إهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
نامعلوم صفحہ
إهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
نامعلوم صفحہ
سنوات الثقب الأسود
سنوات الثقب الأسود
تأليف
حسين مهران
إهداء
إلى تلك السنوات الضبابية الغائمة التي لا أذكر ما كنت أفعل فيها.
إلى السنوات الجرداء الخالية من الذكريات وكأنها لم تكن.
إلى السنوات التي لم تضف إلي إلا بعض الشيب والكثير من الدهون.
قد كنت أحذر أن أشقى بفرقتكم
فقد شقيت بها لم ينفع الحذر
نامعلوم صفحہ
المرء في كل يوم يرتجي غده
ودون ذلك مخبوء له القدر
القلب يأمل والآمال كاذبة
والنفس تلهو وفي الأيام معتبر
السهروردي المقتول
شاعر وفيلسوف صوفي (1155-1191م)
الفصل الأول
يوليو 2018م
تستمر أعمدة الكهرباء في التوالي بسرعة خاطفة عبر زجاج نافذة القطار، متطابقة كلها، متكررة لا نهائيا في إيقاع يثير الملل ويعرقل استغراقه في مراقبة مشهد الحقول المنبسطة في وداعة وخمول من شريط السكك الحديدية حتى تخوم البيوت الريفية البعيدة، لطالما سحرته هذه الأراضي الشاسعة التي لم تزل خضراء رغم أن كل ما حولها قد صار رماديا كالحا. لم تزل سخية خصيبة منذ قديم الأزل، قبل أن تكون هناك بيوت ريفية، وقبل أن تخترق القضبان الحديدية والقطارات الثقيلة صفحتها الهادئة، وقبل أن تشوه جمالها تلك الكتل الخرسانية القبيحة التي تناثرت داخلها في عشوائية وقحة كطفح جلدي لا شفاء منه. كانت تلك الأعمدة المتوالية اللعينة تفسد عليه متعة السكون في حضرة هذا الجمال، وكانت ثرثرة المسافرين وأصوات رنين هواتفهم الفجة تفسد يومه كله، وتثير أعصابه المثارة أصلا من قبل أن يستقل القطار الفاخر الجديد من محطة قطارات العاصمة الرئيسية بميدان رمسيس قاصدا الإسكندرية في مهمة عمل ثقيلة على قلبه. لقد أضحت كل مهام العمل ثقيلة على قلبه منذ زمن لم يعد يتذكر متى بدأ، لكنه يتذكر دائما أنه قد ضاق بهذا العمل، وأنه قد مل أيامه المتطابقة المتوالية في تكرار سقيم كتلك الأعمدة الغبية على جانب شريط السكك الحديدية.
أخرج هاتفه المحمول من جيبه وفتح غطاءه الجلدي الرمادي ثم أخذ يحرك إبهامه على الشاشة بحركة آلية متنقلا بين تطبيقات التواصل الاجتماعي المزعجة تلك. الكثير من التنبيهات كما هو المعتاد، زملاء عمل، عملاء قدامى، أقارب بعيدون، زملاء دراسة لا يكاد يتذكرهم، جميعهم يرفع الكلفة ويدس أنفه بمنتهى الأريحية في أدق تفاصيل حياته. لا يكاد يكتب خاطرة مرت برأسه أو ينشر صورة هنا أو هناك إلا وتنهال عليه التعليقات؛ هل اشتريت سيارة جديدة؟ لم تقل لي إنك مسافر إلى أوروبا. لماذا يرتدي ولدك سلسلة ذهبية؟ لا تجوز تهنئة غير المسلمين بأعيادهم. لا تترحم على هذا الرجل الذي مات بالأمس؛ ألا تعرف أنه غير مسلم؟ أتعجبك مقالة هذا الإخواني حقا؟ لقد صدمت فيك يا رجل! هل أصبحت تؤيد العسكر الآن؟ ألا ترى إلى أين يذهب هذا الرجل بالبلاد؟ يكره اختراق خصوصيته بهذا الشكل الفج، ويكره المتطفلين ويكره المتطرفين، ولا يحب مناقشة قناعاته وتفاصيل حياته هكذا على الملأ؛ لأنه ببساطة لا يعبأ بما يعتقده الآخرون عنه. في كل مرة ينقر إصبعه على زر الإرسال في أي من تلك التطبيقات اللعينة كان يعرف جيدا أنه سيندم على ذلك. أغلق غطاء الهاتف وأعاده إلى جيبه وعاد إلى تأمل المشهد بالخارج، لم تزل الأعمدة اللعينة تتوالى بلا انقطاع.
نامعلوم صفحہ
لم يعد قادرا على تحمل كل ذلك الإزعاج البصري القادم من الخارج، والإزعاج السمعي الذي بلغ منتهاه بالداخل بهذين المراهقين اللذين لم يتوقفا عن المزاح المبتذل بصوت مرتفع، بينما هما يستمعان لأغان مثيرة للغثيان عبر هاتفيهما المحمولين في ذات الوقت، لم يبد على أهلهما أي مبالاة بما يسببه ولداهما من إزعاج لبقية المسافرين الذين لم تبد عليهم كذلك أي علامة عن الامتعاض، وكأنما هناك اتفاق ضمني غير معلن على حق الجميع في ممارسة الإزعاج. يمكن أن يفقد الناس في هذا البلد كل حق آخر، لكنهم لن يفرطوا قط في حق ممارسة القبح بكل حرية.
نهض من كرسيه وتناول سترته المعلقة بجوار النافذة، ثم ارتداها معدلا ربطة عنقه متوجها ناحية مؤخرة العربة. كان يحرص دوما على حجز كرسي مفرد بالدرجة الأولى حتى لا يكون بجواره كرسي آخر ربما يجلس عليه من يمكن أن يضايقه، وبما أنه بات مؤخرا يتضايق من غالبية البشر فقد أراد أن يتخلص من ذلك الاحتمال. سار ببطء حتى مؤخرة العربة متأرجحا عبر الممر الضيق الطويل بين صفوف المقاعد مع اهتزازات القطار السريع على القضبان، فتح باب العربة ليفاجئه الهواء الحار المشبع بدخان التبغ الكثيف والضوضاء المزعجة الناتجة عن صرير العجلات الثقيلة وارتطامها الرتيب بين فواصل القضبان الحديدية. كان ذلك الباب يفصل بين ركاب العربة الفاخرة وبين كل ذلك الأذى، لكن ماذا بوسعه أن يفعل إن كان أذى الركاب أنفسهم أشد؟ لم يكن يدخن ولم يكن يحتمل رائحة التبغ بهذه الكثافة، لكنه أراد قتل بعض الوقت والهروب من الملل والإزعاج بالداخل؛ فقرر أن يقضي بضع دقائق في تلك المساحة الشحيحة بين عربتين فاخرتين من قطار سريع يقطع المسافة بين المدينتين الأكبر في البلاد دون التوقف في أي محطات.
سعل مرتين من تأثير الانتقال من هواء العربة المكيف إلى هذه المساحة سيئة التهوية التي تكدس فيها دخان أنواع مختلفة من التبغ، حتى لم تعد الرؤية فيها يسيرة إلا بعد أن تتعود العين على تلك الغلالة الضبابية وتبدأ في تمييز الملامح، حتى الأصوات لم يكن من السهل تبينها وسط الضجيج الهادر للعجلات الثقيلة على القضبان الحديدية. كان الجميع هنا مثله؛ صامتين كأنما هم كذلك هاربون من ضجيج البشر في الداخل إلى ضجيج الآلات الحديدية هنا، لعلهم يفضلون إزعاج الجماد عن إزعاج البشر، أو لعلهم يختطفون فقط تلك الدقائق القليلة للحصول على جرعة من التبغ لعلها تعينهم على مقاومة كل ذلك الصخب.
بات في وسعه الآن التعرف على ملامح وجوه الموجودين بالمكان، وصارت رئتاه متعايشتين مع ذلك الهجوم الخاطف غير المعتاد من الدخان. كان بجوار الباب على الجانب الأيسر رجل أشيب محني الظهر يضيق وجهه بالتجاعيد العميقة، ويرتدي ثيابا قديمة الطراز يبدو أن جسده قد نحل كثيرا عما كان عليه في الزمن الذي اشتراها فيه. كان الرجل ذاهلا عن الدنيا محملقا في فراغ بعيد عبر النافذة، رافعا يده اليمنى بسيجارة بدا أنه قد نسيها؛ فقد كانت تكاد تسقط منها كتلة من الرماد التهمت أكثر من نصف السيجارة. وعلى الجدار المجاور له يستند بظهره شاب طويل القامة في بدلة رسمية يعبث بيد في هاتفه المحمول ويدخن سيجارة بالأخرى. أما على الجانب الأيمن المواجه للشمس فقد وقف رجل في مثل طوله مواجها للنافذة فلم يتبين وجهه، وإن كان قد بدا له مألوفا لسبب لم يعرفه. أغراه الفضول بالانتظار قليلا؛ لم يكن هناك كذلك ما يفعله بالداخل، وكانت الرحلة لم تزل في بدايتها.
انتبه الشاب الطويل إلى وجوده بعد أن رفع نظره لأول مرة عن شاشة هاتفه، ثم نظر نحوه في فضول؛ بعدها ابتسم في ود وهو يدس الهاتف في جيب سترته ثم يمد يده داخل الجيب الآخر مخرجا علبة سجائر أجنبية. فتح العلبة ووجهها ناحيته قائلا في نبرة مرحة: يبدو أنك نسيت سجائرك؛ تفضل واحدة.
ارتبك للحظة ثم أجاب وقد ابتسم بدوره في امتنان: لا لا، أشكرك على ذوقك. أنا لا أدخن.
أردف الشاب في إصرار: يا «برنس»، إذا لم تكن مدخنا فما الذي جاء بك إلى هذا المكان الضيق المعبق بالدخان؟ تناول سيجارة ولا تخجل!
