الملغية من الكتاب، أمامي نصف ساعة حتى يأتي صديقي حسب اتفاقي معه.
قالت في تسليم ويأس: حسنا. اذهب أنت إذن وسأصعد أنا للقسم فعندي مشروع يجب إنجازه، موعد التسليم الخميس القادم ولا يزال لدي واجهتان وقطاع لم أبدأ في إسقاط أي منهم بعد، ولا يبدو أن الدكتورة ستوافق على تأجيل آخر.
أجاب مبتسما ببعض التعاطف: كان الله في عونك، تعرفين أنني لو كنت أستطيع المساعدة لم أكن لأتأخر، لكنني لا أفهم شيئا من أمور الفنانين تلك التي تصنعونها في الأعلى. في المرة الوحيدة التي حاولت فيها المساعدة بتنقيط بعض الرسمات كما طلبت مني كدت أفسد اللوحة بأكملها.
ضحكت ضحكتها الخجولة المختزلة التي يحبها، واضعة يدها على فمها كما اعتادت أن تفعل لا إراديا في كل مرة وكأنها تخشى أن تضبط متلبسة بجرم الضحك. وقالت وهي تشير بسبابتها نحوه: نعم لقد لطف بنا الله يومها واستطعنا إنقاذ ما أمكن إنقاذه، كانت غلطتي بالطبع فقد كان علي توضيح أن التنقيط يمثل المساحات الخضراء في المسقط الأفقي، وأنه لا يمكنك تنقيط غرفة المعيشة، لو لم تلحق بك رحاب كنت سأضطر إلى إعادة رسم ذلك «الشاسيه» بالكامل.
ضحك هو بحرية وبمرح وأجاب: حسنا، سأذهب أنا إذن إلى أرقامي وجداول ميزانياتي وإلى محاضرة المحاسبة، ما لي أنا والعمارة والتنقيط والشاسيهات وتلك المسميات المضحكة؟ أراك غدا، سلام.
وأشار بكفه مشدودة ومضمومة الأصابع في اتجاه جبهته كالتحية العسكرية وهو يستدير متجها إلى بوابة المكتبات في خطوات سريعة واثقة لا تخلو من ابتهاج . ابتسم وهو يستعيد كلماتها عن لقائهما الأول، لم يكن يذكر بالطبع ما كان يرتدي ولا ما كانت ترتدي هي يوم التقيا لأول مرة، ليست ذاكرته قوية لهذه الدرجة فيما يخص التفاصيل كما هي ذاكرة الإناث، لكنه يذكر جيدا كم كان جمالها هادئا، وكم كان صوتها دافئا. كانت ملابسها - التي لا يذكر تفاصيلها بالطبع - رقيقة وغير متكلفة، تبرز جمالها بتحفظ. يذكر كيف أخذه شعرها الأسود الفاحم الطويل الذي ربطته في ذيل حصان خلف رأسها، وعيناها الواسعتان الصافيتان، وصوتها ذو النبرة المنخفضة الرقيقة، وهاتان الغمازتان الساحرتان على وجنتيها عندما تبتسم. كان حضورها يغمر المكان بفيض من البهجة. كما أنه يذكر جيدا كيف وقر في نفسه يومها أن لهذا اللقاء حتما ما بعده. كان يومها في السنة الثانية بكلية التجارة، بينما كانت هي طالبة جديدة على الحياة الجامعية في السنة الإعدادية بكلية الهندسة. عرفتهما على بعضهما البعض يومئذ تلك الصديقة المشتركة، ثم قابلها عدة مرات بعد ذلك عندما كان يحضر للقاء أصدقائه، بدأت لقاءاتهما وسط مجموعة الأصدقاء بطرقات مبنى الإعدادي حيث يتجمع الطلبة للمراجعة أو للتسامر بين مواعيد المحاضرات، ثم على الدرج الكبير في بهو المبنى الواسع، ثم انتقلا منفردين بعد ذلك بشهور إلى مكانهما المفضل بالخارج هربا من طرقات المبنى المظلمة حيث الجو المقبض المشبع بأبخرة المعامل ومناقشات مسائل الفيزياء.
صار يعرف أيام مشاريعها الطويلة المرهقة تلك التي تبدو خلالها شاحبة مرهقة إلا من لمعة عينيها الساحرة التي تشرق حين تراه، كانت تبقى في الكلية حتى ساعات متأخرة أثناء فترة إنجاز تلك المشاريع كما تقتضي طبيعة دراستها، وكان باستطاعته لذلك قضاء وقت أطول بصحبتها، حتى أثناء عكوفها على الرسم لساعات متواصلة على إحدى تلك الطاولات الخشبية الكبيرة. كان بإمكانه دائما مساعدتها بشيء ما، حتى ولو بالذهاب لإحضار بعض الطعام أو الأدوات الناقصة أو تصوير الأوراق في المكتبات الواقعة أمام البوابة الخلفية للكلية. أصبح يحضر إلى كلية الهندسة بمعدل أكبر، أصبح يأتي إليها هي على وجه الخصوص رغم أنه يتحجج أمام الجميع بزيارة أصدقائه الذين صار ربما يأتي ويذهب دون أن يقابل أيا منهم، ودون أن ينتبه حتى لذلك.
كانت فريدة قد أصبحت بالفعل حب عمره، أو كانت قد أصبحت على الأحرى حبه الوحيد، فلم يسبق له أن وقع فيما يسمونه الحب إلا معها هي. ظل ياسين على الدوام شابا محبوبا لوسامته وذوقه، لكنه ظل طوال الوقت يعامل زميلاته كأخوات، لم تكن له مغامرات عاطفية أو جنسية كالكثيرين من زملائه في الجامعة أو من معارفه خارجها؛ ربما بسبب تربيته الملتزمة في المنزل، أو بسبب طبيعته الخجولة. لم يكن ياسين حتى يدخن رغم أن غالبية أقرانه كانوا في تلك الفترة قد ذهبوا بالفعل أبعد كثيرا من مجرد التدخين. •••
في غرفة فريدة الصغيرة ذات الجدران المطلية بلون وردي فاتح، والتي تغطي مساحات واسعة منها ملصقات كبيرة لقلوب حمراء وأطفال ضاحكين وشخصيات كارتونية. كما تحتل مساحة معتبرة من أرضيتها دمى قطنية وإسفنجية متعددة الأحجام والألوان. كانت الغرفة بشكل عام تبدو للوهلة الأولى كغرفة طفلة في العاشرة، لا كغرفة شابة جامعية على مشارف العشرين من العمر، هناك جلست فريدة على طرف سريرها المرتب بعناية، ودون أن تغير ملابسها منذ عادت من الكلية. جلست مطرقة إلى الأرض تضم يديها على صدرها كما لو كانت تهدئ من سرعة ضربات قلبها المتزايدة، أو تكتم صوت خفقانه لكيلا ينتبه إليه من بالبيت. احتاجت إلى بعض الوقت لكي تملك زمام نفسها وتستعيد ما حدث ذلك الصباح بالكلية، استغرقت في التفكير وفي إعادة رسم الموقف في ذهنها حتى لا تهرب منها أي تفصيلة، حتى انتبهت على صوت طرقات والدتها على باب الغرفة تدعوها للحاق بالغداء قبل أن يبرد الطعام. كانت وحيدة والديها، تقيم معهما في الشقة الصغيرة التي تزوجا فيها قبل عقدين من الزمن بالطابق الثاني من بناية متوسطة العمر بالشارع الهادئ القصير الموازي لشارع الترام، ما بين محطتي جليم والفنون الجميلة، واحدة من تلك الشقق التي يسكنها محظوظون ما زالوا يدفعون ستة جنيهات إيجارا شهريا طبقا لقوانين الإيجارات الموروثة من العهد الاشتراكي ، لم تكن تلك الجنيهات الست تكفي لشراء دجاجة، بينما لم يكن سعر الشقة المماثلة بنفس الشارع ليقل عن مائة ألف من الجنيهات. كان ذلك الوضع يعطي عن سكان تلك الشقق انطباعا كاذبا بالغنى، بما أنهم يقيمون في منطقة راقية مثل هذه، بينما غالبيتهم في الحقيقة مجرد موظفين حكوميين لا يملكون - فيما عدا ما ورثه بعضهم عن أسلافهم - إلا رواتبهم الهزيلة وما تتعطف عليهم به الحكومة من نفحات غير منتظمة لتكسب ولاءهم أحيانا، أو لتمتص غضبهم في أحيان أخرى.
كانت فريدة في تلك الأيام مراهقة خجولة، خلعت للتو زيها المدرسي الأزرق الداكن وبدأت تخطو بتردد إلى عالم الشباب الجامعي المنفتح المتهور. لم تختلط كثيرا بالشباب في الجامعة، ولم تكن تجد الأمان إلا في صحبتها الصغيرة من البنات المتخرجات معها في ذات المدرسة الإنجليزية العريقة ذات التقاليد الصارمة على الجانب الآخر من الشارع الذي يفصلها عن كلية الهندسة حيث صارت تدرس الآن. ظلت تصد الزملاء الراغبين في توطيد علاقتهم بها، وتفضل إبقاء الجميع خارج دائرتها الخاصة ولو مؤقتا؛ حتى تفهم أسرار ذلك العالم الجديد الذي دخلت إليه. مثله كانت، بلا مغامرات سابقة، فقط مجرد إعجاب صامت أو حب مراهقة من آن لآخر ككل المراهقات في عمرها؛ أعجبت بمدرس الكيمياء الوسيم لفترة، وبالجار الرياضي الشاب لفترة أخرى، ولكنها لم تجرؤ على البوح بشيء من ذلك إلا لرحاب؛ صديقتها المقربة التي لم تكن بأشجع منها على أي حال.
ثم كان ذلك اليوم الذي التقت به ياسين؛ كانت صديقتها رحاب قد تعرفت إليه من قبل من خلال زملائها من أصدقائه، ثم عرفتهما بدورها إلى بعضهما البعض. تذكر فريدة جيدا طلته الساحرة وقوامه المنضبط وهو قادم في اتجاههم مرتديا ذلك القميص القطني الأزرق ذي الأكمام الطويلة المشمرة حتى نهاية ساعديه، والجينز السماوي الفاتح. تذكر جيدا ابتسامته الرائقة التي لمحت فيها بعضا من المرح مع القليل من الخجل، والقليل من شيء ثالث لم تستطع تمييزه وقتها، لكنها عرفته لاحقا مع تعدد لقاءاتهما ؛ إنه الارتباك.
مضى أكثر بقليل من عامين على ذلك اليوم، عام وعشرة أشهر وستة أيام بالتحديد، فقد التقيا في العاشر من مارس عندما كانت في السنة الإعدادية - نعم ما زالت تذكر التاريخ - بينما اليوم هو السادس عشر من يناير - وستذكر ذلك التاريخ كذلك - وهي الآن في السنة الثانية بقسم العمارة الذي التحقت به بعد اجتياز السنة الإعدادية رغم محاولات صديقاتها إقناعها بالانضمام إليهن. كانت تدرك أن عقلها ليس رياضيا مثلهن ولا مثله، وأن دراسة هندسة الكهرباء لن تناسبها. كان قد سحرها قسم العمارة منذ دخلته للمرة الأولى بصحبة طالبة كانت بالسنة الثانية في نفس القسم، عندما تعرفت عليها مصادفة وسألتها عن ذلك القسم، وكيف هي طبيعة الدراسة به، كما اعتادت أن تفعل مع من تعرفهن من مختلف الأقسام حتى تستطيع اختيار القسم الذي يناسبها بعد السنة الإعدادية. أجابتها تلك الفتاة يومها بأنها ستأخذها إلى القسم لتتعرف إليه بنفسها، ثم صعدتا معا إلى ذلك المكان السحري الذي يحتل الطابقين الأخيرين أعلى مبنى الإدارة المطل بواجهته العريضة المهيبة ذات التصميم الفرعوني على طريق الحرية. منذ اللحظة الأولى شعرت بأن هذا المكان لا يشبه بقية الكلية؛ الهواء مختلف هناك بالأعلى، الطلبة مختلفون، الأسقف عالية بشكل لافت، والنوافذ كبيرة، والمنظر الخارجي ساحر. أسرتها صالات الرسم الواسعة التي يصدح صوت أم كلثوم في خلفيتها، بينما فتيات وشبان يفترشون الأرض ويتناقشون بصخب في موضوع ما، وهم يتقاسمون طعاما منزليا من أوان معدنية صغيرة. وبينما آخرون منكبون باستغراق تام على طاولات الرسم، واضعين سماعات صغيرة في آذانهم. بينما يتكوم شاب بجوار أحد الجدران غارقا في النوم، ملتحفا بسترة جلدية. كانت الألوان هناك في كل مكان، على الجدران وعلى طاولات الرسم، وعلى اللوحات. كان على بعض الجدران رسمات يدوية كبيرة بأقلام الفحم الخشن لوجوه فنانين ولمبان كلاسيكية. كان ذلك المكان عالما منفصلا بشكل كلي عن عالم الكلية الجاف الكئيب الذي تعرفه بالأسفل. كانت كلمة السر في هذا القسم هي الإبداع. لم تحتج لزيارة أخرى لتعرف أنه يمكنها هنا أن تطلق لخيالها العنان، لم تكن تريد بالقطع أن تقضي سنوات أربع أخرى بين النظريات الرياضية الجافة والمعادلات الفيزيائية المعقدة في قسم الكهرباء بمبناه البارد الكئيب، بل كانت تريد قضاء سنواتها الدراسية المقبلة في هذا العالم المبهج الملون. كانت في داخلها منطلقة تعشق الحياة، مغامرة وحالمة رغم خجلها الناتج عن تربية محافظة في البيت والمدرسة، أو ربما كانت تلك التربية هي ما أشعل بداخلها تلك الرغبة الدائمة في الانطلاق. •••
ظلا يلتقيان في الكلية بانتظام طوال أيام الدراسة، بينما يتبادلان مكالمات تليفونية خجولة ومتباعدة خلال إجازة الصيف أو منتصف العام. كانت أمها ترمقها بنظرة غامضة حينما كان يطلبها على هاتف المنزل، نظرة ما بين الارتياب والتمني. ظلت علاقتهما تتطور في حدود ما بدا ظاهريا كأنه مجرد صداقة، لم تكن الصداقة هي ما تريد بالطبع، ولكنه لم تفلت منه كلمة أو نظرة تفصح عما بداخله طيلة تلك الشهور، حتى بدأت تتعايش مع ذلك الوضع وتفقد الأمل في أن تنتقل تلك العلاقة إلى المرحلة التي تنتظرها. إلى أن جاءها في ذلك اليوم؛ السادس عشر من يناير عام 1992م، كانت عيناه تلمعان في ذلك الصباح بشيء جديد لم تختبره فيه من قبل، مرتديا سترة جلدية رمادية فوق قميص من القطن السميك بشكل مربعات سوداء وحمراء على طراز قمصان رعاة البقر التي كانت موضة تلك الأيام، كما هو الحال مع حذائه التكساس الجلدي الأسود ذي المقدمة الرفيعة والكعب القصير المدبب. تعلم فريدة مسبقا أنها هي وحدها من ستتذكر كل تلك التفاصيل، وأن ياسين سينسى - كعادته - حتى ما كان يرتديه بالأمس.
تقدم منها بملامح جامدة بعض الشيء وسألها إن كان لديها بضع دقائق ليتحدث معها قليلا، لم يفصح عما يريد التحدث بشأنه، كان عندها الوقت له دائما، وكانت تعرف أنه يعرف أن عندها الوقت له دائما، ولم تكن تفهم لماذا يسألها سؤالا كهذا، لكنها أومأت بالإيجاب فطلب منها الابتعاد قليلا عن صخب الأصدقاء الذين كانوا يتجادلون في حماس بخصوص مباراة كرة القدم التي خسرها المنتخب الوطني قبل ثلاثة أيام. مشيا متجاورين صامتين عبر الممر المظلل بأشجار النخيل الشاهقة حتى ابتعدا في اتجاه مبنى الإدارة، ثم عبرا من خلاله إلى الحديقة الأمامية الشاسعة التي تنحدر للأسفل، حتى البوابات المغلقة المطلة على طريق الحرية، والتي لم يكن يرتادها الكثير من الطلاب. كان مترددا، تشعر به وتعرف أنه اليوم مختلف، لا تعرف وجه الاختلاف، لكن قلبها يخفق بقوة لإدراكها أن شيئا كبيرا سيحدث اليوم، وأنها ستتذكر تفاصيله لبقية عمرها، وكانت مرتعبة من أن يكون ما سيعلق بذاكرتها سيئا.
توقف عن المشي هبوطا بين الحدائق التي تفتحت فيها أزهار حمراء وصفراء منسقة بعناية ثم استدار إليها، صار في مواجهتها ومن خلفه يقف مبنى الإدارة الشاهق بشموخه الفرعوني وأعمدته الرسمية الكبيرة، وفي أعلاه تبرز نوافذ صالات الرسم بقسم العمارة. توقفت الكلمات على شفتيه لوهلة كما بدا لها، كانت تدرك جيدا أنه لا يعرف كيف يبدأ في قول ما يريد أن يقول، وزاد ذلك من ارتياعها حتى كادت تشرع في النطق بأي شيء تستفسر به عما يريد، فإذا بصوته يأتيها واضحا، قويا، وبكل ثقة وبساطة العالم سألها: هل تقبلين الزواج مني؟
قالها في لهجة محايدة كأنما كان يسألها إذا كانت تريد شرب الشاي أم العصير، لكنه كان ينظر في عينيها وهو ينطق بتلك الكلمات، كان ينظر في عينيها بعمق هذه المرة، وكانت على شفتيه ابتسامة المرح والخجل فقط، دون ارتباك. •••
في صالة شقة متواضعة جلس ياسين على كرسي خشبي عتيق الطراز يصغي في انتشاء إلى تسجيل قديم عبر جهاز كاسيت رديء، بينما يحتسي الشاي الصعيدي الداكن مع صديقه شاذلي، زميل الدراسة الطيب الذي ألقى به مكتب التنسيق من مدينة إسنا الوادعة في أقاصي الصعيد ليدرس في جامعة الإسكندرية، والذي يتشارك مع سبعة آخرين من الطلبة المغتربين الفقراء القادمين مثله من محافظات بعيدة في الإقامة بتلك الشقة المتواضعة بالطابق الثالث من بناية تخطى عمرها الستين عاما في زقاق متفرع من شارع تانيس، أحد شوارع منطقة كامب شيزار العتيقة، والتي صارت منذ سنوات طويلة متخمة بالشقق التي تؤجر مفروشة للطلبة المغتربين، لقربها من الجامعة بعد أن رحل سكانها الأصليون من اليونانيين والأرمن والإيطاليين. شقة قديمة بسيطة إلى حد الخواء، أرضيات من بلاط الموزايكو الرخيص الذي اسودت أجزاء كبيرة منه لندرة التنظيف، وهبطت أجزاء أخرى نتيجة تأثير الزمن، نوافذ طويلة غير محكمة الإغلاق استبدلت الأجزاء المتكسرة من زجاجها بورق مقوى من خلفية تقويمات قديمة تحمل شعارات بعض مصانع القطاع العام، جدران عالية ملطخة بآثار الأكف والأقدام واحتكاك قطع الأثاث ونشع رطوبة البحر القريب التي تخترق العظام لا الجدران وحسب. لا يتجاوز ما تحتويه الشقة من أثاث بضعة أسرة معدنية، وخزانات ذات أبواب صدئة ومقاعد متهالكة. كانت الشقة على مبعدة خطوات من محطة ترام كامب شيزار، حيث توجد سينما أوديون المتخصصة في عرض أفلام المقاولات العربية الرخيصة، بجانب أفلام بروس لي وفان دام وما إلى ذلك من تلك النوعية من أفلام المراهقين من طلبة المدارس والمغتربين الريفيين الذين يشكلون السواد الأعظم من رواد تلك السينما.
كان عالم ياسين في تلك الفترة صغيرا ومحدودا، كانت دائرة أصدقائه ضيقة، ولم يكن بطبيعة تكوينه وشخصيته من النوع الذي يسهل عليه إدخال الغرباء إلى مساحته الشخصية بسرعة، كانت اهتماماته تتلخص في كرة القدم والموسيقى، يتابع مباريات الكرة في التليفزيون بشغف، لا يفوته حضور مباراة في الملعب عندما يأتي الزمالك - ناديه المفضل - أو حتى الأهلي لملاقاة الاتحاد أو الأوليمبي أو الكروم على ستاد الإسكندرية. يعرف كل جديد عن أخبار اللاعبين والبطولات، ويمارس كرة القدم بانتظام مع رفاقه، ما بين ملاعب النوادي الشعبية الصغيرة أو الأراضي الفضاء التي تشتهر بتجمع محبي الكرة للعب عليها، وبخاصة الأرض الملاصقة لشريط السكك الحديدية أمام مصنع شركة فورد في مصطفى كامل. ثم يقضي بقية وقته في الاستمتاع بطرب المنشدين والمداحين الذين سحره عالمهم منذ اليوم الذي أدخله إليه فيه شاذلي، الذي كان من المترددين بانتظام على موالد الأولياء وحلقات الذكر وليالي الصوفية. وكان شاذلي يحفظ في ذاكرته عن ظهر قلب جدولا مفصلا لتواريخ «الليالي» كما كان يطلق عليها؛ وهي موالد أولياء الله الصالحين في طول مصر وعرضها، ما بين ليلة أبي الحجاج في الأقصر إلى ليلة أبي الحسن الشاذلي في الصحراء الشرقية، إلى السيد البدوي في طنطا، إلى عبد الرحيم في قنا، إلى إبراهيم الدسوقي والبوصيري وأبي العباس وابن الفارض والرفاعي، وحتى موالد الإمام الحسين والسيدة زينب وبقية آل بيت النبي الذين تحتضن القاهرة رفاتهم.
بدأ ذلك الهوس يوم كان ياسين جالسا في الشقة ذاتها قبل ما يزيد عن العام مع شاذلي الذي كان عائدا لتوه من إجازة العيد، بعد أن قضاها في مدينته. قال له شاذلي يومها بفخر وسعادة بالغين وهو يضع بحذر صينية بلاستيكية تحمل كوبين من الشاي الصعيدي الثقيل على الطاولة الخشبية خوفا من سقوط الطاولة ذات القائم المكسور: اسمع الشيخ التهامي أيها السكندري. لا تعرفون أنتم يا أبناء المدن الكبيرة شيئا عن هذه الكنوز.
أجابه ياسين وهو يرتشف الشاي وترتسم على وجهه علامات المعاناة من كثرة السكر وثقل الشاي: ومن يكون الشيخ التهامي هذا؟ أهو مقرئ من بلدكم؟
يرتشف شاذلي شايه بتلذذ ثم يضيف إليه بعض السكر ويجيب وهو يقلبه بملعقة من الصفيح الرديء: الشيخ ياسين التهامي هذا هو أحد كبار المداحين وشيوخ المنشدين، شهرته ذائعة في الصعيد وفي القاهرة وفي كل مكان، يعرفه ويحبه كل أهل الله ويشدون رحالهم ويركبون القطارات لأيام لكي يحظوا بمتعة الاستماع إليه. اسمع ... اسمع ...
ثم يضع شاذلي في جهاز التسجيل الرخيص الذي يلتف حوله شريط لاصق يمنعه من التفكك شريطا بدا أنه منسوخ أو مسجل، وليس من النوعية التي يمكنك أن تشتريها من أحد محلات التسجيلات الأصلية. شغل شاذلي الشريط فانطلق صوت حشرجة وضجيج غير محدد، ثم يبدأ صوت الناي والربابة وما يصاحبهما من إيقاعات وطبول في التصاعد، وتنساب موسيقى جديدة عليه تماما وسط أجواء من الصخب والتهليل، ثم يبدأ الرجل ذو الصوت الرخيم العريض في الإنشاد:
ينادي المنادي باسمها فأجيب
وأدعو ذاتي عن ندائي تجيب
وما ذاك إلا أننا روح واحد
تداولنا جسمان وهو عجيب
كشخص له اسمان والذات واحد
بأي تنادي الذات منه تصيب
فذاتي لها ذات واسمي اسمها
وحالي بها في الاتحاد عجيب
ولسنا على التحقيق ذاتين لواحد
ولكنه نفس المحب حبيب
شعر عبد الكريم الجيلي (1365-1424م)
كانت جودة التسجيل بالغة الرداءة، كان من سجله - بحسب ما شرح له شاذلي - أحد الهواة من المريدين عبر جهاز تسجيل بسيط وضعه بجانب المنشد، لكن ياسين كان قد انبهر تماما بتلك الأجواء وذلك الشعر الذي لم يسمع مثله من قبل، فسأل صاحبه في اهتمام: هل هذا شعر ذلك الرجل، أم أنه تراث شعبي أم ماذا؟
اعتدل شاذلي في جلسته، ووضع كوب الشاي على الطاولة وأجاب بنبرة العالم: هذه القصيدة يا صديقي من شعر مولانا عبد الكريم الجيلي؛ وهو أحد كبار أقطاب الصوفية. كل ما يغنيه التهامي والتوني وأقرانهما من المنشدين هو أشعار صوفية لابن الفارض وابن عربي والرومي وغيرهم من الأقطاب. لكن هل أعجبك حقا؟
أجاب ياسين بنفس الاهتمام: جدا! لقد أبهرتني بحق أيها الصعيدي! هل لديك تسجيلات أخرى مثل هذا أو لمنشدين آخرين؟
أجاب شاذلي وهو يقوم متجها ناحية الغرفة التي ينام فيها: سأحضر لك إذن كنزي الشخصي من تسجيلات المنشدين لتستمع إليها على راحتك، طالما أعجبك ذلك اللون غير ذي الجماهيرية الكبيرة من الفنون، فلن يمكنك أن تجد الكثير منه هنا على أي حال.
ثم عاد وفي يده كيس بلاستيكي سميك يحتوي على مجموعة من الشرائط المسجلة، وقد كتب على ورقة صغيرة ألصقت على كل منها بخط اليد اسم المنشد ومكان التسجيل ومناسبته. •••
في ظرف أشهر قليلة صار ياسين نفسه يقضي قسطا كبيرا من وقته باحثا وراء أشرطة المنشدين التي لم تكن متوفرة وقتذاك إلا من خلال تسجيلات شخصية لمريديهم، وعندما علم شاذلي بحضور الشيخ التوني لإحياء ليلة ضمن ليالي رمضان التي تقام في حضرة أبي العباس المرسي ومسجده المهيب المطل على بحر الأنفوشي؛ دعا ياسين لحضور تلك الليلة. ذهبا معا مستقلين ترام المدينة الأصفر العتيق الذي سار بهما من محطة الرمل في موازاة الكورنيش، حتى ألقى بهما إلى ذلك العالم الذي يفيض سحره ليغمر ما حوله على امتداد الأبصار. ليلتها داهم ياسين للمرة الأولى ذلك الشعور الذي ظل يلازمه بعدها كلما دخل إلى ذلك العالم أو اقترب منه، كلما أنصت إلى قصيدة صوفية، كلما تناهى إلى أذنه ذلك الإيقاع الكسول لموسيقى المديح، بل كلما مرت على أنفه روائح البخور والمسك. كانت أقل علامة تذكره بذلك العالم كفيلة بأن تعيد فتح مسام عقله وذاكرته إلى تلك الليلة في رحاب أبي العباس المرسي، تحت الأضواء المتراقصة، وبين الأجساد المتمايلة وجدا وعشقا، تحت رذاذ البحر المنعش الذي يحمل هواء الشتاء ذراته الخفيفة متخللا أبخرة المسك المتصاعدة من المباخر، بينما يغلف ذلك المشهد كله صوت ذكوري شجي وأجش ذو لكنة صعيدية تحمل شجنا واضحا يردد في عذوبة آسرة:
كل القلوب إلى الحبيب تميل
ومعي بذلك شاهد ودليل
أما الدليل إذا ذكرت محمدا
صارت دموع العاشقين تسيل
يا سيد الكونين يا علم الهدى
هذا المتيم في حماك نزيل
يا رب إني قد مدحت محمدا
فيه ثوابي وللمديح جزيل
صلى عليك الله يا علم الهدى
ما حن مشتاق وسار دليل
شعر ابن الخياط (1058-1123م)
ظل ياسين ليلتها يهيم في سماوات التجلي والطرب، كان قد ذاق لذة القرب ونشوة الوصول، وباتت روحه أخف من أن تحتمل السجن داخل صدره فحلقت فوق المكان متمايلة مع رواد حلقة الذكر تارة، ومتراقصة مع رذاذ البحر المتطاير مع الهواء تارة أخرى، متأملة في بدائع المديح حينا، ومسحورة بعذوبة الموسيقى حينا آخر. كان ياسين قد دخل في حالة ما بين الصحو والغفوة، ما بين السكر والإفاقة، ما بين نور التجلي ونشوة العشق، يترك جسده للتمايل وسط الذاكرين ويردد وراء المنشد، ثم يلتقط أنفاسه قليلا لينصت إليه وهو ينتقل في حالة «سلطنة» تامة إلى قصيدة أخرى:
من لامني في الحب يرم بسهمه
يصبح محزون الفؤاد عليل
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سيف نعم مسلول
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سم الأفاعي قليل
الحب عذب لا يذقه مقيد
بحدود شهوته ولا معلول
شعر ابن الخياط (1058-1123م)
صحراء
بدأت الكائنات الضخمة ذات الألوان الفاقعة المزعجة للعين وسط ألوان الصحراء الباهتة المتناغمة أول ما بدأت بالتهام الشجر وتسوية الرمال، في أيام معدودة اختفت كل الأشجار المجاورة لها، لم تفلت من تلك المجزرة إلا أشجار بعيدة متناثرة؛ في أول صباح اختفت الشجرة الأقرب إليها، تلك التي كانت في مثل عمرها والتي كبرت معها، والتي واجهت بجوارها العاصفة العاتية التي هبت قبل ربيعين حاملة معها رمالا غريبة من أرض ليست كأرضها، لم تزل بقايا تلك الرمال عالقة على بعض أغصان كلتيهما، تكادان تشمان فيها رائحة الأرض البعيدة التي جاءت منها، ثم اختفت الشجيرات الثلاث الوليدات إلى الغرب منها، كانت قد شهدت مولدهن في شتاء قريب بعد أن ابتلت الرمال بمطر كثير تهاوى على الصحراء غزيرا مفاجئا، حتى إن الرمال لم تستطع ابتلاعه؛ فبقي لأيام كبحيرات صغيرة جعلت من تلك البقعة واحة مؤقتة جذبت إليها الدواب والحشرات وملأتها حياة وبهجة، ثم نبت محلها بعدما جفت تلك الشجيرات الوليدة.
