أهل الهوى
من فضلك وإحسانك
قسمتي ونصيبي
العين والساعة
الليلة المباركة
رأيت فيما يرى النائم
أهل الهوى
من فضلك وإحسانك
قسمتي ونصيبي
العين والساعة
الليلة المباركة
رأيت فيما يرى النائم
رأيت فيما يرى النائم
رأيت فيما يرى النائم
تأليف
نجيب محفوظ
أهل الهوى
من فوهة القبو دائمة الظلمة، زحف على أربع، زحف في بطء وتخاذل المريض المتهالك. مد ذراعه إلى جدار بيت يتكئ عليه، ليقف في عناء مترنحا، تاركا تأوهاته المتقطعة تتلاحق في وهن. وفي صباح باكر مشرق بنور الربيع الصافي، والحياة تدب متدفقة في الحوانيت على الجانبين وفوق عربات اليد ونوافذ البيوت المتلاصقة العتيقة، والسماء تعلو فوق كل شيء سقفا من الزرقة الرائقة، بدا عاريا تماما، فلفت الأنظار، خاصة أنظار الأقربين، «نعمة الله الفنجري» تاجرة الخردة، «رياض الدبش» الكواء البلدي، و«حلومة الجحش» بياع الفول. تفرست نعمة الله في منظره من مجلسها فوق الكرسي الخشبي أمام وكالة الخردة، وجسمها العملاق ساكن في جلبابها الرجالي الأزرق، وتمتمت: يا فتاح يا عليم!
فقال رياض الدبش الكواء، وهو يتابعه بوجهه المغولي: وراءه حادثة من حوادث القبو.
فقال حلومة الجحش بجسمه القصير البدين ووجهه الريان: يفعلها الذئاب، ونتعب نحن بين «س» و«ج».
واصلت نعمة الله تفرسها، حتى وضح في وجهها ذلك المزيج الغريب المكون من قوة مخيفة وأنوثة ناضجة مكشوفة، ثم قالت بنبرة خبير: ابن ناس!
تجلى الاهتمام في عيني الرجلين، فتبادلا نظرة معبرة ربطت ما بين الدكانين الواقعين في مواجهة الوكالة في الجانب المقابل، ثم حدجا القادم من المجهول بنظرة جديدة. إنه شاب في الحلقة الثالثة، ناعم البشرة، مهذب الملامح، أبعد ما يكون عن الوجوه الكالحة المعهودة، ثم قال رياض الدبش مداريا انفعاله: اعتداء وسرقة!
ومضى يتجمع حوله جمهرة من المشاهدين، ولكن نعمة الله نهرتهم فتفرقوا سراعا، وجاء مخلوف زينهم من أمام العيادة في الوسط، فتلقى الشاب بين يديه قبل أن يسقط فوق أديم الأرض عاجزا عن التماسك، ونادى عبدون فرج الله الشاب العامل في الوكالة، فأذنت له المرأة بتلبية النداء ، فتعاونا - مخلوف الممرض وعبدون - على حمله إلى العيادة. هناك أنامه مخلوف فوق كنبة وغطاه بملاءة، منتظرا قدوم الطبيب محسن زيان في ميعاده من الضحى. إنه رجل كهل فقد في الحرب ابنا في مثل سنه، ولا ينقصه العطف على أي شاب، رغم إيلافه مناظر العناء والمرض. ولما فحصه محسن زيان الطبيب البدين ذو النظرة الخاملة الطيبة، تمتم: كدمات في الرأس والجبين نتيجة ضربات شبه قاتلة، علينا أن نبلغ الشرطة.
فقال مخلوف زينهم بامتعاض: إنهم ذئاب القبو، وستغضب نعمة الله!
تبادلا نظرة تسليم واحتجاج، ثم تمتم الممرض: إنهم تحت حماية المرأة، وهم جنودها السريون عند الحاجة، ولا قبل لأحد بتحديها.
فشرع الطبيب في العلاج، وهو يقول: ما قيمة حياة تجري تحت رحمة امرأة كهذه!
ولم ينقطع ذكر الشاب الضحية في موقع وكالة الخردة. شغل حلومة الجحش بزبائن الفول، وراح غلام في دكان رياض الدبش يسخن المكواة فوق الجمر المتقد، على حين انهمك عبدون فرج الله في ترتيب ما تبعثر من إطارات السيارات القديمة وقطع الغيار المستهلكة والمحركات والمراوح البائدة. وسألت نعمة الله عبدون عن حال الشاب الذي شارك في حمله إلى العيادة، فلاح في وجهه الطويل الشاحب الضيق لاهتمامها به، وقال: سنسمع قريبا عن موته!
فحولت رأسها المكلل بشعر أسود مفروق مسترسل في ضفيرة غليظة ملتفة حول صفحة العنق، ونافذة في طوق الجلباب، إلى رياض الدبش قائلة: سمعت ما يقول ابن التربي عن الأفندي؟!
فتساءل رياض الدبش مستنكرا: الأفندي؟! - أفندي وحياتك، أفندي وابن ناس!
فدارى رياض غيظه بابتسامة ميتة، وإن جارى عبدون فرج الله في حنقه، أما نعمة الله فتساءلت: ولكن، ماذا جاء به إلى القبو؟
فقال رياض منفسا عن صدره: وراء بنت من حريم الذئاب!
فقالت بحدة بصوتها الجامع بين الأنوثة والذكورة: مثله لا يجري وراء خنفساء! - المؤكد أن الذئاب هجموا عليه فضربوه ثم جردوه من كل شيء.
ولما رجع إلى الظهور في الحارة تبدى في صورة أخرى. رفل حافيا في جلباب قديم أهداه إليه مخلوف زينهم. لم يبق من آثار الحادث إلا ضمادة التفت حول رأسه كالعمامة، وبدلا من أن يذهب إلى حال سبيله، هام على وجهه في الحارة مثل كلب ضال، بنظرة خائفة مستطلعة تعكس من الداخل خواء وحيرة ولا تعرف لنفسها هدفا. ووقف أخيرا في مجال الرائحة الحريفة الدسمة البدائية المنتشرة من الطعمية في ابتهال ذليل. حامت حوله أعين كثيرة لرجال ونساء، سرعان ما هجرته في لا مبالاة، إلا عينين سوداوين ثبتتا عليه في إصرار وتماد. ولمست عذابه، فأمرت حلومة الجحش بأن يهدي إليه رغيفا وطعمية على حسابها. ورغم إشرافها على شحن ثلاث عربات بالخردة، ومراقبة عبدون فرج الله والمشترين، فقد تابعت التهامه للطعام بسرور وحشي، يكاد الشعر النابت في عارضيه ولغده أن يلتهم وسامة وجهه كما يلتهم هو الطعام. ترى لم لم يذهب إلى حال سبيله؟ وماذا يبقيه في هذه الحال الزرية البائسة؟ وبدافع من شعور فطري بالامتنان، تربع على الأرض غير بعيد من موقفها مسندا ظهره إلى جدار الوكالة الذي لاح له كمخزن لنفايات الحديد، وسألته باهتمام: اسمك يا جدع؟
فرفع إليها عينيه العسليتين في حيرة واضحة، ولم ينبس. فتساءلت كالمحتجة: أهو سر لا يذاع؟!
فتحولت الحيرة إلى صورة ناطقة للعجز، فقال لها رياض الدبش الكواء: الصبر، ألا ترين أنه لم يشف بعد مما به؟ - لحد نسيان اسمه؟ - ما زال غير موجود.
فرجعت إلى الشاب قائلة: اسمك؟ ... تذكر وأجب، من أنت؟ من أين جئت؟
فانقلب العجز عذابا، وتوجس خيفة. فقالت بحدة: قل أي شيء.
فغمغم مقهورا: لا أدري.
فرددت عينيها بين رياض وحلومة، قائلة: إنه يهزأ بنا.
فقال عبدون فرج الله وهو لا يكف عن العمل: دعيني أطرده بعيدا!
فصاحت به: طردت العافية من بدنك!
ونادت مخلوف زينهم، فلما حضر الكهل سألته عن الشاب، فقال: إنه بلا ذاكرة!
فقالت بضيق: لم أسمع عن هذا المرض من قبل، هل يطول غيابه؟
فقال الكهل بعطف: لا أحد يدري، من ناحيتي فإني أسعى لدى الطيبين للتبرع بما يكفي لنشر صورة له في الجرائد كي يهتدي أهله إليه.
فقالت المرأة بغلظة: كف عن ذلك، ودع الأمر لي!
فرمقها الكهل بيأس، ثم قال: لك الجزاء الحسن عند الله.
ومضى نحو العيادة.
وأفسحت المرأة للشاب مجالا للعمل في الوكالة، معلنة بذلك اهتمامها به، فأقلع الجميع عن التفكير فيه إيثارا للسلامة، وراح يؤدي ما يطلب منه نظير طعامه وكسائه. وتجاهله عبدون فرج الله طاويا حقده في قلبه خوفا من المعلمة، ولكن الحقد عليه تفشى في قلوب كثيرة، في مقدمتها قلبا رياض الدبش وحلومة الجحش. توقع كلاهما دهرا أن عبدون فرج الله هو المرشح للنعيم، حتى زحف الفتى المجهول من القبو كالقدر، وتجلى رونق وجهه بعد الحلاقة، وشعر رأسه الممشط بعد إزالة الضمادة، كما ارتسمت رشاقة قامته في البنطلون القصير الكاكي والقميص الرمادي نصف الكم والحذاء الأسود الموكاسان. أما هويته المفقودة فلم تسترد، ومضت هوية جديدة بدائية تستكشف الوجود من حوله بدهشة ثابتة، مستهترة بالتقاليد والحياء والنفاق، لائذة بغرائزها المتحفزة. وتمنى له الحاقدون الشفاء لعله يختفي فجأة كما ظهر فجأة. أما نعمة الله الفنجري، المرأة الرائعة المخيفة، فكانت تحلم بمسيرة أخرى. سرتها نظراته النهمة البهيمية، ولغته الصامتة المكشوفة معا، وحومانه الحار الجنوني حولها بلا حياء، حتى قالت لنفسها: «لا بد من تهذيبه». قوتها الراسخة نفسها اهتزت حيال هوج انفعالاته الجامحة، فخافت أن يصيبها سوء مجهول بين يديه المندفعتين بعنف البراءة العمياء، وقالت لنفسها أيضا: «إني أخيف الرجال، ولكن لا أدري كيف أتعامل مع الزوابع.» بدا غريزة مجسدة تهيم في غابة من نفايات الحديد. وسمعت عبدون فرج الله يدعوه بالمجنون، فنهرته قائلة بنبرة آمرة: إنه يدعى «عبد الله»!
فتساءل عبدون: ألا ترين أنه لا يعرف دينا ولا ربا؟!
فشكمته بضربة في صدره أوشكت أن تطرحه أرضا، وسرعان ما عرف بعبد الله، ولكنها قلقت من حريته المطلقة المنذرة دائما بعواقب مجهولة. إنه لا يتورع عن مد يده إلى أي موضع خصب من جسمها، فترجعه جادة حذرة، رغم ظهورها بمظهر الرجال في الوكالة طيلة النهار، فكيف لو لمحها في منظرها الأنثوي الطاغي في مسكنها الناعم الخيالي فوق الوكالة؟! وخطر لها خاطر حكيم ادخرته لزيارة الشيخ «جابر عبد المعين»، إمام الزاوية الذي يتلقى منها المعونة له وللزاوية في أيام محددة. إنها تغطي طغيانها المخيف بنفحات كرم تسكت بها ذوي الألسنة القادرة، وتمارس في الدين طقوسا وثنية، فلا تأبى - رغم جبروتها - أن تؤنس وحدتها الداخلية بالأحجبة والتعاويذ. جالست الشيخ على أريكة قائمة في الجانب الأيمن من الوكالة بين تلين من قطع الحديد، وتراءى عبد الله وهو يعاون عبدون فرج الله في شحن عربة بالإطارات الملساء، ولمحت المرأة الشيخ وهو ينظر نحوه، فقالت: أعطيته عملا ورزقا.
فقال الشيخ وهو في أعماقه يخافها ولا يحبها: الله لا يضيع أجر من أحسن عملا. - ولكنه نسي الدين فيما نسي. - أعوذ بالله!
فقالت بإغراء: هذه هي مهمتك يا شيخ جابر. - يا لها من مهمة شاقة! - لا تكن طماعا. وحظك محفوظ، المهم أن تعلمه كيف يخاف، يكفي هذا.
أدرك لتوه أنها تريده على أن «يعده» لها. لعنها في سره واستغفر ربه، وقال لنفسه إنه ليس من حقه أن يسيء بها الظن استنباطا من نية لا يعلمها إلا الله، وإن مهمته في ذاتها خير يستحق عليه المثوبة. ودهش كثيرون عندما رأوا الفتى يساق كل عصر إلى الزاوية لتلقي دروس في الدين. وقال السذج إنها امرأة شريرة طاغية ما في ذلك شك، ولكنها لا تخلو من جانب خير. أما أمثال رياض الدبش وحلومة الجحش فقد فطنوا إلى اللعبة، وتساءل حلومة بحرقة: متى أراها فريسة للزمن؟!
كثيرون يعيشون بجراح دفينة حفرتها في قلوبهم أظافر المرأة. حظي من حظي منهم بالعشق حين جادت به، وتجرعوا الهجر حين هجرت. وعند ظهور فتى جديد يختال في أبهة النصر يتعزون عن الأسى بتربص النهاية المحتومة. إنها دائما تتربص هناك، لا دافع لها ولا مهرب منها. ولكن متى تخمد نيران تلك الشهوة المتأججة؟! وراحت تكافئ الشيخ جابر على دروسه بكرم، ثم تراقب الفتى وتنتظر ... ودخل في مقام من مقامات الحيرة، وتجلى التساؤل في عينيه، ولم تشأ أن تسأله حتى يبادرها بالسؤال، وقد سألها : أهو صادق فيما يقول؟ أعني الشيخ جابر عبد المعين؟
فقالت بحرارة: الصدق أعز ما يملك في هذه الحياة.
فاشتدت حيرته، ومضى يعرف الحياء، ويداري انفعالاته، ويأسف بعد ارتكاب الخطأ. وحثت هي الشيخ على أن يعفي الفتى من التعمق أو يكلفه بما لا يطيق. إنها تكره العارفين الذين يستشهدون عند كل موقف بما يناسبه من الآيات. إنها ترغب في امتلاك الشاب وتخاف تمرده، وعلمتها حياتها أن القليل من الدين مفيد أما الكثير منه فينذر بالخطورة والغم. وهي مرتاحة إلى نمو رغبته فيها وعذابه الدفين بالتردد والحياء والخوف بعد أن وسع قلبه الرغبة والعبادة في آن. وتمتم أمام شيخه: الله والجنة والنار.
فقال له الشيخ جابر: تدبر ذلك بعقل ناضج تجاوز الطفولة والصبا.
فتساءل في حيرة: والرغبات الجامحة من خلقها؟
فقال الرجل بضيق خفي: هذا هو امتحان الإنسان.
وعلم فيما علم بما ضاع من ماضيه. أي فرد يجهل مستقبله، أما أنا فأجهل ماضي ومستقبلي معا. ماض ليس بالقصير، وحفل ولا شك بأشياء وأشياء. ولم يفطن إلى جو الحقد الذي يلفحه إلا قليلا، فعدا عبدون فرج الله لم يشعر بعداوة مجسدة، ولم يفطن كذلك إلى أن نعمة الله ترصد اللحظة المناسبة لانتزاعه نهائيا من يدي الشيخ عبد المعين. ولكن قلبا واحدا ظل يخفق بالعطف عليه، هو قلب الممرض مخلوف زينهم. تسلل مساء إلى الزاوية، فصلى المغرب، ثم انتحى بالشاب ناحية عقب انتهاء الدرس. لمس التجهم المشوب بالقلق يغشى وجه الشيخ جابر، فغضب وقال له: اخش ربك وحده!
فتساءل الشيخ بحدة: وأنت ألا تخشى المرأة أيضا؟ - يمكن أن تستمد من العمامة قوة، وليس لي ذلك.
فقال الشيخ: لولا المرأة ما كانت الزاوية!
فقال له بأسى: إنك تعلم أنها ترعاها من أجل الشيطان.
وأقبل على الفتى معرضا عن الشيخ، وقال: سوف تسترد ماضيك يوما ما، مظهرك يدل على أنك منحدر من أصل طيب، ولعلك كنت ماضيا في مهمة نافعة، لست من حينا، فماذا جاء بك إليه؟ والعمل المتاح لك اليوم لا يناسبك، فماذا كان عملك ؟
فتمتم عبد الله: لا حيلة لي الآن. - هذا واضح، المهم ألا تتورط في مأزق يتعذر الخروج منه إذا انقشعت الظلمات. - نعمة الله هيأت لي عملا ومأوى. - هي في الحقيقة نقمة لا نعمة! - لولاها ...
