واصلت نعمة الله تفرسها، حتى وضح في وجهها ذلك المزيج الغريب المكون من قوة مخيفة وأنوثة ناضجة مكشوفة، ثم قالت بنبرة خبير: ابن ناس!
تجلى الاهتمام في عيني الرجلين، فتبادلا نظرة معبرة ربطت ما بين الدكانين الواقعين في مواجهة الوكالة في الجانب المقابل، ثم حدجا القادم من المجهول بنظرة جديدة. إنه شاب في الحلقة الثالثة، ناعم البشرة، مهذب الملامح، أبعد ما يكون عن الوجوه الكالحة المعهودة، ثم قال رياض الدبش مداريا انفعاله: اعتداء وسرقة!
ومضى يتجمع حوله جمهرة من المشاهدين، ولكن نعمة الله نهرتهم فتفرقوا سراعا، وجاء مخلوف زينهم من أمام العيادة في الوسط، فتلقى الشاب بين يديه قبل أن يسقط فوق أديم الأرض عاجزا عن التماسك، ونادى عبدون فرج الله الشاب العامل في الوكالة، فأذنت له المرأة بتلبية النداء ، فتعاونا - مخلوف الممرض وعبدون - على حمله إلى العيادة. هناك أنامه مخلوف فوق كنبة وغطاه بملاءة، منتظرا قدوم الطبيب محسن زيان في ميعاده من الضحى. إنه رجل كهل فقد في الحرب ابنا في مثل سنه، ولا ينقصه العطف على أي شاب، رغم إيلافه مناظر العناء والمرض. ولما فحصه محسن زيان الطبيب البدين ذو النظرة الخاملة الطيبة، تمتم: كدمات في الرأس والجبين نتيجة ضربات شبه قاتلة، علينا أن نبلغ الشرطة.
فقال مخلوف زينهم بامتعاض: إنهم ذئاب القبو، وستغضب نعمة الله!
تبادلا نظرة تسليم واحتجاج، ثم تمتم الممرض: إنهم تحت حماية المرأة، وهم جنودها السريون عند الحاجة، ولا قبل لأحد بتحديها.
فشرع الطبيب في العلاج، وهو يقول: ما قيمة حياة تجري تحت رحمة امرأة كهذه!
ولم ينقطع ذكر الشاب الضحية في موقع وكالة الخردة. شغل حلومة الجحش بزبائن الفول، وراح غلام في دكان رياض الدبش يسخن المكواة فوق الجمر المتقد، على حين انهمك عبدون فرج الله في ترتيب ما تبعثر من إطارات السيارات القديمة وقطع الغيار المستهلكة والمحركات والمراوح البائدة. وسألت نعمة الله عبدون عن حال الشاب الذي شارك في حمله إلى العيادة، فلاح في وجهه الطويل الشاحب الضيق لاهتمامها به، وقال: سنسمع قريبا عن موته!
فحولت رأسها المكلل بشعر أسود مفروق مسترسل في ضفيرة غليظة ملتفة حول صفحة العنق، ونافذة في طوق الجلباب، إلى رياض الدبش قائلة: سمعت ما يقول ابن التربي عن الأفندي؟!
فتساءل رياض الدبش مستنكرا: الأفندي؟! - أفندي وحياتك، أفندي وابن ناس!
فدارى رياض غيظه بابتسامة ميتة، وإن جارى عبدون فرج الله في حنقه، أما نعمة الله فتساءلت: ولكن، ماذا جاء به إلى القبو؟
نامعلوم صفحہ