اختفت كل الأشجار القريبة، راحت كل رفيقات أمسياتها وصباحاتها، ولم يتبق لها بعدهن أنيس. كانت الأشجار المتبقية بعيدة وغريبة، صارت تتشبث بالأرض أكثر وأكثر كلما اقتلعت إحدى صديقاتها من الشجر، صارت تمد جذورها في عمق الأرض أبعد وأبعد لعلها تحتمي بها. ولم تكن تلك الكائنات تهدأ أو ترتاح، لم تكن تتوقف عن اقتلاع الأشجار من الجذور وإلقائها في كومة بعيدة ظلت تكبر وتكبر كمقبرة مكشوفة. تقتلع كل شجرة في لحظات، يرتفع في الهواء جذعها وأغصانها وشبكة جذورها التي كانت ضاربة في عمق الأرض، تصبح في غمضة عين مجرد قطعة بالية من الخشب المشقق لا أصل لها ولا وطن، لا جذور لها في الأرض. تتطاير ذرات الرمال العالقة بجذورها المقتلعة في الهواء وهي في قبضة تلك الوحوش الغاشمة، يتساقط منها الوطن وهي عاجزة عن لملمة هويتها وتاريخ أسلافها.
الفصل الخامس
فبراير 1992م
أمام باب شقة فريدة كان ياسين واقفا حسب الموعد المتفق عليه في ذلك المساء الشتوي، وفي يده علبة كرتونية مغلفة بورق تغليف ذلك المحل الشهير للشوكولاتة، الواقع على ناصية شارع النبي دانيال عند نهايته متعامدا على شارع سعد زغلول، والذي يقدر جودة منتجاته كل السكندريون. فتحت له فريدة الباب فدخل مرتديا معطفا صوفيا بنيا، كان لوالده منذ زمن، لكن موضته عادت إلى الواجهة، فوق بلوفر أبيض رقيق من الطراز ذي الرقبة العالية الذي انتشر في تلك السنوات، وبنطالا صوفيا أسود وحذاء جلديا أنيقا اشتراه خصيصا لهذه المقابلة. ستتذكر فريدة كل تلك التفاصيل لسنوات طويلة قادمة، بينما لن يتذكر هو شيئا من ذلك بالطبع باستثناء الحذاء الذي اشتراه بمبلغ كبير بالنسبة له؛ لأنه لم يكن يملك حذاء رسميا يليق بمقابلة بهذه الأهمية، فاضطر إلى اقتراض جزء من ثمنه من والدته. كان قد اتفق مع فريدة على أن يذهب هو أولا لمقابلة والدتها التي طلبت التعرف عليه بشكل غير رسمي قبل أن يقابل الوالد فور تخرجه، لم يكن هو كذلك يرغب في مقابلة والدها وهو لم يزل طالبا؛ فلم تكن كرامته لتتحمل أن يرفضه الرجل لهذا السبب. دخلت الأم في ثوب طويل فضفاض ووشاح خفيف على شعرها، وصافحته في ود ثم قدمت له الشاي وبعض الفاكهة، وبادلته بعض عبارات الترحيب والمجاملات الروتينية التي كان يضجر منها ولا يعرف كيفية الرد النموذجي على أغلبها، ثم فاجأته بسؤال مباشر طرحته عليه بنبرة هادئة وعلى وجهها ابتسامة ودودة تحمل بعض التواطئ كما لو كانت تريد أن تقول له إنها تعرف كل شيء: حسنا. لماذا تريد الزواج من ابنتي يا أستاذ ياسين؟
أربكه السؤال بشدة فبدأ يتململ في جلسته ويتعرق رغم الجو البارد، ارتشف بعضا من الشاي ليمنح نفسه القليل من الثواني للتفكير في ذلك السؤال غير المتوقع ثم قال في ارتباك: إن ... إن ابنتك فريدة ... أخلاقها وأدبها ... و...
قاطعته السيدة في شيء من الإشفاق والتعاطف وربتت على كتفه سائلة بابتسامة دافئة وبلهجة مطمئنة: أنا أعرف كل القصة، فريدة لا تخفي عني شيئا؛ إنها تحبك وقد عرفت ذلك منذ البداية. إنها ابنتنا الوحيدة كما تعرف وقد قضيت أنا وأبوها عمرينا من أجلها، نحن لا نريد من الدنيا غير أن نطمئن على مستقبلها. هل ستعتني بابنتي؟ هل تعتقد حقا أنه بإمكانك إسعادها؟
أجاب في حماس وهو يسترد أنفاسه مرة أخرى: نعم، نعم أؤكد ذلك لحضرتك.
ردت وعلى وجهها نفس الابتسامة: إذن استعد لمقابلة والد فريدة بعدما تحصل على شهادتك الجامعية بإذن الله، أظن أنه لم يتبق على ذلك إلا شهور قليلة. أتمنى لك التوفيق، وليقدم الله ما فيه الخير.
تمت الخطبة بعد شهرين من تخرجه، في حفل عائلي بسيط اجتمعت فيه الأسرتان في بيت فريدة، لم يكن ثمة داع لإنفاق المال على إحدى تلك القاعات التي انتشرت في المدينة وصارت موضة بين الناس، رغم أن العادة جرت منذ القدم على أن تقام الخطبة في بيت العروس. يتكلف أقل حفل في تلك القاعات الجديدة ما يكفي لشراء غرفتين كاملتين من الأثاث. وكان اتفاقه مع والد فريدة أن لا يتحدثا في توقيت الزفاف قبل تخرجها، وكان يتبقى على تخرجها آنذاك عامان.
يونيو 1993م
على كورنيش سابا باشا حيث كانا يلتقيان في نادي المهندسين خلال إجازاته القصيرة التي يحصل عليها من وحدته العسكرية كل شهر أو نحو ذلك، والتي يضيع نصفها في طريق السفر والعودة ما بين الإسكندرية وبين موقع كتيبته النائي قرب السلوم؛ اشتاق إليها كثيرا، ولكنه كالعادة لم يفلح قط في الإفصاح عما بداخله. تعودت فريدة على طبعه الجاف، لطالما لم يكن يجيد إظهار مشاعره رغم رقته التي تدركها. عملي هو، شخص براجماتي يحركه عقله المنظم كحاسب آلي، لا قلبه ولا مشاعره. كان يفترض فيها أن تفهمه دون كلام، ولكنها كانت تريده أن يتكلم، كانت تحب أن يغازلها وأن تسمع منه كلمات العشق، كانت تغضب منه؛ تظن أنه منشغل عنها وأنها مجرد شخص ثانوي في حياته المتخمة بالعمل وباهتماماته الأخرى، بينما كان هو يستغرب غيرتها من انشغاله بالمشروع العسكري الذي انخرط فيه خلال فترة تجنيده قرب الحدود الغربية خاصة أنه عمل بدون أجر ولأجل الوطن فقط.
ترقبت هي إجازاته بشغف طوال أشهر التجنيد الطويلة، لم يكن ياسين يشتكي كثيرا من الحياة العسكرية كأقرانه، لم يكن مدللا بطبعه، وكان بإمكانه التكيف مع الحياة الخشنة؛ كانت طبيعة شخصيته تمكنه من أن يتكيف مع أي وضع بشكل عام، كما أنه كان يحب ما يعمل ويشعر بأهميته وبأهمية ما يشارك فيه لوطنه ولجيش بلاده. لم يكن حتى يفصح كثيرا عن طبيعة المهمة التي يؤديها في ذلك المشروع حتى أمامها هي؛ حفاظا على قواعد السرية كما نصت تعليمات قائده في الكتيبة. كان ملتزما بالتعليمات بشكل صارم وبلا تذمر؛ تعليمات المأكل والملبس والمظهر والمواعيد. اشتاق إليها كثيرا في الليالي الباردة الموحشة التي قضاها في الكتيبة الصحراوية النائية، اشتاق إلى صوتها وإلى لمسة يدها، وإلى حبات الترمس التي تلقيها في فمه وهي تتمشى بجواره على رصيف الكورنيش ما بين نادي المهندسين وذلك الكازينو ذي الأشرعة الخرسانية البيضاء عند لسان جليم، وإلى شطائر الجبن الأبيض بشرائح الطماطم التي تصنعها له في المنزل وتلفها في أوراق بيضاء رقيقة. لكنه كالعادة لم يكن يجيد الإفصاح عن أي من ذلك؛ فكانت لقاءاتهما تنتهي في الغالب بعتاب منها، وبابتسامة تجمع بين السخرية والمرارة مع تمتمة خافتة كرد على تبريره لحديثه الطويل عن الكتيبة والجيش والمشروع العسكري بدلا من الحديث عن حبه وأشواقه لها: حسنا، لا يهم. وهل سأكون أنا أكثر أهمية من الوطن؟
يناير 1994م
خلف مكتب معدني رمادي اللون من النوع الذي كان منتشرا في كل الشركات في تلك السنوات، والذي كان يعرف باسم «مكتب إيديال»؛ جلس ياسين على كرسي معدني مغطى بجلد صناعي أسود رخيص، ومبطن بطبقة رقيقة من الإسفنج يبرز طرفها من أحد جوانب الكرسي المهترئة، وأمامه على سطح المكتب جهاز كمبيوتر من الطراز الأفقي الذي تستقر فوقه شاشة ثقيلة من مقاس الأربع عشرة بوصة. كان قد حصل على هذه الوظيفة في شركة للمحاسبة القانونية بعد انتهاء شهور خدمته العسكرية بوساطة أحد معارف والده، ولأنه كان أحد القلائل الذين يجيدون استخدام برامج الكمبيوتر المحاسبية التي كانت قد بدأت تجد طريقها للانتشار في السوق كبديل أسرع وأكثر كفاءة لأنظمة المحاسبة اليدوية التقليدية. لم يكن الراتب كبيرا، لكنه كان - في البداية على الأقل - مرضيا له كشاب أعزب؛ لأنه كان يؤمن له الاستقلال المادي عن والده للمرة الأولى في عمره، كما كان يمكنه من دعوة فريدة للخروج من وقت لآخر، أو من شراء هدية بسيطة لها في المناسبات، أو ربما شراء بعض قطع الثياب الجديدة له هو أيضا، لكنه بالتأكيد لم يكن يمثل مصدرا للدخل يصلح ليؤسس به بيتا أو ينفق منه على أسرة.
لم تكن لديه مشكلة كبيرة في الالتزام بمواعيد العمل كما حدث لغالبية أصدقائه الذين لم يكونوا يتصورون أن ينتقلوا من حياة الحرية والانطلاق الجامعية الخالية من الالتزامات، إلى حياة الوظيفة ذات الجدول الأسبوعي الصارم الذي يتضمن ستة أيام عمل، من الثامنة صباحا إلى الخامسة عصرا، مع إجازات شحيحة وصعبة الإدراك. لكن لأنه كان كذلك يعمل ما يحب فلم تكن ساعات العمل تمثل عبئا كبيرا عليه، كان في الحقيقة يستمتع بالعمل كما يستمتع بحياته بعد ساعات العمل وفي يوم الإجازة الأسبوعية، كان يتقدم في عمله مع الوقت ويتعلم ممن هم أقدم منه وتزداد خبرته، وكان على الجانب الآخر يجد الوقت للخروج مع فريدة في الأوقات التي لا تكون فيها منشغلة بمشاريعها في الكلية، وكذلك للقراءة وللعب كرة القدم وللاستماع إلى الموسيقى وللذهاب إلى السينما ولحضور ليالي المديح الصوفية. اعتاد على أن ينتظر أصحابه أيام الخميس بعد انتهاء العمل مساء على رصيف محطة ترام سيدي جابر، حيث يكون بعضهم قد استقل الترام المتجه إلى محطة الرمل من محطات سابقة، ووقف عند النافذة الأولى ناحية اليمين في العربة الأخيرة للترام كما كان اتفاقهم الدائم، فيلوح بيده لياسين عندما يدخل الترام إلى محطة سيدي جابر ليصعد إلى الترام. ثم يستمرون في التقاط أصحابهم من المحطات التالية بنفس الطريقة؛ فيركب من يركب من سبورتنج ومن الإبراهيمية ومن كامب شيزار ومن الشاطبي. ومن لم يكن موجودا على رصيف محطته المعتادة فإنه ربما غير رأيه أو حدث له طارئ ما، يمكنهم معرفته عبر الهاتف بعد نهاية السهرة. ينزلون جميعا في محطة الرمل حيث يتسكعون بلا هدف أمام المحلات ويتجادلون حول نتائج مباريات الكرة أو حول أحدث الأفلام أو الإصدارات الموسيقية، ربما يدخلون إلى السينما إذا سمحت ميزانياتهم بذلك، ثم يبتاعون إما شطائر الفول والفلافل من المحل الشهير الكائن في أول شارع على جهة اليسار، من بداية شارع سعد زغلول، أو الكبدة على الطريقة السكندرية من ذلك المحل الضئيل المختبئ في شارع خلفي بجوار سينما مترو، ثم ربما يشربون عصير القصب بعد ذلك في طريقهم عائدين لمحطة الترام حيث محل الفشار الأشهر. كان ياسين يعود من تلك السهرات البريئة رائق البال مبتهجا، لكنه كان يعلم جيدا عندما يضع رأسه على الوسادة أنه إنما كان يهرب يختبئ وسط أصحابه هربا من الإجابة على الأسئلة الصعبة التي لا يملك لها إجابة ولا يريد التفكير فيها، أسئلة مثل؛ من أين ستأتي بالمال لتأثيث الشقة التي تكفل والدك بدفع مقدم ثمنها، وستقوم أنت فقط بسداد الأقساط؟ وكيف ستتحمل مصروفات ومسئولية بيت مفتوح؟ ماذا ستفعل في المستقبل؟ هل ستقضي بقية عمرك في تلك الشركة؟ ما هي حدود طموحك؟ أين أحلامك؟ وكيف ستحقق أيا منها؟ •••
على الأريكة الكبيرة في غرفة المعيشة بمنزله كان ياسين مستلقيا أمام التليفزيون. شقة أسرته قديمة، تقع في الطابق الأرضي من بناية كلاسيكية الطراز تعود للنصف الأول من القرن العشرين، وتتكون من أربعة طوابق، وتقع في شارع هادئ من حي بولكلي، تظلله الأشجار المورقة التي تبرز جذوعها العتيقة من خلف الأسوار الحديدية المحيطة بالفيلات والبنايات العائدة إلى الفترة ذاتها، متعامد على شارع الترام حيث يبدأ، وممتد في اتجاه البحر حيث يتصاعد، ثم ينحدر بميل كبير مفضيا إلى شاطئ ستانلي. هي كذلك من شقق قانون الإيجارات القديم. كانت شرفتها الكبيرة تطل على حديقة داخلية مهملة تنتصب في وسطها شجرة ضخمة الجذع، تظلل فروعها وأوراقها كامل مساحة الحديقة، وتتساقط منها بين حين وآخر ثمار كروية في حجم حبة الحمص لكنها ذات لون داكن ومذاق لاذع، وتطل على طرفها الآخر فيلا صغيرة وقديمة من طابق واحد تسكنها سيدة متقدمة في العمر لدرجة مذهلة، لا يتذكرها إلا وهي عجوز، حتى عندما كانت تنهره بلكنتها الأجنبية أيام كان طفلا يلهو أمام بابها ويعبث بنباتاتها الصغيرة ذات الروائح العطرية؛ كانت كذلك عجوزا، يناديها الجميع مدام كوستا. يقول له صاحب كشك البقالة الصغير المستند إلى سور الفيلا الواقعة على الجانب الآخر من الشارع إنها يونانية، وإن زوجها كان صيدليا تحولت صيدليته بعد وفاته منذ سنوات طويلة إلى محل الخياطة الرجالي الذي يقع على ناصية الشارع. بينما يجزم البعض الآخر من قدامى سكان الشارع أنها إيطالية لأن زوجها كان يتحدث الإيطالية. بينما قالت هي يوما لوالدته إن عائلتها هاجرت إلى الإسكندرية من قبرص، هاربة من اضطهاد الأتراك منذ زمن بعيد، وأنها ولدت في بيت خصصته الكنيسة للاجئين في شارع العطارين، ثم جاءت إلى هذا البيت عندما تزوجت السيد كوستا الذي لم يره ياسين ولم يعرف عنه إلا أنه مات قبل أن ينتقل أبوه وأمه للسكن في هذا الحي. لا تتحدث مدام كوستا كثيرا، لكنها عندما تفعل فإنها تتحدث العربية بطلاقة وبلهجة أولاد البلد السكندرية المميزة، مع لكنة أجنبية لطيفة. وفي أحيان نادرة حينما يكون مزاجها رائقا تردد بفرنسية متقنة ما تغنيه مطربة قديمة يأتي صوتها مشوشا من المذياع، أو ربما من ذلك الفونوجراف الذي يظهر بوقه النحاسي الكبير عندما تفتح السيدة كوستا البوابة الداخلية للفيلا. لم يعرف أحد ما بداخل بيت مدام كوستا، ولا ما تفعله طوال اليوم منذ أن أصبحت لا تغادر البيت إلا في مناسبات معدودة من الأعياد الدينية حين يأتي بعض أقربائها المسنين لاصطحابها في سيارة أمريكية كبيرة وقديمة الطراز؛ إما لحضور القداس في كاتدرائية اليونان قرب ميدان المنشية الصغرى، أو لزيارة الموتى من عائلتها في مدافن طائفة الروم الأرثوذكس قرب الشاطبي. لكن ياسين كان يراها من الشرفة كل صباح تسقي النباتات في حديقتها الصغيرة، أو تتلو صلوات هامسة أمام أيقونة كبيرة للعذراء، معلقة في غرفتها المطلة نافذتها الطويلة على الحديقة الداخلية المشتركة بين بنايته وبين فيلا مدام كوستا.
انتقل أبوه وأمه إلى هذا الحي بعد أن توظف الأب مدرسا للغة العربية في المدرسة الإعدادية القريبة، وقد تصادف أن كانت إيجارات الشقق فيه مغرية في تلك السنوات؛ نتيجة هجرة غالبية الأسر الأجنبية التي سكنت ذلك الحي لعقود. كانا قد تزوجا قبل ذلك بعامين في شقة صغيرة بحي محرم بك، حيث ولدت وكبرت أمه، وحيث عاشت عائلتها منذ أجيال. بينما قدم الأب نازحا من قريته البعيدة في أقاصي الصعيد، قدم إلى الإسكندرية في منتصف الخمسينيات طالبا في الجامعة، ثم جذبه السحر العجيب لتلك المدينة فاستقر بها وتوظف وتزوج، ثم انتقل أخيرا إلى منطقة بولكلي الراقية. قضى سنوات عمله الرتيبة الطويلة مدرسا ملتزما وقورا يكن له الجميع كل الاحترام، تخرجت على يديه أجيال من الطلبة الذين صار منهم بعد سنوات محامون ومهندسون ودبلوماسيون وأطباء.
لم تكن لوالده علاقات وطيدة بالجيران؛ فقد كان يقضي أغلب وقته بعد ساعات العمل في قراءة الكتب والصحف وتلاوة القرآن، أو في ممارسة هوايته الأثيرة في التمشية من البيت صباح كل يوم جمعة صعودا وهبوطا مع الشارع حتى كورنيش ستانلي، ثم الانعطاف يمينا حتى الشارع الذي يصل إلى الكنيسة الإنجيلية وقصر الضيافة التابع لرئاسة الجمهورية، حيث ينعطف عند نهايته يمينا هابطا مرة أخرى حتى يصل إلى المسجد الكبير ذي الطابقين، حيث يستمع إلى خطبة الجمعة من شيخه المفضل، ويعود بعد الانتهاء من الصلاة سيرا بمحاذاة شريط الترام حتى البيت. ظل الرجل مواظبا على هذه العادة كل جمعة في الصيف وفي الشتاء، لا يقعده عنها حر بئونة وأبيب أو نوات شهر طوبة، كما كان معتادا على تسمية الشهور طبقا للتقويم القبطي الذي تعلمه في قريته لتحديد مواقيت مواسم الزراعة والحصاد، وكما كان يعرف منه في الإسكندرية توقيتات النوات الممطرة على وجه الدقة. لم يتوقف عن هذه العادة إلا بعدما تمكن منه مرض الروماتيزم بعد إحالته إلى التقاعد؛ فصار إما يستقل الترام لمحطتين حتى مسجده المفضل، أو يصلي مضطرا إذا لم تسعفه حالة مفاصل ساقيه في المسجد القريب، الذي أقامه أحد أولئك المتدينين الجدد من العائدين من البلاد العربية بجلابيب بيضاء ولحى طويلة، أسفل بناية جديدة ذات طوابق عالية، كانت بمثابة أول نغمة نشاز ضربت جمال الشارع المتناغم. أما الضربة القاضية التي أسقطته مستسلما للمرض ومنتظرا للموت في فراشه بهدوء فكانت رحيل زوجته، ربما مرض في البداية بسبب قلة العمل، لكنه ظل يقاوم، لكن المرض انتصر عليه بمساندة الوحدة والفقد.
وبرغم إقامة أبيه لعقود في الإسكندرية وتأقلمه مع الحياة فيها، لكنه لم يقطع صلاته قط بمسقط رأسه، ولم يخلع أبدا جذوره من عمق أرض الجنوب الثملى بالطمي وقشور أعواد القصب. لم يكن يمل من ترديد الحكايات عن صباه وشبابه في القرية، عن سنوات دراسته الأولى في كتاب القرية، ثم في المدرسة الابتدائية التي تقع على مسيرة ساعة من قريته، ثم في المدرسة الثانوية التي تقع في المركز الذي كان أول مدينة يراها قبل أن يعرف كيف تكون المدن بحق حين جاء إلى الإسكندرية. في سنواته الأخيرة وخاصة بعد التقاعد كان يحكي تلك الحكايات بشغف واضح، يسرد التفاصيل الدقيقة بحنين بالغ، يستطرد ويستطرد ويقفز من حكاية لأخرى. كان بإمكانه مواصلة الحكي إلى ما لا نهاية، وكان يجد ضالته وتعود إليه عافيته عندما يطرق بابه طارق قادم من قريته، أو حتى أي شخص يرجع أصله إليها ولو لم يعد يعيش فيها. كان يستعيد مع ذلك الوافد الذكريات والحكايات، وكان يبالغ في إكرامه ويلح عليه في البقاء، كانت تلك الجلسات المتباعدة تضيء وجهه وتنسيه أمراضه وشيخوخته، كانت أحاديث الذكريات تلك تعيد الشيخ إلى صباه حقيقة لا مجازا. •••
كانت سنوات ياسين الأولى بعد استكماله لشهور الخدمة العسكرية حافلة بالمتغيرات، لم تكد ساعات يومه تكفي لاستيعاب ما يتنقل بينه من أفكار وإبداعات وفنون، ظل يقضي ما يتبقى من ساعات يومه بعد العودة من العمل بين الكتب والموسيقى والسينما، خاصة مع انشغال فريدة في دراستها التي تستغرق جل وقتها، كان قد فتح أبواب عقله أمام مختلف الاتجاهات الفكرية، يستكشف العالم ويسبر أغوارا سحيقة من التاريخ والسياسة والفن. هام على وجهه بين سحر سينما الواقعية الجديدة بمخرجيها المغامرين، والتي كانت في أوج مجدها في ذلك الوقت رغم قلة جماهيريتها. سحره عالم محمد خان عاشق الشارع، وعالم داود عبد السيد عاشق الليل، وعالم عاطف الطيب عاشق الصعيد. انبهر بسينما الفانتازيا الموسيقية التي نبغ فيها خيري بشارة وشريف عرفة، فتح عينيه لأول مرة على عالم اليسار والشيوعيين عندما سحرته أغاني الشيخ إمام، التي اكتشفها بالصدفة بينما هو يستمع في طرب شديد يقارب الجذبة الصوفية إلى محمد منير - الذي لم يكن فقط مطربه المفضل، بل نموذجه الأمثل للفنان - وهو يشدو بأغنية شديدة القسوة من فرط ما تحمل من شجون لا يكاد يفهم مصدرها، كانت الأغنية من فيلم شديد التفرد كذلك، فيلم تليفزيوني جديد عن حرب أكتوبر، لكنه ليس كما اعتاده من أفلام مصرية، حتى تلك التي يصنعها مخرجوه المفضلون. كانت تلك أغنية فريدة في فيلم فريد عن قصة قصيرة كتبها جمال الغيطاني أثناء عمله كمراسل حربي في السويس أيام حرب أكتوبر، يستمع إلى الأغنية للمرة الأولى ويكاد قلبه يتوقف عن الخفقان من فرط ما فيها من متعة غامضة لا يدرك أبعادها، وإن أدرك إلى حد اليقين أنها ستفتح له أبواب عالم فسيح ليست له حدود. كان المطرب الأسمر النوبي يشدو بأسلوبه المتفرد وصوته الدافئ الحزين بالفطرة:
البحر غضبان ما بيضحكش
أصل الحكاية ماتضحكش
البحر جرحه ما بيدبلش
وجرحنا ولا عمره دبل
قللنا فخارها قناوي
بتقول حكاوي وغناوي
يا قلة الذل انا ناوي
ما اشرب ولو في المية عسل
قضى تلك الليلة في غرفة المعيشة أمام التليفزيون، يعيد الأغنية ذاتها مرارا وتكرارا بعد أن سجل الفيلم الذي كان يعرض للمرة الأولى على شريط فيديو جديد اشتراه خصيصا لذلك الفيلم الذي كان ينتظره منذ أن بدأ التنويه عن عرضه قبل شهر، والذي لم يخيب ظنه. تكفيه تلك الأغنية الساحرة التي ظل يبحث وراءها لأسابيع ، ويسأل كل من يعرفهم عن كاتبها وملحنها، حتى اهتدى إلى عالم ذلك الرجل الضرير ضعيف الجسم أجش الصوت، ورفيقه النحيل الأشعث، وتسجيلاتهما التي كان اقتناؤها في ذلك الزمن جريمة قد تذهب بمرتكبها إلى ما وراء الشمس. استطاع الحصول على بعضها بعد جهد ليس بالقليل، وبدأ يكون مكتبته الخاصة من تسجيلات الشيخ إمام ورفيقه أحمد فؤاد نجم، وبدأ يقرأ عن تلك المرحلة وعن تلك الأفكار، خاصة عندما وقع بصره بالصدفة - بعد ذلك اليوم بعامين - على نعي الشيخ إمام نفسه في صفحة الوفيات بجريدة الأهرام، وفاجأه ذلك العدد الهائل من المثقفين والفنانين - بما فيهم محمد منير نفسه - الذين ينعون ذلك الرجل الغامض الذي لا يكاد يعرفه العامة، ولا يرد ذكره قط في التليفزيون أو الإذاعة أو الصحف، وكأنه لم يكن ولم يوجد يوما. أيقن أن الرجل مشهور ومؤثر بالفعل، ولكن جهة ما - لسبب لم يكن يدركه بعد - لا تريد له أن يبقى كذلك.
صحراء
في الصباح التالي لاكتمال اقتلاع كل الأشجار المجاورة، جاءت قافلة جديدة من تلك الكائنات القبيحة إلى الأرض التي صارت الآن منبسطة بلا كثبان ترمي الظل على بعض الأرض؛ فتسمح ببعض الحياة، وتجعل من الممكن تمييز الوقت بحسب طول الظل واتجاهه. صارت الأرض الآن كلها سواء، صارت أكثر فقدا للتمايز مما كانت، فقدت ورقة التوت الأخيرة التي كانت تحفظ لها النزر اليسير من الهوية، وباتت أخيرا عارية، مستباحة. ما بين غمضة عين وانتباهتها اختفت كل تلك التعرجات والمنحنيات التي أبدعتها الطبيعة على مدار دهور ودهور، محيت تلك الرسوم البديعة التي شكلت هوية الصحراء من قبل أن يوجد الحجر والشجر، وكأنها لم توجد يوما، وكأن لم يكن لهذه الصحراء تاريخ، وكأن لم تمر بها ريح ولم يرطب جفاف جوفها قطرات مطر.
كانت الكائنات الجديدة أشد قبحا من سابقاتها، كانت مفترسة متوحشة، كان لها مخالب وأنياب هائلة كالحيوانات المنقرضة التي عاشت هنا في غابر الدهر، ثم ماتت حين لم تحتمل قسوة الصحراء وندرة الغذاء. لكن تلك الوحوش الجديدة تلتهم كل شيء ولا تبالي، إنها تلتهم الرمال الصفراء نفسها، تغرس مخالبها في قلب الأرض ثم تخرجها وقد امتلأت بالرمال، وبما بقي من جذور الشجر ورفات الدواب وجحور الزواحف. أي وحوش غاشمة تلك التي تلتهم الرمال وتأكل الأرض!