أجاب في بعض الضجر وقد ساءه هذا الرفع غير المبرر للكلفة: شكرا، أنا فعلا لا أدخن.
كان الرجل الأشيب لم يزل مستغرقا في شروده وإن انتبه أخيرا لسيجارته فسحب منها نفسا شديد العمق ربما ليعوض ما فاته منها، أما الرجل المواجه للنافذة على الجانب الآخر فقد استدار بغتة وكأنما انتبه للصوت. كان قرص الشمس الآن في ظهره تاركا وجهه في ظلمة يصعب معها التحقق من ملامحه، لكنه لم يزل يجد فيه شيئا مألوفا كأنما قد التقاه من قبل في مكان ما. كان الآخر الذي لا تظهر ملامح وجهه جيدا قد وقف متسمرا في مكانه محدقا ناحيته؛ هنا بدا له كشخص يعرفه جيدا لا كأحد من التقى بهم لقاء عابرا. حاول التذكر، حاول ربط هذه الهيئة والملامح غير الواضحة بأي خيط في عقله لكنه لم يفلح، اقترب الرجل منه ببطء مبتعدا عن النافذة وعن ضوء الشمس الذي كان يحجب ملامحه فبدأ يظهر وجهه رويدا رويدا. كان يعرفه، يعرفه جيدا وهو واثق من ذلك، لكنه لا يدرك من هو. فجأة توقف الرجل الآخر الذي بدا هو الآخر بدوره مذهولا ومتأملا ملامحه. قال الرجل الآخر في صوت مرتجف وإن بدا له مألوفا كذلك: غير معقول! من أنت؟
أجاب وقد كاد الفضول يقتله: نحن ... نعرف بعضنا البعض بالتأكيد يا أستاذ، لكنني غير قادر على التذكر بالضبط.
نامعلوم صفحہ
قال الرجل الآخر بنبرة مرتعبة وما زال صوته مألوفا: ياسين عمران؟
أجاب بسرعة: نعم أنا ياسين عمران بالفعل. لكن من أين تعرفني حضرتك؟ هل يمكنك أن تذكرني باسمك؟
ساد السكون لثوان قليلة مرت عليه كدهر كامل قبل أن ينطق الرجل الآخر دون أن يقل ما في نبرة صوته من رعب: أنا ياسين عمران.
صحراء
حرارة الصحراء قاتلة، وهدوءها قاتل كذلك، كثبان رمالها ساخنة وغزيرة كمحيط لا نهائي، صامتة وغامضة، لا تبوح بأسرارها ولا تكشف دخائلها، تبدو لمن لا يخبرها بحق ميتة منذ دهور، رغم أنها في الحقيقة تموج بالحياة وتتصارع بداخلها كائنات لا يدرك حصرها إلا خالقها. الصحراء كالمحيط، كلاهما ليس كما يبدو على الإطلاق، كلاهما عالم قائم بذاته، كلاهما صامت وغامض، وكلاهما قاتل.
في منتصف اللامكان وقفت منتصبة شامخة رغم ما يظهر عليها من إرهاق يفضحه ذلك الشحوب الواضح، في موضع لا يمكن وصفه إلا بأنه مكان ما وسط الصحراء، لا تميزه علامة، ولا شيء فيه مختلف عن بقية المواضع؛ في الصحراء كل المواقع متشابهة، وكل الرمال متطابقة، لا تتميز حبة رمل عن مثيلاتها، ولا تختلف شجرة بعينها عن بقية الشجر. كانت مستقرة في موضعها المبهم ذاك منذ سنوات طويلة، تمر عليها فصول ومواسم، تلفحها شمس قاسية لشهور طويلة، وتعصف بها ريح باردة في بعض ليالي موسم الشتاء القصير، يصيبها نزر يسير من ماء السماء المبارك مرة كل شتاءين أو ثلاثة. تتبدل عليها أقمار كثيرة، ليال مضيئة حميمة وأخرى مقفرة حالكة الظلام، تتبدل الأحوال حولها وهي كما هي، لا يتبدل فيها إلا مولد القليل من الأوراق الجديدة على أغصانها بعدما ترتوي ببعض قطرات المطر الشحيح، وتساقط أوراق أخرى عندما لا تحتمل قسوة الجفاف، تظل باسقة في ثبات بجذعها الباهت المتشقق وأغصانها المتعبة وأوراقها الشحيحة، لا يؤنس وحشتها في تلك الأرض المقفرة إلا جاراتها من الأشجار المتناثرة بغير ترتيب كيفما توافقت الظروف. وكائنات الصحراء البائسة من زواحف وقوارض وحشرات حكم عليها - ربما بجريرة خطيئة ما ارتكبها أسلافها القدماء - بالحياة حيث يصبح إيجاد قوت اليوم حلما بعيد المنال، ثم تلك الطيور الهزيلة شاحبة اللون التي تتقافز بين الأغصان لاهثة. كان ذلك الطائر الصغير ذو الريش كاحل السواد، والمنقار الأصفر المنفرج دائما في شهور الصيف ربما من شدة العطش هو أزهى ما في المشهد كله، كان ينشر البهجة في ذلك المشهد المقفر بقفزاته بين الشجيرات وبتغريداته التي تتصاعد عندما تلتقي جماعات منه على أغصان الشجر في نهاية النهار بعد يوم حار، كان هو الكائن الوحيد ذا اللون الواضح بين عناصر كلها صفراء أو مائلة للصفرة أو بلا لون محدد.
الفصل الثاني
يوليو 2018م
لم يدرك أي من الرجلين كم مر عليهما من الوقت ساكنين، متواجهين، محدقين كل منهما في وجه الآخر. كانا خارج المكان والزمان معا، يجاهد كل منهما لكي يستوعب حقيقة الأمر. كان كل منهما يقف أمام نفسه، كان كلاهما ياسين عمران ذاته، كان كل منهما ينظر إلى نفسه في هيئة رجل آخر. يمكن لكل شخص بالقطع أن يتعرف على صورته عندما يراها في مرآة، لا يمكن لأحد أن يخطئ نفسه؛ لذلك كان كل منهما على يقين كامل بأنه ينظر إلى نفسه، لا إلى شبيه له أو توأم أو مستنسخ، بل إلى نفسه بذاتها. وكان ذلك ما تركهما ذاهلين كأنما كان كل منهما يحدق في وجه ملك الموت.
لم يكونا متطابقين في الهيئة رغم ذلك لمن ينظر إليهما للوهلة الأولى، كانا في أواخر الأربعينيات من العمر، في نفس الطول وبنفس ملامح الوجه بالضبط، نفس العينين والأنف والشفتين، وكانت علامات الكهولة قد بدأت تظهر على كليهما بدرجات متفاوتة قليلا؛ كان جسد الأول أسمن بعض الشيء وأكثر ترهلا، بينما كان للثاني جسد يبدو عليه أثر الاعتناء والمواظبة على الرياضة، وإن ظل مع ذلك جسد كهل لا جسد شاب. كان للأول كرش واضح وإن لم يكن كبيرا، بينما كان بطن الثاني مشدودا بشكل مقبول بالنسبة لمن هم في مثل عمره. كان الشيب متناثرا في رأس الأول، لكن اللون الأسود ظل هو المسيطر، بينما غزا الشيب رأس الثاني بالكامل تقريبا فلم يتبق من السواد الكثير. كان الأول حليق اللحية والشارب بعناية، قصير الشعر في قصة رسمية وقورة، يضع على عينيه اللتين أحاطت بهما تجاعيد دقيقة وهالات داكنة نظارة طبية أنيقة ذات عدسات رقيقة بلا إطار، بينما كانت للثاني لحية قصيرة غير مهذبة بعناية، وقد بدت أقرب للمسة أناقة منها لرمز تدين، وشارب قصير وشعر لامع متوسط الطول ملتوي الأطراف ومصفف للخلف، وكان جلد وجهه أكثر صفاء ونضارة من الآخر. كان الأول في بدلة عمل رسمية رمادية وقميص سماوي تعلوه ربطة عنق يغلب عليها لون الدم القاني، وحذاء جلدي أسود ملمع بعناية، وفي معصمه ساعة ثمينة كلاسيكية الطراز من المعدن الفضي، بينما كان الثاني يرتدي فانلة قطنية بيضاء غير مكوية جيدا، وعليها شعار كبير لفريق كرة سلة أمريكي شهير، وبنطلونا قطنيا واسعا كثير الجيوب من النوع الذي يرتديه السياح والمغامرون، وحذاء رياضيا خفيفا، وكانت في معصمه ساعة إلكترونية ضخمة تزدحم بالكثير من المؤشرات كما لو كانت تستخدم للتحكم في طائرة. بشكل عام كانت الفروق بينهما شكلية؛ فقد كان الأول مسافرا في مهمة عمل، بينما كان الثاني على ما يبدو في عطلة، كما كان واضحا أن الثاني أكثر اهتماما بصحته ورشاقته، وربما كان يمارس الرياضة ويلتزم بنظام طعام صحي، أما فيما عدا ذلك فقد كان من السهل ملاحظة الشبه الكبير بينهما.
نامعلوم صفحہ
كان الثاني هو أول من كسر حاجز الصمت الطويل عندما خرج صوته أخيرا وكأنه قادم من أعماق مغارة سحيقة قائلا في مزيج من الدهشة والصدمة والفضول: كيف؟! هل تعني أن كلينا شخص واحد؟!
أجاب الأول بعد أن أطرق برهة ليفكر فيما يمكن أن يرد به على أغرب سؤال وجهه له مخلوق في حياته كلها: لست أفهم شيئا! هل أنت حقيقي أم جن أم ماذا؟!
نظر إليه الثاني في اندهاش - وكأنما لم يدهشه كل ما سبق كما أدهشه هذا السؤال - وأجاب في سخرية وهو يتلمس وجهه بكف يده: والله أنا متأكد تماما من أنني حقيقي، فماذا عنك أنت، هل أنت حقيقي أم أنك جن؟!
