العرب: هذا جحر ضبٍّ خربٍ جحره، قَبُح، لأنه عيٌّ من القول، تغني عنه ضمة الباء، ويكون الكلام وجيزًا فصيحًا، فلما كان أصله هكذا، ثم تُكلِّف فيه ما تُكلِّف من الحذف لما لا يسبق حذفه إلى الفهم بعُدَ. ثم إنه لو كان المضاف إليه ظاهرًا لكان أبين، ولكنه حُذِف المضاف، واستكن المضاف إليه، فعزب عن الفهم، وصار فهمه مع هذا الحذف والإضمار من تكليف ما لا يستطاع. واستنجاز أبو الفتح الرد على كل من تقدم بظن ليس بالقوي، فكيف بنا ونحن نرد عليهم الظنون الضعيفة بالأدلة الواضحة التي لا امتراء فيها لمنصف.
فإن زعم النحويين أنهم لم يريدوا بقولهم في (أزيدًا أكرمته) وما أشبه أن (أكرمت) الذي انتصب به زيدٌ مراد للمتكلم، ولا أن الكلام ناقص دونه، وإنما هو شيء موضوع مصطلح عليه، يُتوصَّل به إلى النطق بكلام العرب، كما فعل المهندسون حين وضعوا خطوطًا مصنوعة - هي في الحقيقة أجسام - مواضعَ الخطوط التي هي أطوال لا أعراض لها ولا أعماق، ونقطًا - هي أيضًا أجسام - مواضعَ النقط التي هي نهايات الخطوط، والتي لا أطوال لها ولا أعراض ولا أعماق، وقدروا في الفلك دوائر ونقطًا، وتوصلوا بذلك إلى البرهان على ما أرادوا أن يبرهنوا عليه، ولم يخلّ إيقاع هذه مواضع تلك بما قصدوا، بل حصل اليقين للمتعلمين تلك الصنعة، مع معرفتهم بوضع هذه موضع هذه. قيل للنحويين ليسوا بهؤلاء، لأنهم قالوا: إن كل منصوب فلا بد له من ناصب لفظي، فإن جعلوا هذه المحذوفات التي لا يجوز إظهارها معدومة على الإطلاق في اللفظ وفي الإدارة، والكلام تام دونها، فقد أبطلوا ما ادعوه من أن كل منصوب فلا بد له من ناصب، وأيضًا فإن وضع الأجسام مواضع الخطوط والنقد الهندسية تقريبٌ وعونٌ للمتعلم، ووضع هذه العوامل لا شيء فيه من ذلك، بل تقدير وتخييل.
1 / 78