فؤاد زكريا
أبريل 1963م
حياة ڤاجنر وأعماله
فترة الطفولة والشباب
كانت لحظة حاسمة من لحظات التاريخ العالمي، وتاريخ ألمانيا خاصة، تلك التي ولد فيها ريتشارد ڤاجنر؛ ففي عام 1813م كان نابوليون لا يزال يحرز بعض الانتصارات العسكرية هنا وهناك، ولكنه كان يحس بأنها بداية النهاية؛ إذ أصبح يواجه أمامه، لأول مرة، أمما وشعوبا لا حكومات، وكان الشعب الألماني هو أول شعب أيقظته مدافع نابوليون من سباته العميق.
وفي 23 مايو من ذلك العام نفسه ولد فلهلم ريتشارد في «ليبتسج»، وكانت تلك المنطقة ذاتها مسرح قتال عنيف بين نابوليون وبين الجيوش الألمانية في ذلك الحين، ولم يكن ذلك الموعد من قبيل المصادفة في نظر ڤاجنر عندما عاد بذاكرته فيما بعد إلى وقائع حياته؛ فقد اقترن مولده، في نظره، بمولد الأمة الألمانية التي طالما تغنى في أعماله وكتاباته بأمجادها.
ولقد كان أبوه، الذي توفي في نفس عام مولده، موظفا متوسط الحال، ولكن كان له ولع خاص بالأدب والشعر، وشغف بالغ بالمسرح. كذلك كانت لعمه، أدولف ڤاجنر، مكانة لا بأس بها في الأوساط الأدبية والفكرية؛ إذ كان على صلة وثيقة بالشاعر جيته وشيلر. ولكن أقوى الشخصيات تأثيرا في حياة ڤاجنر في هذه السنوات الأولى من حياته كان صديقا لأبيه، اسمه «لودفيج جاير
L. Geyer »؛ فقد تزوج هذا الصديق من أمه بعد عام من وفاة أبيه، ويؤيد كثير من مؤرخي حياة ڤاجنر رواية تقول إن جاير هذا هو الأب الحقيقي لڤاجنر، ولكن هذا موضوع يستحيل البت فيه بصفة قاطعة، وليست له على أية حال دلالة كبرى، سوى أنه إذا صح لكانت سخرية الأقدار فيه مريرة؛ إذ إن جاير من أصل يهودي، وڤاجنر كان معروفا طوال حياته بعدائه للسامية.
ولقد أشرف جاير بنفسه على تعليم ريتشارد الصغير المراحل الأولى لحياته. وكان تأثيره الأكبر فيه راجعا إلى ميوله المسرحية الواضحة؛ ذلك لأن جاير نفسه كان أحد ممثلي المسرح الملكي في درسدن، وقد حرص على أن يحيط ريتشارد بجو مسرحي صرف. وروي عن ڤاجنر أنه اشترك وهو لم يزل طفلا، في أداء قطع تمثيلية وأجاد دوره فيها إلى حد كان يبعث على الإعجاب الشديد. ولقد وصف ڤاجنر ذاته فيما بعد تعلقه بالمسرح في طفولته المبكرة بهذه العبارات: «لم يكن ما يحببني في المسرح ... هو الحاجة إلى اللهو والتسلية التي يسعى إليها الناس عادة؛ وإنما ذلك الجو الجديد الذي كان يثيرني ويخلب لبي بما فيه من أحداث تختلف تماما عن تلك التي تؤثر في في الأحوال العادية، وذلك العالم الخيالي الذي يجذب ويرهب في نفس الوقت ... وهكذا فإن كل ما له صلة بالعرض المسرحي كان له في نفسي تأثير سحري غامض جذاب.»
ولقد أدت البيئة المسرحية التي عاش فيها ڤاجنر في هذه السنين الأولى من عمره إلى تنشيط مخيلته إلى حد غير مألوف. وهكذا فإنه عندما انتقل ليعيش في مسكن عمه أدولف - بعد أن توفي جاير بدوره - كان يضفي من خياله صورة غريبة على كل قطعة من أثاث ذلك المنزل، ويشعر بخوف طاغ إذا انفرد بنفسه في الليل؛ فيبدو له كأن أشباحا قد برزت من اللوحات الفنية المعلقة، وتتجسم قطع الأثاث العتيق في صورة تماثيل متحركة، ويقضي الطفل المسكين ليالي كاملة بها لا يتوقف قلبه طوالها عن النبض بشدة. وهكذا غدا يفسر كل ما يحيط به تفسيرا خياليا مسرحيا عنيفا، ويجسم الصور في أشباح تلعب وتتراقص أمام عينيه الجاحظتين في ذهول، ويبني من كل هذا عالما خياليا كاملا يتداخل في عالم الواقع ولا يعرف بينهما أي حد فاصل، ولعل أهمية هذا العامل تتضح من أن فكرة الأشباح هذه لم تكن مجرد فكرة صبيانية ابتدعها خيال طفل صغير، بل كانت تعبر عن ملكة خاصة لديه، هي ملكة الخلق وإضفاء الحياة على كل ما هو جامد صامت. وليس أدل على ذلك من أن تلك الفكرة قد ظلت تلازمه حتى بعد سن نضوجه، بنفس القوة والحيوية التي كانت تتبدى له بها في طفولته. ولقد اعترف ڤاجنر بذلك حين قال: «كنت منذ طفولتي المبكرة أستشعر في نفسي حوادث مبهمة غامضة خلقت لدي مملكة خيالية فيها غلو ومبالغة. وإني لأذكر أنني حين كنت أظل بمفردي مدة طويلة في حجرتي، كان يخيل إلي أن الحياة قد دبت في الأثاث والأدوات؛ وحينئذ يداهمني خوف كان من القوة بحيث كنت أصيح وأصرخ صرخات نفاذة. ولقد ظللت حتى عهد شبابي أستيقظ في كل ليلة مستغيثا، ولا أهدأ حتى أستمع إلى صوت آدمي يطلب إلي أن ألتزم الصمت.»
نامعلوم صفحہ