فقاطعه: إنها صاحبة خطة قديمة متجددة، سوف تهبك نفسها، فتظن نفسك سيد العالمين.
فتورد وجه الفتى وخانه السرور فأضاء به وجهه، فقال الرجل بحزن: لست الأول، ولن تكون الأخير، وسوف تلفظك حتما وبلا رحمة، فتتلاشى ساعات السعادة الزائفة في حمأة الهجر الدائم، وتنضم إلى ركب التعساء الكثيرين.
قلقت في عينيه العسليتين نظرة حائرة، ولكن موجة الفرحة القريبة الراقصة اكتسحت نذر المصير المخيف المجهول، فقال الرجل وهو يصارع الهزيمة: إنها قوية بلا حدود، حتى ذئاب القبو الذين اعتدوا عليك يخضعون لها، وعند الضرورة تزهق روح من يعاندها، هي السحر وكفى.
فتساءل الشاب احتراما لعطف الرجل: ماذا تريد مني؟ - أن تهجر الحارة في الحال. - إلى أين؟ - ستجد لك رزقا في مكان ما حتى تستعيد ذاتك.
صمت دون حماس، فتساءل الرجل بقلق: أوقعت في قبضة قدرك؟
فأجابه بصمت ناطق واستخفته الفتنة، وشعر مخلوف زينهم أنه يجري بعيدا عنه، وأنه ينطلق نحو تجربته المهلكة بحماس دافق. تنهد الرجل، قام وهو يتبادل مع الشيخ نظرة حنق، ثم مضى وهو يقول للشاب: الله معك!
وهل الصيف بشخصيته الواضحة المتحدية، وتحت شمسه المحرقة سرى العنف في الحناجر واحتدم الخصام لأتفه الأسباب. واتهم عبدون فرج الله الفتى بسرقة قروش افتقدها، فانقض عليه يصارعه، لولا ظهور نعمة الله في اللحظة المناسبة وإنذارها عبدون بالطرد إذا عاود العدوان. وقررت المرأة كف الفتى عن دروسه الدينية اكتفاء بما حصل من قشور، فكثر الفراغ في حياته، كما كثرت الهموم، بات يخاف الله، ويخاف عبدون، ويخاف تحذيرات عم مخلوف زينهم، ويتساءل عن ماضيه الطيب والمهمة التي جاءت به إلى هذه الحارة العصبية، ويتساءل متى يبدأ العشق قصته، وماذا يمكن أن يقال عن المصير المحتوم، وألا يكون خسرانه أكبر إن تجنب التجربة المغرية ليتفادى من المصير المحزن؟! خاض فترة قلق، وتطلع إلى معلمته بنفاد صبر، وجزع لانهماكها في العمل وما يبدو من تجاهلها لحاله. غير أنها كانت قريبة منه أكثر مما يتصور، ومتغلغلة في تلافيف ذاته بقوة امرأة آسرة وأسيرة في آن. إنها رغم قوتها المعترف بها، وقدرتها الإدارية، وسطوتها الأسطورية، فريسة لخيالها المنطلق وعواطفها الجامحة. إنها تعشق حتى الموت، وعشقها داء لا دواء له، وعندما يرشح لها قلبها فتى من الفتيان فتهيم به وتجن، ولكن الخبرة ترسم لها وسيلة ظاهرها القوة واللامبالاة. توكد لديها أنها تعاني حال عشق جنوني لا نزوة طارئة فتأهبت للتجربة. لاذت بخلوتها الصغيرة بمسكنها الوثير المفروشة أركانه بالشلت الدسمة المكسوة بالأغطية الخضراء، يتوسطها وعاء نحاسي مجوف مليء نصفه بالبخور ونصفه الآخر بقصاصات منقوشة بالتعاويذ والأدعية والنداءات الخفية. ذرت قبضة من البخور في مجمرة ثم لهجت بابتهالات تستحضر بها ساحرها القديم الذي غادر الدنيا على عهد شبابها الأول. وشملت الظلمة المكان إلا لآلئ تتألق في الجمرات، وانتشرت رائحة البخور العميقة مفعمة بالابتهال والنداء. وحل بالظلمة وجود جديد، ثمرة للرغبة الحارة المستميتة، كحضور ذي وزن ملأ فراغ الخلوة بثقله غير المرئي، وسرعان ما انقشعت الوحدة وتلاشى الألم. تشجعت وهمست دون أن تجفف عرقها: أهلا بك يا «برجوان»!
فنفذ إلى أعماقها صوته المغلف بالموت: القبو يطيعك، الرجال يخافونك، شبابك حي.
فهمست بإشفاق: حل بي الجنون من جديد. - صاحبك أيضا مجنون. - قد يرجع إلى ذاته قبل أن أبرأ من عشقه! - إذا رجع نسي الماضي ولا حيلة في ذلك.
فقالت بتوسل: سحرك قادر على كل شيء.
فقال بضجر: أولى بك أن تحذري مخلوف زينهم.
فهمست بقلق: أعلم نواياه، ولكني أخاف أن أؤدبه بنفسي فأرعب الفتى.
فتنهد الظلام في استجابة، وتلاشى الحضور في الحال، فعادت إلى وحدتها، ولكن بقلب مترع بالثقة. وأقعد المرض الممرض مخلوف زينهم عن عمله في عيادة الطبيب محسن زيان. وعرف في الحارة أنه أصيب بروماتزم مفصلي شديد، غير أن الشيخ جابر عبد المعين قال لزوجته: إنه من عمل نعمة الله!
فقالت المرأة مذعورة: ليتك لم تش به.
فغضب الشيخ ولطمها على وجهها لطمة شديدة.
وأراد عبد الله أن يعود الرجل الذي كان أول من كساه بعد عري، ولكن نعمة الله قالت له: لا أحب هذا.
ثم خففت من وقع أمرها، فقالت له: مسكني في حاجة إلى الخدمة، وقد اخترتك لذلك.
ونسي صاحبه وتساءل في سرور طاغ: «ترى هل انتهى العذاب؟!» وثمة باب في الوكالة يفتح على سلم للمسكن تسلل منه ليلا. استقبلته رائحة البخور وضوء مصباح كهربائي مثبت من أعلى الجدار. صعد في الدرج ووجدانه يسبقه يطمس بمحياه معالم المكان. في نهاية دهليز رأى بابا مواربا يشع منه نور، مضى إليه وتنحنح، جاءه صوتها الليلي الرخيم داعيا فدخل. لم ير من الحجرة سواها وهي مستوية على كنبة، مسندها مطعم بالصدف في جلباب حريري أبيض يخفي قسمات الجسد، ولكنه ينبئ عن عملقته بطريقة انسيابية تثير الخيال، وليس في الوجه المتسلطن أثر من زواق، ولكنه ينضح بأنوثة فوارة بعد أن خلعت قناع الذكورة الصارم الذي تتعامل به في الوكالة والحارة. والشعر الأسود ذو لون طبيعي لا يشي بأي تكلف كيماوي، دافئ بشباب راسخ. تركته واقفا في جلبابه الفضفاض، لم تخفف من ارتباكه بكلمة، كأنما لتمتحن أثرها فيه، ولترى لأي تكون الغلبة: الخوف أم الرغبة؟ ومن شدة حرجه انتزع عينيه منها ليلقي نظرة عما حوله، ولكنه لم ير سوى النظافة وكأنها تقوم بذاتها، وتنفس رائحة طيبة. قال: لعله وقت مناسب لتنظيف المسكن، ولكنه ليس في حاجة إلى تنظيف.
فصبت من إبريق مفضض في قدحين فوق خوان مطعم بالأصداف سائلا فاحت منه رائحة القرفة الممزوجة بالزنجبيل، وعادت تنظر نحوه. وبسريان الخمر غير المنظورة في دمه التصق بصره بها في جرأة السكران. وتمادى في انفعاله حتى اكتسح العواقب، واستسلم لتيار قوي دفع به نحوها كالقذيفة، وكالقذيفة راح يتنقل بين أبعادها وهي تتلقفه بحنان حار، ورضى آسر، واستجابة مستكينة وحماسية معا. وما لبث أن توج فوق عرش النشوة والسيادة، وامتلأ واقعه بعذوبة الأحلام. وتمنى لو استمر ذلك دون توقف، لو كان الحب ذا سياسة أخرى، لو أن السعادة لا يجرفها تيار الذكريات، لكنه وجد نفسه راقدا في حضن الفتور الجليل، يرى الأشياء لأول مرة. إنها حجرة أنيقة حقا؛ متوسطة الحجم، مزينة الجدران بسجاد صغير وبسملة مذهبة، تتوسط أضلعها كنبات وثيرة ذوات أغطية مختلفة الألوان ومساند مطعمة بالأصداف مموهة بالأمثال، مغطاة أرضها بسجادة حمراء في وسطها مجمرة كبيرة تحت مصباح كهربائي في قنديل. وسرعان ما انتقل من الفتور إلى القلق، حتى قالت له: نظرة عينيك لا تعترف بجميل.
فلثم خدها، وهو يقول ببراءة: أخاف النار!
فابتسمت قائلة بحنان: عندما تهب المرأة نفسها، فالعلاقة شرعية مباركة!
فمال إلى تصديقها بكل قواه، ورآها جديرة بالانقياد، أما هي فواصلت: منذ الساعة فأنت شريكي في البيت ووكيلي في الوكالة!
وتبدى في صورة جديدة، صورة المعلم الشاب بجلبابه الأبيض ولاثته المزركشة، وزهوه المتورد. وعمل عبدون فرج الله في ظله، مكرها على طاعة مرة كالسم، منطويا عن مقت وحسد كالنار. وشاركه في عواطفه الدفينة رياض الدبش الكواء وحلومة الجحش الفوال وآخرون. ولكن عبد الله تجاهل في نشواته العواطف الدفينة، وأقبلت السعادة كالشمس تنتشر أشعتها في جميع الأرجاء، فجذبت مسمعيه ضحكات السكارى والمساطيل، وأطربتها أنغام المزامير الراقصة وأغاني الراديو، وتصام عما عدا ذلك، حتى آمن بأن مهجره الجديد ما هو إلا موطن للسرور والرحمة، فشكر الحظ الذي ساقه من المجهول إلى القبو، واستخلصه من ماض لا يجوز أن يأسف عليه. وانغمس في الحب في الليالي المذابة في أقداح القرفة والزنجبيل الحاوية لنفثات السحر، الداعية لعوالم الخيال والذهول. وتكشفت نعمة الله عن معجزة لا نهاية لإبداعها وفنونها وأنغامها، ولا نهاية لقدرتها الخارقة في إشعال الحيوية وتفجير الطاقة، وخلق المسرات، وإشباع الكرامة، وإرضاء الغرور. انغمس في الحب حتى قمة رأسه، وتعلق بها حتى الجنون، وألهمته سعادته الإحساس بالدوام والخلود، فاقتنع بكل قواه بصدقها وإخلاصها ووفائها، وتطايرت أصداء ما قيل له عنها، فأنسيه وكأنه لم يكن. ونسي تماما القلق والتساؤل والحيرة والإساءات العابرة، فبدت جميعها كالأشباح الوهمية التي تفنى في ضوء الشمس الساطع. وقالت له ليلة في دعابة: أراك لا تتكلم إلا نادرا.
فتحير قليلا ثم قال: السعيد لا يجد ما يقوله إلا نادرا.
فابتسمت قائلة: كتب علينا ألا نسمع إلا ما يسوء!
فقال ضاحكا: إني أثرثر، ولكن بغير لسان! - ألا توجد في قلبك رغبة؟
فقال بحماس: أن يدوم الحال.
فقالت بنبرة صدق: هو ما أوده أيضا. - إذن فلن يهدد دوامه شيء.
وصمتت قليلا، وهي تتفحصه ثم سألته: ألم يعد يهمك أن تعرف المجهول من حياتك؟
فهتف ضاحكا: أبدا، الحق أني أخشاه على حاضري. - وأنا أيضا مثلك.
وبعفوية تبادلا قبلة، ثم قال: ألا توجد وسيلة لحماية حبنا إذا انكشف المجهول؟ - هذا ما لا أدريه.
فتساءل بحرارة: ألا ترينه أقوى من أن يؤثر فيه شيء؟
فقالت بحماس: هو كذلك.
فاستوى حصنا منيعا من اليقين والطمأنينة خليقا بأن يصمد لأجن العواطف والترهات. وثمل بسعادته فلم ينتبه لجريان الزمن. في تلك الغفلة العذبة تلاحقت أيام الصيف لاهثة وتسلل الخريف بخطاه الخفيفة، ينفث في الجو أنفاسه الرقيقة ويخضب السماء بفرشاته البيضاء ويغزو القلوب بأنغامه الشجية. ومضت نيران العواطف المتأججة تخبو قليلا قليلا، ويحل محلها حب هادئ، موسوم بالاعتدال، متحرر من جنون الإفراط، مالك لوقت ينفقه في التعامل مع سائر أركان الحياة. وزحف ذلك التطور على الطرفين معا، الفتى والمرأة، فخلطا أحاديث الهيام بهموم الوكالة والحارة، واستأثر الجد بالحوار حينا فخلا من أية مداعبة، فانبثق التلاقي الحميم ثمرة للرغبة مرة، وثمرة للعادة أو دفعا للشكوك مرات، حتى تساءل عبد الله ما هذا الذي يحدث؟! بدا كل شيء بالقياس إليه - بخلاف المرأة - كأنما يحدث هكذا لأول مرة في تاريخ البشر. واسترق النظرات إلى المرأة الهادئة فساورته الشكوك، وازدحم أفقه بالفكر، ولمح يوما عم مخلوف زينهم وهو ماض نحو العيادة، فاستعاد تاريخه معه في لحظة. أدرك بكل سرور أن الرجل برئ من مرضه، فاندفع نحوه بتلقائية، ولكن الكهل صدمه بنظرة باردة رافضة وابتعد عنه في تجاهل تام، توقف متعثرا في ارتباكه، متذكرا ذنبه في إهماله حين مرضه، وتراجع إلى موقفه وهو يتلقى من أعين كثيرة نظرات لاذعة، شعر بأنه خسر صديقه الوحيد في الحارة. وانتبهت حواسه لما حوله من جديد، فقرأ الحسد والشماتة في أعين عبدون ورياض وحلومة. الجو مشحون بالكراهية والحسد. وتذكر تحذيرات زينهم فأوشك أن يفقد الثقة، وبدافع من تحد راح يقطع الحارة ذهابا وإيابا، ويختلف إلى المقهى بعض الوقت. وتتلقى أذناه كلمة من هنا وكلمة من هنا، لم يتصور أن تكون امرأته الشغل الشاغل للناس بهذه القوة. هل عشقتهم ونبذتهم جميعا؟! إنهم يخافونها بقدر ما يمقتونها وكأنما لا حيلة لهم قبالتها، وهي في نظرهم قوية، بل أقوى من جملة رجال أشداء، ولكن لا أهمية لقوتها إذا قيست بتمرسها بالسحر وتعاملها مع العفاريت، أو بتسلطها على ذئاب القبو الذين لا يتورعون عن القتل خدمة لها. ولا يكاد ينخدع أحد برعايتها للزاوية وشيخها أو برها ببعض الفقراء، ويرون في ذلك ستارا كاذبا تسدله على آثامها ورغبتها الشرهة في التحكم في الناس والأرزاق. وإذن فجميع مظاهر السرور في الحارة ما هي إلا قشور، أما الحقيقة فهي أنها تعيش في جو يموج بالخوف والحقد، تهدده في كل حين الذئاب والعفاريت، وتنحسر في الوقت ذاته عن ساعات لذة عابرة جادت بها المرأة المحترفة في غفلة من الزمن. أهذه هي نعمة الله حقا أم أنه خيال يشعله الحسد والحقد؟! ألم يجد حبها صادقا وعطفها شاملا وإخلاصها راسخا؟! وحتى الهدوء الذي آل إليه ألم يقع له نفس الشيء؟! هل يمكن أن يتهم هو بسبب من الاعتدال بعد الجنون بفتور الحب أو انقلاب العاطفة؟! ولكن من ناحية أخرى لم يتقرر له مصير غير مصير الآخرين؟! لم ينجو من الكأس التي تجرعها الجميع حتى الثمالة؟! وتلتقي عيناه بعينيها وهي منهمكة في العمل، فتبتسم إليه ابتسامة حلوة تمحق وساوسه فيشرق الأمل بنفسه من جديد. وتشجع في ليل ذلك اليوم الخريفي، وقال لها وهما يرشفان من قدحي القرفة والزنجبيل ويهيمان في ملكوت الأوهام الحانية: أتدرين ما يقال عنك في الحارة يا نعمة الله؟
فداعبت وجنتيه بأناملها، وقالت: لست غافلة عن شيء يهمني أبدا.