عادا للتحديق في وجه بعضهما البعض مرة أخرى، ربما كان كل منهما يحاول استكشاف وجه الآخر للوصول إلى حقيقة تلك الخدعة، كانت التساؤلات الدائرة في ذهن كل منهما في تلك اللحظة متطابقة؛ أين الخدعة؟ أهي مزحة ما؟ هل تكون هذه حلقة من أحد برامج المقالب التليفزيونية السخيفة تلك؟ هل هو حلم؟ أم إيحاء؟ أم هلاوس وضلالات؟ كلاهما كان مرهقا بالفعل لعدة أيام سابقة، ولكن هل يمكن أن يكون قد فقد السيطرة على عقله لتلك الدرجة؟ كانت التساؤلات لا نهائية، وكذلك كانت الاحتمالات، فقط احتمال واحد لم يكن متصورا أو مقبولا لدى أي منهما بأي حال رغم أنه كان - وحده دون سواه - هو الحقيقة، كان كلاهما حقيقيا، وكان كلاهما ياسين عمران بذاته.
نطق الأول هذه المرة حين حلت على رأسه فكرة ظن أنه يمكنها أن تفك هذا الاشتباك فقال: حسنا، ماذا أفطرت هذا الصباح؟
بوغت الثاني بالسؤال ثم ضحك من الفكرة فأجاب ببساطة: أنا لم أفطر هذا الصباح، فقط أخذت بعض القهوة قبل مغادرتي لكي أستطيع التركيز؛ لأنني استيقظت متأخرا وخفت أن يفوتني القطار إن بقيت لتناول الإفطار.
أجاب الأول في حيرة وهو يطرق إلى الأرض: أما أنا فأفطرت جيدا كعادتي عندما أكون مسافرا!
رد الثاني وقد لمعت عيناه بفكرة أخرى: أنا كذلك معتاد على أن أفطر جيدا عندما أكون مسافرا، لكنني كما أخبرتك استيقظت اليوم متأخرا ولم يكن لدي الوقت. اسمع، سأسألك عن أحداث قديمة بعض الشيء، فلنحاول الوصول إلى شيء ما مشترك بيننا يفسر هذا الوضع العجيب.
أجاب الأول في فضول وقد بدأ يتحمس لتلك اللعبة: لا بأس. اسأل.
فكر الثاني لثوان قليلة ثم قال في حماس: حسنا. الامتحان الذي ضبطت فيه متلبسا بالغش.
نامعلوم صفحہ
أجاب الأول بسرعة: امتحان إدارة الأعمال في السنة الثالثة بالكلية، مادة الدكتور مصطفى عبد القادر، وقد انتقلت إلى السنة الرابعة وأنا راسب في هذه المادة.
تسمرت حدقتا عيني الثاني واكتسى وجهه بالرعب ثم قال في نبرة منهارة: لا يعلم أي مخلوق شيئا عن هذه الحادثة! لم أحك عنها لأحد قط حتى إنني اعتقدت أنني نسيتها! في البيت أخفيت عن أبي وأمي القصة كلها، حتى الزملاء لم يروا ما حدث لأنني كنت في آخر صف من القاعة ولم تصدر المعيدة التي ضبطتني أي صوت عندما سحبت مني الورقة. لقد تظاهرت يومها بمغادرة اللجنة طواعية كأنني انتهيت من الإجابة. استغرب الزملاء فقط خروجي مبكرا، وأفهمتهم فيما بعد أنني لم أكن أجد ما أكتبه. لكن لم يعرف أي منهم شيئا عن حادثة الغش!
كان الأول يستمع وهو في حالة بين الذهول والحيرة، كان ما يقوله الثاني صحيحا، وكانت التفاصيل التي ذكرها دقيقة ولا يعلمها غيره، أو غيرهما، لا يعلمها إلا ياسين عمران وحده بالتأكيد. - حسنا، وفريدة؟
قالها الثاني فجأة وكأنما تذكر أمرا هاما. رفع الأول رأسه إليه متطلعا في حيرة بالغة ثم أجاب: نعم صحيح! كيف لم أنتبه لذلك؟! لا يمكن أن تكون أنت أيضا قد تزوجت فريدة! إذن ماذا عن أطفالي هؤلاء! أبناء من يك...
قاطعه الثاني في حدة لا تخلو من عصبية: ماذا؟! أنت تزوجت فريدة؟!
أجاب الأول في حيرة بادية: ما ... ما الذي يعنيه هذا؟ أليس المفترض أننا واحد؟
أجاب الثاني في نفس الحيرة مع مسحة من الأسى: أنا لم أتزوج فريدة! بل إنني لم أرها قط منذ آخر لقاء لنا في العجمي! يوم ذلك الحفل على شاطئ بيانكي قبل سنوات طويلة. كيف تزوجتها أنت إذن؟! ومتى؟
وضع الأول كفيه على رأسه كأنما يمنعه من الانفجار، ثم قال محاولا التمسك بما بقي له من هدوء: أنا تزوجت فريدة بعد لقاء العجمي ذلك بسنتين تقريبا، لا ... سنتان بالضبط. ألم يكن ذلك اللقاء يوم ذكرى مولدها؟ لقد تزوجنا في ذكرى مولدها كذلك لكن بعد ذلك اليوم بسنتين! لكن، كيف يكون ذلك؟ ألم تكن أحداث حياتنا متطابقة؟! ألم تتزوج أنت؟
رد الثاني وقد تحولت مسحة الحزن في نبرة صوته إلى الصدمة: بلى تزوجت بعد ذلك اللقاء بخمس سنين، لكنني تزوجت امرأة أخرى وأنجبت منها بنتين.
أجاب الأول: أما أنا فطلقت فريدة؛ انفصلنا بعد زواج دام سبع عشرة سنة، أنجبت لي ولدين وبنتا.
نامعلوم صفحہ
قالها بنبرة من الأسى الواضح، بينما ظل الأول ينظر إليه نظرة تحمل الكثير من المعاني لدرجة أنه لا يمكنك تمييز ما تعنيه بالتحديد. صمت الأول لبرهة ثم قال بنبرة معاتبة: طلقت فريدة؟!
فهم الأول مغزى تلك العبارة فواجهه محدقا في عينيه ثم قال ببرود: وأنت، تركت فريدة وهربت؟
صحراء
كل ما هو غير مرئي أسفل مشهد الصحراء الباهت الظاهر للعيان هو ذاته ما يربط جميع الكائنات بتلك الأرض، كان كل ما يجعل تلك الصحراء وطنا للجميع مختفيا تحت سطحها المرئي، لا تدركه الأبصار؛ فالشجر تضرب جذوره المتشعبة في عمق الرمال كأنما يغرس كيانه داخل الأرض، ليس فقط بحثا عن الماء الشحيح أو عن الدفء، بل بحثا عن الأمان، وتشبثا برفات أسلاف سبقوا في ذات المكان ولم يعد يتبقى منهم إلا ذرات مدفونة في أعماق الرمال تحمل رائحتهم وتبعث الطمأنينة في كيان الأحياء. كان الشجر يمد جذوره في أرضه عميقة قدر المستطاع، يكاد يصل بجذوره إلى نواة الأرض بحثا عن هويته وعن رائحة أسلافه. وكانت الزواحف تحفر جحورها في باطن الأرض بحثا عن المأوى الذي لم تجده على السطح حيث كل شيء معرض للانجراف مع تيارات الهواء. كان السبيل الوحيد للأمان والاستقرار مدفونا في عمق الأرض. كانت تلك الأرض - وإن رآها من لا يعرفها قاسية جدباء - هي الملاذ والأمان للجميع، كانت مصدر الخير والحياة للجميع، وكان في باطنها كذلك هوية وذاكرة الجميع.
الفصل الثالث
يوليو 2018م
كانا الآن جالسين على أرضية العربة متقابلين، مجاورين للباب ومستندين بكتفيهما إليه، كانا منفصلين تماما عن العالم الصاخب حولهما، لا يسمعان ضجيج العجلات ولا يشمان رائحة دخان التبغ، ولم يكن يلحظهما أحد كذلك. ظل الكثيرون من المدخنين يجيئون، يختطفون دقائق عابرة مع سجائرهم في صمت، ينفثون دخانها في الهواء ويحملقون بلا اكتراث في التكوينات التي يصنعها الدخان في الهواء ثم يغادرون عائدين إلى الداخل دون أن ينتبه أي منهم إلى الشخصين - أو إلى النسختين من نفس الشخص - الجالسين على الأرض بجانب باب العربة يحدقان في بعضهما البعض أكثر مما يتبادلان الكلمات. لم يلحظ أي من أولئك العابرين الشبه بينهما؛ ربما لاختلاف هيئتهما، أو ربما لأنه ببساطة لم يكن أي من المدخنين العابرين ليشغل نفسه بمقارنة وجوه مسافرين لا يعرفهم في مساحة تدخين ضيقة بين عربات قطار سريع.
كان حديثهما قد تحول إلى ما يشبه الدردشة بين صديقين قديمين التقيا بالمصادفة، كان كل منهما يبحث عند الآخر عن إجابات لأسئلة تخصه هو. قال الأول وهو لم يزل محدقا في وجه الثاني في محاولة دءوبة لاستكشاف شيء ما: ألا زلت تسمع المديح؟
ابتسم الثاني وقد لمعت عيناه من أثر دفقة الذكريات المفاجئة تلك وأجاب بنبرة فيها بعض الحماس: ليس كما كنت في الماضي، لكن نعم طبعا ما زلت. الحمد لله على نعمة الإنترنت على أي حال؛ أجد فيه كنوزا بالمصادفة من آن لآخر. هل تذكر أيام زمان؟ كان أحدنا يدور بالشهور هنا وهناك بحثا عن شريط عليه تسجيل ليلة أو حفل!