لم تزل تلك الوحوش تحفر أخاديد في قلب الأرض وتخرج باطنها لتلقي به في جوف وحوش أخرى تجري به بعيدا، وكأنها تهرب بما سرقته من رمال قبل أن تبتلعها الأرض الغضبانة، ثم تعود ثانية كأنما قد تقيأت ما التهمته من رمال الصحراء بعيدا، فعادت لتملأ منها جوفها تارة جديدة. لا تشبع تلك الوحوش قط من التهام الأرض!
الفصل السادس
أبريل 1994م
خلف المكتب المعدني نفسه بشركة المحاسبة القانونية الواقعة في شقة كبيرة بالطابق الأرضي من بناية جديدة، ضمن كثيرات يماثلنها في الشكل، كلها من سبعة طوابق تختلط فيها مكاتب الشركات بعيادات الأطباء بالشقق السكنية، وتتوسط كل أربع منها مساحة فسيحة من النجيل الأخضر، تتناثر فيها أشجار حديثة الغرس، وزهور منسقة بشكل جيد، وتصل بينها شوارع هادئة مسفلتة بإتقان، ولا يمر بها الكثير من السيارات في معظم الأوقات. لم يكن ياسين في البداية مستريحا للعمل في منطقة سموحة النائية تلك، فلم يكن الوصول إليها يسيرا؛ إذ لم تكن تربطها بمحل سكنه خطوط مواصلات مباشرة، فكان مشواره اليومي يبدأ بأن يستقل الترام إلى محطة سيدي جابر، ثم يعبر النفق المؤدي إلى الجانب الخلفي من محطة السكك الحديدية، حيث يستقل من هناك الميني باص المتجه إلى حدائق النزهة، ثم يهبط منه أمام مبنى السوق التجاري الجديد، الذي لم يزل خاليا إلا من بعض محلات ومقاه متناثرة، حيث تمتد من ورائه على مسافة سير يسيرة عمارات التعاونيات التي يقع مقر شركته في إحداها. كانت رحلتا الذهاب والعودة مرهقتين بعض الشيء، وخاصة فيما يتعلق بالمشي في شهور الصيف الحارة برطوبتها الخانقة وشمسها الساطعة، لكنه اعتاد على تلك الرحلة في وقت قصير كما هو طبعه في التأقلم مع أي ظروف مستجدة، فقط في أيام النوات الممطرة، أو في الأيام التي كان يستيقظ فيها متأخرا كان يضطر لاستقلال سيارة أجرة، وكان ذلك بجانب أنه يفسد عليه ميزانيته الصغيرة التي لا تحتمل أي مفاجآت، فقد كان كذلك يعاني كثيرا ليجد سائق سيارة أجرة يوافق على الذهاب إلى منطقة سموحة؛ حيث كان غالبية السائقين يجدونها صفقة خاسرة بما أنهم سيعودون من تلك المنطقة فارغين على أغلب الظن.
لم يكن والده كذلك سعيدا بتلك الوظيفة التي تضطر ابنه للذهاب يوميا إلى خارج المدينة، فقد كان شريط السكك الحديدية بالنسبة إليه هو حدود الإسكندرية، ولم يكن خلال عودته من أي زيارة لنادي سموحة الرياضي أو لحدائق النزهة يعتبر نفسه قد دخل حدود المدينة قبل أن يعبر بجانب مبنى مصنع فورد - الذي كان قد أغلق - وقبل أن يعبر أسفل شريط السكك الحديدية من نفق مصطفى كامل، وحتى يظهر أمامه على اليسار مصنع المياه الغازية الذي كان في طريقه للإغلاق هو الآخر. لم تكن سموحة في نظر أبناء ذلك الجيل سوى ضاحية على أطراف المدينة لا تحوي إلا النادي الرياضي، ثم المزارع والمصانع التي تمتد حتى حدائق النزهة وأنطونيادس على ضفاف ترعة المحمودية. •••
ثم رحل أبوه بعيدا، رحل إلى وادي الرجال الأقدمين، هناك حيث توجد مدافن العائلة على أطراف الرمال اللانهائية قرب بلدته النائية في أعماق الصعيد، حيث أمضى طفولته وصباه في أزمنة سحيقة مع تلك الشخصيات الغامضة، أولئك الذين كانت تلتمع عيناه بالشغف حين كان يذكر حكاياته معهم، أولئك الذين كان يتحرق شوقا للحاق بهم. فقد ياسين سنده الأول وملاذه الوحيد، لكن لعله خير، لعله الآن مستبشر، لعله الآن يتسامر مع رفاق صباه الذين سبقوه إلى هناك، ويحكي لهم كيف تبدلت الأيام، وكيف عاد إلى رحابهم القديم من دنيا لم تعد تعرفه ولم يعد يعرفها، كيف فارق هواء لم يعد عالقا به من رائحة الأيام الحلوة إلا ذكريات، وكيف أن تلك الجدران ما عادت تذكره، وكيف طمست جدران الأمس بطبقات فوق طبقات حتى لم تعد تراه، ولم تعد تبتهج لحضوره مثلما اعتادت، وكيف صار له أحباب على الضفة الأخرى أكثر مما له على ضفة الدنيا. لعله الآن يمرح، يتسلق النخل الشاهق على ضفاف النهر كما اعتاد أن يفعل وقت أن كان هناك نخل ونهر.
عندما ذهب ياسين بجثمان أبيه ليدفن بجوار أجداده كما أوصاه في أواخر أيامه، أحب مشهد السماء في ليل قرية أبيه النائية كثيرا، للمرة الأولى في عمره يرى بعينه المجردة هذا الكم المذهل من النجوم في السماء، كان قد رأى ربما مشاهد مشابهة في الأفلام الوثائقية الأجنبية التي يذيعها التليفزيون، لكنه لم يختبر من قبل شعور التحديق بالعين المجردة في سماء شديدة الدكنة تزينها لؤلؤات لامعات تتفاوت في الحجم ودرجة السطوع، كما شاهد في تلك الليلة مستلقيا على ظهره فوق الأرض الزراعية الرطبة المغطاة بالقش وقشور قصب السكر، متطلعا إلى السماء بدهشة طفل يختبر إحساس المشي للمرة الأولى، رأى هناك تكوينات بديعة من النجوم لا بد أن رابطا ما يجمعها كما كان يقرأ في كتبه المدرسية دون أن يفهم، وأنى له أن يفهم وهو فتى المدينة المزدحمة التي لا تسمح سماواتها الصاخبة بالأضواء إلا برؤية القمر متواريا خلف بناية شاهقة، أو بعيدا عند الأفق؟! ومن حوله تبدو على استحياء نجمات شاحبات الضوء. حاول استرجاع ما قرأه في الكتب عن الدب الأكبر والدب الأصغر، وتلك المسميات التي بدت له مضحكة في حصة العلوم بالمدرسة الابتدائية، وإذا بها تظهر أمامه الآن على صفحة السماء الرائقة كشاشة عالية الدقة كما لو كانت من لحم ودم. أخذ يحاول الربط بين تشكيلات النجوم اللانهائية واستنتاج النظريات والتطبيقات في شغف عارم. بعد ليلته الرابعة صارت له صداقات مع نجوم بعينها، يلقي عليها التحية ويسألها عن أحوال جاراتها اللاتي يتصادف شحوب ضوء إحداهن أو انزواء أخريات. أمست له القدرة على مخاطبة تلك النجوم وتتبع أسرارها، أخذته تلك السماء الصافية إلى أجواء الصوفية والصفاء النفسي، فكان في ليلته الأخيرة قبل العودة إلى الإسكندرية مستلقيا على ظهره ينشد مخاطبا النجوم:
سقاني الراح في ليل التداني
بكأس النور من بحر المعاني
وشاهدت المشاهد وهي تجلي
برنات المثالث والمثاني
وعاينت الجمال الصرف لما
شربت براحتي من الدنان
سكرت وتهت عن حسي ونفسي
وملت برشف راحي عن زماني
وقد كلفت كتم السر حتى
شربت فباح عن سري لساني
ولا لوم علي ولا عتاب
فعشق جمال حسنكمو علاني
شعر محمد ماضي أبو العزائم (1869-1937م)
أتاحت له الأيام القليلة التي قضاها في القرية وقتا كافيا وذهنا صافيا للتأمل، ولتقييم موقفه من الحياة ومن العمل ومن الناس، كان في حاجة إلى الابتعاد قليلا عن الإسكندرية وعن الشركة وعن الأصدقاء وعن روتينه اليومي هذا بأكمله، وحتى عن فريدة ذاتها، لكي يمكنه رؤية مجمل حياته بوضوح كما يرى تلك النجوم البعيدة في ظلام السماء. •••
صار الآن وحيدا في تلك الشقة العتيقة، ينام بمفرده على نفس السرير بنفس الغرفة كما اعتاد أن يفعل طيلة أربع وعشرين سنة هي كل عمره، لكنه منذ تلك الليلة لم يفارقه الشعور بالبرد، مهما تدثر بالأغطية، ومهما أحكم إغلاق النوافذ، ومهما دس الملاءات القديمة تحت عتبات أبواب الشرفة، لم يكن باستطاعته الإحساس بدفء البيت كما كان يعرفه، كانت رطوبة الشتاء تنشع من تربة الأرض تحت قدميه عبر بلاط الأرضية البارد، وكان يلحظ ذلك للمرة الأولى، لم ينتبه طوال سنوات العمر تلك كلها إلى برودة تلك الشقة وإلى وحشة الظلمة فيها أثناء الليل، ربما كانت أنفاس أبويه هي ما يد تلك الشقة العتيقة الباردة، ربما كانت تلاوة أبيه المسائية المعتادة للقرآن هي ما يسكن تلك الوحشة، كان ينسل من فراشه عندما تبلغ البرودة ذروتها قرب بزوغ الفجر ليندس في فراش أبويه، ويدثر جسده بلحافهما الأخضر الأثير ذي الغطاء القطني الزاخز بزهور صفراء كبيرة، فيغرق حتى الصباح في نوم عميق لا تؤرقه برودة أو رطوبة. كان يستيقظ في دفء فراش والديه ليجهز نفسه ليوم عمل جديد، وهو يدرك أنه قد أصبح منذ الآن بمفرده في هذا العالم، وأن عليه أن يتعايش مع هذه الحقيقة، لم يعد لديه ذلك الجدار الصلب الذي يمكنه أن يستند إليه عندما يترنح تحت ضربات الأيام، ولم يعد لديه ذلك الحضن الدافئ الذي يمكنه أن يلقي فيه بروحه عندما تشتد عليها الجراح.
عندما عاد من القرية كانت مدام كوستا قد ماتت كذلك، لم يجدوا في بيتها حين دخله ورثتها من الأقارب البعيدين أصحاب تلك السيارة الأمريكية الكبيرة قديمة الطراز سوى الكثير من أصص النباتات؛ نباتات متنوعة في أصص مختلفة الأحجام تحتل كل الغرف، كانت كلها في حالة جيدة ومعتنى بها باهتمام بالغ.
مايو 1994م
على طاولتهما الأثيرة بالشرفة الخارجية لنادي المهندسين على كورنيش سابا باشا جلسا صامتين، يرتشفان كوبين من أسوأ نسكافيه يمكن تذوقه في الإسكندرية، بينما يحدقان في البحر الممتد الذي بدأ في الهدوء بعد هياج الشتاء الطويل. شاردا كان ياسين وصامتا، ولم يكن ذلك بغريب عليه أو بجديد، لكن شروده اليوم بدا كما لو كان نتيجة الاستغراق في التفكير في أمر جلل. سألته فريدة في اهتمام: ماذا بك؟
استدار ليواجهها وهو يبعد بيده كوب النسكافيه دون أن يكمل منه رشفتين، اكتسى وجهه بعلامات جدية واضحة وأجاب كأنما يزيح من فوق صدره حجرا: لقد تلقيت عرض عمل.
تهلل وجهها وأجابت في حماس: عظيم! هذا خبر ممتاز! أهو عرض جيد؟ هل سيدفعون راتبا يستحق أن تترك من أجله وظيفتك الحالية؟
أجاب بنفس النبرة وهو ينظر في عينيها ليتبين وقع كلماته عليها: من ناحية الراتب نعم، سيدفعون أكثر بكثير، سيدفعون ما يزيد عن ستة أضعاف ما أحصل عليه هنا، ستة أضعاف ما أحصل عليه في مصر.
تبدلت ملامحها بالكامل من الحماس البالغ في بداية الجملة إلى الصدمة والوجوم في مقطعها الأخير، فهمت ما يعنيه بتلك الجملة الأخيرة بسرعة فأجابت في هدوء: أين هو هذا العمل؟ في أي بلد؟
أجاب بشكل آلي كأنما كان ينتظر هذا السؤال: في جدة، السعودية.
ارتفع صوتها قليلا وهي تجيبه في حدة جعلت رءوس بعض الجالسين في المكان الهادئ تستدير إليهما في فضول: لكن هذا يغير خططنا بالكامل يا ياسين ! السفر إلى خارج البلاد لم يكن أبدا في خطتنا، لم يكن هذا ما اتفقن...
قاطعها قائلا بصوت منخفض أكثر من اللازم لينبهها بشكل غير مباشر إلى ارتفاع نبرة صوتها: لم يكن هذا ما اتفقنا عليه نعم أعرف، لكن ما الذي بيدي لأفعله؟ لم نتفق أيضا على أن أتقاضى تلك الملاليم الزهيدة أليس كذلك؟ لم نتفق على أن يموت أبي وأصبح بلا سند! لدي قسط الشقة الشهري الذي يجب أن أدفعه بانتظام، تعرفين أن هذا القسط يعادل ثلثي راتبي! ما الذي يمك...
خفضت صوتها هذه المرة مقاطعة في نبرة تفهم وتعاطف: يمكننا تدبر أمورنا هنا يا ياسين، يمكننا دائما أن نجد حلا ما؛ أنت تعرف أنني أعد الآن مشروع تخرجي، وسوف أتخرج بعد ثلاثة أشهر، يمكنني الحصول على عمل، لدي أكثر من عرض من أساتذتي في الكلية للعمل في مكتب أحدهم، ويمكنني البدء في العمل قبل ظهور النتيجة، يمكننا مساعدة بعضنا البعض فهي حياتنا ومستقبلنا نحن على أي حال، وسنصنعهما سويا كما اتفقنا، علينا أن نقاوم قليلا يا ياسين، لا يجب أن نهرب عند أول عقبة.
أجاب في نبرة تحمل بعض الاعتذار أو ربما التبرير: أعرف كل ما تقولين يا فريدة وفكرت فيه كثيرا، ألا تعتقدين حقا أنني فعلت؟ لكنني لا أهرب، إنما أجرب طريقا آخر غير الطريق الذي أسير فيه، وأنا أعلم وأنت كذلك تعلمين أنه مسدود. الدنيا واسعة فلماذا نحتجز أنفسنا في هذه المساحة الضيقة؟ عندما نظرت إلى السماء في قرية أبي أحصيت عددا من النجوم لم يكن يخطر ببالي أنه يمكن أن يكون موجودا، لماذا إذن لا نختبر احتمالات أخرى؟
ثم أردف بلهجة أكثر حيادية كمن يقرأ تقريرا في اجتماع عمل: سأسافر لسنوات قليلة، أربع أو خمس سنوات على أقصى تقدير. لقد أجريت دراسة مالية محكمة للخطة كلها؛ السنوات الأربع الأساسية ستكون كافية لتوفير رأس مال جيد يمكنني العودة به والبدء في مشروع خاص، أو الاستثمار في مجال يضمن لنا عائدا مناسبا لاستكمال حياتنا. أما السنة الخامسة فيمكنها أن تغطي أية احتمالات لظروف قهرية قد تفسد الخطة. هذا صميم عملي يا فريدة، وأنا أعرف جيدا ما أتحدث عنه، يمكنني حتى أن أريك قائمة التدفقات النقدية التي أعددتها على الكمبيوتر للسنوات الخمس بالكامل؛ لكي تتيقني من دراستي للخطة جيدا وبطريقة علمية، ومن أن ما أقوله ليس محض أحلام.
استمعت إليه بصمت ثم أجابت في تصميم واضح: أنا غير موافقة يا ياسين، لن أترك هذه المدينة، لن أبتعد عن أمي وأبي في عمرهما هذا وأنا وحيدتهما؛ أمي مريضة ومرضها خطير وأنت تعلم ذلك، أنا من تنظم لها مواعيد أدويتها، وأنا من تصطحبها إلى عيادات الأطباء ومراكز الأشعة، فلم يعد أبي يملك العافية الكافية ليقوم بتلك المهام. لم تنفق تلك المرأة وذلك الرجل عمريهما في تربيتي لكي أتركهما عندما يحتاجان لي، ولا لكي أسافر إلى دولة أخرى ليصبح كل ما يربطني بهما مكالمة هاتفية أو بضع خطابات في المناسبات والأعياد، كما أنني كذلك لن أعيش في بلد لا أستطيع الخروج فيه إلى الشارع بمفردي، ولا أستطيع العمل، ولا يمكنني حتى مغادرته إلا بتأشيرة خروج، وبالتأكيد لن أنتظرك هنا لخمس سنوات ربما تمتد إلى سبع أو عشر أو عشرين. أنا أثق بدقة حساباتك بالطبع، ولكنني لا أثق بتقلبات الزمن. لقد أنفقت خمس سنوات من عمري في هذه الكلية الصعبة لكي أعمل وأنجح وأحقق ذاتي بعد التخرج، لا لكي أقبع وحيدة أمام التليفزيون في بلد غريب، ليس هذا ما أريده لحياتي يا ياسين، ليس هذا ما اتفقنا عليه.
ارتبك بعض الشيء من ذلك التصميم الذي لم يتوقعه، أطرق قليلا متطلعا إلى البحر ليفكر، ثم قال بعد برهة: هذه فرصة عمري يا فريدة، أتفهمين؟ أحتاج إلى المال ليمكنني أن أتنفس قليلا، ليمكننا معا أن نتنفس قليلا، لا توجد فرص كثيرة هنا، لقد كنت محظوظا بالحصول على هذه الوظيفة على أي حال، ولا أتوقع أن أحصل على أفضل منها في المستقبل القريب. هذا هو سقف المتاح هنا، هذه المدينة ضيقة جدا يا فريدة، هذه المدينة أضيق كثيرا مما تتصورين.
عادت نبرتها إلى التفهم والتعاطف فقالت في حنان: فلتذهب إلى القاهرة إذن، الفرص هناك أكثر والقاهرة ليست ببعيدة، ليست في دولة أخرى على أي حال.
هز رأسه كأنما ينفض عنه الفكرة، وقال في نفاد صبر: القاهرة كالإسكندرية، الفرص أكثر نعم، لكن الساعين وراء تلك الفرص أكثر كذلك، الجميع من كل المحافظات يذهب إلى القاهرة ليبحث عن عمل، هذا البلد كله يختنق ويخنقنا معه. أنا بالطبع لا أريد الاغتراب، وأعرف مسبقا أنها ستكون تجربة قاسية، فلست بطفل صغير، ولكنني لن أستطيع الاستمرار في التظاهر بأن كل شيء هنا على ما يرام، وأن المستقبل سيكون مشرقا. لا يا فريدة، يؤسفني أن أبلغك بأنه ليس كل شيء على ما يرام، الحياة ليست وردية، والمستقبل لن يكون مشرقا، لا توجد هنا وظائف كافية، لقد تخطى تعداد هذا البلد الستين مليونا، يتخرج في كل عام خمسة عشر أو ربما عشرون ألفا يحملون نفس شهادتي الجامعية، أي مستقبل يمكننا توقعه في بلد يتنفس هواء ملوثا وينخر الفساد في عظامه؟ يجب علينا أن نواجه أنفسنا بالحقيقة قبل فوات الأوان، هذا البلد سيئ.
ثم أمسك بكوب النسكافيه الموضوع أمامه ورفعه في وجهها وقال بصوت ارتفع قليلا من فرط الانفعال حتى لفت إليهما أنظار الفضوليين ذاتهم مرة أخرى: هذا النسكافيه سيئ يا فريدة، أنا وأنت نعلم ذلك جيدا، ولكننا نتجاهل هذه الحقيقة الواضحة ونواصل المجيء إلى هنا وطلب النسكافيه في كل مرة ودفع ثمن لا يستحقه، يجب أن نتوقف عن فعل ذلك يا فريدة فهذه حماقة، ونحن لا نملك ترف ارتكاب المزيد من الحماقات.
بسطت فريدة كفيها أمامها كتعبير عن العجز، ثم أجابت بعد برهة قصيرة في صوت منخفض محبط: أعرف ما تعنيه وأتفهم دوافعك، لكنني حقا لا أستطيع، عندي دوافعي وأسبابي أنا كذلك، لا أعرف ما يتوجب علي فعله، أنا فقط لا أستطيع ترك هذه المدينة.
أجابها في نبرة يائسة لكنها حازمة في آن واحد: تعرفين أنني تخليت عن حلمي بالهجرة لكندا من أجلك يا فريدة، ومن أجل أبي كذلك لكي أكون منصفا، فلم يكن باستطاعتي تركه هنا بمفرده ، ولا أظنني أرغب في الهجرة الآن على أي حال حتى بعد وفاته، لم أعد أحلم بالديمقراطية والحرية وتلك الرفاهيات، لم أعد أحلم إلا بدخل يكفيني أنا وأنت لنؤسس بيتا ولنعيش حياة طبيعية كالبشر، لكنني كذلك لم أعد أطيق البقاء في هذا البلد.
أغسطس 1994م
على رمال ذلك الشاطئ الأرستقراطي وقفا متجاورين ذات عصر يوم صيفي شديد الرطوبة، لم يكن التمتع بشرف الدخول إلى العالم السري لشاطئ بيانكي بالعجمي متاحا وقتذاك إلا لقلة محظوظة من الأثرياء وأصدقائهم. كانت الحكايات تنسج عنه وعما يوجد بداخله، وكان الجميع يسمع به ويتداول تلك الحكايات، ولكن لا يدرك الوصول إليه إلا تلك الفئة السعيدة، ولأن لياسين بعض المعارف والأصدقاء من أولئك الذين وقعت كراتهم في لعبة الروليت الكبيرة المسماة بالحياة في خانة الحظ السعيد فولدوا لآباء أغنياء؛ فقد كان باستطاعته من حين لآخر تدبير بعض بطاقات الدخول له ولأصدقائه. كان ذلك اليوم هو موعد الحفل السنوي الذي يحضر فيه المطرب الأشهر عمرو دياب ليغني حصريا لرواد شاطئ بيانكي، وكان بالمصادفة ذكرى مولد فريدة. كان الزحام شديدا، وكان الصخب فوق المعتاد، الكثير من مكبرات الصوت السوداء الضخمة نصبت على قواعد معدنية مرتفعة في كل أرجاء الشاطئ، لتصدح منها موسيقى غربية صاخبة، ينتقيها بعناية منسق الأغاني الشاب، الذي وقف على المنصة الخشبية المرتفعة بشورت فوسفوري لامع ونظارة شمسية من طراز كارتييه ذات عدسات عسلية اللون، وقد لوحت الشمس صدره العاري بحمرة داكنة. ظل الشاب يتقافز مع إيقاع الأغنيات الجديدة للفرق الغربية الشهيرة، وسط ترديد الجمهور المتراقص على الرمال وفي مياه البحر لكلمات الأغنيات بالإنجليزية، وفي بعض الأحيان بالإسبانية والإيطالية، بينما تتصاعد من المشهد الصاخب أدخنة السجائر والروائح النفاذة للبيرة الأجنبية في علبها المعدنية الخضراء، في انتظار قدوم النجم الذي سيغني بالتأكيد - كما تعود في كل صيف - مقطعا من ألبومه الجديد الذي لم يصدر بعد، مانحا بعض التميز للجمهور المحظوظ؛ ليتفاخر به بين أولئك العاديين ممن هم خارج حدود جنة بيانكي المحرمة.
كان ياسين قد وصل إلى هناك وبصحبته فريدة بعد أن اصطحبها من بيتها مستقلين ترام الرمل رقم 2 إلى محطة الرمل، ثم الميني باص الأزرق الجديد المتجه إلى البيطاش من ميدان سعد زغلول أمام فندق سيسيل في رحلة استغرقت ما يزيد على الساعة ونصف الساعة، حتى نزلا عند سنترال العجمي حيث يبدأ الشارع الرملي المؤدي إلى مداخل شاطئ بيانكي من شارع البيطاش الرئيسي، كان قد وعدها بأن يحتفلا معا بذكرى مولدها هذه السنة في حفل عمرو دياب الذي كانت تحبه كثيرا، بينما كان هو أكثر ميلا لمحمد منير بأغنياته؛ ذلك للمعاني الأكثر صدقا والموسيقى الأكثر جرأة.
لم يحاولا الاقتراب من المنصة الصاخبة؛ حيث لم يكن الزحام هناك محتملا، كما أنهما شعرا منذ الوهلة الأولى بعدم الانتماء لذلك المكان وكأنهما قادمان من عصر آخر، ابتعدا في اتجاه البحر الذي كان مكتظا هو الآخر بالسابحين، فتداخل مع صوتيهما هدير موج البحر وعصف الهواء وصخب الموسيقى وضحكات الراقصين من حولهما، قال لها بحنان وهو يمسك بيدها مطالعا انعكاس أشعة الشمس المائلة إلى المغيب على حدقتي عينيها: كل سنة وأنت بخير.
أجابت فيما بين العتاب والدلال: والعام القادم؟
ارتبك قليلا ثم أجاب في لهجة مطمئنة: العام القادم أعود إليك، نتقابل هنا في ذات المكان، نحضر ذات الحفل، أعدك بذلك.
ظهر الإحباط عليها وهي تجيب في ضجر: لقد سيطرت عليك فكرة السفر تماما يا ياسين، لا أصدق ذلك. ألم نتناقش مرارا في ذلك الموضوع؟
أجاب بلهجة اجتهد لتبدو واثقة: لقد قابلت صاحب عرض العمل الذي حدثتك عنه أمس الأول في الفندق الذي يقيم به في القاهرة، كنت سأحكي لك التفاصيل حالا؛ إنها شركة كبيرة للمقاولات لها ثلاثة فروع في جدة والرياض والدمام، لكنني اخترت جدة لأنني أعرف أنها الأكثر انفتاحا. الرجل مهذب ومتعلم كما أنه يقدر كفاءتي، لقد توصلنا إلى اتفاق جيد، تفاوضت معه على زيادة الراتب الذي عرضه في البداية فوافق، كما أنه سيوفر لي السكن . أتعرفين؟ بعد هذه المستجدات أعدت حساب التدفقات النقدية ووجدت أن أربع سنوات ستكون أكثر من كافية ، لن أحتاج حتى إلى سن...
قاطعته في بعض الحدة: هذا لن يحدث يا ياسين، أظنني كنت واضحة في ذلك.
أجاب في بعض الغضب وهو يتفادى الراقصين المارين بينهما: لماذا تفعلين ذلك بي يا فريدة؟ أريد أن أبني مستقبلنا وأحاول أن أفتح أبوابا جديدة، فلماذا ترفضين حتى مناقشة الأمر؟ إن لم نتعب وإن لم نبذل بعض التضحيات الآن فمتى نفعل؟
ارتفع الضجيج على رمال الشاطئ فجأة بشكل هيستيري، وانطلق الصفير والصيحات وعلا صوت التصفيق، بينما الرءوس جميعها تستدير ناحية المنصة المرتفعة، حيث ظهر النجم المنتظر في قميص قطني أبيض قصير الأكمام مفتوحة أزراره حتى المنتصف، وشورت برتقالي وحذاء صيفي خفيف، وقد قصر شعر رأسه بدرجة كبيرة أدهشت الحضور، وبدأ يصدح بأغنيته «ضحكة عيون حبيبي» التي كانت حديث العام السابق كله.
كانت فريدة تجتهد في رفع صوتها ليصل إليه، لكن الضجيج كان أعلى من أن تهزمه طبقة صوتها الضعيفة، تداخل الراقصون والسابحون بينهما وقد أصبحا في الماء حتى ما دون الركبة بقليل، انتهت الأغنية الأولى وتصاعد الصياح والصفير والتصفيق من حولهما مرة أخرى، وعندما هدأ الضجيج قليلا في انتظار إعلان النجم عن الأغنية التالية، قالت رافعة صوتها أكثر وهي تقاوم الانجراف وسط الحشد المتحرك الراقص: لن أترك مصر يا ياسين، لقد عرضت علي الدكتورة نجوى أستاذتي في الكلية أن أعمل في مكتبها، سأبدأ العمل من بداية الأسبوع القادم، لم نتحدث بعد عن الراتب ولكنني أعرف متوسط ما تدفعه للخريجين الجدد، وهذه فرصة جيدة لي.
أجابها بصوت مرتفع وقد فرق بينهما الزحام قليلا: سأذهب أنا يا فريدة، لن أطلب منك التضحية بمستقبلك. سأذهب وحدي ثم أعود إليك لنتزوج، فقط أربعة أعوام كما وعدتك، وسأعود في إجازة كل عام بالطبع.