فقال بامتعاض: ما أظلمهم يا نعمة الله!
فتساءلت في دعابة: أتراني ملاكا؟ - إنك عظيمة وطيبة.
فقالت بهدوء: ولكي أكون عظيمة وطيبة يجب أن أكون أحيانا حازمة وقاسية.
فتساءل، وهو يكتم وساوسه: لك تاريخ عجيب ولا شك؟ - طبعا، إني سليلة فتوات، كما كان أول زوج لي فتوة ... فنشأت قوية، ولكني كنت يوما وما زلت ذكية، فسلمت بانتهاء عصر الفتونة، غير أنه لا غنى عن القوة والذكاء. - أحقا تسيطرين على الذئاب؟ - نعم، إن لم أسيطر عليهم سيطر عليهم الآخرون، وحلت الفوضى.
فسأل بعد تردد: وهل تجيدين السحر أيضا؟
ففكرت قليلا، ثم قالت: هذا هو الاسم الذي يطلقه العجزة على الذكاء.
فقال بقلق: التعامل مع العفاريت أمر مخيف.
فتساءلت ساخرة: هل عثرت على عفريت في هذا البيت الجميل؟!
فتنفس بارتياح، وتساءل: لم لا تعيشين مثل الناس العاديين؟
فقالت بكبرياء: لأنني لست عادية!
وساد الصمت حتى تجلت للسمع أصوات رقيقة للخريف في الخارج، وجعلت تلحظه باهتمام، فلما لاذ بالصمت قالت مستلهمة نظراتها النافذة في الأعماق: قل ما عندك، ما زال عندك ما يقال.
فضحك ضحكة قصيرة، وتساءل: أحقا تزوجت من كثيرين؟
فقالت باستهانة: نعم. - وهجرتهم أو أجبرتهم على الهجران؟! - نعم.
فتساءل وقلبه يخفق: ولكن لماذا؟
فقالت ببرود: لم أجد بينهم صالحا.
وراقبت وجومه قليلا، ثم همست في أذنه: أنت أول من أجد!
فرنا إليها غير مصدق، فقرأ الصدق في عينيها الجميلتين المتسلطتين، وهمس في أذنها: لا حياة لي بدونك يا نعمة الله. - ولا حياة لي بدونك.
فقال بحماس وحرارة: أخاف عليك حقدهم المنتشر.
فقالت ساخرة: لا خوف من حقد مصدره العجز. - كراهيتهم لي أيضا تلفحني في كل خطوة.
فقالت بوضوح: احذر أن تظهر خوفا أو قلقا.
مضى يسترد الثقة والسكينة بين يديها، ولكن تبدد أمنه في الوكالة والحارة. استعاد حديثها كثيرا فلم يعرف الاستقرار قلبه، امرأة تثير عواطف شتى متناقضة، تلهم الحب والطمأنينة والخوف والشك، يراها في الوكالة شخصا آخر ... يرى رجلا قويا ومثالا للحزم والعنف أيضا. لا تقارب بينه وبين الأنثى التي تبهر الليالي في المسكن الناعم، وخطر له أن يسأل نفسه: «ترى هل وجد مثل هذه الحيرة في حياته المجهولة؟!» وكان يتذكر حياته الأخرى لأول مرة منذ أمد غير قصير، أكان أسعد حالا أم أتعس؟! أكان أرفع منزلة أم أدنى؟! أكان يحترق بغضب الآخرين أم نعم بسلام دائم؟! من أي جهة جاء؟ وأي جهة قصد؟! لكنه عبر ذلك بسرعة، وكاد ينسى كل شيء، لولا أن سألته في مجلس الليل: فيم تفكر يا عبد الله؟!
فأجاب بسرعة: لا شيء. - كنت في النهار كالمسافر.
وذابت إرادته تحت نظرة عينيها فاعترف لها بتساؤلاته. فنظرت إلى السقف المنقوش بزخارف متداخلة لا يعرف لها أول ولا آخر، وقالت: إنها أول إهانة أتلقاها منك.
فهتف بجزع: خواطر فارغة، ولكن لي عذر. - لا عذر لك. - تقبلي أسفي!
فتساءلت في عتاب: ماذا تريد أكثر مما أعطيتك؟ - لا شيء. - ولكنك تحوم حول تساؤلات عقيمة، وهذا هو الحمق. - نطقت بالحق. - لا تكن منافقا كالآخرين. - بل نطقت بالحق، وما أطمح إلا إلى دوام ما أنا فيه.
فقالت بحدة: ستعرف مجهول حياتك ذات يوم، وسوف تندم.
شعر بأنها امرأة محبة وغيور، ونعم ليلتها بسعادة صافية، وعندما ساد الظلام خطر بباله سؤال: «ترى ... هل الندم هو الجزاء الأوحد لمعرفة المجهول من حياته؟!» ولكنه رغم الظلام، وهبوط النوم، خاف أن تفضحه نظرتها النافذة، وانغمس في حياته بإصرار، وركز على سماع الأغاني والنكات، وتجنب ما استطاع نثار شواظ الغضب الهادر، وتمنى أن تمضي حياته هكذا أبدا. على أن الحياة مضت في طريقها على أي حال، وانتهى الخريف كما انتهى الصيف من قبل، وإن لم ينته في غفلة كاملة، ولا بنفس السرعة. ولكن الليل طال، وتلفعت بواكير الصباح بالظلمة، وزفرت الأبدان قشعريرة، وتأخر شروق الشمس حتى انقشاع الغمام، وجادت السماء بمطرة واحدة. وغير ملابسه الداخلية والخارجية، وتواصل التغيير فشمل أشياء كثيرة، تسلل التغيير في خطوات غير مسموعة، ولولا حساسيته ومخاوفه الدفينة لأفلت منه تماما، وزاد من قلقه أن التغيير ينبثق منه، من أعماقه، ففتر حماسه لمجلس الليل الذي لا يعد بجديد، وغدا الاستسلام للنوم ألذ من السهر، وتمنى لو كان له أصحاب يسامرهم في المقهى حتى منتصف الليل. وانطفأت بروق كثيرة تحت عباءة العادة الثقيلة، فاستيقظ الفكر وخبت شعلة العواطف والغرائز، وخاف أن يقف كالمتهم بين يديها، أن يتلقى من عينيها السوداوين نظرة ساخرة، ولكنه وجدها تسايره بارتياح وعفوية، وتشغل عن اللهو والزينة بالتفكير في العمل أو باستقبال بعض العملاء ثم يأويان إلى النوم آخر الليل مثقلين بالتعب، توقع منها مطاردة محرجة، فوجدها تغوص في العقل والهدوء واللامبالاة. وفجر ذلك قلقه ولم يطمئنه، ورأى فيه نذير شر، وصمم على افتعال العاطفة وبعث الرغبة المرهقة مهما كلفه ذلك من جهد جنوني، ولم يحظ ذلك من الطرف الآخر بعطف، فأعرضت عنه مرات في استياء لم تحاول إخفاءه، حتى قالت له مرة: دع الأمور تجري على سجيتها.
عند ذلك أضناه الحياء والألم، وندم على ما فرط منه من اندفاع جنوني أحمق، كأنما كانت كل ليلة هي ليلة الوداع. وبات ذلك الفتور شغله الشاغل، فنسي كل مأساة إلا مأساة الحب، هل يفقد هذه القوة العجيبة كما فقد الذاكرة؟ وهل يجري عليه ما جرى على أزواج نعمة الله السابقين؟! وجعل يقوم بعمله في الوكالة بعقل غائب ووجه نضب فيه معين السرور والمرح، ولحظ أن عبدون فرج الله يتابعه بشماتة، وأن نظرات رياض الدبش وحلومة الجحش تبرق بأضواء فرح شرير. ما أكثر الذين ينتظرون على لهف نهايته، ولكنه سيخيب الظنون ويبدع في مجرى الحوادث ما لم يبدعه أحد ممن سبقه، سيظل الفتى المرموق في هذه الحارة التي يحترف أهلها الشكوى والعويل وتردد أغانيها أنات الهجر والحرمان، وشعر بحاجته إلى صديق يشاوره، ولكن لا صديق، فمن يشاور؟! وخطر له الطبيب محسن زيان ... فذهب إلى العيادة فكان أول زائر في الصباح، قابله مخلوف زينهم كغريب، فقال له عبد الله: السماح من شيم الكرام يا عم مخلوف.
فقال له الكهل باستياء: إني أعلم متى ينسى أمثالك ومتى يندمون.
وغادره إلى حجرة الطبيب ثم عاد ليدعوه للدخول في جفاء ... نظر إليه الطبيب متفحصا ملابسه البلدية الصوفية الفاخرة وابتسم، ثم سأله: جئت من أجل ذاكرتك؟
فأجابه بصوت مهموس عما جاء من أجله، وطرح الرجل عليه أسئلة بخصوص عمره وعمله والأسلوب الذي اتبعه في حياته «الزوجية»، ثم قال له: إنه الإفراط البعيد عن العقل ... والقلق النفسي ... تلزمك راحة جسدية ونفسية.
فهمس عبد الله: والدواء؟
هز رأسه نفيا، وقال: سيضرك أكثر مما يفيدك.
رجع إلى الوكالة مغتما، وهو يلعن الطبيب. وازدادت حاله سوءا، فحصر في ركن مظلم وغمغم لنفسه: «كأنه مصير لا مفر منه». وإذا بعبدون فرج الله يسأله: سلامتك، لماذا ذهبت إلى العيادة؟
فقال له بحنق: انتبه لعملك، متى كانت صحتي تهمك؟!
فقال الشاب متظاهرا بالجدية: سمعت الشيخ كافور يقول يوما: «لا يملك إنسان ما يستحق أن يحسد عليه حقا ...»
فصاح به: أنت كاذب، ولم يخل قلبك من الحسد ساعة واحدة.
وخيل إليه أن حكاية الاستشارة الطبية تلوكها ألسنة لا حصر لها، فازداد انحصارا في الغم واليأس، وغمغم لنفسه مرة أخرى: «كأنه مصير لا مفر منه». وفي هذه الدوامة المظلمة المنذرة بسوء المصير انساق بقوة إلى التفكير في المجهول من حياته، فقد يجد فيه المأوى إذا افتقد مأواه، وقد يجد فيه العزاء إذا عز العزاء. هذه الحياة المتاحة تتسرب من يديه كالماء، لم تعد حقيقة ثابتة، ولكنها حلم تحدق به يقظة الصباح القريب، وسوف يجد نفسه وحيدا منبوذا ضائعا إن لم يهتد إلى حقيقته الغائبة ... إنه صاحب حياة ماضية، تمثلت في أهل وعلاقات وأناس، تجسدت في حي من الأحياء القريبة أو البعيدة، وثمة عمل ارتزق منه، وربما زوجة وأبناء، وثمة هدف دعاه إلى المجيء إلى هذا الحي، وحدث ما دفع به إلى القبو حيث وقع له ما وقع ففقد كل شيء. ترى ما السبيل إلى الكشف عن تلك الحقائق الغارقة في الظلام؟! وقد سمع ما يقال عن نشر صور المفقودين في الصحف فلم لم يجد أحد في البحث عنه؟ وهل ينشر هو صورته باعتباره فاقد الذاكرة؟! تردد طويلا أمام هذه الفكرة لخطورة عواقبها ... أجل قد دار الحديث يوما في المقهى عن هارب تبحث عنه الدولة لتشنقه، كما سمع آخر يقرأ إعلانا لأسرة موجها لابن هارب تقول له: «يا فلان ... عد إلى أهلك، جميع طلباتك مجابة!» فإلى أي الفرعين ينتمي؟ وهل إذا نشر صورته انقضت عليه الشرطة أو تحققت أمنياته جميعا؟ ماذا يكمن وراء الباب المغلق؟! تراجع عن الفكرة وهو يزداد مرارة، وشعر - كما لم يشعر من قبل - بحاجته إلى الصديق، أو في الأقل المشير ... لم يفكر في نعمة الله التي مضت توغل في الغربة والبعد، حتى كاد ينكر المسكن تواجدهما معا تحت سقفه ... ومضى إلى العيادة، ولما رآه الطبيب محسن زيان تساءل باسما: من أجل الحب أيضا؟
فأجاب بضيق وهو يشير إلى رأسه: من أجل الذاكرة.
ففكر الرجل قليلا ثم قال: لو كنت تعيش في بيئتك القديمة بين أهلك لساعدك ذلك على الشفاء، ولوجدت في معلم ما أو شخص ما يوقظك من نومتك الطويلة، ولكنك مارست حياة تشجع على النسيان وتخاف اليقظة.
فسأله يائسا: والعمل؟ - لعل إصابتك عضوية، ولعلها أكثر مما قدرت، وفي هذه الحال يستحسن أن تستشير أخصائيا، وربما أحالك إلى طبيب نفسي.
فقال بضيق: إنه مشوار طويل. - ويحتاج إلى إرادتك في جميع الأحوال، وواضح أن صحتك ليست على ما يرام، وسأكتب لك بعض المقويات كخطوة أولى.
ولبث في العيادة حتى غادرها الطبيب للغداء، فوقف قبالة مخلوف زينهم قائلا: إني مصمم على نيل عفوك.
فقال الرجل ممتعضا: لا ثقة لي فيك ولا في غيرك. - لا أحد يستحق الثقة كما قلت، ولكن كثيرين يستحقون العطف. - أنكرتني والشمس تشرق ورجعت إلي وهي تؤذن بالغروب. - اغفر لي ذنبي ومد إلي يدك.
فهبطت حدته درجات، وهو يسأله: ماذا تريد؟
ذهبا معا إلى المقهى، فأرسلا الصبي لإحضار غداء من شوربة العدس ولحمة الرأس، وجعل يحكي له ما استجد في حياته من شقاء، وختم حكايته بنصيحة الطبيب محسن زيان، وكان يحدجه طيلة الوقت بنظرة كأنما تقول له: «أرأيت عاقبة إهمالك لنصيحتي»، ثم قال: نهاية ابني الشهيد معقولة أكثر من نهاية أمثالك، ولكن لا فائدة من الرأي والمشورة، الجميع مصممون على تكرار الأخطاء حتى ولو لم يداخلهم أدنى شك في النهاية يستوي في ذلك من فقد ذاكرته ومن لم يفقدها، والآن خبرني علام عولت؟!
فقال عبد الله بضيق: طريق الطب طويل وباهظ التكاليف. - وغير مجد في هذه الحال بالذات. - والعمل يا عم مخلوف؟ هل أزور الشيخ جابر عبد المعين إمام الزاوية؟!
فقال بغضب: لا هو إمام ولا الزاوية زاوية، إنه رجل جاهل عينته نعمة الله لخداع السذج، وهي التي شيدت الزاوية من مال حرام للخداع أيضا، إنها لعبة مكشوفة ولن تجد عنده رأيا ولا شفاء، عدا بعض السور الصغيرة التي كان يرتلها في المقابر كلما جاء موسم دون أن يفقه لها معنى.
فقال عبد الله بقلق: ولكني أخشى عاقبة الإعلان عن نفسي في الصحف. - معك حق، فقد تكون أخطر مما تصورنا، ولكن عندنا الشيخ كافور، فهو من رجال الله. - أهو يستعين بالسحر والعفاريت؟
فقال مخلوف زينهم بازدراء: إني أتحدث عن كافور لا عن نعمة الله الفنجري.
وكان كافور يقيم في بدروم البيت الذي يقيم فيه رياض الدبش الكواء البلدي، فبدا جو حجرته في لون الغروب أو الفجر، وعبق بشذا بخور طيب، وجلس الرجل في الصدر على أريكة قصيرة الأرجل على حين غطى سطح الحجرة بحصيرة مطموسة اللون، تربع مخلوف وعبد الله على الحصيرة أمام الأريكة بلا استئذان ولا تحية، وتفرس عبد الله في وجه الرجل فلم يميز ملمحا من ملامحه ولا حتى لون وجهه، وقال مخلوف: هذا ابن ضال من أبنائنا يدعى عبد الله.
فسأل صوت عميق هادئ رغم خفوته: ما اسم أمه؟ - لا يعرف أما ولا أبا.
فمد الشيخ يده، فهمس مخلوف في أذن عبد الله: ضع يدك في يده.
