روح عظيم المهاتما غاندي

عباس محمود العقاد d. 1383 AH
67

روح عظيم المهاتما غاندي

روح عظيم المهاتما غاندي

اصناف

أما الرجل الذي يغنم من العزلة ولا يغنم من الزعامة، فالتضحية عنده أن يعيش بين الناس ويعمل مع الناس؛ لأنه يعطيهم كل ما يستطيع إعطاءه، ولا يأخذ منهم شيئا من الأشياء، في عالم الجسد ولا في عالم الروح.

ومثل هذا الرجل لن يعمل غير ما عمل غاندي، ولن يقول غير ما قال، فليس في وصايا زعيم الهند على هذا الاعتبار لغز مستغرب، بل هي وصاياه التي تجري في مجراها ونفهم معناها، وكل ما عداها فهو الغريب الذي يحتاج إلى تفسير. •••

وقر في يقين «المهاتما» أن آفة العالم كله، وآفة الهند خاصة، هي الحضارة الآلية؛ لأنها تحجب عن الإنسان مطالبه العليا وتشغله بمطالب لا يحتاج إليها.

فهذه الحضارة الآلية لا تغني الإنسان، بل تخلق له الحاجات التي هو غني عنها، وتسخره في سبيل هذه الحاجات المصطنعة، فيتهالك عليها ويتنازع فيها، ويضري على العدوان من جراء هذا التهالك وهذا النزاع.

وليس لهذه الآفة دواء في عقيدة غاندي غير البساطة الطبيعية، وهي الاستغناء عن كل ما يمكن الاستغناء عنه، ووضع الآلة والصناعة في وضعهما الأصيل، وهو خدمة الإنسان في ضروراته، وسد نقص الطبيعة في خدمة هذه الضرورات.

وهو لا ينكر العلاج بالطب الحديث لذاته، ولا ينكره على طريقة الخرافيين الذين يستبدلون به طبا آخر ينوب فيه علاج الجهل عن علاج المعرفة والتجربة العلمية، ولكنه يرى أن العلاج الطبي ضروري في حالة الحضارة الآلية ولا ضرورة له ولا فائدة في حالة البساطة الطبيعية، ولعله لا يخلو من الضرر إذا شفي به المريض، فاعتمد عليه وانحرف عن سواء الطبيعة لاطمئنانه إلى إمكان الشفاء عن طريق العلاج.

فالبنية التي يلتزم صاحبها معيشة البساطة لا يختل مزاجها ولا يصعب - عند اختلاله عرضا - أن يعود بتدبير البنية السليمة إلى سوائه، ولكنه إذا تناول الدواء فشفاه تعود مخالفة البساطة ولم يحذر عواقب المخالفة، فأضعف بنيته عن قدرة التعويض والتصحيح، واستمرأ العبث بطعامه وشرابه وأسلوب معيشته؛ لأنه لا يحذر عقباه.

أما علاج المرض بتغذية الجسم بالأغذية المحرمة في شريعة الهند فذلك شيء آخر؛ لأن الأمر فيه يرجع إلى التعارض بين واجبين والموازنة بين أي الواجبين أولى بالترجيح على حسب اعتقاد المريض أو على حسب مشيئته واختياره.

فغاندي الذي يسوم أهل الهند أن يعرضوا عن فتنة الحضارة الآلية بعلم أنهم لا يقدرون على ذلك إلا بقوة تعصمهم من تلك الفتنة، وهي قوة الإيمان.

فهذا الإيمان هو الحصن المنيع الذي ينبغي ألا تنفتح فيه ثغرة، ولا يتزلزل له أساس.

نامعلوم صفحہ