فلما خرج منها انقطع ذلك، إلا الكسوة فإنها دامت مدة ما عاش أبو العباس عبد الله نن ظاهر ﵀، والمكان الذي كان ينزل به ببغداد بالجانب الغربي على شاطئ دجلة، وهو إلى الآن يعرف به، وينسب إليه، وهو الحريم الطاهرى: [الخفيف]
ألقِ بالبشرِ من لقيتَ منَ الناس ... جميعًا ولاقهمْ بالطلاقَةْ
نحن منهم حبًا ثارٍ كريمٍ ... طيبٌ طعمُهُ لذيذٌ مذاقُهْ
ودع التيهَ، والعبوسَ عنِ الناس ... فإن العبوس رأسُ الحماقةْ
كلما شئتَ أن تُعادي عاديتَ ... صديقًا، وقد تعزَّا لصداقةْ
قال النبي ﷺ: "يا أبا هريرة زرْ غبًا تزدد حبًا".
وقال بعض الحكماء. من كثرت زيارته قلت بشاشته، وقال أخر: من داوم زيارة الأصدقاء عدم الاستبشار عند اللقاء: [مجزوء الكامل]
أقللْ زيارتك الصديقَ ... تكُنْ كالثوبِ استجدَّهُ
إن الكريمَ يملُّهُ منْ ... لا يزالُ يراهُ عندهُ
آخر: [الطويل]
عليكَ بإقلالِ الزيارة إنها ... تكونُ إذا دامتْ إلى الهجرِ مسلكًا
فإني رأيتُ القطرَ يسأم دائمًا ... ويسأل بالأيدي إذا هو أمسكا
آخر: [البسيط]
إني كثرتُ عليه في زيارته ... والشيءُ مسثقلٌ جدًا وإنَّ كثُرَا
ورابني منه أني لا أزالُ أرى ... في طرفه قصرًا عني إذا نظرا
قال عمر بن الخطاب ﵁: لكل شيء راس وراس المعروف تعجيله، وقال عبد الملك في وصيته لبنيه: يا بني معروفك عنده ولكل شيء آفة وآفة المعروف المطل، ولبعضهم: [الكامل]
صلْ من أردتَ وصالهُ وأخاه ... إن الأخوة خيرها موصولها
وإذا ضمنتَ لصاحبٍ لك حاجةً ... فاعلمْ بأنَّ تمامهَا تعجيلُهَا
وكان يقال إن بذل جاه السائل أعظم من معروف المسؤول، وقال أثم بن صيفي السؤال، وإن قل ثمن النوال، وإن جل، قال علي بن أبي طالب الكاتب: [الكامل]
ما اعتاصَ باذلُ وجههِ بسؤالهِ ... يومًا ولا نالَ الغِنى بسؤالِ
وإذا السؤال مع النوال وزيهُ ... رجح السؤال وخفَّ كلُّ نوال
وإذا بليتَ ببذلِ وجهكَ سائلًا ... فابذل له المتكرم المفضال
قال معاوية بن أبي سفيان الحازم من كتم سره من صديقه، مخافة أن تنتقل صداقته عداوة، فيذيع سره ولبعضهم: [الطويل]
لو أنَّ امرءًا يُخفي الهوة عنْ ضميرهِ ... لمتُّ ولم يعلمْ بذاكَ ضميرُ
ولكن سألقى الله والقلبُ لم يَبُحْ ... بسركَ والمستخبرون كثيرُ
آخر: [البسيط]
لا يكتم السر إلا كلَّ ذي خطرٍ ... والسرُّ عند كرامِ الناس مكتومُ
والسرُّ عندي في بيتٍ له غلقُ ... قدْ ضاع مفتاحُهُ والبابُ مختومُ
قال بعض العلماء: إذا أراد الله أن يزيل عن عبد نعمة فأول ما يغير منها عقله، قال أبو عبد الله وزير المهلبي: إنصاف الرعية مع شكر المقدرة بالولاية أشد من بذل المال مع شح النفس.
ذكر الجاحظ في (كتاب): المعلمين عن ابن عمران: الأنبياء عيهم السلام لا يتثاءبون، وما تثاءب نجي قط، روي أن مروان بن محمد قال عبد الحميد بن يحيى، صاحب الرسائل بعد أن تفرق الناس عنه وانهزموا: قد احتجتُ إلى أن يصير مع عدوي، وتظهر الانقلاب، فإن عجبهم بأدبك وفصاحتك وحاجتهم إلى مثلك، يستجريهم علي تمكينك، وحسن الظن بك، فإن قدرت أن تنفعني في حياتي فإني فداك، وإن عجزت عنه رجوت أن لا تعجز عن حفظ حرمتي بعد موتي، وأنشد عبد الحميد متمثلًا: [الطويل]
أسرَّوقا ثم أظهر عذرهُ ... فمنْ لي بعذرٍ يوسعُ الناس ظاهرُ
ثم أنشد: [الوافر]
فلومي ظاهرٌ لا شكَّ فيه ... للأيميهِ وعذري بالمغيبِ
وكمْ من موقفٍ حسنٍ أُحيلتْ ... محاسنهُ فعُد من الذنوبِ
فلما سمع ذلك منه علم أنه لا يفعل، ثم، قال له: عبد الحميد الذي أمرين به انفع الأمرين لك، وأقبحهما لي وليس لك على. الصبر معك إلا أن يفتح الله عليك، وأقتل معك، سئل شُريح عن العشاق فقال: أشدهم حياءً أعظمهم أجرًا [٩٠] ولبعضهم: [الطويل]
فوالله ما أدري وإني لسائلٌ ... بمكة هل في الهوى أجرُ
وهلْ في اكتحال العين بالعين زينةٌ ... إذا ما لقي الألوان لإبل به أجرُ
1 / 48