فصدع بالأمر وهو يتلقى قشعريرة هيبة أو خوف، وسرعان ما سرت من راحة الشيخ إليه برودة لطيفة أنعشته فتركز في أذنيه، ومضت دقائق نسي فيها كل شيء حتى ما جاء من أجله ، كأنما امتص الرجل وعيه كله، ثم تردد الصوت العميق الخافت، قائلا: ستعرف ما تسأل عنه في حينه بالتمام والكمال.
وسحب يده قائلا: اذهبا بسلام.
وغادرا المكان وعبد الله يراوح بين الأمل والخيبة، قال لصاحبه في الخارج: ظننت أنني سأسمع أكثر مما سمعت.
فقال مخلوف زينهم: كلامه بالقطارة، ثم إنك غير مؤهل لفهمه.
ولما رجع إلى الوكالة وجد نعمة الله تجالس شابا لم يره من قبل ... شاب في عز أبهة الشباب؛ جميل الوجه، رشيق القامة ... فهم من مجرى الحديث أن الشاب يقترح فتح فرع للخردة في الطرف الآخر من الحارة، وأنها تقترح عليه أن يكونا شريكين، ولفت انتباهه الحيوية التي تألقت في نظرات المرأة وهي ترنو إلى الشاب، مما ذكره بالماضي السعيد الذي ذهب ... وحانت منه التفاتة إلى عبدون فرج الله، فقرأ في عينيه الحادتين فرحة شماتة صارخة، فاشتعل قلبه بنار الغيرة. ومن موقفه الذليل مد بصره إلى رياض الدبش وحلومة الجحش، فطالع السخرية مجسدة فلم يشك في وساوسه، واقترحت عليه شياطينه حلا داميا، ولكن ضعفه المتصاعد أخجله، ولم يتبادلا في نهار العمل كلمة، ولما آويا إلى مسكنهما دعاها إلى المجلس، وأعد بنفسه القرفة والزنجبيل والمخدر ... توقع أن تتعلل بعذر ما، ولكنها استجابت له في برود، وفيما يشبه التحدي ... اضطرب لذلك أكثر مما سر، وزحف عليه خوف مجهول ... غاب عن الحاضر المتاح تماما، واكتشف أن ضعفه بات عجزا كاملا ... سحب نفسه إلى طرف كنبة واسترق إليها نظرة منكسرة، وتمتم: إنه الحزن ... وأنت السبب.
فقالت ببرود: إني بريئة والحزن بريء!
فقال بصوت متهدج: حديثك مع الشاب قتلني! - ما مر يوم إلا استقبلت فيه أشكالا وألوانا من الشباب!
أدهشه صدق قولها، وقال معتذرا: لعلي مريض.
فقالت بثقة: الحق أنك انتهيت!
سرت الحقيقة في ذاته كالسم، فلم يشك في أنه انتهى، وأن حياته في جوارها توشك أن تنتهي أيضا، ولكن كيف يمكن أن تتنكر له بعد ذاك العهد الطويل من المعاشرة الحميمة والعواطف المتأججة والحب العميق المتبادل؟! ماذا تقول وماذا تفعل؟ وألا يخونها القول أو الفعل! أي كلمات لم تسمع من قبل سيشيعه بها هذا الفم المليء بالرغبات والحزم؟! وتسلل إليها بنظرة خجلى مشفقة، فبوغت بالتغير كأنه زلزال منقض بلا نذير، ها هو وجه جديد يطالعه بلا تردد ولا حرج ولا مبالاة ... يتجسد فيه الرفض والإنكار والقسوة، كأنما لا ماضي له ولا ذكريات، ولا وجدان ولا ضمير، ولا ذوق ولا حياء، ذهل وفزع فتمتم: شد ما تغيرت يا نعمة الله!
فقالت ببرود: لقد تغيرت أكثر يا عبد الله.
فتساءل بأسى: أينتهي كل شيء كأن لم يكن؟
فقالت بضجر: أنت الذي نهيته! - لعلي مريض. - ولا أمل في الشفاء.
فهتف حانقا: إنك أقسى مما يظن أعدى أعدائك.
فقالت ساخرة: بل إنكم لا تفكرون إلا في أنفسكم. - أليس للحب حق؟
فقالت بنبرة ختامية: إذا مات فلا حق له.
ونهضت متبرمة فمضت إلى الخلوة وأغلقت الباب بقوة ... لبث وحيدا مع برودة آخر الليل واليأس، احتدمت الخواطر برأسه كفقاعات الماء المغلي، فازداد يأسا وتسليما بالواقع، وبدت له أحلام سعادته كذبة فاجرة قاسية. ومن شدة العناء والإرهاق هرب في النوم ساعة واحدة، وفي الصباح الباكر هجر البيت متلفعا في عباءته السوداء، حاملا بيسراه حقيبة متوسطة الحجم، كانت الشمس ترسل أول طلقة من أشعتها الدافئة، والحركة تدب في الجنبات ... فتحت نوافذ وأبواب وتتابعت أفواج الخلق، سار بخطوات وئيدة ثقيلة تغشاه مخايل الرحيل ... رآه أول من رآه عبدون فرج الله، فرماه بنظرة دهشة خلت من الحقد لأول مرة، وسأله: أأنت راحل؟
فأجاب باقتضاب: أستودعك الله.
وترامت عبارته إلى أقرب الجيران، فقال رياض الدبش دون مبالاة: مع السلامة!
وتمتم حلومة الجحش: يا خسارة!
وأثار رحيله اهتماما مؤقتا شاملا ... ورغم إرهاقه، كان يرى ما تقع عليه عيناه بوضوح شديد، فكأنه يراه لأول مرة، فمازج نفوره حنين غامض، واعترضه عم مخلوف زينهم أمام الزاوية، فتوقف دون أن يبتسم ... سأله الكهل برقة: أأنت ذاهب حقا؟
فحنى رأسه بالإيجاب فسأله: إلى أين؟
فأجاب دون مبالاة: لا علم لي بشيء. - بوسعك أن تبقى حتى تسترد ذاكرتك.
فقال بمرارة : لا أستطيع، وقلبي يحدثني بأنني لن أعرف شيئا ما دمت هنا.
فربت الرجل منكبه بحنان، وقال مسلما: في رعاية الله.
وواصل المسير تتابعه الأعين من النوافذ والدكاكين والطريق ... شيعته نظرات متضاربة من الحياد والشماتة، العطف والكراهية، السرور والحزن ... واصل المسير حتى غيبه المنعطف الأخير عن الحارة إلى الأبد.
من فضلك وإحسانك
اكتشف الحب، أو اكتشفه الحب، أول عهده بالمرحلة الثانوية. في الخامسة عشرة كان، وفي الرابعة عشرة كانت، اتفقا على خطوبة غير رسمية يحتفظان بها سرا بينهما حتى يبلغ المرحلة الجامعية، ثم تعلن وتمضي الأمور في طريقها المعهود. وهو وسيم رشيق ذو سمرة صافية، وهي في نفس المستوى في أعين الناس، ولكن جمالها في قلبه يتلألأ بأضواء مسحورة، ومع أن الأسرتين تقيمان في عمارة واحدة بشارع مريوط بمنشية البكري، إلا أنهما لم يتعارفا قط، ولا تبادلا تحية عابرة، فاستمد معلوماته القليلة عن أسرة حبيبته «جميلة» من حديثها. عرف أن أباها يدعى «عبد الرحيم يسري»، من ذوي المعاشات، مترجم سابق بالخارجية، تركز اهتمامه أخيرا في العبادة ولعب الطاولة. أما أمها «شامة لطف الله» فهي مفتشة بالتربية والتعليم، معروفة بالحزم بقدر ما هي مغرمة بالتلفزيون. ولها أيضا إخوة ثلاثة؛ أكبرهم ضابط جيش استشهد في حرب 1948، ومهندس واقتصادي موظفان في شركتين. ولم تكن جميلة متفوقة في دراستها، ولكنه كان هو أيضا يماثلها في ذلك. وكان مغرما بكرة القدم، ويلعبها بمهارة لا بأس بها، ولا يبدي أي اهتمام بالحياة العامة، مثله في ذلك مثل أبيه وأمه، بل مثل شقيقتيه المهاجرتين مع زوجيهما بليبيا والبحرين. لم يرتفع في ذلك المسكن صوت لتأييد رأي أو معارضة رأي أو إعلان موقف ولا حتى كمتفرجين، فلا مشاركة وجدانية، وكأنما ينتمون إلى كوكب آخر. تدور الأحاديث عادة عن المدرسة، المسلسلات التلفزيونية، الكرة، الطعام، أو شركة الأجهزة المنزلية حيث يعمل الأب «إبراهيم الدارجي» مراجعا للحسابات، والأم «بيسة فضل الله» في قسم الإعلانات. رأى «عبد الفتاح» جميلة أول ما رآها في شارع مريوط الذي يعترض طرفه الشرقي الشارع العمومي المتجه إلى «مصر الجديدة»، رآها بعد ذلك في مدخل العمارة، شملهما من بادئ الأمر مناخ طيب يجود بالأنس والاستلطاف، وتبادلا الابتسام والتحية.
وأعقب ذلك اللقاء في الشارع العمومي بعيدا عن الأنظار، انفجرت في قلبه حياة جديدة بقوة ملهمة ... فاعترف، وتم الاتفاق على المستقبل القريب والبعيد، وحملها أمانة كبيرة، وهو يقول لها: لا حياة لي بدونك.
ولأول مرة يجاوز اهتماماته الصغيرة إلى حياة جديدة واعدة بثراء جديد، ويحطم حاجز الانحصار الذاتي واثبا للغير. عاش عامين سعيدا، عاش في سعادة حقيقية، ولكنها انسابت بخفة بلا تركيز أو وعي منه، فلم يعرفها - مثل كثيرين - إلا كذكرى؛ ذلك أن الحب تعرض للاغتيال ... وهو نفسه قال: «ليس لي قصة حب، ولكن قصتي تبدأ بعد وفاة الحب.» تلقى منها رسالة بيد زميلة عالمة بسرهما تنبئه فيها بأنها خطبت، وأنها عجزت عن إنقاذ حبها، وأنها حزينة أسيفة ولكن لا مناص من قطع العلاقة ... قرأ وأعاد القراءة. هل يمكن؟ بلا تمهيد؟ وهذا الأسلوب؟ قال للرسولة، وتدعى «بثينة»، أو قال على مسمع منها: أي جفاء ... إنها برقية لا رسالة!
فقالت الفتاة معتذرة عن صديقتها: عواطفها أكبر من ذلك، لكنها لا تحسن الكتابة!
وأخبرته أنها تألمت، وأنها توسلت إلى أمها أن تتركها وشأنها، أن تتركها لتنتظره، وأنها راضية بحظها، ولكنها لاقت موقفا مصمما مسلحا بالحجج الواقعية الصارمة، من تكاليف الزواج الباهظة، وأزمة المساكن، وعجز المرتبات، وأنه لا أمل لشاب في الحياة الزوجية إن لم يكن غنيا أو مهاجرا، وأن الخطيب الجديد «حامد بك مظهر» هو مناسب جدا في الظروف الراهنة ... أجل إنه في الأربعين من عمره، ولكنه خبير ذو مرتب ضخم، إلى جانب نشاط خاص يدر عليه دخلا محترما، فهو قادر وأهل للحياة الزوجية، وفي كنفه ستحظى بالحياة الكريمة والسعادة الحقيقية، لا السعادة الوهمية التي سرعان ما تتلاشى في خلاء التقشف والضنك، وحذرتها من أن تظن بها الطمع، أو تخلط بينها وبين النموذج التليفزيوني للمرأة المادية التي ترفع المادة فوق العاطفة، المسألة بكل بساطة أن الزواج ضروري لها - لجميلة - وهو غير ميسر إلا مع رجل مثل حامد مظهر، ومن حسن الحظ أنه لا تشوبه شبهة من شبهات الانفتاح، فهو قادر وشريف، فلا مفر من التسامح في عمره، وهو على أي حال لم يجاوز السن المناسبة للزواج، ومضت بثينة تقول إن جميلة لم تستطع أن تقارع الحجة بالحجة، ولعلها لم تتصور أن الأمور معقدة إلى ذلك الحد، فانطلقت تخاطب قلب أمها، وقلب أبيها أيضا، ولكن الأب قال لها: «مسايرتك تعني التضحية بك، أقسم لك بصلاتي أني صادق، ليس ما تشعرين به هو الحب، في مثل سنك لا تعرف القلوب الحب الحقيقي، ستعرفين ذلك بنفسك.» وعند ذاك قالت له بثينة: لعله مما ساعدها على الإذعان أنها ستنقطع عن الدراسة، فهو يريدها ست بيت، وأنت تعلم أنها لا تحب المدرسة!
تابعها عبد الفتاح بذهول، ثم ماج قلبه بالغضب والعذاب، وأصر على مقابلتها، فكلف بثينة بإتمام ذلك، وجاءته في أصيل اليوم التالي والخريف يقطر مناخا معتدلا ... جاءت منكسرة الطرف، تتعثر في الخجل، قابضة بأصابع متشنجة على منديلها الأبيض الصغير، حيته بغير ابتسام هامسة: إني آسفة.
حثه منظرها على التمسك بها باستماتة، غير أن نبرة صوته نمت عن الغيظ وهو يقول محتجا: تقتلينني ثم تأسفين! ماذا أصنع بأسفك؟
فقالت له بحرارة: حزني أشد مما تتصور.
فقال ساخرا: صدقت فيما يتعلق بتصوري. - لا تظلمني. - أعلني الرفض وأصري عليه.
صمتت في حيرة جلية، فطفر الغيظ إلى قسمات وجهه وتساءل: ماذا قلت؟
فقالت، وهي تتنهد: لن نستطيع الزواج كما نتمنى.
فقال مستسلما لغيظه: أعرف ما قيل وما يقال، ولكن الحب أقوى من ذلك.
فقالت وعيناها تدمعان: الواقع أقوى من أمانينا. - المسألة أن حبك ليس بالقوة التي ظننتها. - لا تظلمني.
شعر بأنها لا تريد أن تعدل عن قرارها، إنها لم تعد تحبه، إنها لم تحبه قط.
هتف غاضبا: أكذوبة!
تمتمت بانزعاج: ماذا؟ - خاب ظني فيك.
قالت بتوسل: لا تزد في عذابي.
لوح بيده غاضبا، فأصابت أنامله جبينها، فتراجعت مذعورة. أفاق من غضبه. وثب نحوها قائلا: معذرة، لم أقصد. - كفى! - أكرر الأسف .
فقالت بصوت هادئ: يجب أن أذهب.
فتحول عنها دون تحية. توغل في الطريق صوب الشمال والظلام يهبط ودفقات من الهواء الرطب تهب. عجب من فراغ الوجود من كل شيء إلا نبض الألم في أعماقه، ألم وفراغ، فراغ وألم، إن لم يكن الحب مرضا فلا بد له أن يوجد له دواء. ولكن أين وكيف ومتى؟ وفكر في أنه أخطأ في تركها تفلت من يده، فاستدار وراح يعدو ليلحق بها، ولكنه لم يعثر لها على أثر. ورجع الفراغ ورجع الألم، وحلم أنه يستطيع أن يقتل أمها، فقرر أن يقطع رأسها تحت المقصلة، استحضر بخياله صورة المقصلة كما رآها في فصل الثورة الفرنسية. يا للداهية! ما هذا الفراغ وما هذا الألم؟ ولأول مرة يعاني الوحدة وهو وسط أصحابه وهم يقضون الفترة الأخيرة من العطلة الصيفية، رغم أنهم جميعا على شاكلته، ممن لا يكترثون للحياة العامة وتستغرقهم الشئون الخاصة. وبدافع من كبرياء لم يبح لأحد منهم بسره. أما أكثر اليوم فخلا فيه إلى نفسه في حجرته الخاصة - للنوم والدراسة معا - غارقا في التأمل، ولم يخرج من عزلته في سهرة التلفزيون حيث تجتمع الأسرة وكأنها غير مجتمعة. غرق في التأمل حتى وجد نفسه، ولأول مرة، يسأل عن معنى حياته أو معنى الحياة. ومضت المعاني تتلاشى وتتبخر في الهواء، وقلب عينيه بين جدران الحجرة وسقفها وكأنما يجول في الكون، ثم سأل: هل يوجد في قلب هذا الكون هدف أو معنى؟!