أجاب الأول مبتسما وقد سرح ببصره إلى السماء التي يراها من النافذة الزجاجية في أعلى الباب المقابل: هل تذكر شريط الشيخ التوني الذي سافرت أنا وشاذلي خصيصا لنحضره من قريبه ذاك في المدينة الجامعية بالمنصورة؟ يا إلهي! أين يا ترى هذا الشريط الآن؟
نامعلوم صفحہ
ابتسم الآخر بدوره وأجاب: أغلب الظن أنه قد ضاع أو انتهى به الأمر في سلة المهملات مثل غالبية مقتنياتي التي كانت في بيتنا القديم في بولكلي. لم يبق عندي من تلك الأشياء غير حفنة من صور لأبي وأمي، رحمهما الله.
رد الأول رافعا كفيه في الهواء كعلامة على الاستسلام: ثم إنك حتى لو وجدت الشريط، فهل يملك أي شخص جهاز كاسيت في هذه الأيام؟
أكمل الثاني في بعض الحماس: لقد وجدت تسجيل تلك الليلة للشيخ التوني على ساوند كلاود بالمناسبة. أنا على يقين من أن من رفع هذا التسجيل على الإنترنت كان قد حصل عليه من نفس الشريط الذي كنت قد أحضرته من قريب شاذلي هذا؛ نفس الأجزاء التي يشوبها التشويش، نفس المقاطع التي ينخفض فيها صوت التسجيل، نفس التوقيتات التي يصفق فيها الجمهور، وحتى نفس الأشخاص الذين يتحدثون ويهللون في الخلفية. لقد كنت أحفظ تفاصيل ذلك الشريط كما أعرف اسمي.
أجاب الأول في نبرة حزينة: أما أنا فلم يتبق لدي لا الوقت ولا الطاقة لكي أسمع أو لكي أبحث عن شيء بالمرة.
ثم أردف وقد تغيرت نبرته فجأة إلى المرح: هل تذكر عندما نسخت من ذلك التسجيل شريطا آخر لأشغله في السيارة لكيلا أخرجه من جهاز كاسيت البيت؟
أجاب الآخر بسرعة وبنفس المرح: أذكر بالطبع! لم يخرج ذلك الشريط من جهاز الكاسيت بالفعل حتى أحضرت الشريط الذي سجلته بنفسي من حفل الشيخ ياسين التهامي في مولد السيدة زينب.
صمت قليلا ثم بدأ ينشد وهو يتطلع إلى الفراغ:
من لامني في الحب يرم بسهمه
يصبح محزون الفؤاد عليل
الحب شهد في البداية يا أخي
نامعلوم صفحہ
آخره سيف نعم مسلول
ليكمل الآخر بنفس النظرة الساهمة:
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سم الأفاعي قليل
الحب عذب لا يذقه مقيد
بحدود شهوته ولا معلول
ساد صمت جميل لدقيقة أو نحو ذلك، صمت حالم، وكأن لم يرد أي منهما أن يقطع شريط الذكريات الدائر في عقله، أو في عقلهما معا. ثم قال الثاني وقد اتسعت ابتسامته ولمعت عيناه: الانتخابات الرئاسية! لا أقصد الأخيرة بالطبع، ولكن تلك السابقة التي كان فيها عشرة مرشحين.
أجاب الأول في فضول: ماذا عنها؟ آه، صحيح. أتقصد لمن أعطيت صوتي؟
أردف الثاني: ما زلت أذكر تلك المناظرة الانتخابية التي أذاعها التليفزيون. لقد كان حلما جميلا أفقنا منه على كابوس.
أجاب الأول مجددا وقد أثار الموضوع فضوله: دعني أخمن. لا يمكن أن تكون قد انتخبت أيا من المرشحين الإخوانيين أو أيا من أولئك اليساريين؛ ليس ذلك ياسين عمران بالتأكيد. أحمد شفيق؟ ربما، وإن كنت لا أرجح هذا الاحتمال.
نامعلوم صفحہ
قال الثاني في هدوء وثقة: لقد كان الاختيار واضحا في عقلي منذ البداية.
أجاب الأول بنفس اللهجة الواثقة: وكذلك أنا، حتى إنني لم أذهب للتصويت في جولة الإعادة.
حدق الاثنان في عيني بعضهما البعض لفترة ثم ابتسما وقد فهم كل منهما ما في عقل الآخر وقالا في نفس اللحظة: عمرو موسى!
ضحكا في صوت واحد ضحكا طويلا، ثم عادا إلى الصمت مرة أخرى، كانت تلك اللعبة قد استغرقتهما تماما حتى أخذ كل منهما يبحث في ذاكرته عن موضوع جديد يمكن أن يكمل به اللعبة المشوقة. سأل الثاني بعد برهة: لا تقل لي إنك لا تزال تلعب الكرة!
اتسعت ابتسامة الأول كذلك وأجاب في حماس: هذا هو الشيء الوحيد الذي لا أزال أفعله، وإن لم تعد لياقتي تسمح باللعب لفترات طويلة. يوجد بالقرب من بيتي ملعب كرة قدم خماسية، أذهب أنا ومجموعة من الأصدقاء للعب فيه مساء كل ثلاثاء، ما لم تستجد ظروف أخرى بالطبع.
رد الثاني في عدم اكتراث: أما أنا فنسيت حكاية الكرة هذه تماما؛ لأن دائرة معارفي الآن تهتم برياضات مختلفة ليست كرة القدم من بينها للأسف؛ أحافظ على لياقتي وأواظب على التمرين بالأثقال والجري وبعض التجديف عندما يسمح الطقس، لكن ليس كرة القدم.
ارتسمت على وجه الأول فجأة ملامح الجدية وسأل نسخته الأخرى: لم تقل لي أين تسكن ؟
انتبه الثاني فجأة كذلك وأخرجه هذا السؤال من خيالاته وذكرياته فارتسمت على وجهه نفس الجدية وأجاب: لقد هاجرت منذ زمن! تنقلت لسنوات طويلة بين أكثر من بلد؛ عملت في السعودية ثم انتقلت إلى الإمارات، ولكنني أعيش الآن في ضاحية من ضواحي تورونتو بكندا حيث استقر بي المقام أخيرا منذ سبع سنوات! لكن ألا زلت تعيش في الإسكندرية؟
سرح الأول ببصره خارج النافذة مرة أخرى ثم قال في نبرة تحمل تلالا من الإحباط: كندا! يا رجل! أتعرف أين ذهبت أنا يوم أن قررت الهجرة من الإسكندرية؟ ذهبت إلى القاهرة!
التفت إليه الثاني باستغراب شديد قائلا: لكنك لطالما حلمت بالعيش في كندا، أتذكر؟ بلاد الحرية والديمقراطية وتكافؤ الفرص، لقد كان ذلك هو هدف حياتك منذ كنت في المدرسة الثانوية، ألا تذكر أيام كنت تراسل تلك الفتاة الكندية؟ ماذا كان اسمها؟ لا أذكر اسمها الآن لكنني أذكر أنها كانت تعيش في كيبيك، فقد كانت ترسل صورا كثيرة لمدينتها، وكانت تكتب بعض التعليقات أحيانا بفرنسية معقدة لم أكن أفهمها، كان ذلك أيام المراسلة بالخطابات البريدية! لكن لماذا لم تهاجر إذن؟ ما الذي حدث؟
نامعلوم صفحہ
كان الأول قد غاص أكثر وأكثر في سرحانه، فأجاب بعد برهة صمت وقد خرج صوته وكأنما كان صادرا من أعماق سحيقة: أتسألني ما الذي حدث؟ يبدو لي أنك أنت الذي حقق أحلامي! أنت من هاجر إلى كندا، أنت الذي يبدو كشاب في الثلاثين بينما يعتقد من لا يعرفونني أنني في الستين. إنك حتى الذي وجد تسجيل الشيخ التوني على الإنترنت! أما أنا فكل ما حققته هو أنني لا أزال ألعب الكرة مع الأصدقاء في الملعب المجاور لبيتي مساء كل ثلاثاء لنصف ساعة على الأكثر، هذا ما لم تستجد ظروف أخرى بالطبع.
صحراء
كان صباحا عاديا، لا يميزه شيء عن أي صباح آخر، تماما ككل ما في هذه الصحراء؛ شمس حارقة وظل مفقود وهواء حار ساكن ورمال ملتهبة، زواحف كسولة وطيور قليلة. لكنه بعد شروق شمس ذلك الصباح بساعات قليلة لم يعد كمختلف الصباحات؛ كان ذلك هو الصباح الأول في الزمن الجديد، اليوم الذي يمكن أن يؤرخ به تحول تلك الصحراء وتبدل الحال ورحيل الجميع، كان ذلك الصباح تدشينا رسميا لزمن الوحدة والخواء.
تردد في الصحراء الشاسعة صدى أصوات صاخبة، ضوضاء قبيحة ودخيلة على المشهد، لا تشبه حفيف الأغصان ولا تغريد الطيور ولا فحيح الأفاعي، أصوات أزعجت ساكني الصحراء الآمنين في وطنهم فهرعت الزواحف خارجة في ذعر من جحورها ورفرفت الطيور بعيدا، وحده الشجر المتناثر ظل واقفا لا يجد مهربا ولا يعرف لتلك الأصوات المقتربة معنى ولا تفسيرا. لا يملك الشجر سوى الانتظار، يغدو الجميع ويروحون ويبقى وحده الشجر منتظرا، لا يدري ماذا ينتظر، لكنه لا يكف عن الانتظار.
تبزغ في الأفق البعيد بوادر القادمين؛ كائنات ضخمة عجيبة الشكل والألوان، تزحف بسرعة وتصدر ضوضاء مقبضة، تفوح منها روائح كريهة وتملأ السماء بأبخرة داكنة كسحب من رماد. لم تشهد تلك الصحراء من قبل قدوم كائنات كهذه، ربما شهدت على فترات متباعدة ذئبا ضل طريقه أو ناقة شردت خلف قطيعها، لكن كائنات بهذه الضخامة والوحشية لم يسبق لها قط أن وطئت تلك الرمال.
