هذا وإنني أعتذر إلى سيدي الأستاذ من تجرئي على مكاتبته؛ إذ لست ممن يراسلون أمثاله، ولولا إعجابي بجميل صدقي الزهاوي وحبي لناقد خبير ينشر للقراء آراءه، ويبين لهم فجها من ناضجها، ما تسرعت في المراسلة أترجى ما يقال في فخر العراق وعنه.
جاءني هذا الخطاب من شهر مضى، وفيه غير ما نشرت هنا كلام مسهب في مثل هذا المعنى ولواحقه، فتوسمت من لهجته وخلوص إعجابه أدبا جما ونفسا مستشرفة إلى الحقيقة، وهممت أن أجيبه إلى رغبته، ولكنني ترددت لأنني أعلم أنني أستطيع أن أتبسط في شرح كل رأي أراه في الأدب والشعر، دون أن أعرض للأستاذ «الزهاوي» نقدا أو تحبيذا أو خلافا أو وفاقا، ولأنني أوقر هذا الباحث الفاضل وأعرف استقلال فكره واستقامة منطقه وجرأته في جهاده وغبنه بين قومه، فلا أحب أن أقول فيه - لغير ضرورة من ضرورات البحث - مقالا لا يوائم ذلك التوقير ولا يناسب ما له عندي من القدر والرعاية. ثم عن لي أن في الكلام عليه مجالا لكلمة أخرى تقال عن التفريق بين الملكة العلمية والملكة الشعرية، وبين بديهة الفيلسوف وبديهة العالم، لا ضير منها على أحد عامة، ولا على الأستاذ «الزهاوي» ومن يعجبون به خاصة؛ إذ هو ممن يقال فيهم قول حق لا يغضب الطبيعة القوية والنفس المروضة والضمير الواثق من قصده وعمله، فكتبت هذا الفصل الموجز آملا أن أجيء فيه بحقيقة تسوغ المساس برجل لا أحب أن أمسه بغير ما يرضيه.
أول كتاب قرأت لل «زهاوي» كان كتاب «الكائنات» أو «رسالة الكائنات»؛ لأنه عجالة مختصره من القطع الصغير، وكان ذلك قبل عدة سنوات، وأنا يومئذ كثير الاشتغال بما وراء الطبيعة وحقائق الموت والحياة ومباحث الدين والفلسفة، فراقني من الرسالة سداد النظر وقرب المأخذ ووضوح التفكير والجرأة على العقائد الموروثة، مع ما في ختام الرسالة من اعتذار لا يخفى ما وراءه، ولا يغير رأي القارئ فيما تقدمه، وكنت كلما عاودتها تبينت فيها منطقا صحيحا يذكر القارئ بإشارات «ابن سينا» ونجاته، ويزيد عليهما بالجلاء والترتيب، ثم قرأت لل «زهاوي» شعرا ونثرا وآراء في العلم والاجتماع تدل على اطلاع واستقلال ونزعة إلى الثقة والابتكار، وكان آخر ما قرأت له رسالة «المجمل مما أرى»، ثم شعر ينشره في الصحف المصرية من حين إلى حين.
هل «الزهاوي» شاعر، أو عالم، أو فيلسوف؟ إن آثاره في الشعر والنثر تدعوك إلى هذا السؤال، فمباحثه مما يتناوله الفيلسوف والعالم، ونظمه يسلكه بين طلاب المقاصد الشعرية، وقد يختلف جواب الناس على السؤال الذي سألناه، فيعده بعضهم من الفلاسفة وبعضهم من الشعراء، ويميل به بعضهم إلى فريق العلماء، أما أنا فرأيي فيه أنه صاحب ملكة علمية تطرق الفلسفة، وتنظم الشعر بأداة العلم ووسائل العلماء.
الشاعر صاحب خيال وعاطفة، والفيلسوف صاحب بديهة وبصيرة وحساب مع المجهول، والعالم صاحب منطق وتحليل وحساب مع هذه الأشياء التي يحسبها ويدركها، أو يمكن أن تحس وتدرك بالعيان وما يشبه العيان، فإذا قرأت مباحث «الزهاوي» برزت لك ملكته المنطقية لا حجاب عليها، ولمست في آرائه مواطن التحليل والتعليل، ولكنك تضل فيها الخيال كثيرا والعاطفة أحيانا، وتلتفت إلى البديهة فإذا هي محدودة في أعماقها وأعاليها بسدود من الحس والمنطق لا تخلى لها مطالع الأفق ولا مسارب الأغوار، فهو يريد أن يعيش أبدا في دنيا تضيئها الشمس وتغشيها سحب النهار، ولا تنطبق فيها الأجفان ولا تتناجى فيها الأحلام، وليست دنيا الحقيقة كلها نهارا أو شمسا، ولكنها كذلك ليل وغياهب لا تجدي فيها الكهرباء! وقد خلق الخيال والبداهة للإنسان قبل أن يخلق العقل، ثم جاء العقل ليتممهما ويأخذ منهما لا ليلغيهما ويصم دونهما أذنيه. فأما «الزهاوي» فهو يحاول أن يلغي الخيال والبداهة، ويظن أن الإنسان لا يتصل بالكون إلا بعقله، ولا يهتدي إلى الطريق المفطور إلا بعقله، وليس هذا بصحيح في حكم العقل نفسه، إذا أنصف العقل ووفى لمنشئه الأول وقصارى مطمحه الأخير.