ازداد الضجيج مرة أخرى عندما أعلن النجم أنه سيغني أغنية جديدة للمرة الأولى، حبس الجميع أنفاسهم انتظارا للمفاجأة، ازداد ابتعادهما مع تحرك الجموع خارجة من الماء في اتجاه المنصة، صار هو في الماء إلى ما فوق ركبتيه، بينما جرفتها الجموع في اتجاه الرمال قليلا . قالت بينما كانت الجموع في نشوة الترقب: لن تعود بعد أربع سنوات يا ياسين، أربع ستجر أربعا ثم أربعا، ستضيع أعمارنا في الانتظار.
انطلق النجم يشدو بأغنية جديدة ستصدر في الألبوم الجديد:
ملهاش حل تاني، ملهاش حل تاني
يا نعيش الحياة أنا وانت، يا وقفت ف مكاني.
يزداد ابتعادهما حتى لا يكاد بمقدوره رؤيتها بوضوح من بين الوجوه والصيحات والأيدي المرفوعة بالتصفيق، يصيح محاولا إيصال كلماته إليها عبر الضجيج الهادر المحيط بكل الأشياء من حولهما: سأعود يا فريدة، سأعود.
لم يعد بإمكانه رؤيتها أو سماع صوتها، ازدادت الأعداد على الرمال وفي الماء إلى أضعاف ما كانت عليه، لم يعد يمكنه تمييزها من بين الجموع الصاخبة، بحث عنها، صاح باسمها، اخترق الحشود طلبا لما يوصله إليها، خرج إلى البوابات ثم عاد إلى الشاطئ، ابتعد عن الحشود الراقصة ثم عاد وألقى بنفسه داخلها، توالت الأغنيات وازداد الصخب حتى أصبح فوق قدرته على الاحتمال. الكل يرقص ويصيح ويرفع ذراعيه عاليا بالتصفيق، كان العالم كله من حوله يسبح في الضجيج، لكن فريدة لم تكن في أي مكان. •••
في صباح اليوم التالي اندفع ياسين داخلا محطة القطار في سرعة يداري بها عصبية وتوترا بالغين؛ كان قد قضى الليلة السابقة منذ عاد من العجمي بدون فريدة بلا دقيقة نوم واحدة، كانت رأسه تغلي بالأفكار وعقله يعالج كل التباديل والتوافيق لكل الاحتمالات الممكنة لأي من القرارين، لكنه فشل تماما في اتخاذ قرار محدد؛ أيبقى من أجلها أم يسافر من أجل مستقبله ومن أجلها أيضا؟ لم يكن يعرف إلى أين هو ذاهب، لكنه توجه مباشرة إلى شباك حجز التذاكر ذي الواجهة الزجاجية على الجانب الأيمن من صالة المدخل الفسيحة لمحطة قطار سيدي جابر، التي يحتل جانبها الآخر بائع الصحف والمجلات والكتب الذي يثبت معروضاته على هيكل معدني كبير بمشابك غسيل خشبية. انتظر طويلا بنفاد صبر في الطابور أمام شباك التذاكر حتى حان دوره، فطلب حجز تذكرة من الدرجة الثانية في أول قطار مغادر إلى القاهرة، أخبرته الموظفة البدينة ذات النظارات السميكة بلا مبالاة بأن القطار الإسباني موجود بالفعل على رصيف المحطة وأنه سيغادر حالا إن كان يستطيع الركض للحاق به. ناولها بلا تردد من خلال الفتحة الدائرية الصغيرة في الزجاج الفاصل بينهما ورقة من فئة العشرين جنيها، وطلب منها أن تطبع التذكرة بسرعة، ثم خطف التذكرة من يدها بمجرد أن تناولتها من الماكينة وركض دون أن يلتفت لندائها غير الملح ولا لنداءات الواقفين في الطابور له ليستعيد باقي نقوده. اصطدم في ركضه عبر النفق الذي يمر أسفل أرصفة وقضبان المحطة بكتف رجل أشيب يهبط الدرج على مهل، اعتذر له بكلمات مبهمة وهو يواصل الركض، ولم يسمع شيئا من السباب الذي انهال به الأخير عليه وعلى الأجيال التي لم تجد من يربيها، وصل أخيرا للرصيف الذي يقف به القطار فألقى بنفسه داخل أول باب قابله دون أن يعرف أي عربة كانت تلك وأي عربة يقع بها المقعد الذي حجزه، ولولا أنه يعرف المحطة ويعرف جيدا شكل القطار الإسباني والرصيف الذي يقف عنده؛ لكان ربما ألقى بنفسه داخل قطار آخر. التقط أنفاسه داخل العربة وأخذ يبحث عن رقمها وينظر في تذكرته، في حين كان القطار قد بدأ بالفعل في التحرك، أدرك أنه في العربة التاسعة وأنه كان عليه أن يقطع ست عربات حتى يصل إلى حيث مقعده في العربة الثالثة. بدأ في التحرك إلى وجهته مضطرا إلى الانتظار كل بضع خطوات حتى تنتهي فتاة شابة من تعديل وضع حقيبتها التي تعيق الحركة، أو حتى يجلس رجل ضخم بعد أن يصف صناديق كرتونية كثيرة فوق الرف العلوي، أو حتى يفصل مفتش التذاكر ذو الزي الكحلي الباهت والشرائط الذهبية على الأكمام بين ركاب يتنازعون على مقعد. ظل يسير متأرجحا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد في كل عربة، ثم يفتح الباب ليخرج إلى تلك المنطقة الصغيرة بين العربات، والتي يفترشها من ركبوا دون أن يحجزوا تذاكر، أو من يريدون التدخين، ثم يعود ليفتح باب عربة جديدة ويسير من جديد عابرا ممرا ضيقا طويلا آخر بين صفوف مقاعد أخرى ثم يفتح الباب إلى منطقة فاصلة جديدة. وهكذا يتناوب على رئتيه هواء العربات المكيف وهواء المنطقة الفاصلة المعبق بخليط أدخنة التبغ، يتنقل ما بين الهدوء النسبي داخل العربات وبين صخب العجلات الحديدية وضجيج المدخنين في المناطق الفاصلة بينها؛ كان ذلك يضغظ على أعصابه المتوترة سلفا حتى توقف لالتقاط أنفاسه في إحدى المناطق الفاصلة قبل عربتين من موقع مقعده.
سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية، التي تكدس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرة إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله، صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا؛ لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.
بات في وسعه الآن التعرف على ملامح وجوه الموجودين بالمكان، وصارت رئتاه متعايشتين مع ذلك الهجوم الخاطف غير المعتاد من الدخان، كان بجوار الباب على الجانب الأيسر رجل أشيب محني الظهر يضيق وجهه بالتجاعيد العميقة، ويرتدي ثيابا قديمة الطراز يبدو أن جسده قد نحل كثيرا عما كان عليه في الزمن الذي اشتراها فيه، كان الرجل ذاهلا عن الدنيا محملقا في فراغ بعيد عبر النافذة، رافعا يده اليمنى بسيجارة بدا أنه قد نسيها فقد كانت تكاد تسقط منها كتلة من الرماد التهمت أكثر من نصف السيجارة، وعلى الجدار المجاور له يستند بظهره شاب طويل القامة في بدلة رسمية يقرأ في كتاب صغير، يمسك به بيد ويدخن سيجارة بالأخرى، انتبه الشاب إلى وجوده بعد أن رفع نظره لأول مرة عن كتابه ثم نظر نحوه في فضول، بعدها ابتسم في ود وهو يدس الكتاب في جيب سترته ، ثم يمد يده داخل الجيب الآخر مخرجا علبة سجائر أجنبية، فتح العلبة ووجهها ناحيته قائلا في نبرة مرحة: يبدو أنك نسيت سجائرك؛ تفضل واحدة.
ارتبك للحظة ثم أجاب وقد ابتسم بدوره في امتنان: لا لا، أشكرك على ذوقك. أنا لا أدخن.
أردف الشاب في إصرار: «يا برنس» إذا لم تكن مدخنا، فما الذي جاء بك إلى هذا المكان الضيق المعبق بالدخان؟ تناول سيجارة ولا تخجل!
أجاب في بعض الضجر وقد ساءه هذا الرفع غير المبرر للكلفة: شكرا، أنا فعلا لا أدخن.
صحراء
ثم جاءت كائنات جديدة، كل تلك الوحوش الغريبة قبيحة ومزعجة وغاشمة بشكل لم تعرفه تلك الصحراء من قبل في تاريخها الممتد من قبل أن توجد كل الوحوش وكل الأشجار، كانت الكائنات الجديدة - بمساعدة بعض البشر الذين لم تكن الصحراء تشهد وجودهم من قبل إلا نادرا - تتقيأ مادة رمادية كريهة فوق هياكل داكنة كشبكات العناكب، لكنها أكثر سمكا وتعقيدا واستقامة، تظل طوال النهار تفرغ ما في جوفها فوق تلك الخطوط المتطابقة المتراصة بانتظام، بدا شاذا بشكل مستفز في بيئة لا شيء فيها مستقيم أو منتظم. ثم جاء الليل وسطعت معه شموس صغيرة أضاءت الصحراء فصار الليل نهارا، فزعت الكائنات الليلية التي كانت تجد أمانها وحياتها في ظلام الليل وستره، فرت هاربة متخبطة من تلك الأضواء العجيبة غير المعتادة. كانت الصحراء تشهد كل شتاءات كثيرة انطماسا للشمس أو للقمر لوقت قصير كان يربك كل الكائنات ويفزعها، ثم يعود كل شيء إلى طبيعته سريعا، لكن لم تكن الصحراء مضيئة في الليل بهذا الشكل قط، ولم يسبق لتلك الشموس الصغيرة أن سطعت هنا من قبل.
واصلت الوحوش في الليل وتحت ضوء تلك الشموس الجديدة ما كانت تفعله بالنهار تحت ضوء الشمس الكبيرة، لم تكن تكل أو تمل، كانت تواصل الليل بالنهار وهي تكرر نفس العمل، تتقيأ وتتقيأ ولا يفرغ جوفها أبدا، لا تتوقف عن الضجيج ولا عن إصدار تلك السحابات الداكنة ذات الروائح المنفرة، حتى تلوثت سماء الصحراء وفسدت أرضها، بل إنه لم تعد هناك صحراء بعد الآن، صار هناك هيكل رمادي هائل الحجم وفارغ من الداخل، كان كطبقات من الأراضي متراصة فوق بعضها البعض تخترقها أشجار طويلة بلا فروع أو أوراق، جذوع رمادية مستقيمة متطابقة الأشكال وحادة الأطراف، كان كل شيء رماديا، الأراضي المتراصة فوق بعضها والأشجار التي تخترقها، كانت كلها باردة صامتة، لم تكن تتحرك، لم يكن الهواء يعبث بها، كأنها ولدت ميتة!
الفصل السابع
أغسطس 1994م
على رصيف محطة السكك الحديدية في طنطا وضع ياسين قدما في تردد بعد أن قرر اختيار الطريق الأول دون أن يكون على ثقة تامة من صحة قراره ذلك، ثم وضع القدم الأخرى استجابة لدفعة خفيفة لكنها فظة بعض الشيء من الراكب الذي وقف خلفه على باب القطار قائلا في لكنة ريفية: هيا يا أستاذ هل ستنزل أم ماذا؟
هرول على رصيف المحطة الكبيرة ذات المبنى الكلاسيكي الوقور، والخطوط الحديدية الكثيرة والمتقاطعة في شبكة معقدة باحثا عن المخرج، بعدما اجتاز ردهة المدخل المزدحمة بصفوف الواقفين أمام شبابيك التذاكر تلفت حوله ماسحا ببصره محلات الحلويات المقابلة للمحطة على الجانب الآخر من موقف السيارات والشارع المكتظ بسيارات الأجرة، عبر الموقف والشارع بسرعة إلى أحد تلك المحلات التي تتزاحم على واجهاتها لفافات الحلوى التي تشتهر بها المدينة، اشترى لفافات مختلفة من حلوى السمسم والسوداني والمشبك دونما تركيز، ثم سأل البائع ما إذا كان يمكنه إجراء مكالمة للإسكندرية من هاتف المحل، فأجاب الرجل بطريقة ميكانيكية بأن سعر دقيقة المحافظات عشرون قرشا. أمسك بالهاتف وطلب رقم بيتها وظل منتظرا لثوان قليلة مرت عليه كسنين حتى جاءه صوتها، تكلم مباشرة كأنما يطلق دفعات من الرصاص من بندقية آلية: لن أسافر يا فريدة، سأبقى هنا من أجلك، أنا قادم إليك الآن، فقط مسافة الطريق، ساعة ونصف أو ساعتان على الأكثر وسأكون أمام الباب.
ثم ابتسم وهو يتفحص ما اشتراه من الحلوى، وواصل حديثه منتقلا إلى نبرة صوت أكثر هدوءا ومرحا: هل تحبين حلوى السمسم أم السوداني؟
يونيو 2012م
خلف مكتب فخم كلاسيكي الطراز من خشب الأبنوس الداكن المطعم بزخارف دقيقة مشغولة من النحاس، جلس ياسين على كرسي من ذات الطراز ذي ظهر مكسو بالجلد البني الفاخر متصفحا في وجوم ملف الوضع المالي لشركته التي تعمل في مجال النقل بالشاحنات، بين ميناء الإسكندرية والمصانع الكبرى بالمنطقة الصناعية بمدينة برج العرب الجديدة إلى الغرب من الإسكندرية، كان قد أسس هذه الشركة مع شريكين آخرين قبل إحدى عشرة سنة، بعد أن قضى سنواته السابقة في اكتساب الخبرة العملية متنقلا بين وظائف وشركات مختلفة. كانت تلك فكرته وكان قد درسها جيدا واختارها من بين أربعة مشاريع، ظل يفاضل بينها لعدة أشهر معتمدا على ما اكتسبه من خبرات وعلاقات في السوق، لكنه لم يكن يملك رأس المال اللازم لتنفيذها بمفرده. استطاع إقناع اثنين من عملائه بمشاركته، وافق الاثنان دون طول عناء لما سبق لهما من دراية بدقة دراساته وصواب تحليلاته لمتطلبات السوق. تم تأسيس الشركة وبدأت بالعمل على الفور بحسب خطته والدراسات التي وضعها، ظل العمل مزدهرا ومربحا مع تزايد عدد المصانع في المدينة الجديدة وتطور طاقتها الإنتاجية. ينقل بشاحنات مستأجرة مستلزمات الإنتاج المستوردة من الخارج، من رصيف الميناء إلى المصانع المختلفة التي أنشئت في المدينة الجديدة، ثم يعود لنقل المنتجات المعدة للتصدير من المصانع ذاتها إلى رصيف الميناء. مكنه ذلك الازدهار من زيادة رأس مال شركته والاستثمار في شراء المزيد من الأصول؛ فطار إلى الصين في صيف العام 2010م، وعاد بأسطول من الشاحنات الجديدة بسعر جيد، ثم انتقل بمقر الشركة من مكتبها القديم قرب بوابة الميناء بمنطقة رأس التين، إلى شقة كبيرة فاخرة في إحدى البنايات الكلاسيكية ذات الطراز الإيطالي على كورنيش محطة الرمل، حيث تطل شرفة مكتبه على الكورنيش الأثري الممتد حتى قلعة قايتباي التي يمكنه رؤيتها وهو جالس على كرسيه ذي الظهر الجلدي، يرتشف قهوته التي يعدها بنفسه كل صباح من ماكينة فرنسية أنيقة لصنع القهوة تستقر على الطاولة المجاورة لمكتبه.
أنفق ياسين وشريكاه القسط الأكبر من أرباح الشركة التي تجمعت خلال السنوات السابقة على مشروع التطوير الطموح ذلك، والذي كان هو كذلك نتاج أفكاره، منتظرين طفرة كبرى في حجم أعمالهم تبدأ الشركة في جني ثمارها مع انتصاف العام 2011م على أقصى تقدير، بدت كل المؤشرات إيجابية، فقد انخفضت تكلفة التشغيل بنسبة كبيرة بعد الاستغناء عن تأجير الشاحنات وتعويضها بالشاحنات الجديدة المملوكة للشركة، والتي كانت أفضل كذلك في معدلات استهلاك الوقود؛ مما حقق توفيرا مضاعفا في النفقات. كانت التوقعات للشهور القادمة عالية قبل أن يحدث الزلزال، قبل ذلك الحدث الذي غير وجه الحياة في هذا البلد إلى الأبد، فلم يعد أي شيء هنا كما كان عليه قبل يناير 2011م.
توقف العمل تماما، توقفت الحياة كلها لأيام ثم لم تعد بعدها قط، تحول الكورنيش أسفل مكتبه إلى ساحة دائمة للتظاهرات أو الاعتصامات التي لم تنقطع حتى ذلك التاريخ، ولم يكن ثمة ما ينبئ بإمكانية انقطاعها في المستقبل القريب، كان هناك دائما سبب ما للتظاهر، إما تأييدا لاستفتاء ما أو رفضا له، إما دعما لتطبيق الشريعة أو دفاعا عن قيم العلمانية والمواطنة، إما مطالبة بحقوق الشهداء، أو استعجالا لمحاسبة رموز النظام السابق، أو دعوة لمقاطعة دولة أوروبية ما بسبب نشر رسوم كاريكاتيرية، أو طلبا لإنهاء المرحلة الانتقالية، أو دعما لثورات أخرى اندلعت في بلدان مجاورة.
كان ياسين قد فقد اهتمامه بالشأن العام منذ سنوات، لم يعد يشغله سوى إدارة أعماله ورعاية أسرته الصغيرة، استمر على عزوفه حتى عن التصويت في أي مناسبة من تلك السلسلة من الاقتراعات التي لم تنقطع منذ تخلي ذلك الرجل المسن عن السلطة، فيما عدا الانتخابات الرئاسية التي كانت الحدث الوحيد الذي يفهمه ويمكنه اتخاذ قرار بشأنه. يمكنه بالطبع كرجل ناضج متعلم أن يختار الشخص الأنسب لقيادة البلاد من بين عشرة مرشحين، لكنه لن يجعل من نفسه أبدا مجرد رقم يرجح كفة فريق ما على آخر في تلك المناورات السياسية التي تختلف مسمياتها؛ ما بين استفتاءات وانتخابات نقابية ومجلس شعب ومجلس شورى، لكنها تتفق جميعها في أهدافها بتمكين فئة ما - لا يمكنه معرفه دوافعها أو أولوياتها - من مفاصل الدولة. كان هناك دائما ما يجمع تلك الآلاف من البشر إلى تجمهر ما على اختلاف المسميات؛ مسيرة أو مظاهرة أو اعتصام أو حتى احتفال، ولأنه شخص متحفظ بطبعه فلم يكن في أي يوم واحدا من تلك الآلاف، لم يمتلك يوما الدافع الكافي للانضمام إليهم، لكن لسبب ما لا يعلمه؛ وجدت كل تلك الحشود من البشر الدافع الكافي والطاقة اللازمة للمطالبة بحل مشكلات الكون كلها الآن، ولم يجدوا مكانا لفعل ذلك إلا أسفل شرفة مكتبه هو بالذات. صارت المشاجرات بين المعتصمين وبين سائقي سيارات الميكروباص الرافضين لقطع طريق الكورنيش جزءا ثابتا من روتين الحياة اليومية، حاول مناقشة بعض المتجمهرين في أكثر من مناسبة، حاول أن يوضح لهم أنهم يعطلون أعماله ويغلقون أبواب الرزق أمام موظفيه دون أن تكون له أو لأي من موظفيه علاقة بأولئك الذين يهتفون ضدهم، لكنه في كل مرة كان يصطدم بحائط صلب من الغوغائية. اقتنع بعد عدة محاولات بأنه ليس بإمكانه إقناع حشود غاضبة بإعمال المنطق؛ يتغير شيء ما في سلوك البشر حينما يكونون ضمن حشد متحمس أو غاضب، تبرز فيهم حينئذ ثقافة القطيع ويصعب التفاهم مع أي منهم بشكل فردي. أيقن تماما بعدم جدوى الحوار حينما نعته أحد أولئك الغاضبين بالفطرة بأنه من «المواطنين الشرفاء»، وكان للمفارقة ينطق تلك العبارة بتهكم واضح وكأنما يصفه بصفة مهينة؛ ألجمته المفاجأة للحظات فلم يدرك أي الصفتين هنا مقصود بها الإهانة، أهي صفة «الشرفاء»؟ ربما صار الناس يعتبرون ذلك إهانة لسبب ما لا يدركه، أم أن صفة «المواطنين» هي المهينة؟ نعم، لعل كون المرء مواطنا في هذا البلد هو سبة بالفعل.
صارت رحلات شاحناته من الميناء إلى برج العرب عبر محور التعمير أو الطريق الصحراوي ضربا من المغامرة التي تتطلب مرافقة حراس مسلحين لكل شاحنة، والتي ربما تنتهي بمطاردة ومعركة بالأسلحة النارية قد تودي بحياة أحدهم، أو على أقل تقدير تذهب بالشاحنة وما تحمله من بضائع إلى خانة الخسائر، أو خانة الهالك كما يسجلها في برنامجه المحاسبي الدقيق على الكمبيوتر. كانت الفوضى هي القاعدة، الشرطة غائبة عن المشهد بشكل كلي، قوات الجيش تظهر من آن لآخر هنا وهناك، لكنها تترك مواقع التأمين وتنتقل بسرعة لمواجهة الغاضبين أمام مقر جهاز أمن الدولة تارة، وأمام قيادة المنطقة الشمالية العسكرية تارة أخرى.
توقف الكثير من المصانع التي يتعامل معها عن الإنتاج، بعضها بشكل مؤقت لصعوبة الدعم اللوجيستي وتوقف الإمدادات وتردي الوضع الأمني، والبعض الآخر بشكل نهائي لتصفية ملاكه من المستثمرين الأجانب لأعمالهم في مصر بالكامل وخروجهم من السوق، انخفض حجم الواردات والصادرات التي يتم التعامل عليها في الميناء. لم يكن المستقبل القريب مبشرا بالخير، فحتى لو انتهت الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية بسلام وانتهت معها رسميا تلك المرحلة الانتقالية فلا يمكنه توقع الاستقرار، لقد أوصل الناخبون هذه البلاد إلى طريق مسدود بعد أن قرروا التصويت في صناديق الاقتراع بدوافع انتقامية. ألقت بنا الديمقراطية أمام خيارين يقوم كل منهما على فكرة إفناء الآخر؛ فإذا فاز المرشح العسكري السابق؛ فلن يتركه الإسلاميون ليهنأ بيوم واحد من الهدوء؛ خوفا من أن يعيدهم إلى المعتقلات بعد أن كانوا على بعد خطوة واحدة من تحقيق حلم التمكين الذي يعملون لأجله منذ ثمانين عاما، وإذا فاز المرشح الإسلامي فلن يتركه كذلك لا الثوريون ولا القوى التقليدية في هذه الدولة شديدة العمق؛ خوفا من أن يتخلص منهم واحدا تلو الآخر كما فعل نظراؤه في إيران من قبل، كما أن رفاقه في الجماعة سيتحكمون في مصير البلاد ويوجهونها نحو نموذج الدولة الدينية الذي يسعون إليه، وسيجلب ذلك علينا حتما ويلات لا يعلم عواقبها إلا الله.
كانت أعماله تندفع بسرعة جنونية نحو الانهيار، لم تفلح في توقع ذلك السيناريو كل دراسات الجدوى، وكل حسابات الفرص والمخاطر التي درسها بجدية وأنفق عليها الكثير من الوقت والجهد والمال، ومن كان يمكنه توقع سقوط تلك الدولة العتيدة المعقدة بهذا الشكل المفاجئ؟ موظفوه الآن جالسون في بيوتهم، يتقاضون رواتبهم الشهرية دون القيام بأي عمل، شاحناته الجديدة التي أنفق عليها كل ما ربح من مال مصطفة بجوار بعضها البعض في مخزن بعيد عن العمران على الطريق الدائري، تحت حراسة مشددة من بلطجية مسلحين استأجرهم لحمايتها من احتمال سرقتها من قبل بلطجية مسلحين آخرين، رغم أنه لا يملك أي ثقة في أن من استأجرهم لحراستها لن يستولوا عليها لأنفسهم، إنهم في النهاية مجرمون على أي حال، ولكن أي خيار كان قد بقي لديه غير ذلك؟ فبدلا من أن تكون تلك الشاحنات الآن على الطريق تعمل وتدر عليه المال ليغطي ما أنفقه على شرائها، إذا به يضع رأس ماله وأصول شركته تحت تصرف مجرمين يحملون السلاح.
يونيو 2013م
في غرفة نومها بالشقة ذات الغرف الثلاث بالطابق العاشر من بناية جديدة مطلة على شارع رئيسي من شوارع منطقة سموحة المكتظة بصفوف متراصة من السيارات التي لم تجد لها مكانا للمبيت في الجراجات التي تتكدس فيها السيارات أسفل البنايات الكبيرة كما تتكدس أسماك السردين في العلب المعدنية، استلقت فريدة في فراشها تعاني الأرق والقلق. انتصف الليل في الإسكندرية وقد نام الجميع أو تظاهر بالنوم، نامت المدينة التي لا تنام، سكنت مقاهي الكورنيش الصاخبة، أغلقت المحلات والشوارع والنوادي أبوابها، أقفرت الميادين التاريخية العتيقة وغاب باعتها الجائلون، وسكتت تماثيلها الباقية من عصور الازدهار والجمال، يطل محمد علي باشا من فوق تمثاله البرونزي البديع على المنشية؛ ميدانه الأثير الذي أراد به أن يجعل الإسكندرية مدينة عصرية يباهي بها كبريات الحواضر الأوروبية. ينظر أفندينا بأسى للميدان، وقد ذبلت وروده واصفرت خضرته وطالته يد الإهمال والقذارة، المباني التاريخية البديعة على جوانب الميدان بدت كشيوخ طاعنين في السن محنية ظهورهم وقد شققت وجوههم التجاعيد. تراكم التراب على هذه الجواهر المعمارية ولم تنظفها يد منذ عقود؛ أسقفية الكاثوليك، معبد اليهود، محكمة الحقانية، شارع فرنسا، كتاب كامل من التاريخ يمثله كل ركن هنا وكل حجر، قاتل الله من نهش لحم التاريخ بهذه البشاعة، ماذا فعلتم بالميدان ؟ ماذا فعلتم بمدينة الرب؟
كانت تترقب نهارا لا يعلم إلا الله ما سيأتي به، كانت الأيام مخيفة بحق، وكان الترقب ينهك أعصابها المنهكة بالفعل، يؤرقها الوضع المتأزم في المدينة من حولها، تتوقع الجدال اليومي المعتاد مع أبنائها، سيرغبون في لقاء رفاقهم في النادي، بينما ستخاف هي عليهم من الخروج إلى الشارع في تلك الأيام المقلقة. كبر الأولاد وضجروا من الاحتجاز الطويل في المنزل، يريدون الانطلاق والتمتع بإجازتهم الصيفية التي تبعت عاما دراسيا مرتبكا وعامرا بالتوقفات غير المتوقعة؛ تارة بسبب عدم توفر الوقود لحافلات المدرسة نتيجة أزمة الوقود التي لم تزل تضرب البلاد، وتارة لإغلاق الشرطة محيط منطقة المدارس الدولية الواقعة وسط منطقة فقيرة على أطراف المدينة؛ نتيجة مشاجرة ضخمة بالأسلحة النارية بين مجموعات من سكان المنطقة استمرت ليومين وأسفرت عن سقوط قتلى، وتارة ثالثة بسبب التظاهرات التي عمت أرجاء المدن احتجاجا على قرارات رئيس الجمهورية وعلى ممارسات جماعته. تعرض الأبناء لجرعة مكثفة من الضغوط للعام الثالث على التوالي؛ مما أشعل ثورتهم ضد قرارها باحتجازهم في البيت مع بداية الإجازة، فقد كانت أثناء شهور الدراسة ترسلهم إلى المدرسة في كل صباح مضطرة، لو كان الأمر بيدها لاستبقتهم في البيت بدلا من أن ينهش قلبها القلق في كل يوم حتى يعودوا إليها. كان النادي على بعد خطوات قليلة من بيتهم، مسيرة عشر دقائق يجتازون فيها ميدان فيكتور عمانويل فيصبح سور النادي أمامهم، لكن الشارع ليس آمنا. قبل يومين خرجت معهم مساء إلى سوق الكمبيوتر المجاور لشراء بعض المستلزمات ففاجأتهم تلك المجموعات المسلحة بالهراوات والجنازير الحديدية التي خرجت لتثير الرعب في الشوارع، كإجراء استباقي تكرر عدة مرات لتخويف حشود الثائرين التي تستهدف اجتياح مقر جماعتهم الدينية الحاكمة الواقع خلف محطة القطار على بعد أمتار قليلة، في ظرف ثوان كانت كل المحلات الصغيرة المتجاورة في سوق الكمبيوتر قد أغلقت بواباتها الحديدية خوفا من النهب ومن تحطيم واجهاتها الزجاجية. لم يستطع أحد تحديد الاتجاه الذي ستأتي منه تلك المجموعات التي وصلهم فقط ضجيج هتافاتها الدينية المعروفة، مختلطا بصخب ضرب الجنازير على أسطح معدنية بعيدة. عمت الفوضى، واختلطت صرخات النساء المذعورات بصياح الرجال الخائفين على مصدر رزقهم، فر كل من كان يسير في تلك الشوارع الضيقة هاربا على غير هدى، لم يكن بوسعها بعد أن أحيط بها في هذه المصيدة إلا احتضان أبنائها والركض بهم إلى داخل أقرب محل قبل أن ينزل بوابته الحديدية بلحظات، أغلق الشاب النحيل الذي يعمل في ذلك المحل الضيق بوابته واستند بإحدى قدميه على طرفها الأسفل ليثبتها بثقل جسده إلى الأرض، وهو يلهث ويطلق سبابا فاحشا دون أن ينتبه - أو ربما دون أن يبالي - لوجود سيدات وفتيات داخل المحل، أطفأ الأنوار وبدأ يلعن المظاهرات والثورة والإخوان والأيام التي صار فيها لا يبيع ولا يشتري، ولا يجمع من المال ما يكفي حتى لدفع فاتورة الكهرباء التي تنقطع أكثر مما تعمل، اقترب صخب الحشود وعلا صوت ارتطام الجنازير والهراوات بالبوابات المعدنية المغلقة، ارتعب الجميع وندت عن إحدى الفتيات المحتجزات بداخل المحل المظلم صرخة مكتومة إثر ارتجاج البوابة الحديدية تحت ضربة عنيفة، مما بدا أنها هراوة خشبية ثقيلة. تمسك الشاب بموقعه خوفا من انزلاق البوابة إلى الأعلى حتى اطمأن إلى ابتعاد الصخب، وحتى سمع بأذنه صرير ارتفاع بوابات المحال المجاورة، فرفع قدمه وانحنى ليفتح البوابة؛ كان الشارع بالخارج غارقا في ظلام دامس إلا من أضواء بيضاء خافتة لمصابيح متناثرة هنا وهناك، من النوع الذي يعمل بالبطاريات، لم يكن أحد في الشارع بحاجة إلى تفسير؛ فقد كان جليا أن الكهرباء قد انقطعت كعادتها المتكررة في الشهور الأخيرة في الانقطاع عدة مرات في كل يوم.
