فَبَلَغَنَا فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «عَلِمَ مِنْ إِبْلِيسَ الْمَعْصِيَةَ وَخَلَقَهُ لَهَا»
٢٢٦ - حَدَّثَنَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، ثنا ابْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ
٢٢٧ - قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: وَلَعَمْرِي مَا عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ وَالْفَسَادِ غَيْبًا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ عَلَّمَهُمْ ذَلِكَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولُوا، وَلِذَلِكَ ادَّعَوْا مَعْرِفَتَهُ.
٢٢٨ - وَقَالَ أَيْضًا: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تَبْدُوَنْ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ﴾ . فَأَخْبَرَ اللَّهُ ﵎ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي عَلَّمَ آدَمَ وَالْمَلَائِكَةَ الْعِلْمَ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمُوا شَيْئًا مِنْهُ، وَأَقَرَّتِ الْمَلَائِكَةُ بِذَلِكَ، وَرَدَتِ الْعِلْمَ كُلَّهُ إِلَى مَنْ بَدَأَ مِنْهُ، فَقَالُوا: ﴿لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: ٣٢] فَهَلْ عَلَّمَهُمْ إِلَّا مَا قَدْ عَلِمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ؟ .
٢٢٩ - وَقَالَ فِيمَا أَنْزَلَهُ عَلَى رَسُولِهِ ﷺ: ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا ⦗١٣٤⦘ حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٧] . ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [الحشر: ٢٢] . ﴿أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا﴾ [الطلاق: ١٢] . ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ [البقرة: ٧٧] . ﴿يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ﴾ [الأنعام: ٣] . ﴿يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ [طه: ٧] . قَالَ: مَا لَمْ تُحَدِّثْ بِهِ نَفْسَكَ. ﴿يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ﴾ [غافر: ١٩] . فَأَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ كَانَ الْعَالِمَ قَبْلَ كُلِّ أَحَدٍ، وَمِنْهُ بَدَأَ الْعِلْمُ. قَالَ: ﴿وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ﴾ [الرعد: ٤٣] . وَقَالَ: ﴿فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ﴾ [آل عمران: ٦١] . جَاءَهُ الْعِلْمُ مِنَ اللَّهِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِعِلْمِهِ السَّابِقِ فِي عِبَادِهِ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلُوا، فَقَالَ: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً﴾ [الجاثية: ٢٣] الْآيَةَ. وَقَالَ: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكَبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ . وَقَالَ: ﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [المائدة: ١١٦] . ﴿عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٣٥] . ﴿عَلِمَ أَنْ سَيَكُونَ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ﴾ [المزمل: ٢٠] الْآيَةَ. وَمَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَثِيرٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا حَرْفٌ وَاحِدٌ لَاكْتُفِيَ بِهِ حُجَّةً بَالِغَةً، فَكَيْفَ وَالْكِتَابُ كُلُّهُ يَنْطِقُ بِنَصِّهِ، يُسْتَغْنَى فِيهِ بِالتَّنْزِيلِ عَنِ التَّفْسِيرِ، وَتَعْرِفُهُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ.
٢٣٠ - فَلَمْ تَزَلْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ إِلَى أَنْ نَبَغَتْ هَذِهِ النَّابِغَةُ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَأَعْظَمُوا فِي اللَّهِ الْقَوْلَ، وَسَبُّوهُ بِأَقْبَحِ السِّبَابِ ⦗١٣٥⦘، وَجَهَّلُوهُ وَنَفَوْا عَنْهُ صِفَاتَهُ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ صِفَةً صِفَةً، حَتَّى نَفَوْا عَنْهُ الْعِلْمَ الْأَوَّلَ السَّابِقَ، وَالْكَلَامَ، وَالسَّمْعَ وَالْبَصَرَ، وَالْأَمْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ جَعَلُوهُ كَلَا شَيْءَ، فَقَالُوا فِي الْجُمْلَةِ: مَا نَعْرِفُ إِلَهًا غَيْرَ هَذَا الَّذِي فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَإِذَا بَادَ شَيْءٌ صَارَ مَكَانَهُ. فَنَظَرْنَا فِي صِفَةِ مَعْبُودِهِمْ هَذَا فَلَمْ نَجِدْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ شَيْئًا غَيْرَ هَذَا الْهَوَاءِ الْقَائِمِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الدَّاخِلِ فِي كُلِّ مَكَانٍ، فَمَنْ قَصَدَ بِعِبَادَتِهِ إِلَى إِلَهٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّمَا يَعْبُدُ غَيْرَ اللَّهِ، وَلَيْسَ مَعْبُودُهُ ذَاكَ بِإِلَهٍ، كُفْرَانَهُ، لَا غُفْرَانَهُ.