لو عرف هذا الهدف الكوني عرف بالتالي معنى حياتنا، ولكن ما السبيل إلى معرفة هدف الكون؟ كيف نحمله على البوح بسره؟ كيف ننقذ حياتنا من العدم؟! لم يجد نفسه في هذا المقام الحائر نتيجة لثورة أو فكر، ولكنه وجد نفسه في خضمه بتلقائية من لا يملك ذخيرة أو تراثا؛ ذلك أنه نشأ في جو خاص غير عادي، جو خلقه والدان من نوع خاص أيضا. «إبراهيم الدارجي»، الأب، مشغول بالحياة لدرجة لم تترك له فراغا لتساؤل أو تأمل ... إنه أبعد ما يكون عن الطراز المتدين، ولكنه في الوقت نفسه أبعد ما يكون عن النموذج الملحد أو الشاك. لم يتفوه طيلة حياته بكلمة مع الدين ولا كلمة ضده. الدين بالنسبة إليه غير موجود، أو مختف في ظل كثيف، ولا يخطر له ببال، ولا يتذكره إلا في المناسبات النادرة، وقد ترد في كلامه مصطلحات دينية يرددها دون أدنى انتباه إلى مغزاها، فيقول أحيانا «الله أعلم»، ولا تعني عنده أكثر من «لا أدري». وعيد الفطر عنده كحك، وعيد الأضحى عنده «لحمة». والأم «بيسة» لا تختلف كثيرا عن زوجها في لا مبالاته الفطرية، وإن لم تخل من إيمان بالشعوذة والسحر. فلم يعبق البيت بنفحة دينية ولو عابرة. هذا هو الجو الذي نشأ فيه «عبد الفتاح»، ولم تضف إليه المدرسة سوى حكايات تحفظ وتنسى، وألفاظ تشرح وتعرب، وامتحانات يودعها محفوظاته قبل أن تتلاشى، وفي المدرسة عبرت أمامه ومن حوله تيارات متضاربة دينية ومادية، فلم يهتم بها، وسخر منها؛ ولذلك لم تتوثق الصلة بينه وبين أحد المنتمين إليها، واختار أصدقاءه ممن هم على شاكلته من اللامبالين ... ومع ذلك هزته الهزيمة، فوجم وتألم، ولكنها لم تعدل به عن طريقه، بل لعله أوغل فيه أكثر وأكثر. من أجل ذلك كله وثب في أزمته إلى الكون يسائله عن معناه وهدفه بتلقائية ويسر، دون أن تعيقه عن ذلك عقيدة سابقة ... تعلق بالكون باعتباره الأمل الأخير الذي يمكن أن ينتشله من الفناء الزاحف على قلبه وروحه ... ترى هل يوجد سر ذلك عند أحد من البشر؟ هل تتضمنه حكمة أو علم أو فلسفة؟ وأليس مما يفزع أن ترتفع فجأة من كرة القدم إلى قلب الكون دفعة واحدة؟! وتوهم أن عالمه الداخلي يتوارى عن الأعين القريبة بما يفور فيه من تساؤلات حارة مستميتة، ولكنه لاحظ في أعين والديه محاولات أبوية قلقة تروم النفاذ إلى أعماقه. وضح ذلك يوم الأحد - يوم العطلة الأسبوعية - عندما دعواه للجلوس معهما في حجرة المعيشة عند الضحى، توقع في الحال استجوابا حميما، فضاق به قبل أن يعلن، وصدق حدسه عندما تساءل أبوه وهو يغوص بروبه الخفيف في الفوتي الأرجواني: ما لك يا عبد الفتاح؟!
فتظاهر بالدهشة لغرابة السؤال ... فقالت أمه: لست كعادتك، لا خفاء في ذلك.
وقال أبوه: بعد أيام معدودة سيبدأ عام الثانوية العامة، وهو عام يتقرر فيه المصير!
وقالت «بيسة»: ونحن أصدقاء، ولا يجوز أن يحجز بيننا سر.
قال محاولا الاحتفاظ بسره الغريب لنفسه: أنتما واهمان.
فقال الأب وأنامله تناجي حبات سبحته القهرمانية التي تلقاها هدية، واستغلها لامتصاص القلق: بل إن صحتك ليست على ما يرام. - أشعر بتمام الصحة والعافية. - إنك تمر بفترة من العمر شديدة الحرج.
ضحك ضحكة جافة، تغير موقفه بغتة، جرفته موجة استهانة كرد فعل للسهاد والألم، قال: الحق إنه يشغلني سؤال محير! - أي سؤال يا بني؟
قال ممهدا بضحكة كالاعتذار: سؤال عن الهدف الكوني!
تفشى صمت ثقيل حتى صار له دوي في الآذان، نظر والداه إليه طويلا، ثم تبادلا النظر طويلا، وتمتم الأب متسائلا: الهدف الكوني؟!
فتساءل عبد الفتاح: هل أندم على مصارحتكما بالحقيقة؟
فقالت بيسة بسرعة: أبدا ... ولكننا لم نفهم.
فقال بتحد: إني أسأل ... هل في الكون هدف؟!
فتساءل أبوه: الكون دفعة واحدة؟ - الكون دفعة واحدة. - الكون شيء فوق التصور ... ماذا يهمك من ذلك؟ - لن أعرف هدف حياتي، إن لم أعرف الجواب.
قال الأب برقة وبجهد: إنك كمن يريد أن ينتقل إلى مصر الجديدة عن طريق مدينة الكاب بجنوب أفريقيا، لم لا تستعمل هذا الطريق الممهد الذي نراه من نافذتنا؟
فقال بيأس: لا معنى لحياتي إن لم أعرف ذلك الهدف البعيد!
فرمقه «إبراهيم الدراجي» بحنان، وقال: عليك أن تنجح في الثانوية العامة، وأن تحرز المجموع الذي يفتح لك أبواب الكلية التي تريدها، وأن تعمل، ثم تتزوج وتنجب ذرية، وتستمر في التقدم حتى تنعم بمعاش مستقر سعيد، هل يوجد هدف وراء ذلك؟!
فتساءل بامتعاض: وماذا بعد المعاش المستقر السعيد؟!
فقال الرجل وهو يكظم غيظه: يجري علينا ما جرى على الناس منذ آدم!
فقال «عبد الفتاح» بعصبية: معنى ذلك أنه لا يوجد معنى يستحق أن نعيش من أجله!
فتساءل الأب ضاحكا : لا بد من معرفة هدف الكون؟! - وإلا فلا معنى لشيء على الإطلاق.
ونمت نبرة الرجل عن غيظ مكتوم، وهو يقول: وكيف تعرف هذا الهدف؟ كيف تتابعت الأجيال دون أن تعرفه؟ وهل تؤجل امتحان الثانوية العامة حتى تعرفه؟!
فقال الشاب في حزن: أعرف أنه سؤال مثير للسخرية، ولكني وقعت في قبضته.
فقالت «بيسة» بجزع: لا تقل ذلك، عليك أن تنقذ نفسك.
وقال أبوه بحرارة مدافعا اليأس: حتى لو وجد جواب، فهو لن يجيء بين يوم وليلة.
فصمت «عبد الفتاح» فواصل الرجل برجاء: لا خلاف في ذلك، فلنبدأ بالممكن.
قالت الأم، وهي في غاية من القلق: لنبدأ بالممكن.
فواصل الأب: بوسعنا أن نخلق هدفا لحياتنا وأن نحققه، ولك ألا تكف عن التفكير في الآخر، ومن يدري، فربما عرفته بعد عمر طويل!
وتنهدت الأم في ارتياح قائلة: حل موفق، أليس كذلك يا «عبد الفتاح»؟!
وقال الأب برجاء حار: أعلن موافقتك أرجوك!
ابتسم ابتسامة شاحبة في استسلام، اقتنعت الأم بأنه اقتنع ... قالت بفرحة طفولية: سنسهر الليلة في الميري لاند، لم نسهر معا منذ مدة، أمامنا عشاء ساهر وشراب منعش.
وعند العشاء شرب قدحين من النبيذ، فتلقى نشوة فرجت كربه، وأشعلت ضوء الابتسام في ثغره وعينيه ... حتى قال الأب لنفسه مستوهبا العزاء: سحابة وانقشعت.
ووجد الشاب نفسه ترحب بالحل الموفق، ربما هربا من المأزق الخانق الذي يهدد بالشلل، وحمل والديه مسئولية تراجعه السريع تفاديا من الاعتراف بالهزيمة. رأى أن يطوي اليأس في ركن من نفسه، وأن يرسم لحياته خطة كالآخرين، ومن يدري، فقد يدهمه الجواب من أعماق الحياة نفسها. وما الهدف الذي يختاره؟ كلية الطب، حياة ثرية من الناحيتين العلمية والمادية، زواج وإنجاب، وإن يكن الناس يتساوون في الموت، فإنهم لا يتساوون في الحياة ولا في الذكاء ... المهم الآن أن يمحق من قلبه جميلة وخيانتها، وأن يقتلع الحب من جذوره ليستعيد توازنه، وتمنى أن تزف إلى «حامد مظهر» سريعا لعله يداوي الألم باليأس ... وحدث ذلك في الأسبوع الأول من العام الدراسي. وقف عند ملتقى شارع مريوط بالشارع العمومي ليلقي نظرة على موكبها الصغير وهو يميل نحو مصر الجديدة، وبالرغم من توقعه لذلك وتعجله له، فقد أصابته هزة عنيفة فاقت تقديره وتخيله. سهر ليلتها في حجرته حتى الصباح على ضوء بطارية صغيرة، قضى أكثر الوقت واقفا أو ذارعا الحجرة أو مرسلا طرفه من النافذة إلى الليل الشامل. ومن خلال تجربة طارئة التحم بأثاث حجرته التحاما غريبا جنونيا، ومضى في التجربة على رغمه كأنما يؤدي طقوسا لأوثان وقع تحت سيطرتها بقوة سحرية. جذب الفراش عينيه بدعوة نابعة من الصميم، وكأنه يكتشف لأول مرة الفراش الخشبي ذا اللون البني الغامق، والملاءة البيضاء، والغطاء البنفسجي المطوي للنصف. وبإدامة النظر إلى الفراش ومحتوياته دبت فيه - الفراش - حياة من نوع ما، فتبدت الوسادتان لعينيه ترنوان إليه، وشملت الملاءة والغطاء ألفة قديمة لا تكون إلا بين الأصحاب. ونفذ بصره إلى الأعماق، فرأى القطن المكدس في الحشية، وراح يعد خيوطه الملتفة المضغوطة وهو يشعر بأنه سيختم الإحصاء بوثبة في المجهول قد لا يرجع منها. وتفرس في مكتبه في الجانب المقابل من الحجرة وهو يحمل صفين من الكتب يفصل بينهما السومان، فرآه يبادله النظر داعيا إياه إلى سماع حوار حار دائر بين الكتب لم يكد يلاحقه من سرعته وحيويته وما ينذر من خطورة متعددة العواقب، ومد بصره إلى مرآة الدولاب القائم بين المكتب والفراش فعكست له صورته على ضوء البطارية الخافت، جسما بلا رأس، ومن عجب أنه لم يدهش لذلك ولم ينزعج، ولكنه فتح الدولاب كأنما ليبحث عن رأسه في داخله، فرأى بدلة مشتبكة في معركة بالأيدي والأرجل، فتراجع إلى فوتي يتوسط الجدار المواجه للدولاب، وانحط عليه وأغمض عينيه، فانفجرت في رأسه خواطر مضطربة متلاطمة لم يستطع أن يمسك بواحدة منها متكاملة؛ إذ سرعان ما تتلاشى في أخرى، مؤججة رغبة متصاعدة في الإمساك بأي شيء ذي شكل سليم واضح، وظل فريسة الأطياف حتى نضحت النوافذ بضوء الصباح المترع بالخريف، انطوت الليلة ولم تتكرر، وعزم على أن ينفذ خطته المرسومة، غير أن الكون لم يغب عنه تماما، فكان يزوره من حين لآخر مذكرا إياه بحزنه المخزون المؤجل. وبالمثل كانت تهب عليه نفحات من صحراء الحب المهجور، ولكنه مارس حياة ناجحة فيما عدا ذلك، وبشرت حاله ببلوغ المرام، ولما أعلنت نتيجة الثانوية العامة جاءت مخيبة للآمال، آمال آل الدارجي، ومن خلال التنسيق ضاعت الطب والهندسة والعلوم، فلم يجد إلا الحقوق لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وكانت تقبل عددا محدودا من الثانوية علمي. جاءت النتيجة صدمة لإبراهيم الدارجي، وقال وكأنه يدافع عن كرامته الشخصية: هذه النتيجة تقطع بأنك لم تكن في أحسن أحوالك.
وقالت الأم: رأيي أن تعيد السنة.
ولما كان أدرى بذاته، فقد قال بتسليم نهائي: لتكن الحقوق!
ولم يشأ أحد أن يضغط عليه، فقال الأب: على أي حال أمامك فرصة للعمل في النيابة.
أما هو فقال لنفسه بمرارة «فشلت الخطة»، واعتمد في عمله على إرادته وحدها، وبلا دافع حقيقي. أجل شفي من الحب وتحرر من قبضة الكون، ولكنه لم يقهر الفتور المستقر في همته، ومضى في طريق النجاح الذي لا يبشر بأي تفوق أو امتياز، حتى حصل على ليسانس بلا تهان، وعن طريق توزيع القوى العاملة ألحق كاتبا بالنيابة العمومية. حزن الأب إبراهيم والأم بيسة لذلك حزنا شديدا، إنه الابن الوحيد، والحلم الكبير، وها هي النهاية تتجسد أمام عينيهما كتمثال للخيبة، وفاق حزنه حزن والديه، ولكنه لم يدر بأي لسان يحتج على مصير صنعه بيديه، بل ذكر بكآبة أنه لم يمارس التفوق في حياته أبدا ... وأن الأرجح أنه لا يستطيع أن يخلق لحياته هدفا خيرا من هذا، وقال لأبيه: أكثرنا الحديث يوما عن الحياة والهدف، ولكننا نسينا أمرا هاما، خبرني الآن ... هل تعرف أحدا من الكبراء القادرين على تحديد الأهداف؟!
فقال إبراهيم الدارجي بامتعاض: نشاطي يجري في مجال آخر، ولكن صبرا، ستهاجر ذات يوم لعمل مثمر في الخارج.
تمثل له «الخارج» في صورة منارة تشع نورا من بعيد، وراح يوازن بين مرتبه الجديد وبين مصروفاته التي تعود عليها في كنف والديه، ثم تساءل ... كيف يواجه الحياة لو غاب والداه؟! ولأول مرة يشعر شعورا ذاتيا كم أنه فقير، وكم أن الغلاء وحش مفترس، وتذكر في الوقت نفسه الفارق الهائل بينه وبين رئيسه المباشر؛ رغم أنهما متخرجان في كلية واحدة. ما هو إلا ذرة رمل في صحراء التفاهة، وسيمضي من سيئ إلى أسوأ، وما الراحة التي ينعم بها إلا هدية مهداة من والديه العاملين، عليه ألا يركن إلى الطمأنينة العابرة الخادعة، وأن يفكر في المستقبل بجدية. تلزمه وثبة قوية غير معقولة، طفرة غير متوقعة وغير منطقية، بأي ثمن يجب ألا تضيع الحياة هباء. ونحن في زمن الخوارق، ولكنه لا يحب أيضا المغامرة ولا يحب السجن، ولا يجوز انتظار المعجزة من «الخارج» وحده فقد يطول الانتظار، وخبرته لا يحتاج إليها «الخارج» مثل الخبرات الأخرى. الطريق شبه مسدود، ولكن اليأس يعني الموت، وحام خياله المحموم حول حياة النجوم من الممثلين الذين يمرقون إلى الهدف بسرعة الضوء، وربما من خلال فيلم واحد، لا وقت للطريق الطويل ولا قلب للمغامرة المحفوفة بالخطر، وغطى عمله الجديد على أحلامه المؤرقة، فكشف له عن عالم من التجارب الطاحنة، إنه يجلس إلى يسار المحقق باسطا أوراقه على المكتب، متطلعا إلى المتهمين الواقفين أمام المكتب، يرى ويسمع ويسجل، وتنهمر فوقه عوالم الأسرار، تراخى التحامه بأحلامه أمام المهربين والمختلسين والمرتشين واللصوص. إنهم أناس لا يختلفون عن الآخرين في أشكالهم وأصواتهم، لا سمات تقليدية لهم مثل أشرار السينما، ووراء كل واحد منهم حلم يذكره بأحلامه، كلهم ينجذبون إلى أضواء الحياة كما تهيم الفراشات حول المصباح، وهم يذكرونه بنفسه، ويذكرونه بأبيه وأمه أيضا، وعجب لذلك بقدر ما انزعج له، لم يذكرونه بوالديه؟! ربما لتشابه في الوظيفة، أو الاهتمامات، أو المحركات العارضة. ووجد نفسه يتساءل لأول مرة ... هل يتناسب دخل والديه مع مصروفاتهما؟ إنهما في الواقع لا يكترثان للغلاء، ولا يخلو أسبوع من وليمة تقام للأصدقاء، وفي العامين الأخيرين جددا أثاث الشقة واقتنيا عددا من التحف والسجاجيد والنجف لا يستهان به، حقا إنهما لم يشتريا شيئا ذا قيمة ثابتة كعقار أو سندات، ولكنهما ينفقان عن سعة باتت تثير في نفسه الخوف والكآبة. شك في والديه، وغزاه هم جديد انضاف إلى همومه الشخصية، وتعملقت همومه عندما أدلى إليه زميله «عبد اللطيف محمود» - كاتب يسبقه بأقدمية خمس سنوات - برأيه في طبقات المجرمين. وكان عبد الفتاح قد تلقى تدريبه في العمل على يديه، ولما آنس إليه همس له برأيه، وهو أن القانون لا يطبق إلا على العاديين من الناس، أما الأقوياء فيسبحون فوق القانون، إلا فيما ندر ولا يقاس عليه ... لم يصدق ولم يكذب ولكنه مال إلى سوء الظن، كما مال إلى اتهام والديه ... وتساءل كيف يجنبهما المصير الأسود؟! وطرح السؤال يعني فيما يعنيه أن شكه فيهما انقلب حقيقة من حقائق حياته المرة؛ ولذلك دارى رعبه بضحكة لا معنى لها، واهتدى إلى خير وسيلة لتحذيرهما، وهي أن يقص عليهما لدى كل مناسبة طرفا من أخبار المنحرفين الذين يسجل اعترافاتهم يوما بعد يوم، ويشهد عن كثب دموع البعض وهي تنعى آمالهم الخائبة. تصور ببدن مقشعر والديه وهما يزحمان مع الآخرين طرقات المجمع القضائي مثل حبات البن المتدافعة في وعاء الطاحونة، وجعل يرقب الاثنين بإمعان ويتفحص ضيوفهما من الرجال والنساء ... جميعهم أناس أذكياء وبلا مبادئ، المال معبودهم والنجاح دينهم، والمغامرون هداتهم، يشوهون الأسماء الرنانة دفاعا عن أنفسهم وتبريرا لسلوكهم الخفي، ويقول لنفسه: برح الخفاء!