صارت الصحراء الآن خالية من كل مظاهر الحياة فيما عدا الشجر، فمع حط تلك القافلة القبيحة رحالها هرعت البقية القليلة من الزواحف والطيور هاربة، مترقبة ما ستحدثه تلك الكائنات الهائلة في أرضها. لم يكن هناك أمل في قتالها بالطبع؛ فتلك معركة خاسرة لن يفلح فيها كل ما في أفواه الأفاعي من سموم، ولا كل ما على ظهور القنافذ من أشواك. ظل الجميع يتابعون من بعيد، وحدها - كالعادة - كانت الأشجار واقفة على خط المواجهة، في قلب المعركة، وكانت - كالعادة كذلك - أول من دفع ثمن ذلك.
الفصل الرابع
يناير 1992م
في المبنى المهيب المخصص للقسم الإعدادي بكلية الهندسة، حيث كان مكانهما المفضل على درجات أحد فنائي المبنى الخارجيين المنعزلين عن ضجيج الداخل وصخب الطلبة، كان ذلك الموقع مثاليا إلا حين كانت سماء الإسكندرية تغضب وتنذر بالبرق ثم تمطر بغزارة لا تجدي معها المظلات، ولا يبقى من سبيل لاتقاء غضبها إلا الهرولة إلى داخل المبنى الذي تدفئه أنفاس مئات الطلبة وملابسهم الشتوية. دقائق قليلة تنفث فيها السماء غضبها على المدينة، ثم تصالحها بشمس رقيقة دافئة تنشر البهجة في أفنية الكلية المفتوحة، وتزيد من سحر رائحة التربة المبللة والزهور الصفراء الصغيرة التي تنبت تلقائيا، وأشجار النخيل المغسولة لتوها بماء السماء المبارك. كان لعينيها تألق ساحر بعد المطر، كانت تبتهج وتمرح كطفلة وجدت حلواها المفضلة، كانت طاقتها الإيجابية تكفي لبهجة كل الكائنات في محيط الكلية وما حولها، كانت ابتسامتها هي النسمة الرطبة التي يشتاق إليها وسط جفاف معادلاته وجداوله ودراسته المرهقة للعقل والروح معا، كانت عيناها طاقتي الأمل اللتين يطل منهما على الدنيا، كانت محور حياته ونور روحه، لكنه لم يقل لها قط شيئا من ذلك!
أمام البهو الكبير لذلك المبنى العتيق رآها لأول مرة، كان قد اعتاد الحضور في أوقات فراغه الكثيرة بين محاضراته في كلية التجارة إلى كلية الهندسة - حيث يدرس بعض رفاقه - لقضاء الوقت معهم حين لا يكونون منشغلين حتى أذقانهم في تلك اللوحات الورقية الكبيرة التي يرسمونها، أو في دروسهم العملية وامتحاناتهم التي لا تنقطع.
نامعلوم صفحہ
قالت له وهي تناوله لفافة ورقية تغلف شطيرة منزلية الصنع من الجبن الأبيض وشرائح الطماطم: أتعرف أن هذا القميص الذي ترتديه اليوم هو نفس القميص الذي كنت ترتديه في أول مرة عرفتنا فيها رحاب إلى بعضنا البعض؟ أتذكر، أمام البهو الرئيسي؟
أجابها بتقطيب جبهته كمن يحاول التذكر، ثم ابتسم وقال في شيء من اللامبالاة جعلها تشعر بالحرج: أنا لا أذكر ما كنت أرتديه بالأمس يا فريدة، ولكن ربما تكونين محقة؛ فهذا القميص اشتريته من بورسعيد قبل عامين تقريبا.
أجابت وهي تحاول إخفاء حرجها: أنا متأكدة من ذلك بالطبع وأتذكره جيدا، كنت ترتدي هذا القميص ذاته ولكنه بدا عليك بشكل أفضل في تلك الأيام؛ فقد كان جسدك أكثر امتلاء، كنت تبدو رياضيا، وكانت لك ابتسامة رائقة. عرفت منذ النظرة الأولى أنك لا تنتمي لهذه الكلية؛ لم تكن تبدو عليك سمات البؤس والذعر التي ترتسم على وجوه طلاب السنة الإعدادية هنا.
أكمل ابتلاع آخر قطعة من الشطيرة التي كانت في يده ثم انتصب واقفا وقال في لهجة روتينية: هل تودين شرب الشاي من الكافيتريا أم ربما تفضلين الذهاب لتناول العصير من المحل المجاور للمكتبات في الخارج؟ أنا ذاهب على أي حال من ناحية بوابة المكتبات لأن صديقا لي سيمر علي بسيارته في طريقه للكلية، لدينا اليوم محاضرة مهمة في مادة المحاسبة سيحدد فيها الدكتور الأجزاء الملغية من الكتاب، أمامي نصف ساعة حتى يأتي صديقي حسب اتفاقي معه.
قالت في تسليم ويأس: حسنا. اذهب أنت إذن وسأصعد أنا للقسم فعندي مشروع يجب إنجازه، موعد التسليم الخميس القادم ولا يزال لدي واجهتان وقطاع لم أبدأ في إسقاط أي منهم بعد، ولا يبدو أن الدكتورة ستوافق على تأجيل آخر.
أجاب مبتسما ببعض التعاطف: كان الله في عونك، تعرفين أنني لو كنت أستطيع المساعدة لم أكن لأتأخر، لكنني لا أفهم شيئا من أمور الفنانين تلك التي تصنعونها في الأعلى. في المرة الوحيدة التي حاولت فيها المساعدة بتنقيط بعض الرسمات كما طلبت مني كدت أفسد اللوحة بأكملها.
ضحكت ضحكتها الخجولة المختزلة التي يحبها، واضعة يدها على فمها كما اعتادت أن تفعل لا إراديا في كل مرة وكأنها تخشى أن تضبط متلبسة بجرم الضحك. وقالت وهي تشير بسبابتها نحوه: نعم لقد لطف بنا الله يومها واستطعنا إنقاذ ما أمكن إنقاذه، كانت غلطتي بالطبع فقد كان علي توضيح أن التنقيط يمثل المساحات الخضراء في المسقط الأفقي، وأنه لا يمكنك تنقيط غرفة المعيشة، لو لم تلحق بك رحاب كنت سأضطر إلى إعادة رسم ذلك «الشاسيه» بالكامل.
ضحك هو بحرية وبمرح وأجاب: حسنا، سأذهب أنا إذن إلى أرقامي وجداول ميزانياتي وإلى محاضرة المحاسبة، ما لي أنا والعمارة والتنقيط والشاسيهات وتلك المسميات المضحكة؟ أراك غدا، سلام.
وأشار بكفه مشدودة ومضمومة الأصابع في اتجاه جبهته كالتحية العسكرية وهو يستدير متجها إلى بوابة المكتبات في خطوات سريعة واثقة لا تخلو من ابتهاج . ابتسم وهو يستعيد كلماتها عن لقائهما الأول، لم يكن يذكر بالطبع ما كان يرتدي ولا ما كانت ترتدي هي يوم التقيا لأول مرة، ليست ذاكرته قوية لهذه الدرجة فيما يخص التفاصيل كما هي ذاكرة الإناث، لكنه يذكر جيدا كم كان جمالها هادئا، وكم كان صوتها دافئا. كانت ملابسها - التي لا يذكر تفاصيلها بالطبع - رقيقة وغير متكلفة، تبرز جمالها بتحفظ. يذكر كيف أخذه شعرها الأسود الفاحم الطويل الذي ربطته في ذيل حصان خلف رأسها، وعيناها الواسعتان الصافيتان، وصوتها ذو النبرة المنخفضة الرقيقة، وهاتان الغمازتان الساحرتان على وجنتيها عندما تبتسم. كان حضورها يغمر المكان بفيض من البهجة. كما أنه يذكر جيدا كيف وقر في نفسه يومها أن لهذا اللقاء حتما ما بعده. كان يومها في السنة الثانية بكلية التجارة، بينما كانت هي طالبة جديدة على الحياة الجامعية في السنة الإعدادية بكلية الهندسة. عرفتهما على بعضهما البعض يومئذ تلك الصديقة المشتركة، ثم قابلها عدة مرات بعد ذلك عندما كان يحضر للقاء أصدقائه، بدأت لقاءاتهما وسط مجموعة الأصدقاء بطرقات مبنى الإعدادي حيث يتجمع الطلبة للمراجعة أو للتسامر بين مواعيد المحاضرات، ثم على الدرج الكبير في بهو المبنى الواسع، ثم انتقلا منفردين بعد ذلك بشهور إلى مكانهما المفضل بالخارج هربا من طرقات المبنى المظلمة حيث الجو المقبض المشبع بأبخرة المعامل ومناقشات مسائل الفيزياء.
صار يعرف أيام مشاريعها الطويلة المرهقة تلك التي تبدو خلالها شاحبة مرهقة إلا من لمعة عينيها الساحرة التي تشرق حين تراه، كانت تبقى في الكلية حتى ساعات متأخرة أثناء فترة إنجاز تلك المشاريع كما تقتضي طبيعة دراستها، وكان باستطاعته لذلك قضاء وقت أطول بصحبتها، حتى أثناء عكوفها على الرسم لساعات متواصلة على إحدى تلك الطاولات الخشبية الكبيرة. كان بإمكانه دائما مساعدتها بشيء ما، حتى ولو بالذهاب لإحضار بعض الطعام أو الأدوات الناقصة أو تصوير الأوراق في المكتبات الواقعة أمام البوابة الخلفية للكلية. أصبح يحضر إلى كلية الهندسة بمعدل أكبر، أصبح يأتي إليها هي على وجه الخصوص رغم أنه يتحجج أمام الجميع بزيارة أصدقائه الذين صار ربما يأتي ويذهب دون أن يقابل أيا منهم، ودون أن ينتبه حتى لذلك.