٢٣١ - فَاحْذَرُوا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ وَأَهْلِيكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ أَنْ يَفْتِنُوكُمْ، أَوْ يُكَفِّرُوا صُدُورَكُمْ بِالْمَغَالِيطِ وَالْأَضَالِيلِ الَّتِي تَشْتَبِهُ عَلَى جُهَّالِكُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ، عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ [التحريم: ٦] .
٢٣٢ - فَإِنْ جَحَدَ مِنْهُمْ جَاحِدٌ وَانْتَفَى مِنْ بَعْضِ مَا حَكَيْنَا عَنْهُمْ، فَلَا تُصَدِّقُوهُمْ، فَإِنَّهُ دِينُهُمُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ، لَا يَجْحَدُ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِلَّا مُتَعَوِّذٌ مُسْتَتِرٌ، أَوْ جَاهِلٌ بِمَذَاهِبِهِمْ، لَا يَتَوَجَّهُ بشَيْءٍ مِنْهَا، فَقَدِ اعْتَرَفَ لَنَا بِذَلِكَ بَعْضُ كُبَرَائِهِمْ، أَوْ بِمَا يُشْبِهُ مَعْنَاهُ، وَأَسْنَدُوا بَعْضَ ذَلِكَ إِلَى بَعْضِ الْمُضِلِّينَ مِنْ أَشْيَاخِهِمْ، فَإِلَى اللَّهِ أَشْكُو رَأْيًا هَذَا تَأْوِيلُهُ، وَقَوْمًا هَذَا إِبْطَالُهُمْ لَعِلْمِ رَبِّنَا.
٢٣٣ - وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْمَلَائِكَةُ بِمَا عَلَّمَهُمُ اللَّهُ مَا هُوَ كَائِنٌ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنَ الْفَسَادِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقُوا، فَكَيْفَ خَالِقُهُمُ ⦗١٣٦⦘ الَّذِي عَلَّمَهُمْ ذَلِكَ؟ فَقَالُوا: ﴿أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ﴾ [البقرة: ٣٠] فَقَالَ: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: ٣٠] .
٢٣٤ - وَوَصَفَ اللَّهُ هَذِهِ الْأُمَّةَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ قَبْلَ أَنْ يُخْلَقُوا بِصِفَاتِهِمْ، فَكَيْفَ وَصَفَهُمْ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ لَهُ بِهِمْ؟ فَقَالَ: ﴿مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ، تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا، سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ، ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ، وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ﴾ [الفتح: ٢٩] . قَالَ: ﴿فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ، وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [الأعراف: ١٥٧] . فَمَا قَدِرُوا أَنْ يَتَعَدَّوْا هَذِهِ الصِّفَاتِ، وَلَا يُقَصِّرُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونُوا، وَقَالَ ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ﴾ [الأنبياء: ١٠٥] . فَكَتَبَ ذَلِكَ بِعِلْمٍ قَبْلَ أَنْ يَرِثُوهَا، وَقَالَ ﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٤] . قَضَى عَلَيْهِمْ فِي الْكِتَابِ الْإِفْسَادَ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ أَنْ يُفْسِدُوا
1 / 133