وقد خدعت الظواهر مؤلفين كثيرين، كميشله وأولار، فظنوا أن الشعب هو الذي قام بالثورة الفرنسية الكبرى، قال ميشله: «إن الفاعل الأصلي للثورة الفرنسية هو الشعب»، وقال أولار: «إن من الخطأ أن يقال إن الذين أوقدوا نار الثورة الفرنسية هم بعض الوجهاء، فقد ثبت عندي - بعد الاطلاع على ما وقع في سنة 1789 وسنة 1799 - أن الشعب هو بطل تلك الثورة، وأنه لم يسير الحوادث شخص واحد، سواء أكان ذلك الشخص لويس السادس عشر أم كان ميرابو أم دانتون أم روبسپير».
وقد غالى مسيو كوشان في قوله : «إن من الخوارق أن حكمت هذه الجماعة (الشعب) وأمرت وقالت وسارت مدة خمس سنين بإتقان تام غير مستعينة برئيس أو قانون، فقد كانت هذه الجماعة تعمل بغريزتها وهي مؤلفة من 25 مليون نفس على مساحة 30000 فرسخ مربع كأنها رجل واحد».
نعم، لو كان سير الشعب غريزيا كما زعم هذا المؤلف لعد من الخوارق، وقد فطن مسيو أولار لاستحالة ذلك فكان حينما يبحث عن الشعب يقول إنه مؤلف من أحزاب لها رؤساء، قال هذا المؤلف: «من وطد الوحدة القومية؟ ومن أنقذ الأمة التي هاجمها الملك ومزقتها الحرب الأهلية؟ أدانتون أم روبسپير أم كارنو؟ كلا، نعم، قد خدم هؤلاء الأمة، ولكن الذي أيد الوحدة والاستقلال هو تجمع الأمة الفرنسية على شكل بلديات وجمعيات شعبية، وإذا كان في كل حزب بضعة زعماء فإن هؤلاء الزعماء كانوا يستمدون قوتهم من أحزابهم وينفذون أحكامها كما يظهر ذلك من مطالعة محاضر الجمعيات الشعبية». (4) طبقات الأمة
يقال في الرد على بعض الأفكار إن الأمة ذات كيان لاهوتي حائز جميع ما يمجده رجال السياسة ويسهبون في ذكر ما له من القوى والفضائل، وسنبدي رأينا في ذلك عند بحثنا الآن عن شأن الأمة في الثورة الفرنسية.
إن الأمة، عند المتقدمين والمتأخرين من اليعاقبة - كالآلهة - ذات شخصية سامية لا تسأل عما تفعل ولا تخطئ أبدا، فالجميع مسؤول عن إطاعتها وإن جاز لها أن تقتل وتنهب وتحرق وتأتي أقسى المظالم وتطرح غدا في الدرك الأسفل من رفعته اليوم إلى مصاف الأبطال، ولا يعدل رجال السياسة عن السجود أمام أحكامها مسبحين بحمد فضائلها وحكمتها العالية.
فما حقيقة الأمة، أي المعبود الذي يقدسه الثوريون منذ قرن؟
يمكن تقسيمها إلى قسمين: فالقسم الأول يشتمل على الفلاحين والتجار وأرباب الحرفة، أي على من يحتاجون إلى السكينة والنظام ليقوموا بمهنهم، ويغفل المؤرخون أمر هذا الفريق الذي هو أكثرية الأمة، والذي لا يقوم بالثورات أبدا، والذي يعيش عيش عناء وسكوت.
وأما القسم الآخر، الذي له شأن مهم في الفتن القومية كلها، فهو ثمالة اجتماعية هادمة ذات نفسية أثيمة ، أي هو أناس يتألف من مجموعهم جيوش متمردة حولها البؤس وإدمان المسكرات إلى لصوص وصعاليك.
فالخوف من العقاب يردع الكثير من هؤلاء الأخلاط المشائيم عن اقتراف الجرائم في الأوقات العادية، ولكنهم لا يتأخرون عن ارتكابها عندما تستطيع غرائزهم المنحطة أن تسير حرة، فهم الذين كانوا يستولون - بتأثير زعمائهم - على مجالسنا الثورية الكبرى ويقترفون أنواع القتل والنهب والتحريق غير مكترثين للنظريات والمبادئ أبدا.
وينضم - بتأثير العدوى - إلى هذه الطبقة المنحطة جماعة من العاطلين الذين يصرخون مع كل ناعق ويتمردون مع كل متمرد من دون أن يفقهوا شيئا من المسألة التي يصرخ من أجلها ويتمرد.
نامعلوم صفحہ