نامعلوم صفحہ
كانت فريدة قد أصبحت بالفعل حب عمره، أو كانت قد أصبحت على الأحرى حبه الوحيد، فلم يسبق له أن وقع فيما يسمونه الحب إلا معها هي. ظل ياسين على الدوام شابا محبوبا لوسامته وذوقه، لكنه ظل طوال الوقت يعامل زميلاته كأخوات، لم تكن له مغامرات عاطفية أو جنسية كالكثيرين من زملائه في الجامعة أو من معارفه خارجها؛ ربما بسبب تربيته الملتزمة في المنزل، أو بسبب طبيعته الخجولة. لم يكن ياسين حتى يدخن رغم أن غالبية أقرانه كانوا في تلك الفترة قد ذهبوا بالفعل أبعد كثيرا من مجرد التدخين. •••
في غرفة فريدة الصغيرة ذات الجدران المطلية بلون وردي فاتح، والتي تغطي مساحات واسعة منها ملصقات كبيرة لقلوب حمراء وأطفال ضاحكين وشخصيات كارتونية. كما تحتل مساحة معتبرة من أرضيتها دمى قطنية وإسفنجية متعددة الأحجام والألوان. كانت الغرفة بشكل عام تبدو للوهلة الأولى كغرفة طفلة في العاشرة، لا كغرفة شابة جامعية على مشارف العشرين من العمر، هناك جلست فريدة على طرف سريرها المرتب بعناية، ودون أن تغير ملابسها منذ عادت من الكلية. جلست مطرقة إلى الأرض تضم يديها على صدرها كما لو كانت تهدئ من سرعة ضربات قلبها المتزايدة، أو تكتم صوت خفقانه لكيلا ينتبه إليه من بالبيت. احتاجت إلى بعض الوقت لكي تملك زمام نفسها وتستعيد ما حدث ذلك الصباح بالكلية، استغرقت في التفكير وفي إعادة رسم الموقف في ذهنها حتى لا تهرب منها أي تفصيلة، حتى انتبهت على صوت طرقات والدتها على باب الغرفة تدعوها للحاق بالغداء قبل أن يبرد الطعام. كانت وحيدة والديها، تقيم معهما في الشقة الصغيرة التي تزوجا فيها قبل عقدين من الزمن بالطابق الثاني من بناية متوسطة العمر بالشارع الهادئ القصير الموازي لشارع الترام، ما بين محطتي جليم والفنون الجميلة، واحدة من تلك الشقق التي يسكنها محظوظون ما زالوا يدفعون ستة جنيهات إيجارا شهريا طبقا لقوانين الإيجارات الموروثة من العهد الاشتراكي ، لم تكن تلك الجنيهات الست تكفي لشراء دجاجة، بينما لم يكن سعر الشقة المماثلة بنفس الشارع ليقل عن مائة ألف من الجنيهات. كان ذلك الوضع يعطي عن سكان تلك الشقق انطباعا كاذبا بالغنى، بما أنهم يقيمون في منطقة راقية مثل هذه، بينما غالبيتهم في الحقيقة مجرد موظفين حكوميين لا يملكون - فيما عدا ما ورثه بعضهم عن أسلافهم - إلا رواتبهم الهزيلة وما تتعطف عليهم به الحكومة من نفحات غير منتظمة لتكسب ولاءهم أحيانا، أو لتمتص غضبهم في أحيان أخرى.
كانت فريدة في تلك الأيام مراهقة خجولة، خلعت للتو زيها المدرسي الأزرق الداكن وبدأت تخطو بتردد إلى عالم الشباب الجامعي المنفتح المتهور. لم تختلط كثيرا بالشباب في الجامعة، ولم تكن تجد الأمان إلا في صحبتها الصغيرة من البنات المتخرجات معها في ذات المدرسة الإنجليزية العريقة ذات التقاليد الصارمة على الجانب الآخر من الشارع الذي يفصلها عن كلية الهندسة حيث صارت تدرس الآن. ظلت تصد الزملاء الراغبين في توطيد علاقتهم بها، وتفضل إبقاء الجميع خارج دائرتها الخاصة ولو مؤقتا؛ حتى تفهم أسرار ذلك العالم الجديد الذي دخلت إليه. مثله كانت، بلا مغامرات سابقة، فقط مجرد إعجاب صامت أو حب مراهقة من آن لآخر ككل المراهقات في عمرها؛ أعجبت بمدرس الكيمياء الوسيم لفترة، وبالجار الرياضي الشاب لفترة أخرى، ولكنها لم تجرؤ على البوح بشيء من ذلك إلا لرحاب؛ صديقتها المقربة التي لم تكن بأشجع منها على أي حال.
ثم كان ذلك اليوم الذي التقت به ياسين؛ كانت صديقتها رحاب قد تعرفت إليه من قبل من خلال زملائها من أصدقائه، ثم عرفتهما بدورها إلى بعضهما البعض. تذكر فريدة جيدا طلته الساحرة وقوامه المنضبط وهو قادم في اتجاههم مرتديا ذلك القميص القطني الأزرق ذي الأكمام الطويلة المشمرة حتى نهاية ساعديه، والجينز السماوي الفاتح. تذكر جيدا ابتسامته الرائقة التي لمحت فيها بعضا من المرح مع القليل من الخجل، والقليل من شيء ثالث لم تستطع تمييزه وقتها، لكنها عرفته لاحقا مع تعدد لقاءاتهما ؛ إنه الارتباك.
مضى أكثر بقليل من عامين على ذلك اليوم، عام وعشرة أشهر وستة أيام بالتحديد، فقد التقيا في العاشر من مارس عندما كانت في السنة الإعدادية - نعم ما زالت تذكر التاريخ - بينما اليوم هو السادس عشر من يناير - وستذكر ذلك التاريخ كذلك - وهي الآن في السنة الثانية بقسم العمارة الذي التحقت به بعد اجتياز السنة الإعدادية رغم محاولات صديقاتها إقناعها بالانضمام إليهن. كانت تدرك أن عقلها ليس رياضيا مثلهن ولا مثله، وأن دراسة هندسة الكهرباء لن تناسبها. كان قد سحرها قسم العمارة منذ دخلته للمرة الأولى بصحبة طالبة كانت بالسنة الثانية في نفس القسم، عندما تعرفت عليها مصادفة وسألتها عن ذلك القسم، وكيف هي طبيعة الدراسة به، كما اعتادت أن تفعل مع من تعرفهن من مختلف الأقسام حتى تستطيع اختيار القسم الذي يناسبها بعد السنة الإعدادية. أجابتها تلك الفتاة يومها بأنها ستأخذها إلى القسم لتتعرف إليه بنفسها، ثم صعدتا معا إلى ذلك المكان السحري الذي يحتل الطابقين الأخيرين أعلى مبنى الإدارة المطل بواجهته العريضة المهيبة ذات التصميم الفرعوني على طريق الحرية. منذ اللحظة الأولى شعرت بأن هذا المكان لا يشبه بقية الكلية؛ الهواء مختلف هناك بالأعلى، الطلبة مختلفون، الأسقف عالية بشكل لافت، والنوافذ كبيرة، والمنظر الخارجي ساحر. أسرتها صالات الرسم الواسعة التي يصدح صوت أم كلثوم في خلفيتها، بينما فتيات وشبان يفترشون الأرض ويتناقشون بصخب في موضوع ما، وهم يتقاسمون طعاما منزليا من أوان معدنية صغيرة. وبينما آخرون منكبون باستغراق تام على طاولات الرسم، واضعين سماعات صغيرة في آذانهم. بينما يتكوم شاب بجوار أحد الجدران غارقا في النوم، ملتحفا بسترة جلدية. كانت الألوان هناك في كل مكان، على الجدران وعلى طاولات الرسم، وعلى اللوحات. كان على بعض الجدران رسمات يدوية كبيرة بأقلام الفحم الخشن لوجوه فنانين ولمبان كلاسيكية. كان ذلك المكان عالما منفصلا بشكل كلي عن عالم الكلية الجاف الكئيب الذي تعرفه بالأسفل. كانت كلمة السر في هذا القسم هي الإبداع. لم تحتج لزيارة أخرى لتعرف أنه يمكنها هنا أن تطلق لخيالها العنان، لم تكن تريد بالقطع أن تقضي سنوات أربع أخرى بين النظريات الرياضية الجافة والمعادلات الفيزيائية المعقدة في قسم الكهرباء بمبناه البارد الكئيب، بل كانت تريد قضاء سنواتها الدراسية المقبلة في هذا العالم المبهج الملون. كانت في داخلها منطلقة تعشق الحياة، مغامرة وحالمة رغم خجلها الناتج عن تربية محافظة في البيت والمدرسة، أو ربما كانت تلك التربية هي ما أشعل بداخلها تلك الرغبة الدائمة في الانطلاق. •••
ظلا يلتقيان في الكلية بانتظام طوال أيام الدراسة، بينما يتبادلان مكالمات تليفونية خجولة ومتباعدة خلال إجازة الصيف أو منتصف العام. كانت أمها ترمقها بنظرة غامضة حينما كان يطلبها على هاتف المنزل، نظرة ما بين الارتياب والتمني. ظلت علاقتهما تتطور في حدود ما بدا ظاهريا كأنه مجرد صداقة، لم تكن الصداقة هي ما تريد بالطبع، ولكنه لم تفلت منه كلمة أو نظرة تفصح عما بداخله طيلة تلك الشهور، حتى بدأت تتعايش مع ذلك الوضع وتفقد الأمل في أن تنتقل تلك العلاقة إلى المرحلة التي تنتظرها. إلى أن جاءها في ذلك اليوم؛ السادس عشر من يناير عام 1992م، كانت عيناه تلمعان في ذلك الصباح بشيء جديد لم تختبره فيه من قبل، مرتديا سترة جلدية رمادية فوق قميص من القطن السميك بشكل مربعات سوداء وحمراء على طراز قمصان رعاة البقر التي كانت موضة تلك الأيام، كما هو الحال مع حذائه التكساس الجلدي الأسود ذي المقدمة الرفيعة والكعب القصير المدبب. تعلم فريدة مسبقا أنها هي وحدها من ستتذكر كل تلك التفاصيل، وأن ياسين سينسى - كعادته - حتى ما كان يرتديه بالأمس.