وازداد صدره انقباضا، ترى كيف يتحمل المصيبة إذا وقعت؟! إنها خليقة بتدمير أي شخص حتى ولو لم يكن من التافهين، وتنهد وهمس لنفسه: «إلا شخصا واحدا»، ورجع يحوم حول النجم ونجاحه وكيف يتألق ويواصل التألق، ولو تسربل بالفضائح! شد ما تداعبه هذه الفكرة، وتحفر سراديبها في وجدانه برشاقة وإغراء، غير أنه نحاها إلى حين ليجري مع ذاته تحقيقا فريدا ... هل يقدم على الانحراف إن وعده بتحقيق الآمال؟! وراح يتفحص أعماقه بصدق وصراحة، وتبين له أنه لا يملك مناعة ضد الانحراف في ذاته، ولكنه جبان يؤثر السلامة! على ذلك ترك الموضوع دون حسم. وإذا بمكتب التحقيقات يسوق إليه تجارب جديدة ومثيرة، فيكشف له التاريخ عن وجهه ويريه من آياته ما جهل، حقا عرف الكثير من خلال قضية اتهم فيها بعض رجال العهد الماضي بالتآمر على قلب نظام الحكم. رأى وسمع وسجل ورجع إلى شارع مريوط بمعلومات جديدة عن ماضي بلده القريب، واستسلم لأحلام اليقظة، فتخيل نفسه بطلا من أبطال العهد البائد، فخاض المعارك المنقضية، وأحرز انتصارات لم يعد أحد يذكرها بالخير، وتساءل وهو منفرد بنفسه في حجرته: لماذا أتعاطف دائما من المتهمين؟!
وزودته أحلام اليقظة بوقود جديد بظهور متهمين معاصرين على المسرح، من ذوي العقائد الدينية، وذوي العقائد المادية ... أذهلته جرأتهم، واستهانتهم بالعواقب، وتحديهم التحقيق والمحقق. لأول مرة يتلقى تلك المبادئ كتجارب حية ممثلة في أحياء، كحجج تفوح برائحة اللحم والدم، كتضحيات تستهين بكل غال، فيم يختلف عن هؤلاء الشبان؟! كيف افترقت الهويات والمصائر؟! وركب الخيال؛ فجرد سيفه حينا، وقبض على المطرقة حينا آخر، وهام في وديان المجد المخمور ... هام طويلا حتى أدركه الإرهاق والملل، وعاد يتساءل: كيف أستخلص نفسي من مستنقع التفاهة؟!
الهجرة؟ النجومية؟ الانحراف؟ الماضي؟ الله؟ الثورة؟ ... المهم أن ينجو من الواقع الكئيب، واتفق في ذلك الوقت أن أهداه الأب إبراهيم حجرة جديدة عصرية بطاقمها المكون من الفراش والدولاب والشيفونيرة والتواليت وسجادة فرنسية. قال له: تغيير الجو يجب أن يساير تغيير الشخصية.
فغمغم: أي شخصية؟!
وفكر في ثمن الحجرة، فاستعاد شكوكه بمرارة جديدة، وقرأ الأب صفحة وجهه فاستشف معاني أخرى، فقال: الهجرة آتية فاصبر قليلا.
الصبر جميل لكنه مر، ولم ينقطع عن التفكير في البدائل المتاحة، وسمع زميله «عبد اللطيف محمود» ينصح ضيفا بالانضمام إلى حزب الأغلبية، ولم يكن يفرق بين جده ومزاحه، ولكنه أنصت إليه وهو يقول للرجل: الانضمام يضمن لك التمتع بحقوق الإنسان!
فكر أنه بوسعه أن ينضم ولو إلى لجنة الحي، ولكنه حزب ضخم يحوي الملايين وهيهات أن ينتشله من ضياعه، أو يخرجه من شرنقة التفاهة، فرق كبير بين أن تركب سيارة ولو صغيرة، وبين أن تنحشر في أتوبيس ... في الوقت ذاته فإنه من الجنون أن يسعى إلى أهل الدين أو أهل المادة فيعرض نفسه للهلاك! كلا ... إنه لم يخلق لذلك، ولم يبق أمامه إلا الهجرة أو الفن! وانبعثت في نفسه وثبة متحدية ذات مساء وهو يحتسي قليلا من النبيذ في تافرنا ... رقصت النشوة في رأسه فانساب طموحه الحائر، فقرر أن ينفلت من قبضة الأحلام وأن يفعل شيئا، سعى إلى مقابلة بعض المخرجين وعرض عليهم نفسه كقانوني يهوى التمثيل، مستمدا من شكله وحجمه ثقة وأملا. قال له المخرج: لا يمكن تشغيلك إلا إذا كنت متخرجا في المعهد.
فقال بثبات: يمكن كوجه جديد مرشح للبطولة!
ودعي إلى الاختبار، ولولا اليأس ما تغلب على ارتباكه ... وكان يترك عنوانه ويذهب، وينتظر ثملا بأحلام اليقظة بعد أن حل البلاتوه محل الجهاد والفردوس الأرضي، ولكنه لم يرده خطاب ... وطال انتظاره حتى شطب فرق الفن في سجل آماله المتهاوية أسوة بالنشاط السياسي كله، فلم يبق إلا «الخارج» كأمل أخير، وسأل أباه ذات مساء: لا أخبار عن الهجرة؟
فأجابه بوجوم: انتظر الوقت المناسب!
التقط إحساسه المشحوذ بسوء الظن نبرة جديدة في صوت أبيه، نبرة توحي بالهزيمة، انظر جيدا، ليس الرجل كعادته، ولا أمه ... إنهما يعانيان قهرا مجهولا تبدى في نظرة العين، وشهية الطعام، والحديث. وقال لنفسه: «هل يتلاشى الأمل الأخير؟ سيقع شيء غير سار.» وصدق حدسه، فأعلن أبوه أنه طلب إحالته على المعاش لسوء حالته الصحية، ولحقت به أمه في نفس الأسبوع معتلة بنفس العلة! ذهل عبد الفتاح، وهمس له سوء ظنه بالحقيقة الخفية، لا شك أنهما اضطرا إلى ذلك اضطرارا وتفاديا من عاقبة أسوأ ... الصحة بريئة تماما، كانا من أحسن الناس عافية ومرحا، وجاراهما فتظاهر بالقلق على صحتهما، واستمع إلى حديث طويل عن الضغط والطبيب، وقال بحرارة مصطنعة: الصحة أهم من العمل والمال.
وتوقفت حياة الترف المعهودة، انطفأت الشعلة، وبدوا كئيبين واجمين، وانتهت ليالي الولائم، وخيم على البيت جو غريب من الإثم والعقوبة، واختفى أصحاب المنفعة والانتهازية، فخلا المسكن إلا من المنبوذين ... وأمسى للنقود قيمة جديدة، فلم تعد تنفق إلا بحساب، وتردد ذكر الغلاء مصحوبا بلعن الانفتاح وذم المتاجرين بأرزاق الشعب! ولم يخدع عبد الفتاح بهذا الصوت الوطني الطارئ وعرف سره ... إنه يكتسب كل يوم خبرة في مكتب التحقيقات أثرت رؤيته وأفعمته بسوء الظن، لن يخدعه نقد المنحرفين إذا حيل بينهم وبين الانحراف ... وامتنعت المعونات التي كان يحظى بها من والديه، وتضاعف قلقه عندما سمع أباه، وهو يقول: لا مفر من بيع بعض التحف لمواجهة الغلاء!
فمضت الدائرة تضيق حول عنقه ويديه، وتخلقت في حياته أزمة جديدة؛ هي الأزمة الجنسية التي لم يشعر بوطأتها من قبل، وقال لوالده: إني أعجب للذين لم ينحرفوا في هذه الظروف الطاحنة.
فقال أبوه بيقين ساخر: هم الذين لا حاجة بهم إلى الانحراف.
فوافقه الشاب، قائلا: صدقت، فلكي يعيش فرد بلا نقود كافية يجب أن يكون صاحب معجزة.
فقال إبراهيم الدارجي ساخرا: وقد انتهى عصر المعجزات.
فتنهد الشاب قائلا: الهجرة إلى الخارج هي الأمل الأخير.
فقال الرجل بلا حماس: انتظر واصبر ولا تيأس!
ولكن إلى متى؟ وإن وسعه أن يصبر مع التفاهة ... فكيف يروض وحش الجنس؟ حقا كانت أم حبيبته الغادرة بعيدة النظر، ولو أن الفتاة انتظرته لخيب أملها وفضح نفسه، وسأل زميله عبد اللطيف محمود: ألم تفكر في الزواج؟
فأجاب ساخرا: أفكر فيه عدد شعر رأسي. - وهل استعددت له؟
فأجاب بعظمة: سأكون مستعدا عام 2000.
فابتسم، فسأله عبد اللطيف: وأنت؟
فأجاب باقتضاب: حالي حالك.
فقال ضاحكا: احلم بأن امرأة غنية وقعت في هواك ...
ولكن الأحلام أرهقته حتى الملل، وإنه على أتم الاستعداد للتخلي عن طموحه كله على شرط أن يتزوج وينجب قانعا كل القناعة بتفاهته، وقال لنفسه: «رضينا بالحد الأدنى ولكنه لا يرضى بنا.» وهبط عليه إلهام غريب في تافرنا وهو يحتسي النبيذ، أن يعلن حربا على الدولة! أن يكتب منشورات سرية، دينية تارة ومادية تارة أخرى، ويرسلها إلى شتى الجهات ذات الخطورة، فينشر بذلك القلق والرعب، ويستمتع بالنصر والعبث ... ما عليه إلا أن ينقل الآلة الكاتبة الخاصة بوالدته إلى حجرته بحجة أنه سيكتب عليها المتأخر من أعماله الحكومية ، استجاب للإلهام وعزم على تنفيذه، وبذلك ينقذ نفسه من عذاب الانتظار والملل والتفاهة! وراح ينفذ مشروعه بحماس وسرور وشيطنة، ويودع المنشورات في مظاريف ويرسلها لشخصيات رسمية وغير رسمية، ورغم أنه استلهم مضامينها من منشورات اطلع عليها خلال التحقيقات، إلا أنه زاد نقدها حدة وتهديداتها عنفا، ولم يركز على صندوق بريد أكثر مما يجب، فنوع الشوارع والأحياء، وانهمك في العمل بقوة كأنما هو هدف حياته، وانتظر أن يتلقى أصداء عمله الخفي طويلا حتى أوشك أن ييأس، وإذا بعبد اللطيف محمود يهمس في أذنه ذات صباح: يتحدثون عن نشاط دب في القوى الهدامة!
فخفق قلب عبد الفتاح واندفع متسائلا: المنشورات؟!
وأدرك للتو تسرعه ففزع، وسأله الآخر: متى عرفت؟
فأنقذ نفسه قائلا: في المقهى يتحدثون.
ووصى نفسه بالحرص والحذر، فقال عبد اللطيف: أجهزة الأمن في غاية من النشاط.
فتراوح بين السرور والخوف، وتساءل: كيف؟ - المراقبة والتفتيش!
غض بصره إخفاء لانفعالاته، لم يكن هذا مقصده ... تصور ما يتعرض له الأبرياء بسبب عبثه، فغاص قلبه في صدره، وأمضى اليوم قلقا منزعجا كئيبا ... لم يجلس إلى الآلة الكاتبة مرة أخرى، وتساءل هل يجيئون بهم ليسجل أقوالهم؟ وفي اليوم التالي دس إليه زميله عبد اللطيف ورقة، قائلا: إليك منشورا.
تلقى المنشور بقلب خافق، ولكن قلبه توقف عن الخفقان عندما تبين له أنه منشور آخر حقيقي لا علاقة له بعبثه! الجد والعبث يسيران جنبا إلى جنب، ولكن ذلك لن يبرئه من الذنب، فلا شك أن منشوراته تعتبر أيضا مسئولة عما يجرى من تفتيش وتحقيق، ودار رأسه، فشعر بأن إصبعا ستشير إليه بالاتهام. وفي صباح اليوم التالي لم يجد عبد اللطيف محمود على مكتبه، وسرعان ما علم بأنه ألقي القبض عليه فيمن ألقي القبض عليهم ... قال له رئيس المكتب: كان منهم ونحن لا ندري!
أغمض عبد الفتاح عينيه مغالبا انفعالاته التي تموج بإعصار همجي، ولم يترك طويلا للتأمل إذ دعي لمكالمة تليفونية لأول مرة مذ التحق بالعمل، وجد أن المتكلم هو والده ... قال له: فرجت، استعد للسفر، والتفاصيل وقت الغداء!
فرجت حقا! الثروة في الطريق ولن تستعصي مشكلة عن حل طيب. وقال لنفسه ساخرا! إنها نهاية سعيدة جديرة بمنحرف من صلب منحرفين! واستحضر صورة الكون ممثلة في السماء والأرض، قال: خبرني عن الهدف من فضلك وإحسانك!
قسمتي ونصيبي
عم «محسن خليل» العطار، أجزل الله له العطاء فيما يحب ويتمنى عدا الذرية ... دهر طويل مضى دون أن ينجب، مع مجاهدة للنفس لترضى بما وهب الله وبما منع، كان متوسط القامة، ممن يؤمنون بأن الخير في الوسط، وكان بدينا، وعنده أن البدانة للرجل - كما للمرأة - زينة وأبهة، وكان يزهو بأنفه الضخم وشدقيه القويين، وبالحب المتبادل بينه وبين الناس. وحباه الحظ بست «عنباية»، ذات الحسن والنضارة والطيات المتراكمة من اللحم الوردي الناعم، إلى كونها ست بيت ممتازة، يغنى سطح بيتها المكون من دور واحد بالدجاج والإوز والأرانب، ويلهج عشاق مائدتها بطواجنها المعمرة وفطائرها السابحة في السمن البلدي، دنيا مقبلة في كل شيء، ولكنها ضنت بنعمة الإنجاب في عناد تطايرت دونه الحيل ... نشدت شورى الأحبة، ولجأت إلى أهل الله من العارفين والواصلين، وطافت بالأضرحة المباركة، حتى الأطباء زارتهم، ولكن أصدروا فتوى غير مبشرة شملت الزوجين معا «عم محسن» و«ست عنباية»، وقالوا إن الأمل الباقي أضعف من أن يذكر. ووقفت في سماء النعيم الصافية غمامة حزن مترعة بالحسرة لا تريد أن تتزحزح، ولما شارف عم محسن الخامسة والأربعين وست عنباية الأربعين، تلقيا من الله رحمة ... هتفت ست عنباية بعد تدقيق وعناية: «يا ألطاف الله! إني حامل وحق سيدي الكردي!» كان عم محسن أول من طرب وشكر، وتردد الخبر في «الوايلية» على حدود «العباسية» حيث يوجد بيت الأسرة ومحل العطارة. وانقضت الأشهر التسعة في انتظار بهيج، وجاء المخاض يهزج بالأنين السعيد ... ولما تلقت الحكيمة الوليد حملقت فيه مذهولة مبهوتة، وراحت تبسمل وتحوقل ... وهرعت إلى الصالة الشرقية الوثيرة ... فوقفت أمام عم محسن مضطربة، حتى تمتم الرجل خافق القلب: ربنا يلطف بنا، ماذا وراءك؟
همست بعد تردد: مخلوق عجيب يا عم محسن. - كيف؟ - أسفله موحد وأعلاه يتفرع إلى اثنين! - لا! - تعال انظر بنفسك. - وكيف حال الست؟ - بخير، ولكنها غائبة عما حولها!