خرجت بأبنائها من المحل وقد بدأت في الارتفاع ضوضاء مولدات الكهرباء الصغيرة التي انتشر استخدامها مؤخرا في المحلات التجارية والكثير من المنازل، امتزجت في الهواء الصيفي الحار روائح عادم الوقود المحترق في المولدات بروائح الخوف والترقب للأيام الحاسمة القادمة، وصلوا إلى بنايتهم بعد مسيرة دقائق في الشوارع المعتمة، ثم جلسوا هناك على السلالم الرخامية للمدخل في انتظار عودة الكهرباء لكي يأخذهم المصعد إلى الطابق العاشر. انتظروا لما يقارب الساعتين متنقلين بأبصارهم في ضجر بين أضواء السيارات العابرة في الشارع المظلم، وبين تلك البوابة الحديدية السوداء القبيحة التي تشبه بوابة زنزانة، والتي اضطروا بالاشتراك مع سكان البناية إلى تركيبها أمام الواجهة الزجاجية الأنيقة التي كانت تميز المدخل الفاخر لبنايتهم، فعلوا ذلك عندما فعله كل سكان البنايات المجاورة أيام الانفلات الأمني واللجان الشعبية، قبل أكثر من عامين خوفا من هجوم البلطجية، الذين لم تكن لتردعهم تلك الواجهة الزجاجية عن اقتحام البناية.
في الصباح بدأ الجدال المتوقع بالأمس بينها وبين الولد الكبير الذي يصر على الذهاب للقاء أصدقائه في النادي، قالت له بحسم: لا يمكنك النزول الآن، ألم تكن معنا بالأمس في سوق الكمبيوتر؟ ألم تشاهد كيف ظللنا محتجزين في ذلك، المحل وكيف كانوا يضربون بوابات المحلات بالجنازير؟ يمكن لهؤلاء المجرمين أن يظهروا في أي وقت.
أجابها المراهق بنفاد صبر: لكنني لن أذهب إلى سوق الكمبيوتر يا أمي، ولن أقترب من مقرهم أو أذهب في اتجاهه. تعرفين أن النادي على مبعدة خطوات، سأركض إلى هناك وسأحادثك من الهاتف المحمول بمجرد دخولي من بوابة النادي.
هزت رأسها يمينا ويسارا في إصرار وقالت: إذا لم تنقطع الكهرباء أثناء نزولك بالمصعد فتنحبس فيه لساعتين كما حدث في الأسبوع الماضي، فيمكن أن يقابلك هؤلاء المسلحون في الطريق، وحتى إذا استطعت الوصول إلى النادي فكيف ستعود؟ من الذي يضمن لي كيف ستكون حالة الشارع في المساء؟ ألا تذكر ما حدث في الأسبوع الماضي كذلك؟
أجاب الولد وهو يتقافز من الغيظ والضجر: ما الذي حدث يا أمي؟! رأينا المظاهرة في الشارع من داخل بوابات النادي، فعدت أنا وأصحابي للعب تنس الطاولة لبعض الوقت حتى انتهت، وقد اتصلت بك من هناك وأخبرتك بذلك، بعدها أتى والد عمر واصطحبنا في سيارته وأوصلني حتى مدخل البيت، لن يحدث شيء يا أمي أرجوك، لقد مللت من الجلوس في المنزل، إننا في الإجازة الصيفية يا أمي، هل سنقضي الإجازة في المنزل؟! ألا يكفي أننا لم نذهب إلى الساحل الشمالي هذا الصيف كما نفعل في كل عام؟!
ردت عليه في تصميم: أنت تعرف جيدا أن طريق الساحل الشمالي غير آمن، الكثيرون تعرضوا للسطو المسلح على الطريق، ثم إن تلك لم تكن مجرد مظاهرة، لقد رأيتهم من الشرفة عندما عبروا أمام بنايتنا، لقد كان هؤلاء الرجال الملتحون مسلحين، كانوا يلبسون خوذات متطابقة فوق رءوسهم ويطلقون قنابل الدخان تلك في كل الاتجاهات. هذه ليست مزحة أو نزهة يا بني، لقد عدت لي يومها بعينين ملتهبتين وظللت تسعل لثلاثة أيام نتيجة ما استنشقته من دخان، لقد كسروا الكثير من السيارات عند نفق كليوباترا عندما اشتبكوا مع الشرطة ومع أولئك الشباب المتظاهرين، رأيت ذلك في التليفزيون وعلى فيسبوك.
صممت على موقفها بمنع الولد الكبير وأخته من النزول، بعد جدال طويل انتهى بدخول كل منهما إلى غرفته غاضبا، كانت في داخلها حزينة من أجلهم، وكانت تتمنى لو استطاعت السماح لهم بالخروج والانطلاق لتعويض ضغوط تلك السنة المرهقة، لكنها كأم لم تكن لتغامر بذلك مهما كانت احتمالات الخطر قليلة، عليها أن تحميهم حتى ولو لم يعجبهم ذلك، كان ذلك يؤرقها كثيرا، كما كانت تؤرقها بشكل أكبر علاقتها بياسين التي فترت كثيرا في الشهور الأخيرة، اعتادت طبعه بمرور الزمن، تعايشت مع جفائه غير المقصود، تعرف أنه يحبها وتعرف أنه رقيق القلب برغم أنه لا يظهر لها ذلك، لكنها تريده أن يظهره، إن طباعهما مختلفة؛ هي رومانسية وهو عملي، هي حالمة وهو واقعي، تقدر ما يتحمله من ضغوط، وتتفهم ما يشغل باله طوال الوقت، خاصة بعد أن خسرته الأوضاع الأمنية المتدهورة في البلاد الجزء الأكبر من أعماله ومشروعاته التي ظل يبنيها منذ تزوجا قبل سبعة عشر عاما، لكنها تريد أن تسعد بكلمة غزل أو لفتة يشعرها فيها باشتياقه. يعتبر الرجال الزواج نهاية الحب، بينما تعتبره النساء بدايته، يظن الرجل أنه قد حصل على مراده بالزواج، ويعتقد أنه أدى ما عليه بعقد القران الرسمي، وأنه قد آن له أن يقضي بقية عمره مستقرا وادعا متفرغا لاستكمال مشواره العملي في دنيا قاسية لا وقت فيها لرفاهية الرومانسية، بينما تنتظر المرأة من الزواج الدفء والحنان، تتوقع صباحات الشغف وليالي العشق، أغنيات الغزل وباقات الزهور، أمسيات الشموع والهمسات الدافئة. ربما يرجع أصل كل المشكلات الزوجية إلى اختلاف التوقعات، ربما يرجع إلى أن الرجال والنساء لا ينظرون إلى مؤسسة الزواج من الزاوية نفسها. •••
قامت من السرير فلم يكن بإمكانها النوم على أي حال، وكان ياسين لم يزل في القاهرة لاستكمال إجراءات تصفية شركته، أخرجت ألبوم صورها من علبته الكبيرة وأخذت تتصفح صور زفافها وتستعيد ذكريات أيام زواجها الأولى، كان سقف توقعاتها عاليا في تلك الأيام، كانت فتاة مثالية بمقاييس المجتمع، حافظت على نفسها طوال السنوات، ادخرت جمالها وحفظت أنوثتها لزوج المستقبل حتى قبل أن تعرفه، انتظرت أن يعوضها، انتظرته فارسا ذا حصان أبيض، أميرا وسيما وفنانا شاعريا، انتظرت فيه كل ما طاف بخيالها وزار أحلام مراهقتها، وكل ما ثرثرت حوله مع صديقاتها في حصص المدرسة الفارغة، أو في المحادثات الهاتفية الطويلة، فعلت ما كان عليها فعله، التزمت بأوامر ونواه الأهل والمجتمع بحذافيرها، لم تقصر ولم تتهاون ولم تبد منها أي هفوة، كانت تلميذة مجتهدة ومراهقة مهذبة، توقفت عن ارتداء الفساتين القصيرة التي تحبها وبدأت تختار ملابسها بتحفظ حين بدا أن «خراط البنات قد خرطها» على حد تعبير عجائز العائلة، كانت شاهدة على مغامرات زميلاتها الغرامية، لكنها لم تتورط أبدا في نصف مغامرة، حاول معها العديد من الشباب ولم تضعف لنصف لحظة. ألم يكن من العدل أن تنال حينذاك مكافأة ذلك الالتزام؟! أليس هذا هو زوجها «وحلالها» الذي انتظرته ثلاثة وعشرين شتاء؟ فليكن هو إذن فارسها، وليأت بحصان أبيض، لا تدري من أين يمكنه أن يأتي به، لكن لا بد له هو أن يدري، أليس هو الرجل؟ فليأت إذن بالحصان الأبيض، وليكن أوسم من كيفن كوستنر، وأرق من كاظم الساهر، وأكثر رجولة من رشدي أباظة، فلن يرضيها أقل من ذلك.
كان ياسين هادئا متزنا، متحفظا في إظهار مشاعره، لم تكن تميز في أيامهما الأولى بين غضبه وشروده، أو بين سروره واشتهائه، كان غامضا كمخطوطة عتيقة تحتاج للكثير من الوقت والجهد حتى تنفك طلاسمها، ولم تزل هي تفك تلك الطلاسم حتى اليوم. انقضت أعوام طويلة وهي تفعل، ولم تزل تشعر بأنها لم تفهمه تماما بعد، هؤلاء الرجال غامضون وغريبو الأطوار، يبدون لها كأطفال، بلهاء تسوقهم غرائزهم البدائية بعض الأحيان، وكآلات عملاقة لا تكل ولا يصعب عليها شيء أحيانا أخرى، لا تعرف إن كان ذلك حال كل الرجال، أم أنه حال رجلها هي فقط، لا خبرة لها بالرجال على أي حال، فقط كانت تتشكل لديها قناعات غير مكتملة مما تلتقطه من فضفضة الصديقات والقريبات، أو مما يتناثر على صفحات الجرائد وتطبيقات التواصل الاجتماعي من ثرثرة، لكنها خرجت من ذلك كله باستنتاج واحد قاطع؛ لا يأتي الرجال بأحصنة بيضاء، وليس ثمة من هو في رقة كاظم الساهر، بل إن كاظم الساهر نفسه ليس بهذه الرقة على أرض الواقع! •••
كانت قد قررت منذ سنوات طويلة ترك العمل والبقاء في المنزل لرعاية أطفالها وبيتها، بعدما عملت في مكتب أستاذتها الجامعية لسنوات أربع، ثم انتقلت إلى مكتب استشاري أكبر عملت فيه لسنتين، لم تستطع بعدها التوفيق بين العمل المرهق في مجال العمارة، الذي يتطلب ساعات عمل طويلة، ومواعيد غير ثابتة، ويسبب ضغوطا نفسية وعصبية كبيرة، وبين متطلبات تربية أبنائها الذين يحتاجون لرعايتها ولوقتها واهتمامها الكامل. كان ذلك على الأقل هو السبب المعلن لاستقالتها من عملها، هذا هو التبرير الذي ساقته لقرارها ذلك أمام مديرها الذي حزن كثيرا لخسارة كفاءتها وما اكتسبته من خبرات، وأمام ياسين الذي رحب بالقرار بتحفظ مؤكدا على مساندته لها في أي قرار تجد فيه سعادتها، لكن السبب الحقيقي الذي لم تعلن عنه لأحد قط هو أنها انسحبت من معركة حياتها اعترافا بالهزيمة، كانت قد وصلت أخيرا للقناعة بأن طموحها المهني قد اصطدم بالسقف المتاح في هذه المدينة، كانت تعلم أنه لا يمكنها التقدم لما هو أبعد مما هي عليه الآن. هذه المدينة ضيقة جدا كما قال لها ياسين منذ سنوات في لقاء تذكره جيدا، كان ياسين قد سبقها إلى اكتشاف تلك الحقيقة، لكنها كانت تصر على تجاهلها، أو ربما كانت تصر على اكتشاف الحقيقة بنفسها؛ لذلك لم تسمح لها عزة نفسها بالاعتراف له وقتذاك بأنه كان على حق، وأنها كانت فتاة ساذجة يعميها الطموح والشغف بالمهنة التي ارتضتها عن إدراك قبح الواقع، كانت ناجحة في عملها إلى حد كبير، وكانت قادرة على التوفيق إلى درجة لا بأس بها بين عملها من جهة، وبين بيتها وأبنائها من جهة أخرى، وبين رعايتها لوالديها كذلك من جهة ثالثة، لكن كل فرص الترقي والتقدم في المشوار المهني كانت تقتضي الخروج من هذه المدينة التي ظلت على الدوام محدودة الفرص رغم ضخامة امتدادها الجغرافي واكتظاظها بالسكان. هذا البلد مركزي إلى درجة شديدة الفجاجة، كل الفرص هناك في العاصمة، كل فروع المكاتب العالمية الكبيرة هناك في القاهرة الكبرى، ليست الإسكندرية إلا مجرد إقليم مهمل كأي إقليم مهمل آخر في شمال البلاد أو جنوبها، فكل الأقاليم في هذا البلد سواء. نجح الكثيرون من زملاء وزميلات دراستها الذين انتقلوا إلى القاهرة، أو الذين سافروا إلى أمريكا وكندا، أو إلى دبي والدوحة، والتحقوا بالعمل في المكاتب العالمية الكبرى، بل ولمع نجم بعضهم حتى صاروا من مشاهير المهنة الذين تفرد المجلات المتخصصة مساحات وصفحات لمناقشة أعمالهم والتعريف بهم. عرفت في النهاية وبالطريقة الصعبة أنها لن تحقق أي جديد في مهنتها إذا استمرت على ذلك الوضع، عرفت أنها لو بقيت هكذا لعشرين سنة فلن تتقدم أية خطوة إضافية، لتترك سوق العمل وهي لم تزل مطلوبة، بدلا من أن تضطر إلى تركه عندما تصبح عبئا على أصحاب العمل مع تقدمها في السن وارتفاع راتبها دون تقدم مهني حقيقي، لقد عاصرت خلال سنوات عملها أكثر من زميل وزميلة ممن تقدموا في السن، يضطرون إلى الاستقالة أمام تفضيل أصحاب العمل للبدلاء الأصغر سنا والأقل راتبا، فلتنسحب الآن إذن مرفوعة الرأس، لتترجل عن الفرس وهي منتصرة، لعل تلك التضحية تحسب لها وتوضع في رصيدها، إن لم يكن أمام ياسين فأمام نفسها على الأقل.
أكتوبر 2013م
على الأريكة العريضة ذات الوسائد التي ترهلت حشواتها بفعل الزمن بغرفة المعيشة في بيت أبيه القديم في بولكلي، جلس ياسين يتناول إفطاره كعادته عندما يكون مسافرا، كان ذلك الصباح هو الأخير له في الإسكندرية، لم تزل مدينة الرب تطل على الدنيا متألقة باهية رغم تكاثر الغبار على ثوبها الأبيض العتيق، تفتح المدينة القديمة عينيها بتعب السنوات الرديئة، وتلقي السلام على البحر القديم الذي ألقى إليها يوما بفارسها الأول القادم من الشاطئ الآخر، ترتشف المدينة قهوة الصباح مترقبة يوما ثقيلا ثقل هواء الخريف الرطب، تدهورت حالتها كثيرا عن أيام عصرها الذهبي، يوم أن كانت قبلة المهاجرين الهاربين من جحيم حروب أوروبا التي لا تنتهي، لم يبق من الإيطاليين واليونانيين والقبارصة والفرنسيين الذين اكتظت بهم شوارعها ومقاهيها لعشرات السنين إلا أسماء مبهمة لمحطات ترام وشوارع ضيقة لا يتذكر أحد أصل تسميتها. يغيب كل يوم مبنى بديع ذو تصميم إيطالي أو إنجليزي بما يحمله من تاريخ وحكايات وذكريات، لتنشق الأرض بعد سويعات عن مسخ خرساني قبيح يحتل مكانه، يخترق قلب السماء ويحجب شمس النهار عن الشوارع الضيقة العتيقة بظله الرمادي الكئيب، وواجهته السوقية الرخيصة، يزحف القبح على وجه هذه المدينة كوحش أسطوري غاشم، يلتهم الجمال والتاريخ ويتقيأ مسوخا بدائية قميئة تكاد تسد شرايين الحياة، وتمنع مدينة الرب من التنفس بعد ثلاثة وعشرين قرنا وهبت فيهن النور للدنيا.
سيبدأ اليوم فصلا جديدا من حياته بعد الانفصال عن فريدة، وبعد أن قرر العودة للعمل موظفا والبدء من الصفر مرة جديدة في مدينة جديدة، القاهرة التي لم يحبها يوما ولم يحتمل زحامها وضجيجها وجوها المغبر على الدوام، شركة كبيرة متعددة الجنسيات تعمل في مجال النقل البحري سعت إلى توظيفه مديرا لعملياتها في مصر للاستفادة من خبرته الطويلة وعلاقاته المتشعبة بالسوق المصري. سيعيش وحيدا من جديد، للمرة الأولى منذ الفترة التي قضاها وحيدا في بيت أبيه قبل الزواج، فضل أن يبقى الأولاد مع أمهم في شقة سموحة، وأن يستقر هو بعيدا في القاهرة، وأن يأتي لزيارتهم كلما سنحت له فرصة، اجتهد كثيرا ليتقبل فكرة العودة إلى العمل موظفا ينتظر راتبه في نهاية كل شهر، بعد أن كان شريكا في ملكية شركة ناجحة، لكن ذلك كان الخيار الوحيد المتاح أمامه، بعد أن قام هو وشركاؤه بتصفية الشركة التي ظلت تخسر لعدة شهور كانوا يدفعون فيها الرواتب الشهرية لموظفيهم، الذين لم يكن لهم ذنب في خسارة الشركة وعلى أمل انصلاح الأحوال، لكن الأحوال لم تنصلح؛ فاضطروا لبيع أصول الشركة لتغطية ما تراكم عليها من ديون، وخرج كل منهم بمبلغ زهيد هو كل ما تبقى من حلمهم ومن سنوات شقائهم ونحتهم في الصخر. خرج من تلك الأزمة التي تواكبت مع أزمة الطلاق ليجد أن عليه أن يبدأ من جديد في حياته الشخصية والعملية على حد سواء، ولكن بمعطيات جديدة هذه المرة؛ إنه يواجه العالم هذه المرة وحيدا. يعود إلى المنافسة في سوق العمل بعد أن ابتعد عنها لسنوات سبقه فيها الكثير من نظرائه، بينما كان هو منشغلا بإدارة شركته، استغرقه تقبل الوضع الجديد بعض الوقت حتى قرر أنه ليس بإمكانه إلا أن يتفاءل، أدرك أخيرا أن التفاؤل هو خياره الوحيد، لا يمكن أن يترك نفسه فريسة للاكتئاب، لا يمكنه أن يستسلم الآن، ما زال داخل اللعبة ولم يخسر بعد، أنت تخسر فقط عندما تقرر الانسحاب. أراح ظهره على الأريكة الخشبية القديمة، وحاول تصفية ذهنه استعدادا لبدء ذلك الفصل الجديد من عمره، أغمض عينيه وبحث طويلا في ثنايا عقله عما يمكنه أن يصفي ذهنه ويعالج روحه فوجد نفسه ينشد:
أحبك حبين حب الهوى
وحبا لأنك أهل لذاك
وأشتاق شوقين شوق النوى
وشوقا لقرب الخطى من حماك
فأما الذي هو شوق النوى
فمسرى الدموع لطول نواك
وأما اشتياقي لقرب الحمى
فنار حياة خبت في ضياك
ولست على الشجو أشكو الهوى
رضيت بما شئت لي في هداك
شعر رابعة العدوية (713-801م)
يناير 2015م
أمام طاولة طويلة في قاعة الاجتماعات الرئيسية بمكتب الشركة العالمية التي يعمل بها، جلس يتأمل وجوه الحاضرين وهو شارد الذهن لا يكاد يتبين شيئا مما يتجادلون حوله ، عشرة أشخاص ما بين رجال ونساء في أزياء رسمية جادة يلتفون حول طاولة خشبية فاخرة، يبرز أمام كل من الكراسي الجلدية المتراصة حولها مقبس للكهرباء، ومخرج لتوصيل الأجهزة المختلفة بالشاشة الكبيرة عالية الدقة المعلقة في صدر القاعة، بينما يحتضن الجميع عبر الواجهة الزجاجية التي تحتل كامل المساحة خلفهم مشهد النيل وجسوره المتعددة، ومن ورائه البنايات العالية المطلة عليه، والكتلة العمرانية اللانهائية للقاهرة الكبرى تمتد إلى حدود الأفق. تأمل وجوه الحاضرين العشرة وحركاتهم وانفعالاتهم وردود أفعالهم، ثم فكر كم أن حياته وحياتهم جميعا تشبه فيلما سينمائيا كبيرا، يمثل كل باب منزل فيه عامل الكلاكيت الذي يعلن بدء المشهد التمثيلي لكل يوم، يستيقظ الجميع على صوت المنبه ليبدأ كل منهم في تمثيل دوره الذي حفظه وأتقنه من جراء التكرار اليومي، يهرع الجميع من أسرتهم ليلحقوا بمشاهدهم، يقوم كل ممثل إلى الحمام ليجهز نفسه، يغسل وجهه ويفرش أسنانه ويزيل رائحة النوم من فمه، ثم يرتدي زي الشخصية التي يمثلها؛ إما البدلة ورباط العنق، أو الزي العسكري، أو زي مضيفة الطيران، أو طاقم التدريب الذي يحمل شعار النادي، كل على حسب دوره في الفيلم. ثم يأتي دور المكياج، اللمسات النهائية التي يضعها الممثلون على هيئتهم في غرف الملابس؛ من تصفيف للشعر، ورش للعطر، ورسم للعيون، وطلاء للأظافر، وتهذيب للحية، وضبط للحجاب أو النقاب. ثم الإكسسوارات الضرورية لكل شخصية؛ كالساعة والنظارة وأقراط الأذن. لا بد من مراعاة كل تلك التفاصيل الصغيرة بعناية قبل الظهور أمام الجمهور، ثم يفتح كل منهم باب منزله فيعلن عامل الكلاكيت بداية مشهد جديد من الفيلم. يبدأ الجميع بالتمثيل، يتسابقون في إظهار مواهبهم في تقمص الدور، يقضي كل منهم يومه منهمكا في التظاهر؛ إما التظاهر بالعمل، أو بالتعاطف، أو بالاهتمام، أو بالكفاءة، أو بالإنسانية. يحب معظم الناس أدوار الملائكة والقديسين والأبطال، قليلون هم من يرتضون بأدوار البشر البسطاء العاديين. يروق لياسين من حين لآخر مراقبة تلك المسابقة التمثيلية اليومية التي يشارك هو ذاته فيها مرغما في معظم الأحيان، أو راغبا في أحيان أخرى، يجاهد ليخفي ابتسامة عندما يتابع أحد تلك المشاهد التمثيلية وهو يدور على مقربة منه. في العمل أو في السوبرماركت أو في إشارة المرور، ممثل يبذل قصارى جهده ليبدو مقنعا في دور الحكيم المتفهم أمام ممثلة لا تبدو متمكنة كثيرا من أدواتها حين تؤدي دور المضطهدة، ممثل تفضحه نظراته الجائعة حين يؤدي دور الزاهد العابد. فريق تمثيل متدرب جيدا على أداء أدوار المريدين المنبهرين بعبقرية ممثل أعلى منهم منصبا يؤدي دور العلامة الخبير باحترافية شديدة تجعلك تكاد تقف مصفقا، ليس فقط لقدرته ولكن لجرأته على ادعاء ما ليس فيه. الجميع يمثلون، ويعلم الجميع أنهم يمثلون، ويدرك الجميع أن الآخرين كذلك يمثلون، لكن ثمة اتفاق غير معلن بين الجميع على التواطئ المتبادل. يتقمص كل منهم شخصيته طالما بقي مرتديا القناع الذي يمثلها، بعض الممثلين بارعون لدرجة النجاح في تقمص أكثر من شخصية، والتبديل بين أكثر من قناع، والغالبية الباقية محدودو الموهبة، يؤدي كل منهم دوره اليومي بالكاد، ثم ينزوي مبتعدا عن موقع التصوير ليعود لشخصيته الحقيقية؛ فيتحول الموظف الروتيني البغيض الذي يتلذذ بتعذيبك بين دهاليز مصلحة حكومية ما، إلى رجل متعب يتابع مباراة محلية في كرة القدم، مستلقيا في ضجر بجانب طبق نصف ممتلئ بحبات الجوافة على أريكة غير مريحة في غرفة جلوس ذات حوائط بنفسجية اللون. وتنقلب موظفة الاستقبال الودودة ذات الابتسامة الدائمة في وجوه الجميع إلى ربة منزل تختبر درجة حفظ طفليها لدروس الدراسات الاجتماعية واللغة العربية مرتدية إسدال الصلاة، وهي تشارك في تعليقات النميمة مع قريباتها على فيسبوك، بينما تلوح أمام وجهي الصغيرين بالملعقة الخشبية الكبيرة التي باتت تستخدمها كعصا أكثر مما تقلب بها الطعام.
لقد سئم هذا الفيلم الذي لا ينتهي، مل من تمثيل الدور ذاته كل يوم منذ أن يفتح باب بيته - لحظة الكلاكيت - حتى يعود في المساء منهكا من التظاهر والتمثيل، أكثر منه منهكا من العمل ذاته. لكن الجميع يمثلون، فهل يخرج هو وحده عن ذلك الإجماع؟ هل يواجه هؤلاء الجالسين أمامه حول طاولة الاجتماعات بأنهم بائسون ومفتعلون وكاذبون؟ أغلب الظن أنهم يعلمون تلك الحقيقة جيدا، لكنهم متعايشون معها طالما بقيت غير معلنة؛ أنت في مأمن طالما بقيت ضمن القطيع، أنت في مأمن من نظرات الاستهجان ومن أصابع الاتهام ومن مشانق المنافقين، أنت تملك صك النجاة طالما أبقيت فمك مغلقا، وعقلك كذلك، طالما بقيت تضحك على ما يضحك أفراد القطيع، وتستنكر ما يستنكرون، تأكل ما يعجبهم، وترتدي ما يروق لهم، وتنام على الجانب الذي يريحهم، تتبع خياراتهم، وتخضع لأحكامهم، وتصدق خرافاتهم، وتطوف حول أصنامهم، لا تعني شيئا درجة اقتناعك بما هم مقتنعون به، لا جدوى من سؤالك عمن فرض عليهم فروضهم، وعمن سن لهم عاداتهم. إذا رأى القطيع أن هذا نابغة فهو نابغة، وإذا وصموا تلك بأنها عاهرة فهي كذلك، أما مجادلتك إياهم بخصوص المعايير التي يضعون بها أي شخص في أي خانة فلا محل لها؛ لن تستطيع أن تدرك مثلا لماذا اعتبروا من تتاجر بجسدها عاهرة، ومن يتاجر بأرواح الآخرين زعيما. فلتصمت إذن ولتتبع القطيع، لتترك موسيقاك وأحلامك وقصائدك وليلتك المقمرة الساحرة، ولتذهب إلى فراشك مبكرا لتستيقظ مبكرا، فبمجرد أن يدق عامل الكلاكيت، لا بد للمشهد من أن يبدأ، ولا بد لك من أن تؤدي دورك؛ فلا يمكن أن يتوقف الفيلم من أجل ممثل صغير لا يلتزم بالمواعيد التي فرضتها الأغلبية.
