وكنت على وشك أن أسأله، عما تم بمكتب المحاماة، لولا أن استطرد هو: وعلى فكرة أنا قررت أن أترك المحاماة.
ونهضت بعد مدة وجيزة، وقد تملكني الأسى، إلى أين يسير عبد الجواد؟ ترى هل هو يحطم حياته الآن؟ أو هو يبني حياة جديدة حقا؟
إنه كان يحطم حياته إذ ذاك، كان يقوض البناء الضخم الذي شاده منذ ولج باب المدرسة طفلا ... إلى يوم أصبح محاميا ممتازا ... كان يقوضه في نوبة يأس كما يقوض المثال التمثال الرائع حين يجحد الناس عمله.
أجل كان يهوي على ماضيه المجيد بالمعول ... كان يهوي ببطء، ولكن في قسوة وعنف ... لم يستأجر مكتبا للمحاماة، وإنما ظل يقضي يومه على المقهي، وتدرج من الكأس إلى الكئوس، وتهاوى ما جمعه من مال، والتف به هؤلاء الأوغاد الذين أسماهم أساتذة فعجلوا بإفلاسه.
إن الثقافة والعلم والمدنية وكل صفات الفضيلة ... بل كل ملكات العقل نفسه ليست سوى عادات تقتلها عادات مضادة، لنأخذ النظافة مثلا ... رباط الرقبة الأنيق ... وإني لأذكر كيف كان عبد الجواد يعتني برباط رقبته، وأذكر كيف كان يعتني بوضع منديله الحريري في جيب الصدر، إن عبد الجواد هذا اختفى بعد عامين ليحل محله شخص مهمل الهندام قد تعقد رباط رقبته، وتدلي إلى صدره، وتكوم منديل الصدر، كأنه خرقة تطل من الجيب، إن سحب الفاقة لم تجر ذيولها على ثيابه فحسب، وإنما مشت إلى عقله ... عقله المرتب المنظم الذي يسكب أفكاره على لسانه في أناقة وتمهل قد استحال خلية نحل اختلطت بها معارفه.
لكأن عقله قد اهتز هزة عنيفة خلطت ما فيه خلطا فظيعا، وأسالته في عنف على لسانه ... إنه يثرثر ... عبد الجواد المنطقي المحاذر قد أضحى ثرثارا مشوش الحديث ... حتى لغته المهذبة قد حلت محلها لغة سوقية لا يتكلم بها المتعلمون.
كذبت نفسي حين لقيته بعد ذلك عدة مرات في أن الذي أراه وأحدثه هو عبد الجواد، وفي كل مرة كنت أراه أحس أن شيئا قد اختفى من معالم الصديق القديم، حتى استحالت علي معرفته ذات يوم، وحتى اضطر أن يناديني مرة، وهو يعبر الطريق قائلا: أنت نسيتني؟
وقلت في حرج: أنا أبدا ... إنني لم أرك.
وكاد لساني يقول: لم أعرفك، وكرر وهو يرتعش: لا أبدا، أنت نسيتني ... نسيت عبد الجواد.
وكدت أقول له إنه هو الذي نسي، بل نسي عمره، أو أنسي هذا العمر، فأخذ جسده يرتعش كأنه شيخ محطم بال ... - أنت معاك فكة؟
نامعلوم صفحہ