4
قرأت في زميلتنا «السياسة الأسبوعية» ردا للأستاذ «الزهاوي» على مقال كتبته عنه مجيبا به الأديب التونسي الذي سألني إبداء رأيي فيه، وكان فحوى ذلك المقال أن نصيب الأستاذ «الزهاوي» من الملكة العلمية أكبر وأصلح من نصيبه من الملكة الفلسفية والملكة الشعرية، ولم يرض الأستاذ عن هذا الرأي فكتب رده في السياسة الأسبوعية يناقشه ويناقض الأسباب التي بنيته عليها، فهو يحب أن يقول إنه فيلسوف وإنه شاعر لا يقل حظه من الفلسفة ومن الشعر عن حظه من الملكة العلمية. وليس يضيرني أنا أن يزيد عدد الفلاسفة والشعراء في الأرض واحدا أو أكثر؛ فإنني لم أتكفل بهم ولا تحسب علي أخطاؤهم أو يختلس مني صوابهم. ولست ممن يحبون الجدل في غير حقيقة تجلى أو رأي يستوضح؛ فإن الجدل الذي يطول فيه الأخذ والرد لغير شيء من هذا هو لغو كلام وفضول بطالة، فإذا رجعت اليوم إلى الموضوع، فليست رجعتي إليه لحرص على تقليل حظ «الزهاوي» من الفلسفة والشعر، ولا المطاولة في الجدل، وإنما هي لاستخراج الحقيقة التي أردتها من رد الأستاذ نفسه، وبيان المعنى الذي ذهبت إليه من طريقة الأستاذ في ملاحظة الأشياء وفهم أعمال الناس.
ليس للمجهول ولا للعاطفة حساب كبير في إدراك الأستاذ «الزهاوي» لأعمال الإنسان؛ ولهذا فإنه يخطئ في تصورها والحكم عليها ومتابعتها إلى أسبابها وغاياتها، وفي رده أدلة كثيرة على حاجة الفيلسوف - فضلا عن الشاعر - إلى حسبان ذلك الحساب، وفهم الإنسان ومكانه في هذا الكون كما هو إنسان في حقيقته، لا كما يتصوره الذين يستهدون بالعقل وحده غير معتمدين على البديهة وعلى الشعور. وإليك بعض هذه الأدلة مأخوذة من ذلك المقال: (1)
يقول الأستاذ «الزهاوي»: «من طار بجناح العقل أخيرا لندبرغ، وصل إلى باريس من نيويورك في 34 ساعة، فليخبرني الأستاذ إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة؟»
وأنا مخبره إلى أين وصل الذين طاروا بجناح العاطفة: أخبره أنهم وصلوا من نيويورك إلى باريس في 34 ساعة، ولعلهم يصلون غدا في أقل من هذه الساعات؛ لأن لندبرغ لم يطر على المحيط الشاسع المخيف بجناح العقل، بل بجناح العاطفة وحدها طار، وعلى جناح العاطفة وحدها تلقته الجماهير التي هتفت له هتاف الحمد والإعجاب.
ولم يسبق لندبرغ طائر في الفضاء، ولن يلحق به طائر مثله، إلا كانت العاطفة هي محركه، وهي جناحه وهي جزاؤه إذا نجح، وعزاؤه إذا خاب، وليس الطيران كله إلا حلما من أحلام العواطف أجج الرغبة وألهب الخيال، فجاء العقل كالخادم الأجير يحقق ما تعلقت به الأخيلة واتجهت إليه الرغبات.
وأي عقل يزين للندبرغ أن يخاطر بحياته بعد كارثة المفقودين في هذا المضمار القاتل؟ وأي عقل يزين له أن يرفض المال الذي انثال عليه من شركات الصور وطلاب المحاضرات والمساجلات؟ ليس العقل هو الذي أعطانا الطيارين وآلات الطيران، وإنما هي دوافع الإحساس وبواعث الخيال، وهي «العواطف» التي تحمل الإنسان على كل جناح إذا قعد به التفكير وحده في قرارة العجز والجمود.
ونتجاوز نحن هذا الحد إلى ما بعده، فنقول إن الغربيين في هذا الزمان يسبقوننا في ميدان الكشف والاختراع؛ لأنهم يطلبون من الحياة فوق ما نطلب، لا لأنهم يحسنون ما لا نحسنه من الفهم والتفكير؛ فكل مصنوع يصنعه الغربيون نستطيع - نحن الشرقيين - أن نفهمه ونصنع على مثاله، ولكننا لا نستطيع البداية؛ لأنها وليدة البواعث، وهي قاعدة عندنا ناهضة عندهم، فالتفاوت بيننا وبينهم تفاوت في البواعث، أي في الخلق والإحساس وليس تفاوتا في العقل والتفكير، وطريقتنا نحن في الإحساس بالأمور هي التي ينبغي أن يتناولها الإصلاح وليست طريقتنا في فهم ما يحتاج إلى الفهم والتحصيل. (2)
ويقول الأستاذ «الزهاوي»: «أنا مادي لا أرى لغير الحواس أبوابا للمعرفة مستثنيا من ذلك معرفة ذاتي، ولا آذن للخيال أو العاطفة أن يلجأ باب الشعر إلا إذا اطمأننت إلى أنهما لا يفسدان وجه الحقيقة التي ما زلت أتغنى بها في شعري.»
أما الذي أقوله أنا فهو أن الحياة هي التي خلقت الحواس، وهي صقلتها وهذبتها وألهمتها أن تعي ما يتصل بها، وأن الحياة لم تعلن إفلاسها بعد خلق الحواس ولا قبله، فهي شيء أكبر من الحواس، وهي على اتصال وثيق لا انفصام له بهذا الوجود قبل أن تفتح بينها وبينه نوافذ الآناف والأذواق والأسماع والأبصار، وإن الحواس تتفاضل بقدر ما فيها من الشعور والاستمداد من باطن النفس لا من ظواهر الأشياء، فالدنيا لا تتغير. ولكن نظر الشاب إليها غير نظر الشيخ، وإحساسه بها على الجملة غير إحساسه، لماذا؟ لأن الحواس تستمد شعورها من القوة الحية التي خلقتها ونوعتها، وهي قادرة على تغيير الحلق والتنويع. وليس بالمنطق الصحيح ذلك المنطق الذي يجهل أن الوظيفة تسبق العضو، وأن القوة الحية تنشئ الحاسة وتزيدها وتهذبها، فهذه القوة الحية تدرك ما هي فيه وإن اختلف أسلوب إدراكها عن أسلوب الحواس في الإدراك، بل لولا هذه القوة الحية الخالقة لما عملت حاسة في الجسم شيئا، فلتكن للحواس إذن معرفتها المحدودة التي نعهدها في العلوم والصناعات، ولكن لا يعزب عنا أبدا أن وراء هذه الحواس ينبوعا لا ينفد من وسائل الإدراك، وإن كان إدراكا لا حد له من الصيغ والتعريفات. (3)
نامعلوم صفحہ