صحراء
استمرت تلك الهياكل الرمادية الميتة في النمو، كان غريبا أن تنمو وهي ميتة، لكنها كانت تنمو بسرعة حتى التهمت المكان كله وصارت تحجب نور الشمس أغلب النهار، وتحجب القمر والنجوم طوال الليل، لم تكن تتواصل مع من حولها، لم تكن ودودة كالشجر الذي اقتلع، ولا كالزواحف التي هربت. كانت الشجرة تشعر بالانفصال عن ذلك العالم الذي لم يعد كما تعرفه، ولم يتبق لها فيه أنيس أو صديق، كانت تشعر للمرة الأولى بأنها شاذة في المكان؛ فلا شيء هنا يشبهها، لا تفهم ما يدور حولها ولا تألف تلك الكائنات الدخيلة ولا الزوار الجدد. حتى رمال الصحراء لم يتبق منها الكثير بعد أن تقيأ أحد تلك الوحوش حجارة سوداء صغيرة وكثيرة جدا، راسما بها خطوطا عريضة ممتدة إلى الأفق، ثم جاء بعض البشر بحجارة أخرى ملساء ومتطابقة، وقاموا برصها بترتيب محكم بجوار بعضها البعض؛ فصارت تشكل أرضا أخرى، سوداء ناعمة لامعة، شكلها يشبه حجارة الجبال، لكنها ليست بجبال، وأي جبال تلك التي لها هذا الملمس الناعم؟
الفصل الثامن
أغسطس 1994م
على رصيف محطة السكك الحديدية برمسيس نزل بهدوء واثقا من صحة قراره باختيار الطريق الثاني، مشى في ثبات وفي خط مستقيم وسط زحام العابرين المهرولين إلى القطارات والخارجين منها، متجها إلى أحد أكشاك الهواتف العمومية ذات اللونين الأخضر والأصفر المثبتة على جدار بهو المحطة الكبير، ثم أخرج من جيبه بطاقة الاتصال الخاصة بالشركة التي تتبعها تلك الهواتف، ومعها بطاقة أخرى عليها اسم مكتوب بخط عربي مزخرف قرأ منها رقما وطلبه على أزرار الهاتف. عندما أجابه الطرف الآخر رد في ثقة وهدوء بالغين: ألو ... أنا ياسين عمران يا أستاذ نايف ... نعم بخصوص وظيفة مدير الحسابات التي تحدثنا عنها ... أهلا بك ... بخير والحمد لله ... أشكرك ... حسنا لقد وصلت إلى القاهرة ويمكنني مقابلتك هذا المساء في نفس الفندق، أظن أنني سأكون جاهزا للسفر بعد استكمال توثيق المستندات المطلوبة من وزارة الخارجية ثم من السفارة السعودية، لا أتوقع أن تستغرق تلك الإجراءات أكثر من أسبوعين سأقوم في أثنائهما كذلك باستخراج تصريح السفر من مركز التجنيد.
يونيو 2012م
على كرسي دوار ذي ظهر مرتفع مصمم لتثبيت فقرات الظهر بوضع مريح للجلوس لفترات طويلة، ومغطى بنسيج مسامي يمنع التعرق، جلس ياسين أمام مكتبه ذي الجدران المركبة من قواطيع جاهزة التصنيع من إطارات من الألومنيوم، تتوسطها ألواح من الخشب المضغوط والزجاج المصقول بارتفاع يقل قليلا عن طول الشخص المتوسط، والتي تغطي جانبين فقط من المساحة المخصصة للمكتب، بينما يبقى الجانبان الآخران عن يمينه ومن خلفه مكشوفين على ممرات داخلية في صالة العمل الضخمة ذات النوافذ الكبيرة على محيط جوانبها، والتي تحتل طابقا كاملا من المبنى المهيب المطل على شارع كوين في وسط تورونتو، كان قد انتقل بالأمس فقط إلى ذلك المكتب الأكبر قليلا من بقية مكاتب الصالة، بعد أن حصل على ترقية جديدة مكنته من ترك مكتبه السابق الذي لم يكن سوى طاولة فوقها شاشة كمبيوتر رقيقة وتحتها بضعة أدراج، وأمامها كرسي دوار من نوع رخيص، ولا تحيط بها أي جدران. فقط مجرد طاولة من عشر طاولات متطابقة ومتجاورة تمثل صفا من ستة صفوف يحتلها موظفو القسم، بينما يجلس المديرون والتنفيذيون في جانب الصالة الأيمن خلف مكاتبهم التي يجمع كل أربعة منها تلك القواطيع المتعامدة على بعضها على شكل حرف إكس. هكذا هي هذه الشركة، كمثيلاتها في هذه البلاد، لا يهتم أصحاب الشركات هنا كثيرا بالمظاهر، ولا ينفقون أموالا فيما لا يعود بالفائدة على سير العمل، كل ما يحتاجه الموظف لكي يؤدي وظيفته هو مكتب عليه شاشة كمبيوتر، وتحته بعض الأدراج وكرسي دوار واتصال جيد بالإنترنت، مع أرضية مغطاة بالكامل بالموكيت، وإضاءة كافية وموزعة جيدا، ونظام صحي للتهوية والتدفئة، ونوافذ كبيرة تسمح لهم برؤية العالم في الخارج، أيام العمل الأسبوعية كلها متشابهة، يكون الجميع على مكاتبهم قبيل التاسعة صباحا، ويغادر الجميع في الخامسة عصرا إلى بيوتهم في ضواحي المدينة المتفرقة، يذهب الجميع كذلك لتناول الغداء أو الوجبات الخفيفة في المطاعم وعربات الطعام المقابلة للمبنى خلال فترة الاستراحة المخصصة لذلك في منتصف الظهيرة، ويسمح للمدخنين باقتناص دقائق لإشباع حاجتهم إلى النيكوتين بالخارج، وعلى بعد لا يقل عن عشرة أمتار من أي من بوابات المبنى، كما تنص اللوحة المثبتة بجوار المدخل، والتي تعلن بوضوح عن قيمة الغرامة المالية الكبيرة لمن يخالف ذلك.
كان منهمكا في ترتيب أغراضه على سطح المكتب الجديد، حيث يمنحه هذان الجداران القصيران على شكل زاوية قائمة بعضا من الخصوصية التي افتقدها في هذه الشركة طوال الفترة التي قضاها أمام الطاولة غير المحاطة بأية جدران في منتصف الصالة، كان ذلك القدر من الخصوصية بمثابة المكافأة التي حصل عليها نظير اجتهاده لسنوات، ليس فقط في هذه الشركة، بل كذلك في الشركة التي عمل فيها سابقا بعد أن ظل يبحث عن عمل للأشهر الأربعة الأولى له في هذه البلاد، والتي كان راتبها أقل من مصروفاته، لكنها مكنته - بعد أن قضى فيها عامين - من الحصول على وظيفة أفضل بشركته الحالية، أصبح بإمكانه الآن أخيرا أن يضع أمامه إطارا به صورة له مع أسرته أثناء عطلتهم الأخيرة في نيويورك، وأن يلصق على أحد الجدارين أبياتا من الشعر الصوفي، كان قد خطها له على ورقة بيضاء بحرف عربي مزخرف زميل سوداني عمل معه سابقا في دبي، وكان يهوى الخط العربي:
رضي المتيم في الهوى بجنونه
خلوه يفني عمره بفنونه
لا تعذلوه فليس ينفع عذلكم
ليس السلو عن الهوى من دينه
قسما بمن ذكر العقيق لأجله ...
قسم المحب بحبه ويمينه
ما لي سواكم غير أني تائب
عن فاترات الحب أو تلوينه
شعر أبي الحسن الشيشتري (1212-1269م)
مرت بجواره في الممر زميلة له في القسم، فتوقفت لتهنئه على الترقية وعلى المكتب الجديد، كانت كندية تقليدية من أولئك الذين هاجر أجدادهم البعيدون من شمال أوروبا إلى هذه البلاد قبل مائة عام أو أكثر، نظرت الزميلة باندهاش إلى الأبيات الشعرية المعلقة وسألته في بعض الانبهار: أوه! هذه كتابة شديدة الجمال يا سيد عمران! هل أحضرت هذه اللوحة البديعة من الهند؟
نظر ياسين إلى اللوحة مرة أخرى وكأنما ليتأكد مما تنظر إليه تلك المرأة، ثم أجاب في لهجة استغراب: الهند؟! لكن لماذا تعتقدين أنها من الهند يا سيدة ويلموت؟ هذا الخط عربي في الحقيقة.
رجعت بجذعها إلى الخلف وهي تتطلع في وجهه كما لو كانت متفاجئة وأجابت في اندهاش: أنا آسفة! ظننت أن هذا الخط هندي، إنه يشبه ما أراه على لافتات المحلات في منطقة ليتل إنديا. تعود أصولك إلى الهند يا سيد عمران كما يمكن أن أخمن، هل هذا صحيح؟ يوجد ممثل هندي اسمه عمران كذلك على ما أظن.
أجابها بهدوء تعود عليه من كثرة ما تعرض لذلك النوع من الأسئلة السخيفة في هذه البلد: كلا يا سيدة ويلموت. أنا من مصر، والعربية هي لغتي الأم.
زادت حدة تعبير الاندهاش على وجه المرأة أكثر وأكثر، وبدت عليها الحيرة وهي تجيب فيما يشبه الاعتذار: أوه! ظننت أن مصر تنتمي إلى أفريقيا، كنت أعتقد أنهم يتحدثون اللغة الأفريقية هناك. أليس من يتحدثون العربية هم سكان الشرق الأوسط؟ اعذرني فلا أعرف الكثير عن هذا الجانب من العالم، لم أسافر خارج أمريكا الشمالية إلا إلى البرازيل، وبعض بلدان أوروبا فقط.
لم يرد أن يخوض في هذا الحديث العبثي لأكثر من ذلك فاعتذر لها بأن عليه الانتهاء من ترتيب أغراضه قبل استراحة الغداء، شكرها على التهنئة وتمنى لها الحصول على ترقية مماثلة في أقرب فرصة، استمر في وضع تذكاراته على سطح المكتب، وضع دلة قهوة نحاسية صغيرة تذكره بالسنوات التي قضاها في جدة، ثم وضع مجسما فضيا لبرج العرب يذكره بالفترة التي عاشها في دبي، ثم اختتم مجموعته الصغيرة بنسخة مصغرة من قناع توت عنخ آمون الذهبي، كان قد اشتراها من خان الخليلي صباح يوم مغادرته لمصر قبل ثمانية عشر عاما. •••
عندما وطئت قدماه للمرة الأولى أرض هذه البلاد؛ أدرك مدى اتساع الهوة بينها وبين أي مكان أقام فيه من قبل، هذه بلاد باردة، لا يمكنك أن تخطئ ذلك الانطباع الطاغي منذ اللحظة الأولى، ليست باردة الطقس وحسب، ولكن باردة القلب كذلك، باردة الأسطح والأرضيات والجدران. ربما كان أقرب مثال جعله يدرك طبيعة هذا البلد هو ذلك الهايبر ماركت الشهير ذو الفروع الكثيرة متطابقة الحجم والتصميم، والمنتشرة على أطراف كل المدن في كل المقاطعات، ذلك الفراغ الضخم ذو الممرات العريضة وصفوف الأرفف المعدنية الشاهقة، كل شيء هنا أملس تماما وبارد تماما، الإضاءة بيضاء وساطعة ومحايدة، مجرد بحر من النور الأبيض يغمر كل شيء بالتساوي وكأنه لا شيء هنا متميز عن غيره. هذا المكان المتوحش مصمم بعناية لكي يشعرك بأن كل شيء بداخله في متناول يدك؛ كل البضائع أمامك، كل الخيارات الممكنة، فلتختر ما تريد، ولتدفع ما في بطاقتك الائتمانية من رصيد ولتذهب في هدوء، فلا وقت لدينا هنا لتدليلك بأرضية أنيقة أو جدران ذات ملمس خشبي دافئ، أو حتى بإضاءة أكثر حميمية. إذا أردت بعض التدليل يا صديقي فلتذهب لتنفق المال في متجر فاخر ذي شريحة عالية من الأسعار.
منذ الأسبوع الأول له في هذه المدينة عرف أن سبعة آلاف سنة من الحضارة لن تغني عنه شيئا، وأن كل مخزونه من أغاني الفخر الوطني عن «أول نور في الدنيا شق ظلام الليل»، وعن «ولا شاف النيل في أحضان الشجر، ولا سمع مواويل في ليالي القمر» لن تغير قيد أنملة من حقيقة أنه هنا مجرد مهاجر شرق أوسطي آخر. لا مجال هنا للتفاخر ببطولات أجدادنا في قادش وحطين وعين جالوت وقونية، ولا بما فعله بواسلنا بالسفينتين بيت شيفع وبات يم على رصيف ميناء إيلات الحربي. هذه بلاد باردة لم تسهر أمام أفلام القناة الأولى في ذكرى ثورة يوليو، ولم تنصت لأغنيات مطرباتنا الشهيرات في حفلات أضواء المدينة، هذه بلاد باردة لم ترقص في الشوارع ابتهاجا بالفوز على الكاميرون في بطولة أفريقية، أو تحية لزعيم خالد يطوف الشوارع بصحبة زعيم شقيق - خالد كذلك - ملوحين بكفيهما للحشود المصطفة على الجانبين من المقعد الخلفي لسيارة أمريكية مكشوفة، هذه بلاد باردة بلا تاريخ، أقدم شيء هنا لا يتعدى عمره المائة عام، وكل شيء هنا يبدأ من الصفر؛ بدءا بدرجة الحرارة على مقياس فهرنهايت، وحتى التراث والرياضة والفنون والعادات والتقاليد. عليك أن تخلع ثقافتك وماضيك وذاكرتك على بوابة القادمين في مطارها الدولي كما تخلع نعليك عند الوادي المقدس، فهنا ستقابل إله الحضارة الغربية، وعلى هذه الأرض الموعودة سينعم عليك بحياة جديدة منزوعة الدسم، وخالية من السكريات والدهون، حياة غربية على طراز العالم المتحضر، تنسيك ما عرفته من حياة بائسة في ذلك الجانب المظلم من العالم الذي أتيت منه، ذلك الجانب الغامض المبهم من الكرة الأرضية، حيث ما زال البدائيون يمتطون ظهور البعير، ويتعاطون الخرافات، ويقضون نهاراتهم في مطاردة قطعان الأغنام الشاردة وسط كثبان رمال الصحاري.
لم يستطع قط التأقلم مع برودة هذه البلاد، حتى بعدما امتد مقامه بها لسنوات، لطالما كان يشتاق إلى الشتاء أثناء سنوات تنقله بين مدن الخليج العربي الحارة، لكنه كان يشتاق إلى ما عرفه من شتاء في الإسكندرية، إلى ذلك الشتاء الحميم ذي الصباحات المشمسة المنعشة التي تتخللها بضع نوات ممطرة، لم يعرف معنى الشتاء إلا بعد أن جاء إلى هنا، أذهله مشهد تساقط الثلوج حين رآه للمرة الأولى، ابتهج كثيرا وخرج لتجربة هذا المشهد على الطبيعة والتقاط بعض الصور، لكن ابتهاجه كان أقل في المرة التالية، وظلت فرحته بالثلوج تخبو حتى صار بالنسبة له حدثا روتينيا يعيقه عن ممارسة حياته، ويصعب عليه الانتقال إلى عمله وممارسة رياضته اليومية، صار مشهد الثلج المتساقط بلا انقطاع لأيام متتالية، والصقيع المتراكم على فروع الأشجار العارية، وعلى أسطح البيوت والسيارات، وعلى نجيل حديقته الخلفية الصغيرة يصيبه بالكآبة، لم يعتد أبدا على تلك البرودة الباطشة التي تكاد تجمد أهداب العين إن لم تحركها باستمرار، ليس هذا هو الشتاء الذي كان يشتاق إليه، لكن لكل شيء هنا تعريف مختلف.
عرف أنه سيحتاج إلى أن ينسى كل ما تعلمه في مصر، وكل ما اكتسبه من خبرات في مشواره الوظيفي الذي تدرج فيه بين الشركات في مصر ثم السعودية ثم الإمارات؛ لكي يستطيع أن يتكيف مع عقلية أمريكا الشمالية، ومع نموذجها وقواعدها وأصول العمل بها، لن تغني عنك أكثر من خمسة عشر عاما من الخبرة خارج هذه القارة، فطالما لم تمتلك بعد ما يكفي من الخبرة الكندية؛ فليست ثمة قيمة تذكر لكل تلك الشهادات والخبرات والمؤهلات التي اعتمدتها الحكومة الكندية ذاتها، واعترفت بها ومنحتك بموجبها تأشيرة الهجرة إلى هنا. لتجلس إذن لتتعلم من جديد في مقاعد المتدربين، ولتقبل بتقاضي أجر زهيد، ولتتعلم ممن سبقوك في الوصول إلى هذه القارة - وإن كانوا أصغر منك سنا وأقل كفاءة - حتى يمكنك أن تجد لنفسك بعد سنوات تالية من الكفاح مكتبا مستقلا ذا جدارين قصيرين وسط المديرين والتنفيذيين في الجانب الأيمن من الصالة الكبيرة.
يناير 2015م
على مقعده بجوار النافذة في قطار الضواحي العائد به من عمله بوسط المدينة، إلى منزله على طراز المنازل الكندية التقليدية ذات الطابقين والحديقة الخلفية والسقف المائل، في ضاحية أوك فيل الهادئة على ضفاف بحيرة أونتاريو، والذي اشتراه بقرض بنكي يسدد أقساطه شهريا لمدة عشرين عاما، بينما كان عائدا في رحلته اليومية المعتادة جلس ياسين متأملا كل تلك السنوات، تتداعى على رأسه الذي خطه الشيب بقسوة أطياف الماضي ونسائم الأحلام القديمة، يسرح ببصره طويلا خارج نافذة القطار حيث غطت الثلوج كل شيء؛ الحقول والبيوت والسيارات، لم تظهر الشمس في السماء منذ أشهر، ولم تزل أعمدة الكهرباء اللعينة تتكرر رتيبة مملة لا نهائية، يا الله! كل تلك السنوات! متى ينتهي ذلك التكرار اللعين؟ ماذا أفعل هنا؟ ثم ماذا بعد؟ تخطر بباله تساؤلات وجودية عن ماهية الحياة؛ لماذا على المرء أن يتعايش مع هذه المعاناة التي لا نهاية لها؟ لماذا عليه دائما أن ينتظر؟ ينتظر نهاية الشهر ليحصل على راتبه ثم يبدأ الانتظار للراتب التالي، ينتظر نهاية أقساط السيارة ليبدأ أقساط سيارة جديدة، ينتظر مرور تلك الفترة الصعبة ليجد نفسه في فترة صعبة أخرى، ينتهي من مهمة ليفكر في مهمة جديدة، اكتشف أنه أصبح في حالة انتظار دائم لا يدري له نهاية، رغم أن أشد ما يكره في هذا العالم هو الانتظار. •••
دق جرس هاتفه المحمول وظهر على شاشته وجه زوجته بابتسامتها الهادئة، أجابها ودار بينهما حديث روتيني عن طلبات للبيت، عليه أن يمر بمحل البقالة ليشتريها في طريق سيره القصير من محطة القطار إلى البيت، ينهيان المكالمة بتحيتهما المعتادة، يضع الهاتف في جيب معطفه ثم يفكر بامرأته التي شاركته ذلك العمر، يخطر بباله سؤال بدا له فجأة أنه ينتبه إليه لأول مرة؛ هل يحبها؟ لقد كان زواجهما تقليديا عن طريق بعض المعارف المشتركين، قابلها في مناسبة عائلية أثناء إجازة له خلال عمله بالسعودية، وجد شخصيتها مناسبة له وارتاح إليها بعد عدة لقاءات، تقاربا وشعرا بالتفاهم بينهما؛ فخطبها ثم عقد القران وتم الزفاف في الإجازة التالية، تنقلت معه من بلد لآخر وكانت دائما سندا له، لم تعد علاقته بها بعد كل تلك السنوات مجرد حب، لا يمكن تقييم ذلك بتلك البساطة، كانت قد غدت منذ زمن لا يدرك قدره جزءا أساسيا من حياته، من تفاصيل يومه، غدت جزءا منه هو ذاته بحيث لا يمكنه تخيل نفسه بدون وجودها، لا يذكر كيف كانت حياته قبل أن يعرفها، كانت حاضرة في كل تفاصيله وذاكرته، كانت تبدو كخلفية ثابتة في شريط ذكرياته، يكاد هو وهي يكونان شخصا واحدا، كيانا مفردا لا يتجزأ، كل ما حولهما صنعاه معا؛ البيت والأبناء والشخصية والثقافة والذكريات، بل والأحزان كذلك، كل تلك التحديات التي واجهاها معا. بعد كل هذا العمر لا يمكنه الحديث عن الحب بسذاجة المراهقين وحديثي العهد بالعلاقات الإنسانية، لا يمكنك اختصار حياة كاملة بكل ما فيها من ضجيج ومعاناة وبهجة وألم ونشوة في مصطلحات لا تكاد تعني شيئا أمام كل ذلك الصخب، هي أشياء لا يمكنك إحاطتها بسياج الألفاظ. •••
يجول ببصره متطلعا إلى ركاب القطار متأملا تلك التشكيلة العجيبة من الأعراق والأجناس والثقافات، إن كان لهذه البلاد ميزة واحدة فهي هذا التنوع، أدهشته فكرة أن كل هؤلاء البشر على اختلاف ظروفهم ومرجعياتهم في بلدانهم الأصلية، اختاروا نفس الطريق وأتوا إلى هنا من كافة بقاع الأرض ليجمعهم قطار ضواحي تورونتو، لا يعرف إذا ما كان هو قد اختار الطريق الصحيح، أم أن حياته كانت لتصبح أقل بؤسا لو أنه اختار طريقا آخر، يفهم تماما بالطبع أن لا معنى لكل تلك الترهات؛ فلا يمكن لأحد إعادة الزمن إلى الوراء ليصلح ما أفسده، أو ليسلك طريقا مختلفا، بل إنه لا يضمن أن ما يظنه الآن الخيار الأفضل كان سيحقق له السعادة أو يقوده إلى مكان أفضل بالفعل، جميع الناس بؤساء بشكل أو بآخر، يمكن لشخص في عمره أن يدرك ذلك بسهولة، لا أحد سعيد تماما، ولا يوجد طريق مضمون إلى السعادة، لا يوجد طريق مضمون لأي شيء في الحقيقة، فكل طريق خاضع لتقلبات الحياة. إن الطريق الذي اختاره والقرارات التي اتخذها على مدار عمره والتجارب التي مر بها كل ذلك يجعله من هو عليه الآن، بكل محاسنه ومساوئه، بكل ميزاته وعيوبه، ولا يمكن فعل شيء لتغيير ذلك الآن. هذا هو ما قاده إليه مشوار عمره، وهذا هو ما انتهى إليه - حتى الآن على الأقل - بعد تلك الرحلة المجهدة بين ربوع العالم، من الصحاري العربية إلى الأصقاع الكندية، ما بين حرارة متطرفة وبرودة متطرفة، وكأنه ليس مقدرا له الاعتدال قط، بعد ذلك التجوال بين مدن متباينة الملامح والنكهات، حتى إنه فكر ذات يوم أن يضع في سيرته الذاتية تحت بند المهارات الشخصية أنه - بجانب قدرته على العمل تحت الضغوط وضمن فريق عمل - يحفظ عن ظهر قلب كل شارع في تورونتو ودبي والشارقة وجدة، كما أنه يمكنه كذلك التجول في مدن مثل الرياض ومكة وأبو ظبي والقاهرة وأوتاوا وديترويت، دون الحاجة لتشغيل نظام تحديد المواقع الجغرافية، ما بين «لك حبي وفؤادي» مرورا ب «سارعي للمجد والعلياء» و«عاش اتحاد إماراتنا» يتوقف به قطار الرحلة هذه المرة عند محطة
God Save The Queen ، ولا يدري بعد إن كانت تلك هي محطته الأخيرة، أم أنه لم يزل للقطار رأي آخر. •••
أخرج هاتفه مرة أخرى من جيب المعطف، فتح ألبوم الصور وأخذ يقلب فيه عائدا إلى الخلف، كان يحتفظ بألبومات صوره كلها على موقع لتخزين الملفات؛ حتى يمكنه الوصول إليها من أي مكان، وكان قد حول كل صوره منذ أن غادر مصر - حتى تلك التي ترجع لفترة ما قبل التصوير الرقمي - إلى أرشيف إلكتروني كبير مقسم حسب المدينة والتاريخ. طالعته من الألبوم صور شخوص متفرقة قابلها وتعامل معها في مراحل متفرقة من حياته، لا يعرف لماذا برزت له تلك الشخوص بالتحديد، رغم أنه لا رابط يستطيع إدراكه يجمع تلك التشكيلة غير المتجانسة من البشر.
توقف عند صورة تحمل تاريخ يناير 2007م، وتجمعه هو وابنته الكبرى أمام سيارته الأمريكية الكبيرة مع محمد إرشاد، حارس البناية الصغيرة الهادئة التي سكن إحدى شققها لبضع سنوات، كان شخصا طيبا وودودا إلى حد لم يسبق أن رأى له مثيلا، لم يره قط إلا مبتسما، كان شابا مثابرا في عمله لا يكف قط عن التنظيف، ينتهي من غسل سيارات السكان في الصباح الباكر قبل أن يغادر أصحابها إلى أعمالهم، فيبدأ في تنظيف أرضيات الأدوار والمصاعد بالسائل المعقم قبل أن يبدأ في تلميع الحوائط الرخامية للمدخل، ثم ينتهي من ذلك كله ليبدأ في رعاية نبتات الطماطم والنعناع التي كان يزرعها في حوضين رخاميين صغيرين على جانبي مدخل البناية، ليقطف ما ينضج منها ويهديه لطفلة من سكان البناية عائدة في حافلة مدرستها فيرى السعادة في وجهها، لم يكن محمد إرشاد يطلب المال أبدا، لم يكن حتى يطالب بما استحق له من أجر نظير غسل سيارات السكان، إذا أنست ضغوط الحياة أحد السكان أن يدفع له المبلغ الشهري المتفق عليه - والذي لم يكن يفصح عن قدره عند الاتفاق إلا بعد إلحاح شديد - فإنه يظل يغسل السيارة دون أن يلمح إلى شيء، فقط عندما يطول الأمد يتوقف عن غسل السيارة لعدة أيام؛ فإما أن يتنبه صاحبها ويعطيه ماله فيعود لغسلها، أو ينتهي الأمر فحسب. اعتاد ياسين أن يعطيه ثمن ما يشتريه له من أغراض في الحال؛ لأنه عرف بتكرار التجربة أنه إذا نسي دفع ما عليه فلن يذكره محمد إرشاد بذلك، وربما ينسى هو الآخر، ويصبح إقناعه بأنه يدين له ببعض المال مهمة صعبة.
لم يكن محمد إرشاد يعرف شيئا عن المدينة الحديثة الواسعة التي يعيش فيها، حتى في تلك الدقائق التي تنشغل فيها المدينة بأكملها بمتابعة الألعاب النارية التي تنطلق من البرج الشاهق الشهير، لتلون سماء المدينة ليلة رأس السنة، كان محمد إرشاد يغط في نوم عميق ليستيقظ مع أذان الفجر ويمارس طقوس عمله المقدسة، لم يكن محمد إرشاد يعرف حتى أبعد من حدود الحي الصغير الهادئ الذي تقع به البناية؛ لسبب بسيط ومؤلم في آن واحد هو أنه لم يكن يحصل على إجازات قط، لم يغب عن البناية يوما واحدا منذ سكنها ياسين وحتى غادرها إلى بناية أخرى، حتى إن ياسين سأله يوما من باب الفضول عن بلاده وأهله، ولماذا لا يذهب لزيارتهم قط، فأجابه - بطريقة نطقه التي يجد ياسين صعوبة شديدة في فهمها بقدر ما يجده محمد إرشاد نفسه من صعوبة في جمع ما يعرف من كلمات عربية قليلة ومفردات إنجليزية أقل - بأنه كان في إجازة قبل عامين، وأنه ينوي السفر إلى بنجلاديش مرة أخرى بعد عام ليرى ابنته الوحيدة التي كانت قد بلغت حينئذ عامها الخامس. إن تذكرة الطائرة أغلى من أن يتحمل كلفتها كل عام أو كل عامين؛ فكان يجعل إجازته لذلك كل ثلاثة أعوام؛ ليوفر من راتبه الضئيل الذي يكفي بالكاد لتغطية نفقات معيشته في هذه المدينة ذات تكلفة المعيشة المرتفعة، قدرا من الدراهم يصلح لإرساله إلى عائلته مرة كل ثلاثة أشهر. كان محمد إرشاد يحكي تلك المأساة المؤلمة بثغر باسم وكأنه يلقي دعابة، كان راضيا بدرجة تثير العجب، كانت ابتسامات أطفال البناية - الذين أحبوه جميعهم - له في ذهابهم ومجيئهم تمنحه سعادة تظهر جلية على وجهه البشوش الذي لا يعرف التلون أو الزيف.