إن كل منطق لا يكون صحيحا إلا إذا دخل في حسابه أمران محيطان بنا متغلغلان فينا لا مهرب منهما ولا روغان؛ نعني بهذين الأمرين «المجهول» أولا و«العاطفة» ثانيا، فهما راصدان لكل قضية منطقية يهدمانها هدما، ما لم يكن لهما في زواياها مكان مقدور، فالعالم لا شأن له بالمجهول، وليس له شأن كبير بالعاطفة كما يحسها الشعراء، وهو، إذا أراد، حصر نفسه في معمله وخرج منه بنتيجة عملية لا غبار عليها من ناحية النقد والاستقراء. ولكن الفيلسوف إذا خرج إلى دنيا لا مجهول فيها ولا عاطفة توحي إليها، إنما يخرج إلى دنيا غير دنيانا هذه، وإنما يأتي لنا بفلسفة خليقة بعالم آخر غير عالمنا الذي يحيط به مجهوله وتعمل فيه عواطفه، وقد يصيب بمنطقه هذا في حقائق الأرقام والإحصاءات، ولكنه لا يصيب به في معاني الشعور وأسرار الحياة؛ إذ كيف يحسب حسابا لهذه المعاني والأسرار وهو لا يحسها ولا ينقاد لدوافعها؟ وكيف يصيب في المباحث النفسية وهو لا يحسب حسابا لتلك المعاني والأسرار؟
من منا يكون محبا معقولا مطابقا للمنطق إذا هو نظر إلى حبيبه بالعين التي يراه بها جميع الناس؟ إن نظرك إليه قد يكون معقولا مطابقا للمنطق إذا نظرت إليه بتلك العين التي يراه بها من لا يحبونه ولا يؤثرونه على سواه، ولكنك أنت نفسك - أنت الناظر - لا تكون «محبا منطقيا» موافقا للمعقول والمعلوم من شئون المحبين حين تتساوى أنت وسائر الناس في الإعجاب بحبيبتك؛ لأن المحب المعقول هو الذي يرى حبيبته بعين لا يراها بها الآخرون، وكذلك الحياة قد تكون أنت منطقيا إذا عرفتها بالعقل وحده كما يعرفها غير الأحياء لو كان غير الأحياء يعرفون الحياة، ولكنك لا تكون «حيا منطقيا» إذا أنت لم تعرفها كما يعرفها كل حي مخدوع بها غارق في غمرة عواطفها وأشجانها، فكن لنا «حيا منطقيا» أو أنت إذن إنسان لا يعنينا رأيه في الحياة؛ لأنه ليس منها بمكان قريب أو على اتصال وثيق.
و«الزهاوي» تخونه الحقيقة حيث يسعى إليها على جناح من العقل، لا يعضده جناح من الشعور، فلم أغتبط بتعرض الشعور لتفكيره مثلما اغتبطت به وهو يحاول - بالمنطق - أن يثبت الرجعة إلى هذه الأرض بعد الممات، أو إلى عالم آخر ينتقل إليه الإنسان، فهو يقول في «المجمل مما أرى» إن «مظاهر الحياة من مظاهر المادة التي ليست في أصلها إلا قوة. وإن هذا الفضاء الذي صرحت بأنه لا يتناهى، يحتوي على عدد غير متناه من العوامل النجمية، وإن في كثير من هذه العوالم نظاما مثل نظامنا الشمسي، وإن في ذلك النظام أرضا مثل أرضنا، وفي بعضها أرض تشبه أرضنا إلى زمن محدود ثم تختلف عنها، وإن في كل أرض مشابهة لأرضنا إنسانا مثلي وآخر مثلك وآخرين مثل غيرنا من الناس، قد ولدوا من آبائهم كما في أرضنا، وقد جرى لآبائهم فيها ما جرى لهم في هذه تماما». «وبعض هذه الأرضين اليوم مثل أرضنا في حالتها الحاضرة، وبعضها أخذت تهدم، وبعضها من بداءة تألفها، فإذا مات الإنسان في أرضنا، فهو يولد في غيرها من نفس آبائه الذين ولد في أرضه هذه منهم، وإذ إن هذين الأرضين لا تتناهى فكل فرد من الناس غير متناهي العدد، غير أنه في كل أرض واحد يجهل أن له أمثالا في هذا الكون اللامتناهي، وإن الذي يشقى في هذه قد يسعد في التي تشبهها إلى زمن محدود ثم نخالفها، فإن عدد هذه المخالفات أيضا