تقدم منها بملامح جامدة بعض الشيء وسألها إن كان لديها بضع دقائق ليتحدث معها قليلا، لم يفصح عما يريد التحدث بشأنه، كان عندها الوقت له دائما، وكانت تعرف أنه يعرف أن عندها الوقت له دائما، ولم تكن تفهم لماذا يسألها سؤالا كهذا، لكنها أومأت بالإيجاب فطلب منها الابتعاد قليلا عن صخب الأصدقاء الذين كانوا يتجادلون في حماس بخصوص مباراة كرة القدم التي خسرها المنتخب الوطني قبل ثلاثة أيام. مشيا متجاورين صامتين عبر الممر المظلل بأشجار النخيل الشاهقة حتى ابتعدا في اتجاه مبنى الإدارة، ثم عبرا من خلاله إلى الحديقة الأمامية الشاسعة التي تنحدر للأسفل، حتى البوابات المغلقة المطلة على طريق الحرية، والتي لم يكن يرتادها الكثير من الطلاب. كان مترددا، تشعر به وتعرف أنه اليوم مختلف، لا تعرف وجه الاختلاف، لكن قلبها يخفق بقوة لإدراكها أن شيئا كبيرا سيحدث اليوم، وأنها ستتذكر تفاصيله لبقية عمرها، وكانت مرتعبة من أن يكون ما سيعلق بذاكرتها سيئا.
توقف عن المشي هبوطا بين الحدائق التي تفتحت فيها أزهار حمراء وصفراء منسقة بعناية ثم استدار إليها، صار في مواجهتها ومن خلفه يقف مبنى الإدارة الشاهق بشموخه الفرعوني وأعمدته الرسمية الكبيرة، وفي أعلاه تبرز نوافذ صالات الرسم بقسم العمارة. توقفت الكلمات على شفتيه لوهلة كما بدا لها، كانت تدرك جيدا أنه لا يعرف كيف يبدأ في قول ما يريد أن يقول، وزاد ذلك من ارتياعها حتى كادت تشرع في النطق بأي شيء تستفسر به عما يريد، فإذا بصوته يأتيها واضحا، قويا، وبكل ثقة وبساطة العالم سألها: هل تقبلين الزواج مني؟
قالها في لهجة محايدة كأنما كان يسألها إذا كانت تريد شرب الشاي أم العصير، لكنه كان ينظر في عينيها وهو ينطق بتلك الكلمات، كان ينظر في عينيها بعمق هذه المرة، وكانت على شفتيه ابتسامة المرح والخجل فقط، دون ارتباك. •••
في صالة شقة متواضعة جلس ياسين على كرسي خشبي عتيق الطراز يصغي في انتشاء إلى تسجيل قديم عبر جهاز كاسيت رديء، بينما يحتسي الشاي الصعيدي الداكن مع صديقه شاذلي، زميل الدراسة الطيب الذي ألقى به مكتب التنسيق من مدينة إسنا الوادعة في أقاصي الصعيد ليدرس في جامعة الإسكندرية، والذي يتشارك مع سبعة آخرين من الطلبة المغتربين الفقراء القادمين مثله من محافظات بعيدة في الإقامة بتلك الشقة المتواضعة بالطابق الثالث من بناية تخطى عمرها الستين عاما في زقاق متفرع من شارع تانيس، أحد شوارع منطقة كامب شيزار العتيقة، والتي صارت منذ سنوات طويلة متخمة بالشقق التي تؤجر مفروشة للطلبة المغتربين، لقربها من الجامعة بعد أن رحل سكانها الأصليون من اليونانيين والأرمن والإيطاليين. شقة قديمة بسيطة إلى حد الخواء، أرضيات من بلاط الموزايكو الرخيص الذي اسودت أجزاء كبيرة منه لندرة التنظيف، وهبطت أجزاء أخرى نتيجة تأثير الزمن، نوافذ طويلة غير محكمة الإغلاق استبدلت الأجزاء المتكسرة من زجاجها بورق مقوى من خلفية تقويمات قديمة تحمل شعارات بعض مصانع القطاع العام، جدران عالية ملطخة بآثار الأكف والأقدام واحتكاك قطع الأثاث ونشع رطوبة البحر القريب التي تخترق العظام لا الجدران وحسب. لا يتجاوز ما تحتويه الشقة من أثاث بضعة أسرة معدنية، وخزانات ذات أبواب صدئة ومقاعد متهالكة. كانت الشقة على مبعدة خطوات من محطة ترام كامب شيزار، حيث توجد سينما أوديون المتخصصة في عرض أفلام المقاولات العربية الرخيصة، بجانب أفلام بروس لي وفان دام وما إلى ذلك من تلك النوعية من أفلام المراهقين من طلبة المدارس والمغتربين الريفيين الذين يشكلون السواد الأعظم من رواد تلك السينما.
نامعلوم صفحہ
كان عالم ياسين في تلك الفترة صغيرا ومحدودا، كانت دائرة أصدقائه ضيقة، ولم يكن بطبيعة تكوينه وشخصيته من النوع الذي يسهل عليه إدخال الغرباء إلى مساحته الشخصية بسرعة، كانت اهتماماته تتلخص في كرة القدم والموسيقى، يتابع مباريات الكرة في التليفزيون بشغف، لا يفوته حضور مباراة في الملعب عندما يأتي الزمالك - ناديه المفضل - أو حتى الأهلي لملاقاة الاتحاد أو الأوليمبي أو الكروم على ستاد الإسكندرية. يعرف كل جديد عن أخبار اللاعبين والبطولات، ويمارس كرة القدم بانتظام مع رفاقه، ما بين ملاعب النوادي الشعبية الصغيرة أو الأراضي الفضاء التي تشتهر بتجمع محبي الكرة للعب عليها، وبخاصة الأرض الملاصقة لشريط السكك الحديدية أمام مصنع شركة فورد في مصطفى كامل. ثم يقضي بقية وقته في الاستمتاع بطرب المنشدين والمداحين الذين سحره عالمهم منذ اليوم الذي أدخله إليه فيه شاذلي، الذي كان من المترددين بانتظام على موالد الأولياء وحلقات الذكر وليالي الصوفية. وكان شاذلي يحفظ في ذاكرته عن ظهر قلب جدولا مفصلا لتواريخ «الليالي» كما كان يطلق عليها؛ وهي موالد أولياء الله الصالحين في طول مصر وعرضها، ما بين ليلة أبي الحجاج في الأقصر إلى ليلة أبي الحسن الشاذلي في الصحراء الشرقية، إلى السيد البدوي في طنطا، إلى عبد الرحيم في قنا، إلى إبراهيم الدسوقي والبوصيري وأبي العباس وابن الفارض والرفاعي، وحتى موالد الإمام الحسين والسيدة زينب وبقية آل بيت النبي الذين تحتضن القاهرة رفاتهم.
بدأ ذلك الهوس يوم كان ياسين جالسا في الشقة ذاتها قبل ما يزيد عن العام مع شاذلي الذي كان عائدا لتوه من إجازة العيد، بعد أن قضاها في مدينته. قال له شاذلي يومها بفخر وسعادة بالغين وهو يضع بحذر صينية بلاستيكية تحمل كوبين من الشاي الصعيدي الثقيل على الطاولة الخشبية خوفا من سقوط الطاولة ذات القائم المكسور: اسمع الشيخ التهامي أيها السكندري. لا تعرفون أنتم يا أبناء المدن الكبيرة شيئا عن هذه الكنوز.
أجابه ياسين وهو يرتشف الشاي وترتسم على وجهه علامات المعاناة من كثرة السكر وثقل الشاي: ومن يكون الشيخ التهامي هذا؟ أهو مقرئ من بلدكم؟
يرتشف شاذلي شايه بتلذذ ثم يضيف إليه بعض السكر ويجيب وهو يقلبه بملعقة من الصفيح الرديء: الشيخ ياسين التهامي هذا هو أحد كبار المداحين وشيوخ المنشدين، شهرته ذائعة في الصعيد وفي القاهرة وفي كل مكان، يعرفه ويحبه كل أهل الله ويشدون رحالهم ويركبون القطارات لأيام لكي يحظوا بمتعة الاستماع إليه. اسمع ... اسمع ...
ثم يضع شاذلي في جهاز التسجيل الرخيص الذي يلتف حوله شريط لاصق يمنعه من التفكك شريطا بدا أنه منسوخ أو مسجل، وليس من النوعية التي يمكنك أن تشتريها من أحد محلات التسجيلات الأصلية. شغل شاذلي الشريط فانطلق صوت حشرجة وضجيج غير محدد، ثم يبدأ صوت الناي والربابة وما يصاحبهما من إيقاعات وطبول في التصاعد، وتنساب موسيقى جديدة عليه تماما وسط أجواء من الصخب والتهليل، ثم يبدأ الرجل ذو الصوت الرخيم العريض في الإنشاد:
ينادي المنادي باسمها فأجيب
وأدعو ذاتي عن ندائي تجيب
وما ذاك إلا أننا روح واحد
تداولنا جسمان وهو عجيب
كشخص له اسمان والذات واحد
نامعلوم صفحہ
بأي تنادي الذات منه تصيب
فذاتي لها ذات واسمي اسمها
وحالي بها في الاتحاد عجيب
ولسنا على التحقيق ذاتين لواحد
ولكنه نفس المحب حبيب
شعر عبد الكريم الجيلي (1365-1424م)
كانت جودة التسجيل بالغة الرداءة، كان من سجله - بحسب ما شرح له شاذلي - أحد الهواة من المريدين عبر جهاز تسجيل بسيط وضعه بجانب المنشد، لكن ياسين كان قد انبهر تماما بتلك الأجواء وذلك الشعر الذي لم يسمع مثله من قبل، فسأل صاحبه في اهتمام: هل هذا شعر ذلك الرجل، أم أنه تراث شعبي أم ماذا؟
اعتدل شاذلي في جلسته، ووضع كوب الشاي على الطاولة وأجاب بنبرة العالم: هذه القصيدة يا صديقي من شعر مولانا عبد الكريم الجيلي؛ وهو أحد كبار أقطاب الصوفية. كل ما يغنيه التهامي والتوني وأقرانهما من المنشدين هو أشعار صوفية لابن الفارض وابن عربي والرومي وغيرهم من الأقطاب. لكن هل أعجبك حقا؟
أجاب ياسين بنفس الاهتمام: جدا! لقد أبهرتني بحق أيها الصعيدي! هل لديك تسجيلات أخرى مثل هذا أو لمنشدين آخرين؟
أجاب شاذلي وهو يقوم متجها ناحية الغرفة التي ينام فيها: سأحضر لك إذن كنزي الشخصي من تسجيلات المنشدين لتستمع إليها على راحتك، طالما أعجبك ذلك اللون غير ذي الجماهيرية الكبيرة من الفنون، فلن يمكنك أن تجد الكثير منه هنا على أي حال.