وذهب في أثرها مضطربا خائب الرجاء، وحملق في المخلوق العجيب ... رأى أسفله موحدا ذا رجلين وبطن واحد، ثم يتفرع بعد ذلك إلى اثنين؛ لكل منهما صدره وعنقه ورأسه ووجهه، وكانا يصرخان معا، وكأن كلا منهما يحتج على وضعه، أو يطالب باستقلاله الكامل وحريته الشرعية. هيمن على الرجل شعور بالارتباك والحيرة والخجل وحدس المتاعب تتجمع فوقه كالسحب المليئة بالغبار، وترددت في داخله العبارة التجارية التقليدية التي يحسم بها الموقف عند فشل صفقة من صفقات العطارة، وهي «يفتح الله». أجل ... ود لو في الإمكان التخلص من هذه العاهة التي لن يذوق معها راحة البال، وقالت الحكيمة وهي مستغرقة في عملها الروتيني: صحة جيدة، كأن كل شيء طبيعي تماما.
فتساءل عم محسن خليل: الاثنان؟
فقالت الحكيمة بحيرة: ليسا توءمين ... هذا وليد واحد!
فجفف الرجل عرق وجهه وجبينه المتصبب من داخله ومن جو الصيف، وتساءل: ولم لا نعتبرهما اثنين؟ - كيف يكونان اثنين على حين أن انفصال جزء عن الجزء الآخر مستحيل! - إنها مشكلة، ليتها لم تكن أصلا!
فقالت الحكيمة بلهجة وعظية: إنه منحة من الله على أي حال، ولا يجوز الاعتراض على حكمته.
فاستغفر الرجل ربه، فواصلت الحكيمة: سأسجله باعتباره واحدا.
فتنهد عم محسن، قائلا: سنصبح أحدوثة ونادرة! - الصبر جميل! - ولكن ألا يستحسن اعتباره اثنين ذوي بطن واحد؟ - لا يمكن أن يتعامل مع الحياة إلا كشخص واحد.
وتبادلا النظر صامتين، حتى سألته: ماذا تسميه؟
ولما لازم الصمت، تساءلت: محمدين! ما رأيك في هذا الاسم المناسب؟
فهز رأسه مستسلما دون أن ينبس، ولما انتبهت ست عنباية لما حولها صعقت، وبكت طويلا حتى احمرت عيناها الجميلتان، وشاركت زوجها عواطفه ... غير أن ذلك لم يستمر طويلا، فاستجابت ست عنباية في النهاية إلى عاطفة الأمومة وعم محسن للأبوة، وراحت ترضع الأيمن، فما سكت البكاء حتى أرضعت الأيسر ... وبعفوية جعلت تنادي الأيمن بقسمتي والأيسر بنصيبي، فمنذ الأسبوع الأول عرف الولد باسمين، وتميز كل بفردية ، فربما نام قسمتي وظل نصيبي صاحيا يتناغى أو يبكي أو يرضع، ومع الزمن خفت الدهشة، وإن لم تخف أصداؤها في الخارج، وألفت الغرابة، وزالت الوحشة ... ونال قسمتي ونصيبي حظهما الكامل من الرعاية والحب والحنان، ومضت الأم تقول للزائرات من أهلها: ليكن من أمره ما يكون، فهو ابني، أو هما ابناي.
واعتاد الحاج محسن - فقد أدى الفريضة بعد التجربة - أن يقول: لله حكمته!
وعلم بفطرته أن الطفولة ستمر كدعابة، ولكنه فكر في المستقبل بقلق واختناق ... أما ست عنباية فاستغرقتها متاعبها المضاعفة، كان عليها أن ترضع اثنين، وأن تنظف اثنين، وأن تربي اثنين، وأن تملك أعصابها إذا نام أحدهما واحتاج للهدوء وصحا الآخر ورغب في الملاعبة. واختلفت بقدرة قادر صورتاهما، فبدا قسمتي عميق السمرة رقيق الملامح عسلي العينين، أما نصيبي فكان ذا بشرة قمحية وعينين سوداوين وأنف ينذر بالضخامة. وأخذ الوليد يحبو على قدمين وأربع أيد، وينطق كلمة بعد أخرى، ويحاول المشي ... ولوحظ أن قسمتي كان أسرع في تعلم النطق، ولكنه كان يذعن لمشيئة نصيبي في الحبو والمشي، وفي العبث بالأشياء وتحطيمها ... لبثت القيادة طيلة تلك الفترة المبكرة بيدي نصيبي، واتسمت بالعفرتة والتدمير ومطاردة الدجاج وإيذاء القطط، غير أن خضوع قسمتي لنصيبي أعفاهما من الشجار، عدا الأويقات النادرة التي كان يميل فيها قسمتي للراحة، فلا يتورع نصيبي عن لكزة بكوعه حتى يسترسل في البكاء. ولما بلغا الرابعة من العمر وجاوزاها، أخذا ينظران إلى الطريق من النافذة ويشاهدان الأطفال، ويرفعان أعينهما نحو السماء من فوق السطح، فانهمرت الأسئلة مع اللعاب: كل ولد ذو رأس واحد، لماذا؟
فتجيب ست عنباية مرتبكة: ربنا يخلق الناس كما يشاء. - دائما ربنا ... ربنا ... أين هو؟
فيجيب عم محسن: هو يرانا ونحن لا نراه، وهو قادر على كل شيء، والويل لمن يعصاه!
ويحدثهما الرجل عما يجب ليحوزا رضاه فيخاف قسمتي، ويقول نصيبي لقسمتي: اسمع كلامي أنا وإلا ضربتك.
ويريان القمر في ليالي الصيف فيمدان نحوه أيديهما، يتنهد قسمتي مغلوبا على أمره ويثور نصيبي غاضبا، ويتساءل الحاج: هل نحبسهما في البيت إلى ما شاء الله؟
فتقول ست عنباية: أخاف عليهما عبث الأطفال.
وقرر الحاج أن يقوم بتجربة، فجلس أمام البيت على كرسي خيرزان وأجلسهما إلى جانبه على كرسي آخر ... سرعان ما تجمع الصغار من مختلف الأعمار ليتفرجوا على المخلوق العجيب، ولم ينفع معهم زجر أو نهر، حتى اضطر الرجل أن ينسحب من مجلسه وهو يحملهما على ذراعه، وتمتم في أسى: بدأت المتاعب.
ولكن الله فتح على ست عنباية بفكرة ... فاقترحت أن تقنع جارتها بإرسال ابنها «طارق» وبنتها «سميحة» للعب مع محمدين، ووافقت الجارة مشكورة، فجاء طارق وسميحة، وكان طارق أكبر من محمدين بعام، أما سميحة فكانت تماثله في عمره. وقد فزعا أول الأمر ونفرا من الصحبة، غير أن ست عنباية استرضتهما بالهدايا حتى زايلتهما الوحشة وجرفهما حب الاستطلاع والمغامرة، وسعد قسمتي ونصيبي بالرفيقين الجديدين، وأحبا حضورهما حبا فاق كل تقدير، رغم أنه لم يفز بحب في مثل قوته، وتنوع الحديث واللعب وابتكرت الحكايات. وجدت الكرة الصغيرة من يتبادل رميها، ووجد الحبل من يتصارع على شده، وباتت سميحة هدفا ورديا كل يرغب في الاستحواذ عليه، وكل يدعوها إلى الجلوس إلى جانبه إذا جمعهم التلفزيون. وبسبب سميحة نشبت بينهما أول معركة حقيقية على ملأ من الأسرة، فدميت شفة «نصيبي» وورمت عين «قسمتي»، وبها تحرر قسمتي من الذوبان في نصيبي ... وأخذ يشعر بأنه فرد بإزاء آخر، فتبادلا من الآن فصاعدا التوافق كما تبادلا التنافر، وقال الحاج ذات يوم: جاءت السن المناسبة للمدرسة.
فتجهم وجه عنباية وارتسم في أساريره الشعور بالذنب، فقال الحاج: إنه باب مغلق!
وتفكر مليا ثم قال: سأجيء لهما بالمعلمين، يجب أن يعدا على الأقل ليحلا محلي في الدكان.
وجاء المعلمون، ولقنوهما مبادئ الدين واللغة والحساب، واستجاب «قسمتي» للتعلم بدرجة مشجعة، أما «نصيبي» فبدا راغبا عن العلم متعثرا في الفهم والاستيعاب، ومن أجل ذلك حنق على الآخر، وكدر ساعات مذاكرته بالعبث والغناء والمعاكسات الصبيانية، وبدا الخلاف مزعجا في تقبل التربية الدينية التي أقبل عليها قسمتي بقلب مفتوح، على حين وقف فيها نصيبي موقف اللامبالاة. وضاعف زجر المدرس من عناده، ونهره أبوه كثيرا، ولكنه أشفق من ضربه ... وعند بلوغ الثامنة أراد قسمتي أن يصلي ويصوم، ومع أن نصيبي لم يمل إلى ذلك، إلا أنه وجد نفسه يشارك بقدر لا يستهان به في الوضوء، وأنه يرغم تقريبا على الركوع والسجود ... ولشعوره بضعف مركزه أذعن للواقع وهو يمتلئ حنقا وغيظا، وأمره أبوه بالصيام، وحاول أن يشبع جوعه في الخفاء، ولكن قسمتي احتج، قائلا: لا تنس أن بطننا واحد، وإذا تناولت لقمة واحدة أخبرت أبي.
وصبر يومه حتى نفذ صبره، فبكى، فرقت له أمه، وقالت للحاج: الله لا يكلف نفسا إلا وسعها، دعه حتى يكبر عاما أو عامين.
فقال الأب في حيرة: ولكنه إذا أفطر أفطر الآخر!
وهي مشكلة لم يحلها إلا إمام سيدي الكردي ... فقال إن العبرة بالنية، وإن صيام «قسمتي» صحيح حتى لو أفطر «نصيبي»، وصام قسمتي رغم إفطار نصيبي مستندا إلى نيته أولا وأخيرا. وتوكد لكل شخصيته، وحال بينهما نفور دائم آخذ في الاستفحال، وندرت بينهما أوقات الصفاء، وقالت الأم بعين دامعة: يا ويلي، لا يطيق أحدهما الآخر، ولا غنى لأحدهما عن الآخر، فكيف تمضي بهما الحياة؟!
مضت على الشوك، وشمل الخلاف أشياء وأشياء ... قسمتي يحب النظافة ونصيبي يكره فكرة الاستحمام إلا أن يضطر إليه اضطرارا، وتوسط الوالدان على أن ينزل قسمتي عن شيء من النظافة نظير أن ينزل نصيبي عن كثير من القذارة. ونصيبي نهم لا يشبع، فكثيرا ما كان يصاب قسمتي بالتخمة ... ولقسمتي ولع بالأغاني العاطفية على حين يعشق نصيبي الأناشيد الصاخبة، أما ذروة الخصام فقد احتدمت لحب قسمتي النامي للقراءة والاطلاع، يحب أن يقرأ كثيرا، والآخر يفضل اللعب فوق السطح ومعاكسة السابلة والجيران. ونصيبي يمكن أن يصبر ساعة على انهماك الآخر في القراءة، ولكنه عند الضرورة يعرف كيف يفسد عليه تركيزه واستغراقه حتى يشتبكا في معركة تسفر عادة عن انتصار نصيبي، وقال له قسمتي مجربا المناقشة بدلا من العنف غير المجدي: لي هواياتي ولك هواياتك، ولكن هواياتي أنسب لظروفنا غير الطبيعية.
فقال «نصيبي» بحدة: معنى ذلك أن تتحول الحياة إلى سجن دائم. - لكن لا نصيب لنا في الدنيا الخارجية. - السعادة في الدنيا والكآبة في الحجرة.
فقال «قسمتي»: إنك تعاكس الناس فينهالون علينا بالسخرية. - أموت لو فعلت غير ذلك ... بل إني أفكر في اقتحام الطريق. - ستجعل منا أضحوكة وفرجة.
فصاح «نصيبي»: إني أكره السجن وأحسد النجوم.
فقال «قسمتي» برجاء: يلزمك الكثير من العقل.
فقال «نصيبي» بازدراء: لا سبيل إلى الاتفاق. - لكننا واحد كما ترى، رغم أننا اثنان! - هذه هي المصيبة، ولكن عليك أن تذعن لي دون مقاومة. - إنك عنيد وتحب الخصام.
ودعاهما الوالدان إلى الاجتماع في حجرة المعيشة. حقا إنهما فقدا الشعور براحة البال وتنغص عليهما صفوهما، وآمنا بأن كارثة ستحل بالبيت إن لم يسارعا إلى حسم الداء، قبلتهما عنباية، وقالت: فليحب أحدكما الآخر، إن وجد الحب تلاشت المشاكل!
فقال «نصيبي»: هو الذي يكرهني!
ولكن «قسمتي» بادره قائلا: بل أنت الذي تكرهني!
فقالت ست عنباية متأوهة: إنكما اثنان في واحد لا يتجزأ، ولا بد من الحب.
وقال الحاج محسن خليل: الحكمة تطالبكما بالوفاق، وإلا انقلبت الحياة جحيما لا يطاق، ذوبان أحدكما في الآخر مرفوض، والوفاق ممكن، فليصبر «نصيبي» عندما يرغب «قسمتي» في القراءة، وفي مقابل ذلك على قسمتي أن يرحب بالحركة واللعب مع نصيبي، وليكن كل غناء مقبولا، ليستمتع كل بأغانيه المفضلة، أما الدين فلا مناقشة فيه.
فقال «قسمتي»: إني على استعداد طيب للوفاق رغم ما يكلفني من ضيق.
ولاذ «نصيبي» بالصمت، فرجع «قسمتي» يقول: إنه لا يحب الوفاق، ولا يعد نفسه ليوم تدعونا فيه إلى العمل في الدكان!
فقال الأب بحزم: لا بد مما ليس منه بد!
وعادت ست عنباية تقول بحرارة وضراعة: عليكما بالحب، ففي رحمته النجاة.
ولكن الوالدين لم يصف لهما بال، وتابعا ما يحدث بقلق وأسى، وبذل «نصيبي» في سبيل الوفاق جهدا مترددا لغلبة الأهواء الجامحة عليه، على حين مضى قسمتي في الطريق الجديد بإرادة أقوى ورغبة أنقى مستأنسا بعواطفه الصادقة وميله المخلص لوضع حد لعذاباته ، ومستعينا عند الضرورة بوالديه. ولما ناهزا الحلم وشارفا المراهقة تصاعدت أزمتهما إلى الذروة ... احتدمت الأحلام المكبوتة منذرة بالانفجار ... وتبلورت لكل منهما ذاتية مستقلة، فبدا الآخر غريبا مهددا للأمن وعدوا يجب أن يقهر ... ضاق كل منهما بالرابطة القدرية التي فرضت عليهما وحدة كريهة لا فكاك منها. وتلاطما في دوامة من الانفعالات المحرقة الجنونية، وفارت من الأعماق موجة عمياء جرفت ستر الحياء، فارتطم الاندفاع بالندم، واشتعل الغضب، فانخرط الاثنان في معركة وتبادلا الضربات القاسية، وهمدت الحركة غائصة في الصمت والشجن ... استمرت فترة غير قصيرة، إلى أن قال «قسمتي»: إنها لعنة لا يمكن أن تمضي معها الحياة في سلام.
فقال «نصيبي» بهدوء عنيد: لكنها ستمضي في طريقها على أي حال!