غير متناه، والذي يسعد في هذه قد يشقى في تلك، فالطبيعة عادلة قد قسمت السعادة والشقاء على السواء، فإن زيدا إذا كان هنا شقيا فهو في أخرى سعيد، وإذا كان سعيدا فهو في تلك شقي، وأرضنا هذه بعد أن تصير إلى الأثير تتولد ثانية بعد ربوات الملايين من السنين، فيجري عليها تطوراتها طبق ما جرت في دورها هذا، ويتولد آباؤنا كما تولدوا، ونتولد منهم كما تولدنا، ونموت كما في هذه المرة وقد تكررنا من الأزل وسوف نتكرر إلى الأبد.» «ورب قائل: ما الفائدة من هذا التكرار وهو لا يتذكر ما مر به في أدواره الأولى؟ فأجيب : إن فائدة التذكر هي العلم، فإذا حصل إلينا العلم بطريقة أخرى فهو مثل العلم بالذكر، وكفى به نفعا أنه يطامن الإنسان أن موته مؤقت ليس أبديا. وهذه النظرية مبنية على أسس ثلاثة: الأول أن العالم بما فيه من الأجرام غير متناه. والثاني أن لا شيء يذهب إلى العدم، بل ينحل تركيبه وينحل إلى الأثير بعد تطورات متعددة، وهذا الأثير يتركب من جديد فيكون مادة بعد تطورات متعددة، ثم ينحل ثم يتركب إلى ما لا يتناهى. والثالث أن جواهر كل جرم من الأجرام متناهية العدد مهما كثر هذا العدد، وأقدارها كذلك متناهية، ولا يمكن أن يوجد جرم واحد غير متناهي السعة. والأرض هذه تتألف في أزمنة غير متناهية على أشكال لأن جواهرها متناهية، وشكلها الحاضر أحد تلك الأشكال غير المتناهية التي تتألف عليها وتدور من أحدها إلى الآخر، فهو كغيره من الأشكال يتكرر إلى ما لا نهاية له والإنسان جزء متمم لشكلها الحاضر، فهو أيضا يعود بشكله وعقله وإلا لم يكن الدور تاما، والعالم أجمع تابع لهذا الناموس الدوري الأعظم.»
هذه هي نظرية الدور كما أجملها الأستاذ «الزهاوي» في رسالته «المجمل مما أرى»، فالمنطق هنا يتكلم، ولكن حب الحياة هو الذي يحركه إلى الكلام! على أنه بعد منطق لم يمتزج بالحياة في الصميم؛ لأنه يتعزى بالعلم، والحياة لا يعزيها أن تعلم بأنها خالدة، وإنما يعزيها أن تشعر بالخلود، وهو بعد هذا وذاك منطق خاطئ؛ لأنه يستلزم الدور، ولا شيء يدعو إلى استلزامه، فما دامت الجواهر لا تتناهى، والحركات لا تتناهى، والفضاء لا يتناهى، فالنتيجة أن تكوين الأجرام بأشكالها لا يتناهى، ولا حاجة إلى تكرارها وعودتها هي بعينها مرة بعد مرة إلى غير نهاية، ويجب الآن أن نضرب صفحا عن لانهاية الزمان التي تخدعنا باحتمال هذا التكرار، فيما يلي أو فيما سبق قبل الآن. يجب أن نضرب صفحا عن لانهاية الزمان؛ لأن لانهاية الفضاء موجودة في هذه اللحظة، فأي شيء فيها يستلزم أن الأرض مكررة في مكان غير مكانها الذي هي فيه ؟ لا شيء! وإذا لم يكن إنسان مكررا على هذه الأرض بعينها، فلماذا نفرض أن كل إنسان مكرر في أرض تشبهها تمام الشبه في هذا الفضاء السحيق؟ •••
ثم إلى أين ننتهي من كل ذاك؟ ننتهي إلى أن الأستاذ «الزهاوي» صاحب ملكة علمية رياضية من طراز رفيع، وأنه يصيب في تفكيره ما طرق من المسائل التي يجتزأ فيها بالاستقراء والتحليل، ولا تفتقر إلى البديهة والشعور، فمن ينشده فلينشد عالما ينظم أو يجنح إلى الفلسفة، فهو قمين بإصغاء إليه وإقبال عليه في هذا المجال، وإن خير مكان له هو بين رجال العلوم ورادة القضايا المنطقية، فهو لا يبلغ بين الفلاسفة والشعراء مثل ذلك المكان.
نامعلوم صفحہ