وترنحت لحظة ... هذه اللهجة أعرفها ... أعرفها من طبقة معينة من الأفاقين ... طائفة تجلس أحيانا إلى جانبك في المقهى، أو تلقاك في الطريق ... أو تزورك في مكتبك، طائفة تعرف واحدا منها بلا شك إذا كنت من رواد المقاهي أو الملاهي ... بعضهم أنيق وجيه، وبعضهم مهلهل الثياب، لكنهم جميعا يتساوون في الاستجداء بنفس التعبير الأنيق الوجيه. - معاك فكة؟
لكن عبد الجواد ليس أفاقا ... ومددت يدي فأخرجت حافظة نقودي، وفتحتها لعبد الجواد ... وقال عبد الجواد، وهو يمد يده: لا ... أنا عايز خمسين قرش بس ... متشكر.
ولوى وجهه وسار، واستطعت أن ألمح قطرات الدم الأحمر الباقية في عروقه، وهي تصعد إلى وجنتيه ضعيفة باهتة ... إنها قطرات خجل، على أي حال ... ما زال هناك ... وراءها ... أثر من عبد الجواد الصديق.
لكن هذا الأثر اختفى على مر الأيام ... وأصبح عبد الجواد أقل حياء وخجلا ... وأعترف أنني بدأت أضيق بسطواته ... وأنني قصرت محفظتي، وبدأت أحدد بنفسي ما أعطيه له ... ثلاثين قرشا ... عشرين قرشا ... عشرة ... خمسة.
ثم ... ثم وجدته يترنح من السكر ذات مرة، وأشفقت على أمعائه من السم الزعاف الذي تستطيع أن تقدمه له القروش الخمسة، فقلت: ليس معي فكة يا عبد الجواد.
ولم يكن في العروق قطرات باقية من الدم الأحمر، ولم يلو وجهه، وإنما قال: ولا قرشين صاغ؟
ودفعت له بضعة قروش، وسرت في طريقي.
بدت لي الحياة إذ ذاك شائهة دميمة ... دمامة حاضر عبد الجواد المعتم القذر ... الحمد لله ... هكذا يدفعنا حب الذات أحيانا كلما قارنا بين أنفسنا وبين غيرنا من المنكودين لأن نقول: الحمد لله! إن الله يعلم أن في هذه الحمد أحيانا من الملق أكثر مما فيه من الإيمان، إني أجمع الآن حزمة الرسائل من جديد، رسائل الأصدقاء، وأضعها في الصندوق، وكأني أضع الماضي خلف ظهري ... وأحاول أن أنسي قصة عبد الجواد بعد أن انتهت ... بعد أن جست خلالها، ما أعتم حجراتها الأخيرة، وما أفسد هواءها، إني لأحس حاجة لكي أخرج إلى الحياة ... إلى الهواء والنور بعد هذا الظلام ...
وربما ظن من يقرأ هذه السطور أني قصرت في سرد القصة، لقد ألف الناس أن يطووا أبطال القصص في الأكفان، أو يكسوهم ثياب الزفاف ... أو يصعدوا بهم إلى أعلى درجات المجد، أو يهبطوا بهم إلى أسفل دركات الحضيض ... ألف الناس دائما أن يعرفوا مصير أبطال القصص ... إن مصير عبد الجواد هو هذا الحضيض حيث خلفته تلك الليلة يجر قدميه المرتعشتين ويتجه، وقد أمسك بالقروش في يده المتدلية نحو أقرب حان، وحين خلفته بعد ذلك عشرات المرات يسير في الطريق نفسه، وقد ازداد انهيارا ... وإني لأذكر آخر ذكريات شبحه المتداعي، يوم مر علي عبد الجواد ساعة الغروب، وأنا جالس أقطع الوقت في انتظار موعد ... كان المقهى خاليا فدعوته إلى الجلوس وطلبت له فنجانا من القهوة، وأخذت أستمع إلى ثرثرته ... ثم سألته وقد حان موعدي وتأهبت للخروج: ألا ترى منيرة أبدا يا عبد الجواد؟
إنه لم يجب على سؤالي، وإنما ضحك ... ثم مرت بجبينه سحابة كئيبة سرعان ما اختفت، وعاد إلى ضحكه ... وما زلت أذكر نظرته التي صحبت هذه السحابة ... لقد كانت نظرة رأيت فيها عبد الجواد الذي أعرفه ... نظرة فيها معنى هائل، نظرة تجعلني إلى الآن كلما ذكرت عبد الجواد أسأل نفسي هذا السؤال: ترى إلى أي مدى أصاب سعيد حين صارح عبد الجواد بخيانة منيرة؟ إني لأشك أحيانا أنه أصاب.
نامعلوم صفحہ