لم يحزن ياسين لشيء وهو يغادر تلك البناية إلى أخرى أقل إيجارا بنفس الحي كحزنه على فراق محمد إرشاد، وظل لشهور تالية يمر به في طريقه إلى صلاة الجمعة في مسجد الحي الكبير؛ ليقله معه في السيارة بدلا من السير تحت الشمس الحارقة، حتى غادر محمد إرشاد إلى بلاده لقضاء إجازته تلك التي تأخرت كثيرا، لكن محمد إرشاد لم يعد حتى غادر ياسين نفسه تلك المدينة. •••
قلب في ألبومات الصور مرة أخرى حتى توقف عند صورة بتاريخ أغسطس 2013م تجمعه مع مارسيل؛ صديقه السري في العالم الجديد، حيث الصقيع، والمساحات الشاسعة، والبنايات الشاهقة، والأجناس المتشابكة، حيث كانا يتسليان معا بإحصاء ما يسمعانه من لغات يتحدث بها المارة أمام كشك الصحف الذي كان يعمل به مارسيل. كان مارسيل خبيرا بتمييز اللغات بالفطرة، رغم أنه لا يتحدث ولا يفهم فعليا إلا بعض الفرنسية التي أتى بها من وطنه الأول ، وبعض الإنجليزية التي تعلمها في هذه البلاد، والكثير من الرطانة القبلية الأفريقية التي تشربها مع حليب أمه، وسط متاهات تجمع سكني عشوائي مشيد من ألواح الصفيح والخشب، على تخوم مدينة كاميرونية فقيرة قرب نهر الساناجا الذي كان يحمل لهم من الأوحال والأوبئة أكثر مما يحمله من ماء، لكن سنوات تعامل مارسيل مع مختلف الأعراق والثقافات عبر ذلك الكشك القائم على الرصيف العريض لشارع تجاري كبير يعج بالحياة في وسط تورونتو، كانت قد صقلت موهبته المذهلة في تمييز اللغات من إيقاعها وموسيقاها، ومن وجوه متحديثها ومن مفرداتها الشائعة، بل ومن شتائمها الدارجة كذلك، حتى صار يمكنه تمييز ما يبدو للغالبية كلغة واحدة كالصينية والكورية أو كالروسية والبلغارية.
أتى مارسيل إلى كندا للمرة الأولى قبل ثمان سنوات مع فريق كرة السلة المحلي، الذي انضم له في مدينته الصغيرة مستفيدا من تكوينه الجسماني الفارع، ومن أجل كسب القليل من المال لإعانة أسرته، كان النادي الصغير قد حصل على منحة ضمن برنامج تدريبي تموله الحكومة الكندية لمساعدة المواهب في الدول الأفريقية على الاحتكاك بالأندية الكندية والتدرب لبعض الوقت في بيئة احترافية، كان مارسيل قد اتفق مع ثلاثة من زملائه في الفريق على الفرار من معسكر الفريق في آخر ليلة لهم في كندا؛ حتى لا يجد المسئولون عن البعثة الوقت الكافي للبحث عنهم، فقد كانوا واثقين من أن بعثة الفريق ستغادر في موعدها دون أن تنتظرهم، فليس من الحكمة على أي حال أن تضيع قيمة تذاكر الطيران لعشرين شخصا - والتي تعادل قيمة ميزانية النادي بالكامل في ستة أعوام - من أجل البحث عن أربعة من الحمقى. كانت بالنسبة لهم فرصة ذهبية لن تتكرر، فلم يعرف أي من الأصدقاء الأربعة شخصا من معارفه أو جيرانه أو أي شخص في المدينة الفقيرة كلها استطاع أن يضع قدميه على أرض دولة متقدمة، وكان المؤكد أن أيا منهم لن تتاح له فرصة مماثلة مرة أخرى. وبالفعل نجحت خطتهم البسيطة، غادروا نزل الشباب المتواضع الذي كان محل إقامة البعثة دون أي تصور عما سيفعلونه للبقاء على قيد الحياة في هذه البلاد، استقلوا أول قطار قابلهم إلى آخر محطة فيه ليبتعدوا قدر المستطاع عن البعثة ورئيسها وعن أي شيء له علاقة ببلادهم، لم يكن أي منهم يعرف شيئا عن هذه البلاد أو يتحدث الإنجليزية، بل حتى فرنسيتهم لم تكن متقنة بالقدر الكافي، تخبطوا لفترة ليست بالقصيرة ما بين النوم على الأرصفة وفي أكشاك الهواتف العامة، حتى إن أحدهم يئس وقرر تسليم نفسه إلى قنصلية بلاده ليطلب منها ترحيله إلى وطنه، لكنه علم أن بلاده ليست لها قنصلية في هذه المدينة، وأن السفارات موجودة كلها في العاصمة التي تبعد مسافة خمس ساعات بالقطار، ولا يمكنه حتى تحمل تكلفة الوصول إليها. مارس الأصدقاء الأربعة بعض الأعمال غير المشروعة، وشاركوا لفترة طويلة في مباريات كرة سلة قائمة على المراهنات لكسب بعض المال، حتى تعلموا بالاحتكاك مع حياة الشارع ما يكفي من الإنجليزية للحصول على أعمال صغيرة. كان مارسيل أفضلهم حظا بحصوله على هذا العمل المريح في الكشك، بينما تنقل الثلاثة الآخرون بين العمل كحمالين أو كعمال بناء أو نظافة.
اكتشف ياسين هذا الكنز المسمى مارسيل بالصدفة يوم أن توقف عند الكشك ذات صباح في طريقه إلى مقر عمله، الواقع على بعد تقاطعين ليشتري بعض البسكويت المملح ليفطر به، بعد أن كان قد غادر منزله مسرعا دون إفطار على غير عادته، كان مارسيل آنذاك يتلاسن بغضب مع شابة شقراء تعمل مع ياسين في ذات الشركة، لم يعد ياسين يذكر ما كان يغضب مارسيل من الفتاة، لكنه يذكر جيدا كيف قال له بتأفف بعد أن أقنع ياسين الفتاة بنسيان الأمر والانصراف للحاق بعملها: كلهن عاهرات هؤلاء البولنديات، كن على حذر منهن.
التفت إليه ياسين بحدة وأشار إليه بإصبعه علامة التحذير قائلا: انتبه لألفاظك يا رجل.
ثم تنبه فجأة لخاطر ما، فعاد يلتفت إلى ذلك الشاب الأفريقي النحيل الذي ينطق الإنجليزية بلكنة فرنسية طاغية ليسأله: ثم كيف تيقنت من كونها بولندية بالذات؟ هل تعرفها مسبقا؟ إنها زميلتي في العمل منذ سنة أو أكثر، ولم أعرف قط بلدها الأصلي، كنت أظنها روسية ربما.
ابتسم مارسيل بخبث وثقة قائلا: كلا يا صاحب! يمكنني أن أراهنك على عشرة دولارات أنها بولندية. اذهب واسألها ثم عد لي في استراحة الغداء، وادفع لي الدولارات العشرة.
ثم توقف قليلا وتطلع إلى السماء كمن يفكر ثم أردف: حسنا، أنا واثق من أنها بولندية، لكن هناك احتمال ضئيل أن تكون تشيكية. إذا كانت تشيكية نصبح متعادلين، لكنني أعرف منذ الآن أنك مدين لي بعشرة دولارات.
كانت ماجدالينا بولندية بالفعل، سألها ياسين يومها وفاجأته إجابتها بأنها قدمت من بولندا قبل ثلاثة أعوام فقط، وأنها لم تتأقلم بعد على الحياة خارج مدينتها الصغيرة الهادئة على تخوم الريف، حيث تنبسط السهول الخضراء على مد البصر. عاد إلى مارسيل في استراحة الغداء، ودفع له الدولارات العشرة رغم معارضة الأخير وتأكيده أنها كانت مجرد مزحة لا أكثر. ومنذ ذلك اليوم صارا صديقين، صارت عادة يومية لياسين أن يمر علي مارسيل كل صباح في طريقه إلى العمل ليلقي عليه التحية، ثم يأتي إليه في بعض الأيام خلال استراحة الغداء عندما لا يكون منشغلا فوق العادة ليمارسا معا هواية تمييز اللهجات تلك. التقط ياسين من طول عشرته لمارسيل بعض مفاتيح تلك الفراسة، بالإضافة إلى سابق خبراته في التعامل مع جنسيات مختلفة أثناء إقامته في بلدان الخليج العربي؛ فصار هو بدوره كذلك مرجعا لمارسيل في تمييز البنجالية من الهندية، أو العربية من الفارسية، كانا يشكلان معا ثنائيا فريدا، لم تربطهما قط ثقافة أو لغة أو مهنة، ليس ثمة ما يربط بينهما إلا تلك الهواية. لم يخبر ياسين أحدا قط عن ذلك الصديق العجيب، لا يدري لم أبقاه سرا، لكن مارسيل ظل كذلك وحسب. •••
ثم مرت على أنفه روائح أطباق برهان الحق بخلطاتها السحرية الغامضة، حينما رأى تلك الصورة الجماعية القديمة نسبيا، كانت بتاريخ مايو 2002م، وكانت تضم معه رجالا كثيرين لا يذكر بعضهم، لكن برهان الحق كان حاضرا بوضوح في منتصف الصورة؛ ذلك الطاهي المبدع القادم من قرية نائية في أحراش الهند الجنوبية، حيث تجود السماء بالمطر الغزير طوال الصيف؛ فتنبت من خيرات الأرض ما أثرى خبرات القرويين المحليين بوصفات وخلطات توارثوها عبر أجيال لا يعرفون لها بداية، موروث بالغ البذخ من النكهات والتجارب، بعضها يعود لأصول عقائدية وثقافية متشابكة الجذور، وبعضها الآخر يرجع فقط لمبدعين قدماء بحثوا عن سر السعادة أو الصحة بين أوراق وجذور تلك التشكيلة الهائلة من النباتات المحيطة بهم. جاء برهان الحق إلى تلك البلاد الصحراوية الجافة التي لا تشبه قريته من قريب ولا بعيد منذ عقود، قبل أن تخلق تلك التشديدات والقوانين الصارمة للدخول والإقامة، جاء عاملا على سفينة للحجاج أبحرت من ميناء تشيناي - الذي كان اسمها آنذاك مدراس - قاصدة جدة، لم يكن ذاهبا للحج؛ فما كان يملك وقتذاك حتى قوت يومه، ولم يكن حتى ينوي الهجرة من وطنه الذي لم يعرف قط غيره قبل تلك الرحلة، إنما ركب السفينة عاملا بسيطا، ينظف أرضياتها ويحمل أمتعة ركابها، أو يساعد في صيانة ماكيناتها إذا اقتضى الأمر، في مقابل قوت يومه وقروش قليلة يعود بها بعد أشهر لتعين عائلته الكبيرة على متطلبات حياتهم البدائية في القرية. لم يكن برهان الحق يدرك وهو يطالع ببصره مودعا تلك المباني الوردية العتيقة لعاصمة ولايته المطلة على ساحل المحيط أن عينيه لن تقعا عليها مرة أخرى.
كانت المصادفة التي غيرت مجرى حياته عندما دلف إلى مطبخ السفينة الكبير الذي لم يكن يطهى فيه غير الأرز مع الكاري وبعض الخضروات، تبادل أطراف الحديث مع بعض الطهاة ثم عرض مساعدتهم في إعداد طعام ذلك العدد الهائل من المسافرين، كنوع من التخفيف من ضغط العمل عليهم فرحبوا بذلك. بدأ برهان الحق يحضر بعض خلطات التوابل التي تعلمها من أمه ونساء قريته عندما كن يتجمعن لطقوس الطهو المشترك في الأعياد، نثر خلطته على قدور الأرز الضخمة ففاحت منها الروائح الذكية، حتى أقبل الكثير من الركاب على المطبخ يتشممون ذلك الطعام الشهي، ويتعجلون تحضير وجبة الغداء. أبهرت خلطته كل من كان في السفينة؛ حتى طلبته الإدارة للعمل في المطبخ إلى حين رسو السفينة في جدة في مقابل قروش إضافية، فصار في كل يوم يحضر خلطة جديدة من التوابل البسيطة المتاحة في السفينة، ثم التقطه أحد التجار الذي كان يملك مطعما شعبيا في أحد أحياء جدة القديمة، وأقنعه بالعمل في مطعمه بعد أن يصلا إلى هناك، وبمجرد رسو السفينة تركا الحجاج يستقلون الحافلات في طريقهم إلى مكة، ثم ابتلعتهما معا حارات جدة العتيقة. لم يلبث برهان الحق أن صنع سمعة وشهرة كبيرة في أوساط الفقراء من زبائن ذلك النوع من المطاعم الشعبية؛ فصار اسم وعنوان ذلك المطعم هو السر الذي يتداولونه بينهم، ولا يجودون به إلا على البسطاء من أمثالهم، أو على من يثقون به من غيرهم. وهكذا تعرف ياسين على عالم برهان الحق السحري، حين أخذه إليه أحد سائقي الشركة من زبائن المطعم، كانت تجربته الأولى مع أطباق برهان الحق كتجربته يوم الليلة الصوفية في حضرة أبي العباس المرسي، حلق يومها في سماوات النشوة مع مذاقات ونكهات أخذته إلى بلاد برهان الحق البعيدة، مذاقات معقدة وغنية كتلك البلاد، تستحوذ على انتباهك كاملا وتستنفر إحساسك، تداعبك، لا يمكنك أن تجزم إن كانت مالحة أم حلوة أم حارة، إنها ليست بتلك البساطة، إنما تتبادل الأدوار فيما بينها فتتقاذفك من نكهة لأخرى وفق نظام محكم الصنع. طافت به أطعمة برهان الحق في غابات وأنهار وتلال ووديان لم يسمع بها قط، وربما لم يسمع بها برهان الحق ذاته الذي لم يغادر حدود ولايته قبل أن يأتي إلى جدة، وكأن تلك الوصفات القادمة من أحراش جنوب الهند كانت تحفظ بداخلها شفرات عتيقة أخفاها رجال قدماء، فبقيت محفوظة عبر الأجيال حتى التقت به - هو القادم من قارة أخرى - هناك على ضفاف البحر الأحمر.
قضى برهان الحق في جدة أعواما لم يعد يحصيها، كان يجيب من يسأله عما قضاه هنا من سنين؛ بأنه جاء إلى جدة قبل أن يولد غالبية الرجال الذين يراهم حوله الآن، كان يقول إنه هنا منذ لم تكن في جدة كلها عشرون سيارة، وأن عمره من عمر جدة، فقد كبرت تلك المدينة معه، نمت وترعرعت مع ازدهار شبابه ورجولته؛ يعرف متى أنشأ كل جسر فيها، ويعرف ما كان في موضع كل برج ومركز تجاري قبل أن تكون ثمة أبراج ومراكز تجارية. شاخت جدة كذلك مع شيخوخته، وهنت المدينة فلم تعد بها حيوية الماضي، وضعف بصرها فلم تعد تتعرف على أحبتها القدامى.
ظل برهان الحق يفتن زبائنه بأطعمته الساحرة رغم رخص أسعارها، ظلت الغالبية العظمى من مرتادي مطعمه - الذي صار يعرف منذ زمن بمطعم برهان الحق، لا بمطعم الأصدقاء كما هو مكتوب على اللافتة ذات الأضواء المتحركة قديمة الطراز - من الفقراء، التزم طوال تلك السنوات بعدم تقديم أطباق لا يقدر على ثمنها عامل بسيط، كان يجد سكينة روحه وسط أولئك الكادحين الذين كان يمكنه أن يرى في تجاعيد وجوههم السمراء المنحوتة نسائم قريته البعيدة، فلم يكن في قريته أغنياء أو سيارات أو مراكز تجارية.
ثم رحل برهان الحق في هدوء، فاضت روحه دون أن يعاني من أي مرض بعد أن كان قد عقد العزم على الخروج للحج ثم العودة إلى بلاده، كان قد سئم الغربة ولم يعد سعيدا بالحياة في جدة بعد أن اتسعت وترامت أطرافها ولم يعد يعرفها ولم تعد تتذكره، لم تكتمل أبدا رحلة برهان الحق إلى عرفات، اختطفته نكهات التوابل قديما واختطفه الموت مؤخرا، لكن روائح خلطاته بقيت عالقة في جدران حارات جدة العتيقة. •••
ثم توقف ياسين عند صورة زملاء القسم التي التقطها لهم مصور محترف استعانت الشركة بخدماته لأهداف دعائية، رأى عابدة تقف خلفه مباشرة في الصورة التي تحمل تاريخ أكتوبر 2014م؛ إنها بلا شك أصلب امرأة وقع عليها بصره، تلك المقاتلة الشرسة التي لم تحن ظهرها قط أمام ضربات الزمن، التي وقفت مرفوعة الرأس دوما، بل ردت الصفعة بمثلها، لم تستسلم ولم تتهرب من المواجهة منذ تركت - مرغمة - بيتها الصغير على أطراف البصرة حاملة طفلها على كتف، والصرة القماشية التي جمعت فيها ما استطاعت حمله من متاع على الكتف الأخرى، مخلفة وراءها زوجا تستقر في جمجمته رصاصات ثلاث راقدا على وجهه أمام عتبة البيت، وحياة كاملة عاشتها بين جدران ذلك البيت، وأحلاما عرضها كعرض السماء.
كان الجنون قد عم المدينة منذ أن سقطت في دوامة الصراع بين ميليشيات مجهولة متناحرة خرجت من حيث لا يدري أحد، بعد ثلاث سنوات من الاجتياح الأمريكي للبلاد، خراب ونهب وقتل على الهوية في كل مكان، الجميع يرتدون السواد، الجميع يحاربون من أجل الله، السلاح في يد الجميع، بمنتهى البساطة قد تخترق رصاصة رأس عابر سبيل أعزل لمجرد أن مسلحا ما قرأ في بطاقة هويته اسم «عمر»، أو أن مسلحا في جماعة أخرى أراد أن ينصر الله بقتل زوجها الذي لا يعرفه؛ لأن اسم جده «باقر». ركضت بولدها، ليس فقط هربا من أولئك القتلة، وإنما فرارا من تلك البلاد التي باتت تخيفها، ركضت من ذلك الجنون كله لمدة ولمسافة لا تدركهما، تقاذفتها وصغيرها أيدي المهربين والوسطاء، تنقلا ما بين حافة التجمد داخل صندوق شاحنة مبردة هربتهما عبر الصحاري الشاسعة، إلى حافة الغرق في مياه أنهار موسمية موحلة تجري في أودية حدودية مختبئة بين جبال شاهقة، وحتى حافة الذل بين يدي تجار بشر غليظي القلوب والوجوه، إلى أن انتهى بهما المطاف مستلقيين على سرير حديدي في مأوى للاجئين في جنوب السويد، في انتظار البت في أمر منحهما حق اللجوء إلى بلد ما ستقرره الحصص المتفق عليها بين الدول الكبرى. كانت قد أنفقت كل ما تملك وكل ما استطاعت بيعه على المهربين، الذين عبروا بهما من محطة انتقالية إلى أخرى، ثم أخيرا على رشوة ضابط الجوازات الذي رتب لهما خطة مغادرة مطار إسطنبول متجهين إلى ستوكهولم، دون أن يحمل جواز سفر أي منهما ما يشير إلى كيفية دخولهما إلى البلد الذي يغادرانه.
عندما استقر المقام أخيرا بعابدة في كندا كوطن بديل تقبلها وصبيها الذي كان قد بلغ السابعة، بدأ فصل آخر من معاناتها في عالم جديد لا تعرفه ولا تفهمه، ولا تمتلك ما يعينها على تكلفة الحياة الباهظة فيه غير المعونة الشهرية الزهيدة التي تتكفل بها وكالة إغاثة اللاجئين، والتي لا تغطي حتى إيجار الغرفة الضيقة داخل شقة أسرة من أصول عراقية قرب وسط ضاحية أوشاوا، على بعد دقائق من محطة الباص التي تركب منها إلى محطة قطار الضاحية المتواضعة، حيث تستقل القطار المكتظ بسكان الضواحي كل صباح خمسة أيام في الأسبوع، إلى محطة يونيون في قلب تورونتو، حيث تلك الأبراج الزجاجية الشاهقة التي تظلل الشوارع فيما بينها بظلمة مخيفة؛ فلا يكاد نور الشمس - في تلك الأيام النادرة التي تسطع فيها الشمس على تلك المدينة الباردة - يصل إلى رءوس المارة المهرولين فيها، حاملين حقائبهم الجلدية، ومرتدين جميعهم تقريبا - رجالا ونساء - سترات رسمية داكنة الألوان، وكأن مؤتمرا عالميا يعقد في الجوار. ظلت عابدة تمارس روتينها الأسبوعي لسنوات خمس، تغادر المنزل مع صغيرها في الخامسة وأربعين دقيقة لكي تلحق بالباص الذي يغادر في السادسة إلا أربع دقائق، ليصل إلى محطة القطار في سبع وعشرين دقيقة، فيهرولان إلى المدرسة القريبة من المحطة حيث ينتظر الصبي بداية يومه الدراسي، الذي يعود في نهايته إلى البيت في سيارة مشتركة قديمة الطراز يقودها مهاجر باكستاني سيئ المزاج على الدوام، ثم تستقل عابدة قطار الضواحي لمدة ساعة ربما تزيد أو تقل في حدود الدقائق الخمس، حتى تصل إلى محطة يونيون في حدود الثامنة والنصف، ثم تسير عبر شارع باي حتى تقاطعه مع شارع كوين مسافة تتراوح ما بين العشر دقائق إلى ربع الساعة على حسب إيقاع خطواتها الذي يعتمد على حالتها المزاجية، وعلى درجة لياقتها البدنية، وعلى حالة الطقس، حتى تصل أخيرا إلى ذلك المبنى العتيق من الطراز الأمريكي الكلاسيكي ذي الطوابق الخمسة بواجهته الحجرية البنية المجددة مؤخرا، والزخارف المتقنة الغنية التي تحيط بالأفاريز والنوافذ الكبيرة في الطابقين السفليين منه. أحبت ذلك المبنى وأحبت مبنى مجلس المدينة القديم المواجه له والأقدم منه، بقدر ما نفرت مما يحيط بهما من كتل خرسانية شاهقة الارتفاع فاقدة للروح ومكسوة من كل جوانبها بالزجاج، كان جمال عمارة ذلك المبنى وارتفاع أسقفه الذي يمنح الشعور بالاتساع هما عزاؤها الوحيد عن الوظيفة الشاقة ذات العائد الضئيل التي تقضي فيها يومها داخل المبنى من التاسعة صباحا إلى الخامسة عصرا، تتخللها استراحة الظهيرة التي يخرج فيها غالبية الموظفين لتناول الغداء في المطاعم وأكشاك الطعام المتناثرة في الشوارع المحيطة، بينما تبقى هي في الغرفة شديدة الضيق الملحقة بدورات المياه النسائية المجمعة في نهاية ردهة الطابق الثالث؛ لتستريح من عناء تنظيف حمامات وأرضيات الطابق، ولتتناول وجبة منزلية خفيفة تعدها لنفسها في الصباح الباكر. لا تخرج في استراحة الغداء كالجميع لأسباب ثلاثة؛ أولها هو أنها على العكس منهم جميعا لا تسعى إلى تحريك جسدها بعد طول الجلوس أمام مكتب ما، بل تسعى للاستراحة من الحركة المتواصلة طوال اليوم. وثانيها أنها تنتظر تناول وجبة الغداء مع صغيرها بعد أن تعود إلى المنزل قرب السابعة. وثالثها وهو الأهم أنها لا تملك رفاهية إنفاق المال كل يوم على المطاعم ولا حتى على عربات الطعام الرخيصة.
بعد أن أتمت في هذا العمل خمس سنوات وشهرين بالضبط انتقلت عابدة من الغرفة شديدة الضيق الملحقة بدورات المياه النسائية المجمعة في نهاية ردهة الطابق الثالث، إلى طاولة متوسطة الحجم داخل صالة واسعة ذات نوافذ كبيرة مطلة على الشارع في قسم التمويل الواقع في الطابق الأول، حيث يمكنها وهي جالسة متابعة المارة المهرولين في شارع كوين، والمتسكعين أمام عربات الوجبات الخفيفة التي أصبحت منذ ذلك اليوم من زبائنها الدائمين في استراحة الغداء. حصلت عابدة على إحدى الوظائف الثلاث التي أعلنت عنها الشركة مؤخرا، مستفيدة من أفضلية أنها بالفعل موظفة في ذات المؤسسة، ومستندة على الشهادة المعتمدة التي حصلت عليها قبل شهرين من حكومة مقاطعة أونتاريو، بعد أن اجتازت اختبار اعتماد المحاسبين العموميين بنجاح، سعت إليه لعامين متواصلين درست فيهما أثناء استراحة الغداء وخلال رحلتي القطار اليوميتين ذهابا وعودة؛ حتى تعادل شهادة الليسانس في المحاسبة التي كانت قد حصلت عليها قبل سبعة أعوام من جامعة كربلاء، وحتى تستطيع الحصول على ترخيص بالعمل كمحاسبة في هذه البلاد الجديدة التي لا تعترف بغير معايير أمريكا الشمالية. انتقلت عابدة بعد ستة أشهر في تلك الوظيفة إلى استوديو صغير لكنه يخصها هي وصغيرها فقط، كما أنه مجاور للمحطة التي تستقل منها القطار إلى عملها، وقريب من مدرسة ولدها الذي أصبح يمشي دقائق قليلة إلى المدرسة على رصيف آمن تظلله أشجار ضخمة، بصحبة رفاقه الجدد من صبية وبنات المنطقة الذين تأقلم معهم وصار عضوا أساسيا في فريقهم الصغير لكرة السلة. كان ياسين قد سبقها في الالتحاق بنفس الصالة الكبيرة قبل شهر واحد، وكانا يستعينان ببعضهما البعض للتأقلم مع ذلك العالم الجديد على كليهما؛ حيث كانا الوحيدين في الطابق كله اللذين يتحدثان العربية، وينتميان إلى تلك البقعة البعيدة من العالم التي لا يعرف أي من زملائهما الباقين عنها أكثر من أن اسمها «الشرق الأوسط»، وأنها تموج بحروب طاحنة لا نهائية تمر سريعا على آذانهم في عناوين الأخبار ولا يفهمون لها سببا. •••
انتبه ياسين فجأة عندما توجه ببصره إلى خارج النافذة إلى أن محطته كانت قد مرت منذ زمن، استغرقته التأملات كثيرا حتى أظلمت السماء بالخارج فزادت منظر الثلوج كآبة، ولم يعد في القطار إلا القليلون ممن لم تأت محطاتهم بعد، التفت إلى رجل مسن يجلس في المقعد المجاور له وقد تدثر بمعطف صوفي ثقيل، ولف حول رقبته كوفية وغطى رأسه بقبعة قديمة الطراز. سأله ياسين بنبرة مهذبة: أين نحن الآن يا سيدي؟ أي محطة هي التالية؟
التفت إليه الرجل ببطء وتطلع بعينيه الزرقاوين اللتين تحيط بهما التجاعيد إلى وجه ياسين، وقال في بطء: لقد تجاوزنا هاملتون منذ دقيقة يا بني، يبدو أننا تخطينا محطتك، لقد كنت تحدق في شاشة جهازك هذا لوقت طويل كما يفعل الجميع في هذه الأيام على ما يبدو. إلى أين تريد أن تذهب على أي حال؟
ابتسم ياسين وأجاب في نبرة ودية: كنت سأنزل في محطة أوك فيل أيها السيد، لكن يبدو أنها فاتتني وأنه علي الآن أن أنزل في المحطة التالية. لا أعرف كم من المحطات علي أن أقطع في الاتجاه المعاكس، هذا مؤسف للغاية، لكن أشكرك.
طأطأ الرجل المسن رأسه وأجاب في بطء وبنبرة شعر ياسين بأنها تحمل من المعاني أكثر مما تبدو: لا بأس يا بني، ربما ليس هذا سيئا كما تظن، ربما عليك أن تفوت محطتك من حين لآخر، لا بأس بتجربة محطات أخرى، ربما يمكنك أن تجد ما يثير الاهتمام في الاتجاه المعاكس، بصرف النظر عما سيكون عليك قطعه من محطات.
صحراء
كانت الشجرة تتألم من أعماقها وهي تحاول جاهدة سحب جذورها الضاربة في عمق الأرض، كانت تحاول الانكماش قدر المستطاع، لم يعد يشغلها الوصول إلى الطبقات الرطبة المخفية تحت الرمال بحثا عن بقايا الماء؛ فقد كان الماء يأتيها الآن سهلا؛ يأتي أحد هؤلاء البشر الذين بات يعج بهم المكان ويلقي عليها ببعض الماء كل بضعة أيام، لم تكن تحتاج كل ذلك الماء، ولم تكن تحبه فقد؛ سبب تعفن بعض جذورها، وكاد يزيل كل الغبار العالق على أوراقها وأغصانها، والذي كان كل ما بقي لها من ذكريات الزمن القديم، كانت رائحة الأرض البعيدة التي حملته منها الريح لم تزل عالقة به تذكرها برفيقاتها من الأشجار والكائنات التي كانت ترتع هنا يوما ما في ألفة وحرية، لم يعد لها هنا من شيء. تقلصت رمال الصحراء حتى انحصرت في بقعة صغيرة بقيت هي وحدها فيها كأنما نسيها الزمن هنا، كأنما غفلت عنها تلك الوحوش الكبيرة وهؤلاء البشر الكثيرون، لم تعرف قط لماذا لم يقتلعوها مع رفيقاتها ولماذا لم يلقوا بها معهن، لماذا هي بالذات؟
لم تكن الآن تتشبث بالأرض، توقفت عن مد جذورها إلى الأعماق، بل صارت تمقت الأرض والرمال والمشهد كله، كانت تريد المغادرة، فقط لو استطاعت التحرك كالثعابين والقنافذ لهربت من هنا باحثة عن صحرائها المفقودة، بعيدا عن هذا المكان القبيح المقبض الذي تحجب فيه تلك الهياكل العالية الضوء والهواء، تلك الأشياء الضخمة الملساء بأعينها الزجاجية الكبيرة والكثيرة تظل رابضة بلا حراك ، فاتحة فمها للبشر يدخلون ويخرجون وكأن ما بداخلها محض خواء، لا تبتلعهم ولا تتقيأهم، ولا هم يكفون عن الدخول والخروج منها كل صباح ومساء، قادمين في جوف وحوش صغيرة ذات ألوان زاعقة وأصوات مزعجة، يتركون وحوشهم الصغيرة تلك في الخارج كأنها ميتة، تنتظرهم في سكون تام حتى يعودوا فتصحو وتنطلق بهم هاربة إلى الأفق البعيد، وتختفي حتى تعود في الصباح التالي لتلفظهم خارج جوفها مرة أخرى.