نامعلوم صفحہ
ثم عاد وفي يده كيس بلاستيكي سميك يحتوي على مجموعة من الشرائط المسجلة، وقد كتب على ورقة صغيرة ألصقت على كل منها بخط اليد اسم المنشد ومكان التسجيل ومناسبته. •••
في ظرف أشهر قليلة صار ياسين نفسه يقضي قسطا كبيرا من وقته باحثا وراء أشرطة المنشدين التي لم تكن متوفرة وقتذاك إلا من خلال تسجيلات شخصية لمريديهم، وعندما علم شاذلي بحضور الشيخ التوني لإحياء ليلة ضمن ليالي رمضان التي تقام في حضرة أبي العباس المرسي ومسجده المهيب المطل على بحر الأنفوشي؛ دعا ياسين لحضور تلك الليلة. ذهبا معا مستقلين ترام المدينة الأصفر العتيق الذي سار بهما من محطة الرمل في موازاة الكورنيش، حتى ألقى بهما إلى ذلك العالم الذي يفيض سحره ليغمر ما حوله على امتداد الأبصار. ليلتها داهم ياسين للمرة الأولى ذلك الشعور الذي ظل يلازمه بعدها كلما دخل إلى ذلك العالم أو اقترب منه، كلما أنصت إلى قصيدة صوفية، كلما تناهى إلى أذنه ذلك الإيقاع الكسول لموسيقى المديح، بل كلما مرت على أنفه روائح البخور والمسك. كانت أقل علامة تذكره بذلك العالم كفيلة بأن تعيد فتح مسام عقله وذاكرته إلى تلك الليلة في رحاب أبي العباس المرسي، تحت الأضواء المتراقصة، وبين الأجساد المتمايلة وجدا وعشقا، تحت رذاذ البحر المنعش الذي يحمل هواء الشتاء ذراته الخفيفة متخللا أبخرة المسك المتصاعدة من المباخر، بينما يغلف ذلك المشهد كله صوت ذكوري شجي وأجش ذو لكنة صعيدية تحمل شجنا واضحا يردد في عذوبة آسرة:
كل القلوب إلى الحبيب تميل
ومعي بذلك شاهد ودليل
أما الدليل إذا ذكرت محمدا
صارت دموع العاشقين تسيل
يا سيد الكونين يا علم الهدى
هذا المتيم في حماك نزيل
يا رب إني قد مدحت محمدا
فيه ثوابي وللمديح جزيل
نامعلوم صفحہ
صلى عليك الله يا علم الهدى
ما حن مشتاق وسار دليل
شعر ابن الخياط (1058-1123م)
ظل ياسين ليلتها يهيم في سماوات التجلي والطرب، كان قد ذاق لذة القرب ونشوة الوصول، وباتت روحه أخف من أن تحتمل السجن داخل صدره فحلقت فوق المكان متمايلة مع رواد حلقة الذكر تارة، ومتراقصة مع رذاذ البحر المتطاير مع الهواء تارة أخرى، متأملة في بدائع المديح حينا، ومسحورة بعذوبة الموسيقى حينا آخر. كان ياسين قد دخل في حالة ما بين الصحو والغفوة، ما بين السكر والإفاقة، ما بين نور التجلي ونشوة العشق، يترك جسده للتمايل وسط الذاكرين ويردد وراء المنشد، ثم يلتقط أنفاسه قليلا لينصت إليه وهو ينتقل في حالة «سلطنة» تامة إلى قصيدة أخرى:
من لامني في الحب يرم بسهمه
يصبح محزون الفؤاد عليل
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سيف نعم مسلول
الحب شهد في البداية يا أخي
آخره سم الأفاعي قليل
نامعلوم صفحہ
الحب عذب لا يذقه مقيد
بحدود شهوته ولا معلول
شعر ابن الخياط (1058-1123م)
صحراء
بدأت الكائنات الضخمة ذات الألوان الفاقعة المزعجة للعين وسط ألوان الصحراء الباهتة المتناغمة أول ما بدأت بالتهام الشجر وتسوية الرمال، في أيام معدودة اختفت كل الأشجار المجاورة لها، لم تفلت من تلك المجزرة إلا أشجار بعيدة متناثرة؛ في أول صباح اختفت الشجرة الأقرب إليها، تلك التي كانت في مثل عمرها والتي كبرت معها، والتي واجهت بجوارها العاصفة العاتية التي هبت قبل ربيعين حاملة معها رمالا غريبة من أرض ليست كأرضها، لم تزل بقايا تلك الرمال عالقة على بعض أغصان كلتيهما، تكادان تشمان فيها رائحة الأرض البعيدة التي جاءت منها، ثم اختفت الشجيرات الثلاث الوليدات إلى الغرب منها، كانت قد شهدت مولدهن في شتاء قريب بعد أن ابتلت الرمال بمطر كثير تهاوى على الصحراء غزيرا مفاجئا، حتى إن الرمال لم تستطع ابتلاعه؛ فبقي لأيام كبحيرات صغيرة جعلت من تلك البقعة واحة مؤقتة جذبت إليها الدواب والحشرات وملأتها حياة وبهجة، ثم نبت محلها بعدما جفت تلك الشجيرات الوليدة.
اختفت كل الأشجار القريبة، راحت كل رفيقات أمسياتها وصباحاتها، ولم يتبق لها بعدهن أنيس. كانت الأشجار المتبقية بعيدة وغريبة، صارت تتشبث بالأرض أكثر وأكثر كلما اقتلعت إحدى صديقاتها من الشجر، صارت تمد جذورها في عمق الأرض أبعد وأبعد لعلها تحتمي بها. ولم تكن تلك الكائنات تهدأ أو ترتاح، لم تكن تتوقف عن اقتلاع الأشجار من الجذور وإلقائها في كومة بعيدة ظلت تكبر وتكبر كمقبرة مكشوفة. تقتلع كل شجرة في لحظات، يرتفع في الهواء جذعها وأغصانها وشبكة جذورها التي كانت ضاربة في عمق الأرض، تصبح في غمضة عين مجرد قطعة بالية من الخشب المشقق لا أصل لها ولا وطن، لا جذور لها في الأرض. تتطاير ذرات الرمال العالقة بجذورها المقتلعة في الهواء وهي في قبضة تلك الوحوش الغاشمة، يتساقط منها الوطن وهي عاجزة عن لملمة هويتها وتاريخ أسلافها.
الفصل الخامس
فبراير 1992م
أمام باب شقة فريدة كان ياسين واقفا حسب الموعد المتفق عليه في ذلك المساء الشتوي، وفي يده علبة كرتونية مغلفة بورق تغليف ذلك المحل الشهير للشوكولاتة، الواقع على ناصية شارع النبي دانيال عند نهايته متعامدا على شارع سعد زغلول، والذي يقدر جودة منتجاته كل السكندريون. فتحت له فريدة الباب فدخل مرتديا معطفا صوفيا بنيا، كان لوالده منذ زمن، لكن موضته عادت إلى الواجهة، فوق بلوفر أبيض رقيق من الطراز ذي الرقبة العالية الذي انتشر في تلك السنوات، وبنطالا صوفيا أسود وحذاء جلديا أنيقا اشتراه خصيصا لهذه المقابلة. ستتذكر فريدة كل تلك التفاصيل لسنوات طويلة قادمة، بينما لن يتذكر هو شيئا من ذلك بالطبع باستثناء الحذاء الذي اشتراه بمبلغ كبير بالنسبة له؛ لأنه لم يكن يملك حذاء رسميا يليق بمقابلة بهذه الأهمية، فاضطر إلى اقتراض جزء من ثمنه من والدته. كان قد اتفق مع فريدة على أن يذهب هو أولا لمقابلة والدتها التي طلبت التعرف عليه بشكل غير رسمي قبل أن يقابل الوالد فور تخرجه، لم يكن هو كذلك يرغب في مقابلة والدها وهو لم يزل طالبا؛ فلم تكن كرامته لتتحمل أن يرفضه الرجل لهذا السبب. دخلت الأم في ثوب طويل فضفاض ووشاح خفيف على شعرها، وصافحته في ود ثم قدمت له الشاي وبعض الفاكهة، وبادلته بعض عبارات الترحيب والمجاملات الروتينية التي كان يضجر منها ولا يعرف كيفية الرد النموذجي على أغلبها، ثم فاجأته بسؤال مباشر طرحته عليه بنبرة هادئة وعلى وجهها ابتسامة ودودة تحمل بعض التواطئ كما لو كانت تريد أن تقول له إنها تعرف كل شيء: حسنا. لماذا تريد الزواج من ابنتي يا أستاذ ياسين؟
أربكه السؤال بشدة فبدأ يتململ في جلسته ويتعرق رغم الجو البارد، ارتشف بعضا من الشاي ليمنح نفسه القليل من الثواني للتفكير في ذلك السؤال غير المتوقع ثم قال في ارتباك: إن ... إن ابنتك فريدة ... أخلاقها وأدبها ... و...
نامعلوم صفحہ