صخب وضجيج وحركة دائبة لكن بلا حياة، كل شيء هنا ميت، ولم تكن الشجرة تطيق الموت، كانت تحب الحياة، تحب حياتها التي عرفتها، وأرضها التي لم تعد موجودة، ورفيقاتها اللاتي رحلن إلى حيث لا تعلم، كانت الوحدة تقتلها، وكانت الغربة في وطنها تعتصر قلبها، فحتى تلك الطيور الصغيرة ذات الريش كاحل السواد والمنقار الأصفر لم تعد تأتي إلا بالمصادفة، كما لو أنها ضلت الطريق، لم تعد تتقافز بين الشجيرات أو تتلاقى على الأغصان في نهاية النهار، كانت الشجرة تريد الرحيل من هنا ولو بالموت، ولو بخنق جذورها حتى تتوقف عن التنفس.
ظلت تسحب جذورها من الأرض، ظلت تغادر أرضها بالتدريج وهي لم تزل واقفة في مكانها، ظلت تسلخ عنها تلك الرمال التي لم تعد وطنها، ولم تعد فيها رائحة رفات أسلافها بعد أن دنستها تلك البقايا الرمادية اللعينة، وبعد أن عبثت بها أيدي البشر ووحوشهم ميتة القلوب، ظلت تسعى جاهدة نحو الموت، ربما تجد عنده حياتها المفقودة.
الفصل التاسع
يوليو 2018م
كان القطار قد اقترب من ضواحي الإسكندرية، حيث بدأت تلك الكتل المكدسة من الخرسانة والطوب الأحمر المكشوف تنتشر بشكل أكبر وتلتهم نسبة أعلى من الخلفية الخضراء التي سادت المشهد لمسافة طويلة، بدأت تظهر تجمعات متلاصقة من البنايات غير متناسقة الارتفاعات، تقطعها شوارع ضيقة ظهرت فيما يبدو كيفما اتفق دون أي تخطيط مسبق، وباتت تلك الكتل تقترب بالتدريج من مسار القطار حتى حجبت اللون الأخضر بالكامل عن ناظريه. تابع ياسين الثاني ذلك المشهد باستياء ثم تساءل بنبرة متحسرة: ما كل هذه المباني؟ ما كل هذه الكتل الخرسانية الرمادية القبيحة؟ ومتى بنيت؟ ألم تكن تلك المساحات كلها في الماضي حقولا ومزارع؟
التفت إليه الأول باستخفاف من يدرك كل شيء: لم تعد ثمة حقول هنا؛ توقف الفلاحون عن ممارسة الزراعة منذ زمن طويل، وصاروا إما سائقي توكتوك أو مهاجرين. غدت المزارع كلها مناطق سكنية، عشوائيات سكنية إن أردت الدقة. لا أعرف اسم هذه المنطقة بالذات؛ فقد ظهرت مناطق كثيرة مشابهة مؤخرا، لكنني أضمن لك أنه من الآن وحتى نصل إلى سيدي جابر لن تقع عيناك على أي حقول.
أجاب الثاني - أو ربما لم يجب؛ فقد كان ذهنه في مكان مختلف تماما - في تغيير مفاجئ لمسار الحديث: هل أنت سعيد في حياتك؟
لم يبد على الآخر كثير من الاندهاش؛ فربما كان يدور في ذهنه السؤال نفسه على نحو ما: هل أنت ... سعيد في حياتك؟
ابتسم الثاني رغما عنه؛ ربما لأنه توقع أن يجيبه الآخر بنفس السؤال، كان يعرف أن السؤال نفسه يؤرق كليهما. أجاب محاولا امتصاص التحفز البادي على الآخر: أنا فقط أحاول الفهم، أريد أن أعرف إجابة السؤال الذي سهرت ليلة بأكملها منذ سنوات طويلة لأفكر في إجابته، ثم ركبت القطار في الصباح التالي على غير هدى لأرى أين سيوجهني. أينا اختار الطريق الصحيح؟ هل أنا الذي على الصواب أم أنت؟ أينا الأفضل؟
مط الآخر شفتيه في تعبير واضح عن عدم الاكتراث، أو ربما عدم الرضا، وأجاب في لهجة فيها بعض التهكم والمرارة: ألا ترى أن إجابة هذا السؤال بسيطة للغاية؟ انظر أين أنت وأين أنا، قارن بين ما حققته أنت وبين ما حققته أنا، أنت سافرت ونجحت وأصبحت - بسم الله ما شاء الله - مواطنا من العالم الأول، تحمل جواز سفر كندي أزرق اللون، وكونت أسرة مستقرة، أما أنا فما زلت قابعا هنا ، أتقافز بين القاهرة والإسكندرية لأختطف ساعة أقضيها مع أولادي، ثم أعود إلى دوامة العمل والوحدة والملل.
أشاح الثاني بيديه في عصبية وانزعاج وقال بحدة: أي جواز سفر أزرق، وأي هراء تتحدث عنه؟! إنك لا تفهم شيئا بالمرة، ولكن ليس هذا الوقت المناسب للجدال، سأشرح لك باختصار؛ أنا في كل الأحوال مجرد مهاجر شرق أوسطي، مغترب، والغربة تقتل روحك يا ياسين؛ يمر عمرك أمام عينيك بينما تتفرج عليه، ولن يفيدك كثيرا أن تفعل ذلك وأنت مضطجع أمام جهاز تليفزيون ذكي متصل بالإنترنت فائق السرعة داخل منزل أنيق في العالم الأول! ثم إنه ربما علي أنا أن أسألك؛ ألا ترى أن إجابة هذا السؤال بسيطة للغاية من وجهة نظري كذلك؟ ألم تتزوج أنت فريدة؟ ألا يكفيك هذا؟!
أنهى جملته وهو ينظر في عين الآخر ببعض التحدي كأنما كسب نقطة في تلك المناظرة، أطرق الآخر لبرهة ولاح في عينيه حزن عميق ثم أجاب بلهجة مكسورة: تحدثني عن فريدة؟! ألا يمكنك أن ترى أن زواجي بها قد فشل؟ ألم تلاحظ أننا منفصلان؟!
أجاب الثاني وقد تبدلت نبرته إلى التعاطف: لم تقل لي بالمناسبة، لماذا انفصلتما؟
رفع الأول كتفيه وأجاب بهدوء: ليس ثمة سبب محدد، لقد ظلت المسافة بيننا تبتعد بالتدريج دون أن نشعر، حتى وصلت الحياة بيننا لطريق مسدود، لم نستطع الاستمرار وحسب، كلانا لم يستطع الاستمرار.
قاطعه الثاني بلهجة استنكار: لكنها كانت حب عمرك!
أجاب الأول بسرعة: ولم تزل حب عمري! لم أحب قبلها ولا بعدها.
واصل الثاني بلهجته المستنكرة: لكن الحب كفيل بحل أي مشكلة.
أجاب الأول بنبرة صوت منخفضة تحمل بعض الأسى: لقد ساعدنا الحب على أن نحتفظ باحترام كل منا للآخر حتى الآن، جعلنا الحب ننفصل بهدوء وبشكل متحضر دون أن نتسبب في الإضرار بأطفالنا، لكن الاستمرار في الحياة الزوجية شيء مختلف، أتفهم؟
أطرق الثاني وهو يشيح ببصره بعيدا وقال متمتما: نعم، أفهم ... أفهم.
مضت فترة صمت لم يشعر أيهما بطولها حتى قطعها الأول متسائلا في لهجة تحمل بعض الاستخفاف : إذن فأنت تريد أن تقنعني بأنك لست مرتاحا في كندا؟ لكن، ألم تحقق حلمك؟ ألم تجد هناك ما كنت تبحث عنه؟ ألم تجد هناك الحرية والديمقراطية والعدالة وتكافؤ الفرص وكل تلك المستحيلات التي لا نعرف هنا عنها شيئا؟
أجاب الثاني وهو لم يزل مطرقا ببصره إلى الخارج: نعم، بالفعل، وجدت الحرية والعدالة والفرص وكل شيء، لا يمكنني إنكار ذلك، ربما لأنني اعتدت على تلك المبادئ فلم أعد ألحظها أو أقدر أهميتها، صارت بالنسبة لي بديهيات، لكن حلمي، لا أعرف يا صديقي! أنا فقط أعيش مثلما يعيش بقية الناس، تأقلمت على الحياة هناك منذ زمن، لكنها، صدقني، مجرد أيام أقضيها وحسب، نعم ليست لدي مشكلات كبيرة، ليس لدي إلا الهموم العادية كأي شخص طبيعي، لكنني قطعا لم أحقق حلمي، أنا أحقق أحلام أشخاص آخرين، أحلام أصحاب الشركة والمساهمين والعملاء، أحلام كل الأطراف ذوي العلاقة، أحلام كل ال
stakeholders
كما يقولون هناك في كندا، لكنني بالتأكيد لا أحقق حلمي أنا!
أكمل الأول بنفس النبرة المستخفة في صوته وكأنه يحاور شخصا يقول كلاما غير منطقي: لماذا لا تعود إذن إلى مصر؟
التفت إليه وكأنه استيقظ من حلم، ثم فكر للحظة وأجاب: ليت الأمر كان بتلك السهولة! أنا لا أستطيع العيش في مصر يا صديقي. ليس لأن مصر سيئة؛ لكن لأنني نسيت كيفية الحياة فيها، نسيت كيف كان شكل الحياة هنا، ثم إنه حتى شكل الحياة الذي قد أتذكره لم يعد موجودا! لم أعد أعرف الإسكندرية! أسير في شوارع لا أعرفها ولا أتذكر أي شيء مما يحيط بها، ولا أستطيع أن أجد الأشياء التي أتذكرها! هل تعرف؛ منذ أيام كنت أتمشى في كفر عبده، حيث كنت أحب التمشية قديما وسط الفيلات والأشجار في الشتاء، حينما كنت أضع سماعات الأذن وأستمع إلى محمد منير من جهاز الووكمان في جيبي، ثم تذكرت بيشوي صديقي من المدرسة الثانوية، الذي كان يقيم هناك، وكنا نقضي في بيته ساعات طويلة نستمع إلى الموسيقى ونشاهد مباريات الكرة. أتعرف، حاولت الوصول إلى الشارع الذي كان يقيم فيه بيشوي فلم أستطع! لا شيء هناك كما كان عليه، أتذكر الشارع جيدا، كانت على ناصيته تلك الفيلا إنجليزية الطراز التي تطل شرفة بيشوي على حديقتها، وكان في آخر الشارع محل مكوجي صغير لا أتذكر اسمه الآن، لكنني أتذكر جيدا واجهته الخشبية الزرقاء ذات الزجاج المزخرف المكتوب عليه اسم المحل بالفرنسية، كان هناك كذلك الفكهاني النوبي الذي كان يأتي بأفضل بطيخ يمكنك الحصول عليه في الإسكندرية، والذي اشتريت منه فاكهة البابايا لأول مرة في حياتي، ولم أكن أعرف اسمها وقتذاك. أتعرف، لم أستطع التعرف على الشارع! لم أعثر على أي فكهاني نوبي ولا على محل مكوجي ذي واجهة خشبية زرقاء، لم تعد هناك فيلا إنجليزية الطراز يا ياسين، لم أستطع أن أحدد أي واحدة من تلك البنايات الجديدة قد قامت على أنقاض حديقة الفيلا التي كنا نستمتع بتغريد الطيور على أشجار حديقتها قبيل الغسق من شرفة بيشوي، لم تعد هناك أي أشجار! هل تذكر مثلا محل الفشار في محطة الرمل؟ لعلك تعرف أنه لم يعد موجودا كذلك. هل تذكر بيانكي التي كنا نفعل الأعاجيب لنحصل على تصاريح دخولها؟ لقد تحولت إلى عشوائيات تطفح في شوارعها مجارير الصرف. الإسكندرية التي أعرفها لم تعد موجودة! أصبحت مدينة من الماضي لا يمكنك رؤيتها إلا في أفلام الثمانينيات والتسعينيات. لقد أصبحت أحس بالغربة هنا، لو انتقلت للعيش هنا سيكون ذلك كانتقالي للعيش في بلد جديد أحتاج بعض الوقت للتعرف عليه وفهمه، وما الذي يجعلني أنتقل للعيش في مدينة جديدة في عمري هذا؟ لقد تعبت من الهجرة، كلما انتقلت إلى بلد وفهمته وتأقلمت مع طبيعة الحياة به أجد نفسي مدفوعا إلى هجرة جديدة! يكفيني ذلك، لقد اكتفيت من الترحال.
كان الآخر ينصت إليه باهتمام ويهز رأسه موافقا حتى انتهى من حديثه الطويل، فكر لبرهة ثم أجابه وقد غابت نبرة الاستخفاف وحلت محلها الجدية: لقد تغير البلد فعلا، أنا مثلك في أحيان كثيرة لا أكاد أعرف أين أنا، لقد صارت الحياة هنا صعبة بحق، هذا البلد يبذل كل جهده لكي يجعل استمرار الحياة فيه مستحيلة.
حدجه الثاني بنظرة استنكار وأجاب: لكنني أشعر أنك تعيش حياة جيدة هنا، يبدو من مظهرك أن حالتك المادية متيسرة إلى حد كبير، ما الذي يضايقك إذن من العيش في بلدك التي تعرفها وسط أهلك وأصدقائك؟ ما الذي يسوءك في أن تشيخ في مدينتك أو حتى في القاهرة؟ أنت تذكر طبعا قول الأبنودي على لسان عمته يامنة:
عجزت يا واد؟
متى؟ وكيف؟
عاد اللي يعجز في بلاده، غير اللي يعجز ضيف!
أجاب الأول بابتسامة لا توحي بالسعادة ولا بالسخرية، ابتسامة حزينة بشكل لم يحاول إخفاءه: نعم، لقد أصبحت حالتي المادية الآن جيدة ولله الحمد، لكنها لم تكن كذلك منذ سنوات خمس؛ لقد بنيت نفسي ونجحت، ثم جاءت الثورة وما صاحبها من فوضى فسقط كل ما بنيته. ثم بنيت نفسي مرة أخرى بشكل آخر؛ عدت موظفا ورجعت للدراسة من جديد بعد كل تلك السنوات، حصلت على شهادات كثيرة لم أفكر من قبل في التقدم لامتحاناتها،
MBA
و
والكثير من تلك الشهادات ذات الحروف الإنجليزية الثلاث التي تعجب مديري الموارد البشرية في الشركات متعددة الجنسيات. فعلت ذلك في عمري هذا بعد أن كنت أملك شركة ناجحة، وبعد أن كان يعمل لدي ثلاثون موظفا، يمكنك أن تنجح هنا، لكن لا شيء يضمن أن تستمر في النجاح، لا شيء ولا أحد.
ثم اختفت الابتسامة وأضاف بنبرة جادة إلى درجة التحذير: ثم، ليتها كانت مسألة مال وحسب. ليس بالضرورة أن تعيش بشكل جيد في هذا البلد إذا كنت تملك المال فقط، مهما كان حجم أرصدتك البنكية فأين يمكنك الهروب من الزحام، من التلوث، من التطرف، من موظفي الحكومة، من الطرق؟ لن تستطيع أموالك أن توفر لك العيش في جزيرة منعزلة؛ فليس ثمة جزر منعزلة في هذا البلد. يمكن لخطأ أحمق من موظف حكومي، أو لقرار عشوائي من محافظ أو وزير أو رئيس حي أن يهدم بجرة قلم كل ما بنيته، أو أن يفسد عليك حياتك للأبد. حتى الناس العاديون، هؤلاء الذين تراهم حولك، يمكنهم أن يقلبوا حياتك إلى جحيم، أولئك الذين انضموا إلى داعش واحترفوا تفجير السيارات وقطع الرءوس مثلا، من أين تظن أنهم أتوا؟ لقد كانوا هنا وسطنا طوال الوقت، كانوا يسيرون معنا في الأسواق ويجلسون بجوارنا في المواصلات، وما زال كثيرون منهم يعيشون بيننا ويتعاملون معنا، بل إن بعضهم كنت أعرفه بشكل شخصي؛ ذلك الطبيب الذي كان قد أجرى لي جراحة في عيادته بشارع سيزوستريس مثلا، لم يكن فيه ما يثير الريبة، مجرد طبيب شاب، ثم رأيته قبل عام على يوتيوب وهو يحمل سلاحا آليا ويتوعد بذبح المشاركين في الانتخابات الرئاسية. هل يمكنك أن تتصور أن الرجل الذي أسلمت له نفسك ليخدرك ويشق لحمك بالمشرط، كان في قرارة نفسه يعتقد أن ذبحك سيوصله إلى الجنة؟ حتى هؤلاء البسطاء والشبان المتحمسون لأي شيء، الذين ظلوا يتجمعون تحت شرفة مكتبي لعامين، يتصايحون ويرددون هتافات لا معنى لها؛ كانوا السبب في أن خسرت كل ما بنيته طوال حياتي، رغم أنني لم أتسبب لهم في أي ضرر. كانوا يريدون أن يسقطوا فلانا أو فلانا؛ فإذا بهم يسقطونني أنا ويغلقون باب الرزق أمام ثلاثين موظفا كانوا يعملون بشركتي، ولا أعلم كيف يدبرون أقوات عائلاتهم الآن بعد موجة الغلاء الأخيرة. ماذا أقول لك عما يمكن للحياة في هذا البلد أن تفعل بك؟ الحياة هنا خطرة يا ياسين، الحياة هنا كالتدخين، ضارة بالصحة وتسبب الوفاة.
أجاب الثاني بنبرة فضول: هل فكرت في الهجرة؟
ابتسم الأول وقال بلهجة محبطة: لا يمكنني الهجرة في عمري هذا. كما لا تستطيع أنت الحياة هنا، لا أستطيع أنا كذلك الحياة في كندا، لقد سافرت عدة مرات إلى الخارج، ورأيت بعض البلدان العربية والأجنبية، لكنني رأيتها كعابر سبيل يمر بها لعدة أيام ثم يغادر، لا أعرف كيفية الحياة في هذه البلدان، ولا أعرف شيئا عن التفاصيل اليومية الكثيرة التي يتوجب على المرء التعامل معها، ولا أظنني أستطيع في عمري هذا ترك الحياة التي تعودت عليها لثمانية وأربعين عاما، والبدء من جديد في عالم آخر. كانت الهجرة بالنسبة لي حلما قديما لم يعد صالحا للتحقق الآن، وأنا متعايش تماما مع هذه الحقيقة، بالضبط كما كنت أحلم في طفولتي باللعب لنادي الزمالك، بعض الأحلام يصبح ببساطة غير قابل للتحقق بعد سن معين، أنا باختصار مثبت هنا بالمسامير، وقد قررت منذ سنوات أنني سأنجح هنا مهما كلفني الأمر.
أجاب الثاني في تفهم وتعاطف: معك حق، أفهم ما تعنيه جيدا. يمكن للناس النجاح إذا أرادوا ذلك بالتأكيد، لكنك على الأقل معتاد على الظروف هنا، وتستطيع التعامل معها كما فعلت طيلة تلك السنوات، لكنني أنا لا أستطيع ذلك؛ لقد أصبحت أحضر إلى مصر كالسياح، أقيم لبضعة أيام في فنادق باهرة الجمال في شرم الشيخ أو مرسى مطروح أو الجونة، ألتقط بعض الصور الرائعة حقا، ثم أنشرها على تطبيقات التواصل الاجتماعي لأجد سيلا من التعليقات من الزملاء والمعارف في شتى البلدان، يستغربون كيف أترك بلدا ساحرا كالذي يرونه في تلك الصور؛ لأعيش في مدينة كئيبة لا تشرق عليها الشمس مثل تورونتو، لم أعد أزور الإسكندرية أو القاهرة إلا للضرورة، أما فيما عدا ذلك فقد أصبحت غريبا بالكامل عن هذا البلد، وذلك إحساس بالغ القسوة لو كنت تدرك ما أقصد، أستقل سيارة أجرة فلا يمكنني تخمين حدود ما يجب أن أدفع، لا أعرف سعر زجاجة الماء أو عبوة المياه الغازية، ولا أستطيع حتى أن أخمن ذلك لأنني عندما غادرت هذه المدينة كانت الورقة ذات العشرة جنيهات ما زالت تعتبر مبلغا ذا قيمة! هل تعرف معنى أن تختفي ذكرياتك كلها؟ تاريخك كله يتم مسحه بنفس البساطة التي تمسح بها الصور غير المهمة من هاتفك المحمول، جذورك التي كانت ضاربة في عمق الأرض منذ أعمار وأعمار تجدها فجأة معلقة في الهواء. أنا لست كنديا يا ياسين، ولن أكون في يوم من الأيام! كندا هذه رغم ما فيها من مميزات، ورغم أنني أحمل جنسيتها لكنها ليست وطني مهما عشت فيها، ربما تكون وطنا لأبنائي أو لأبنائهم بعد ذلك، لكنني لا أريد أن أدفن هناك، وقد سجلت ذلك كتابة في وصية قانونية أطلعت بناتي عليها! أنا الآن بلا وطن، لا أجد نفسي هنا، ولا أجد نفسي هناك، أتفهم؟
ساد صمت طويل هذه المرة، طال الصمت حتى لم يقطعه أي حديث بعد ذلك، غرق كل منهما تماما في أفكاره، في ذلك العمر الذي مضى وكيف مضى، في تلك السنوات الضبابية الغائمة التي لا يدرك ما كان يفعل فيها بالتحديد، سنوات تبدو منسية، لا يميزها شيء، وكأنما ابتلعها ثقب أسود، تلك الأعوام ما بين صخب الشباب وضجيج الحياة بكل عنفوانها، وبين الركود المميت الذي يقبع فيه الآن، تلك السنوات الجرداء الخالية من الذكريات المميزة وكأنها لم تكن، سنوات لم تضف إليه إلا بعض الشيب والكثير من الدهون، سنوات الثقب الأسود التي لا يكاد يذكر حدثا هاما مر به فيها، بينما لم يزل يحمل تلالا من الذكريات والتفاصيل عن السنوات السابقة لها، وقت أن كان حيا بحق، وقت أن كانت حركته لا تسكن، وعقله لا يتوقف عن التفاعل مع كل صغيرة وكبيرة، وقت أن كان بإمكانه ممارسة الحماقات وارتكاب الأخطاء. هل صنعت تلك السنوات أي فارق يذكر في حياته؟ هل كان شعوره بها سيختلف إن سافر إلى الخارج أو ظل في مصر، إن تزوج فريدة أو تزوج غيرها أو إن لم يتزوج قط، إن عمل في وظيفة ثابتة أو أسس عمله الخاص؟ أليست النتيجة هي ذاتها بشكل أو بآخر كما هو حال ذلك الشخص الآخر الواقف أمامه والذي يبدو مثله كهلا حزينا؟ أليست هي ذات الدوامة وهو نفس الثقب الأسود؟ هل كان له حق الاختيار من الأساس، أم أنه قدر لا مفر منه؟ هل كان سيغير اختياره إن أتيح له ذلك؟ وهل كان القدر ليتغير بالتبعية؟ ما الهدف إذن؟ ما الغاية من كل ذلك؟ أليست هي من الأصل لعبة روليت كبيرة؟ يولد طفل ما لأب سويسري يمتلك مصنعا للشوكولاتة، ويقضي أمسياته في الاستماع إلى سيمفونيات شتراوس على ضفاف بحيرة هادئة وسط جبال الألب الخضراء، بينما يولد طفل آخر في ذات اللحظة لأب أمي لا يجد قوت يومه في كشك خشبي فوق مستنقع تفتك به الأمراض المعدية في بنجلاديش. لم يختر أي منهما أين يولد أو لأي أبوين، ثم يحاول أحد مرتدي ربطات العنق الأنيقة في قناة فضائية ما إقناعنا بنظرية تكافؤ الفرص، أو يستميت رجل دين ما في إثبات نظرية متهافتة عن أن كل إنسان يحصل على حظه في هذه الحياة على هيئة أربعة وعشرين قيراطا، قد يكون بعضها صحة وبعضها مالا وبعضها ذرية وبعضها ذكاء إلى آخر تلك الترهات. كيف يمكن أن يكون هذان المولودان في ذات اللحظة قد حصل كل منهما على نصيب مماثل للآخر؟ هذه الحياة ظالمة بالتأكيد، عرف ذلك منذ زمن، وأراد أن يعتاد عليه كما يطالبه بيل جيتس في عبارته الشهيرة. لكنه لم يستطع؛ ربما لأنه ليس بيل جيتس، وربما لأنه لا يريد الاعتياد على حياة ظالمة! •••
على رصيف المحطة العتيقة التي تستقبل بصخبها وزحامها القادمين إلى المدينة وكأنما تمهد لهم ما سيكابدونه فيها، كأنما تمنحهم لمحة مبسطة عن صخب وضوضاء تلك البقعة من الأرض التي وطئتها للتو أقدامهم؛ كي لا يباغتهم ذلك دونما تمهيد مسبق، على رصيف تلك المحطة كان يقف ذلك الشاب المتعب رافعا في سأم ورقة بيضاء طبع عليها بحروف واضحة كبيرة اسم «ياسين عمران». كان كلاهما في الحقيقة يتوقع أن ينتظره شخص ما ليصطحبه إلى الوجهة التي يقصدها؛ يتوقع الأول من يصطحبه إلى الميناء حيث مكتب الشركة اليونانية التي حضر لمقابلة مديرها الإقليمي لمناقشة خطة الاندماج المقترحة مع الشركة التي يعمل بها، بينما يتوقع الثاني من يأخذه إلى مطار برج العرب حيث يستقبل زوجته وأبناءه القادمين مع جدهم وجدتهم لأمهم من شرم الشيخ بعد أن قضوا بصحبتهما هناك أسبوعا، قبل أن يصطحبهم عائدين إلى القاهرة التي يطيرون منها في الصباح الباكر إلى تورونتو في رحلة طويلة، يتوقفون خلالها لأربع ساعات في مطار فرانكفورت.
وقف الاثنان متقابلين، يبدلون ما بين النظر إلى بعضهما البعض، وما بين التطلع في حيرة إلى اللافتة التي يحملها ذلك الشاب، لم يعرف أي منهما ما إذا كان هو المقصود بها أم الآخر، توقفا عن النظر ناحية اللافتة وثبتا نظراتهما تجاه بعضهما البعض، استغرق كلاهما في التحديق في عين الآخر لثوان، بينما تتسارع هرولة المسافرين من حولهما مع تحرك القطار مغادرا المحطة، كانت نظراتهما فارغة وذاهلة، كانت نظراتهما حائرة كيفما تبلغ الحيرة منتهاها، ثم في اللحظة ذاتها، وكأنما كان بينهما اتفاق مسبق؛ التفت كل منهما إلى الاتجاه المعاكس تماما، وسار مبتعدا عن الآخر بخطى سريعة ثابتة دون أن تفلت من أيهما أدنى التفاتة إلى الخلف، لم يكن ذلك الشاب الذي يحمل اللافتة يعرف، ولم يكن أي منهما كذلك يعرف على وجه اليقين أيهما هو ياسين عمران، إلا أن كليهما دارت برأسه تلك الأبيات التي سمعها ذات يوم من منشد ما في حضرة مولد ولي ما:
فؤاد به شمس المحبة طالع
وليس لنجم العذل فيه مواقع
صحا الناس من سكر الغرام وما صحا
وأفرق كل وهو في الحان جامع
هوى وصبابات ونار محبة
وتربة صبر قد سقتها المدامع
ولي طمع بين الأجارع عهده
قديم وكم خابت هناك المطامع
أجر ذيول اللهو في ساحة اللقا
وأجني ثمار القرب وهي أيانع
تصرم ذاك العمر حتى كأنني
أعيش بلا عمر وللعيش مانع
ومذ مر عني العيس وابيض لمتي
تسود صبحي فالدموع فواقع
أيا يوسف الدنيا لفقدك في الحشا
من الحزن يعقوب فهل أنت راجع؟
أتينا تجار الذل نحو عزيزكم
وأرواحنا المزجاة تلك البضائع
فكل الذي يقضيه في رضاكم
مرامي وفوق القصد ما أنا صانع
غرامي غرام لا يقاس بغيره
ودون هيامي للمحبين مانع
فؤادي والتبريح للروح لازم
وسقمي والآلام للجسم تابع
ولوعي وأشجاني وشوقي ولوعتي
لجوهر ذاتي في الغرام طبائع
هي النفس نعمت مركبا مطمئنة
فليس لها دون المرام موانع
فيا سعد إن رمت السعادة فاغتنم
فقد جاء في نظم البديع بدائع
مفاتيح أقفال الغيوب أتتك في
خزائن أقوالي فهل أنت سامع؟
سأنشي روايات إلى الحق أسندت
وأضرب أمثالا لما أنا واضع
وأوضح بالمعقول سر حقيقة
لمن هو ذو قلب إلى الحق راجع
شعر عبد الكريم الجيلي (1365-1424م) (تمت)
دبي، يناير 2019م
نامعلوم صفحہ