فأظلمت عينا «قسمتي» العسليتان، وقال: قضي علينا بالحرمان من الانسجام الذي تحظى به جميع المخلوقات. - إنك مريض ذو أفكار مريضة.
فقال «قسمتي» بسخرية: أحدنا مريض ولا شك!
فقال «نصيبي» بتحد: لن أنزل عن حق من حقوقي، فلا مهادنة بعد الآن. - لي أيضا حقوقي.
وتبادلا نظرة متحدية وبائسة، فانقطعا عن الحوار على أسوأ حال، وفي ذلك الوقت رأيا سميحة - زميلة الطفولة - بعين جديدة ... كانا يريانها من النافذة وهي تذهب وتجيء منفردة أو بصحبة أمها، فتوقظ ذكرى عابرة ثم تختفي. أما ذلك اليوم فرأياها بعين جديدة، رأياها وقد أنضجتها شعلة الصبا فأضفت عليها بهاء وأثرتها بشهد الرغبة، أترع قلب قسمتي برحيق الفتنة فثمل، على حين جن نصيبي بالأخيلة الجامحة. تلقى قلب قسمتي شعاع الحسن كما يتلقى البرعم شعاع الشمس فيتفتح، تمنى لو تحل محل نصيبي من وجوده التعيس، ولأول مرة يشعر بأن نصيبي ليس قيدا فحسب، ولكنه سد منيع في طريق السعادة الحقيقية. أما نصيبي فظل رأسه يتحرك في اضطراب، ولما وجد الفتاة واقفة قريبة من مدخل بيتهما تنتظر، اندفع إلى الطريق جارا معه «قسمتي» ... مرق من الباب إلى الطريق، فرأته سميحة فتراجعت مبتعدة باسمة، ولكنه اندفع نحوها مسددا يديه إلى صدرها ... ففزعت ووثبت داخلة إلى بيتها. ولفتت الهجمة الحيوانية أنظار بعض المارة في شارع «الوايلية»، ولكن قسمتي رجع إلى بيتهم بسرعة وهو يسب ويلعن، والآخر مستسلم له بعد إفاقة مباغتة، وغضب «قسمتي» وصاح به: إنها فضيحة وما أنت إلا مجنون.
فلم يجبه نصيبي مغلوبا على أمره، وعلمت الأم بما حدث فجزعت، ولما عرفت الحقيقة من قسمتي، قالت للآخر: ستهلك نفسك ذات يوم.
فهتف قسمتي: وسوف يهلكني معه دون ذنب.
فقال نصيبي بجرأة: نحن في حاجة إلى زوجة!
فبهتت الأم ولم تدر ماذا تقول، فواصل نصيبي: كما ولدتنا فإنك مسئولة عن تزويجنا من بنت الحلال.
فقال قسمتي: لن توافق بنت على الزواج من اثنين!
فقال نصيبي بتحد: ابحثي لنا عن زوجتين.
فقال قسمتي بحزن: قضي علينا أن نعيش وحيدين!
فقال نصيبي: فلنعتبر شخصا واحدا كما نحن مسجلون في دفتر المواليد.
فقال قسمتي بأسى: شخص للفرجة لا للزواج.
واضطرت الأم أن تغادر الحجرة، وهي تقول: قد يكون عند الحاج حل!
وثار غضب نصيبي، وقال للآخر: لا حل إذا لم نعثر عليه بأنفسنا، فلننتظر حتى ينتصف الليل ويندر المارة ثم ننطلق في الظلام وراء أي صيد يقع.
فهتف قسمتي: خيال جنوني. - لا تكن جبانا. - لا تكن مجنونا.
وقال الحاج محسن لزوجته: لم يغب عني هذا الموضوع، ولكن لا توجد أسرة ترضى بمصاهرتنا. - والحل؟
فقال الرجل وصوته يخفض. - ستجيء امرأة مسكينة في الحلقة الخامسة لتقوم على خدمتهما!
وجاءت امرأة تعيسة الحال والمنظر، نشطوا إلى تغذيتها وتنظيفها لترضى بما يراد بها، وأعقب ذلك سكون ظاهري على الأقل ... أما في الواقع فإن نصيبي كان يسيء معاملة المرأة نهارا كتعويض عن اندفاعه الليلي، وأما قسمتي فبدا كئيبا مشمئزا، ويسأل الآخر: ما ذنبي أنا؟
فنهره نصيبي متسائلا: وهل الذنب ذنبي؟!
لم يحر جوابا، لكنه تذكر سميحة بقلبه المسلوب، وعواطفه المتأججة المحرومة، فتضاعف أساه، والحق أن كليهما شعر بالضياع والهوان، ولكن لم يشعر أحدهما بتعاسة الآخر ... وعلى العكس، اتهمه بأنه المسئول عن مأساته، وود لو يتخلص منه بأي ثمن. ودعاهما الأب للعمل في الدكان ولو كتجربة لا مفر من ممارستها ... كان يوم حضورهما في الدكان يوما معتدل المناخ من أيام الربيع ... تجليا للأعين في بنطلون رمادي، وقميصين أبيضين نصف كم، أما شعر رأسيهما فاستوى مشذبا متوسط الطول. وقفا وراء الطاولة مرتبكين، وسرعان ما تجمع كثيرون ما بين زبون ومتفرج حتى ازدحم الطريق إلى نصفه، وقال الحاج موجها خطابه لابنيه: استغرقا في العمل، ولا تباليا بالناس.
ولكن الغضب تملك نصيبي، على حين دمعت عينا قسمتي، وإذا بمصور صحفي يشق طريقه بين الجموع، ويلتقط العديد من الصور ل «محمدين» أو «قسمتي ونصيبي». وفي النصف الثاني من النهار جاء مندوب من التلفزيون يستأذن في إجراء حوار مع الشابين، ولكن الحاج رفض بحزم وبنبرة شديدة الغضب ... وبنشر الصور في الصحيفة الصباحية اشتد إقبال الناس وهبط البيع للدرجة الدنيا، فاضطر الحاج محسن خليل لمنعهما من الذهاب إلى الدكان، وقال لامرأته بقلب محزون: سوف تصفى التجارة عقب انتهاء الأجل.
وعند ذاك تساءل «نصيبي» غاضبا: لم لم تتخلص منا عقب ولادتنا؟ لم لم ترحمنا وترحم نفسك؟
فقال الحاج في تأثر شديد: لن تعرفا الضيم أبدا، وسترثان ما يحقق لكما الستر والكرامة.
فهتف «نصيبي»: لا قيمة للمال وحده، الواقع أننا ميتان، كم تمنيت أن أمارس التجارة وأبتاع سيارة وأتزوج من أربع!
وقال «قسمتي» في حسرة: وعندي الاستعداد لأكون أستاذا، وأمارس السياسة أيضا.
ونظر نصيبي إلى قسمتي، وقال بحنق: إنك العقبة التي تسد طريقي.
فقال قسمتي بإصرار: أنت ... أنت العقبة.
فتساءل الحاج: ألا تسلمان بالواقع وتسعيان إلى السعادة معا؟
فقال قسمتي: لو خلقنا برأس واحد وأسفلين منفصلين لهان الأمر!
فقال الحاج برجاء: لن تعز السعادة على من ينشدها بصدق.
فقال قسمتي بحنق: هذه السعادة هي سبب تعاستنا!
ثم التفت نحو نصيبي قائلا: تخل عن عنجهيتك واتبعني تبلغ أقصى درجات الرفعة والسعادة، أما لو تبعتك أنا فيكون مصيرنا السجن.
فقال نصيبي ساخرا: محاولة خائبة لن تنجح، نحن مختلفان تماما، أنا لا أحب المعرفة، أما السياسة فإنك إن اخترت الحكومة اخترت من فوري المعارضة والعكس بالعكس، لن أتبعك ولن تتبعني، ولن تهدأ المعركة.
فقال الأب بنفاد صبر: ارجعا إلى الوفاق، لا مفر منه، إنه قدر، كما أن اتحادكما قدر.
وعادا كارهين إلى المحاولة، تجنبا الخلاف ما استطاعا، وجارى كل الآخر رغم تقزز قسمتي الخفي وسخرية نصيبي بعيدا عن عيني صاحبه. بدوا صديقين بلا صداقة، متحالفين بلا إخلاص، فعاش كل منهما نصف حياة، وتعلق بنصف أمل ... غير أن آثار العمر طبعت في وجه نصيبي قبل الأوان، وتوكد أنه يسرع نحو شيخوخة مبكرة ... لعله نتيجة لإفراطه في كل شيء. وراح يشكو من فتور في الجنس وحساسية من الشراب، وسوء الهضم ... ولم تنفعه العطارة ولا الطب، وفي معاناته أعلن ما يخبئ من حنق على صاحبه، فاتهمه قائلا: حسدتني، عليك اللعنة!
فتسامح معه قسمتي متمتما: سامحك الله!
فصاح به: لن تشمت بي، إذا مت فستحمل جثتي إلى نهاية العمر وتتحول من بشر إلى قبر!
واشتد به الضعف حتى ركبه الخوف من الموت، ورق له قسمتي في تدهوره ... فشجعه قائلا: سترجع إلى خير مما كنت!
فلم يحفل بقوله ولم يصدقه، وذات صباح صحا مبكرا وهتف: إني ذاهب إلى موطن الحقيقة الباكية!
وهرولت إليه ست عنباية، فأدركت أنه يحتضر فأخذته في حضنها، وراحت تتلو الصمدية وانتفض صدره، وبكى قسمتي أيضا ... ولكن سرعان ما غشاه الفزع من الموت المزروع في جذعه، وتبادل الوالدان نظرة حائرة. ماذا يفعلان بهذه الجثة التي لا يمكن دفنها؟ واستدعي طبيب على عجل، فتفحص الحال، وقال: إنها مشكلة تتضمن مشكلات، ولكن لا حل إلا تحنيطه؛ إذ لا يمكن فصله.
هكذا عاش قسمتي حاملا جثة صاحبه المحنطة، أدرك من اللحظة الأولى أنه سيعيش نصف حي ونصف ميت ... وأن الحرية التي حظي بها، والتي طالما تمناها ليست إلا وهما، وأنها نصف موت أو موت كامل. أجل قرر أن يهب نفسه للعمل طيلة الوقت بعد أن زال العائق، ولكنه اكتشف أنه شخص جديد آخر ... ولد الشخص الجديد فجأة وبلا تدرج، شخص فتر حماسه، وجفت ينابيعه، وتلاشت همته، وخمد ذوقه ... شخص جفا الحياة والعبادة والمسرات اليومية البريئة ... شخص يعيش تحت سماء ماجت بالغبار فلا زرقة ولا سحب ولا نجوم ولا أفق، وقال بأسى عميق: الموت في الكون.
ورئي طوال الوقت صامتا واجما شبه نائم، فسألته أمه: ألا تسلي نفسك بفعل شيء؟
فأجابها: إني أفعل ما في وسعي، إني أنتظر الموت.
وبدا لعينيه أن الظلام يهرول نحوه واعدا بالسلام.
العين والساعة
حدث ذلك في آخر ليلة لي في البيت القديم، أو الليلة التي تم الاتفاق على أنها ستكون الأخيرة، والبيت ذو شخصية منفردة رغم قدمه، وغربته الواضحة في محيط العصر. بات وكأنه أثر من الآثار، وأكد ذلك موقعه المطل على ميدان ولد مع «القاهرة» في عام واحد، نشأنا فيه بحكم الميراث، ثم حال الجفاء بيننا وبينه بحكم تنافر الأجيال، فتطلعنا إلى الأجواء الحديثة الباهرة بعيدا عن الجدران الحجرية المغروسة في الأزقة الضيقة. كنت جالسا في الصالة المعصرانية الواسعة على أريكة طاعنة في السن تقرر الاستغناء عنها تحت منور محكم الإغلاق اتقاء لنزوات الخريف ... وكنت أحتسي قدحا من القرفة رانيا إلى إبريق نحاسي صغير قائم على خوان بين يدي، يبرز ما فيه عود بخور جاوي يحترق على مهل نافثا خيطا من الدخان الطيب وهو يتماوج ويتأود تحت ضوء المصباح في صمت الوداع، واعترى ارتياحي فتور لغير ما سبب، ثم غمرني شجن خفي. شحنت عزيمتي للمقاومة، ولكن الحياة كلها تجمعت أمام عيني في التماعة خاطفة مثل كرة من نور منطلقة بسرعة كونية، سرعان ما انطفأت واهبة ذاتها للمجهول غائصة في جوفه الأبدي.
قلت لنفسي إني على دراية بهذه الألاعيب، وإن الرحيل العارض المقرر غدا يذكرني بالرحيل الأخير عندما يرفع الحادي عقيرته مرددا النشيد الأخير، وجعلت أتسلى عن أحزان الوداع بتخيل المقام الجديد في الشارع العريض تحت أغصان البلح الملتحمة والحياة الجديدة الواعدة بمسرات أنيقة لا حصر لها، وما كادت القرفة تستقر في جوفي حتى وثبت وثبة عملاقة مباغتة انتقلت بها من حال إلى حال، فمن أعماقي تصاعد نداء يدعو بثقة لا حد لها إلى فتح الأبواب وكشف الحجاب وغزو الفضاء واقتناص الرضى والسماح من جنبات الجو المعبق بالبخور. انجابت الهموم والأشجان وخواطر الفناء، وانهمرت سيول مترعة بالنشاط والهيام والطرب ... وانتفض القلب في رقصة رائعة موحية بالإيهام والجذل، وشع نور في الباطن فتجسد في مثال، وقدم كأسا طافحة، وقال بصوت عذب «تلق هدية معجزة» ... توقعت أن سيحدث حدث، وقد حدث. ذابت الصالة في العدم، وحل محلها فناء واسع يترامى حتى يفصل بينه وبين الميدان جدار غليظ أبيض، غطته دوائر وأهلة معشوشبة، وتوسطته بئر، وعلى مبعدة يسيرة منها نخلة فارعة، وتحيرت بين إحساسين ... إحساس يقول لي إنني أرى مشهدا لم تسبق لي رؤيته ... وآخر يقول لي إنه ليس بالغريب، وإنني أراه وأتذكره معا. حركت رأسي بعنف لأحضر إن كنت غائبا، ولكن المشهد ازداد وضوحا وسيطرة، وتمثل لي بين البئر والنخلة بشر! إنه شخصي أنا رغم استخفائي في جبة سوداء وعمامة عالية خضراء، وهذا وجهي رغم لحيته المسترسلة ... حركت رأسي مرة أخرى، ولكن المشهد ازداد وضوحا ويقينا، حتى لون الوقت الأسمر أشار إلى المغيب المغترب، وتمثل أمامي - بين البئر والنخلة - كهل يماثلني في الزي، رأيته يناولني صندوقا صغيرا، ويقول: إنها أيام غير مأمونة، يجب إخفاؤه تحت الأرض حتى تعود إليه في حينه.
فسألته: ألا يحسن أن أطلع عليه قبل إخفائه؟
فقال بحزم: لا ... لا ... قد يحملك ذلك على التسرع في التنفيذ قبل مضي عام، فتهلك! - أعلي أن أنتظر عاما؟ - دون نقصان، ثم أطع ما يمليه عليك.
وصمت لحظة ثم واصل محذرا: إنها أيام غير مأمونة، وقد يتعرض بيتك للتفتيش، فيجب إخفاؤه في الأعماق.
وقام الاثنان بالحفر على كثب من النخلة، ودفنا الصندوق، ثم أهالا عليه التراب، وسويا السطح بعناية، ثم قال الكهل: أتركك للعناية الإلهية ... كن حذرا، إنها أيام غير مأمونة.
وعند ذاك تلاشى المشهد فكأنه لم يكن، رجعت صالة البيت القديم، وما زال في عود البخور بقية، ورحت أفيق من نشوتي بسرعة، وأرتد إلى الواقع بكل كثافته، وغلبني الانفعال والتأثر طويلا. ترى أكان وهما ما رأيت؟ هذا هو التفسير الجاهز، ولكن كيف آخذ به وأنسى المشهد المجسد الذي نفث اليقين بكل أبعاده؟ لقد عشت واقعا ماضيا لا يقل في صلابته عن الواقع الراهن، رأيت نفسي أو أحد جدودي وجانبا من عصر انقضى، لا يجوز أن أشك في ذلك وإلا شككت في عقلي وحواسي، لا أدري بطبيعة الحال كيف حدث ذلك، ولكني أدري أنه حدث ... وثمة سؤال غزاني بعنف: لماذا حدث ما حدث؟ ولماذا حدث في هذه الليلة الأخيرة لي في البيت القديم؟ وفي الحال شعرت بأنني مطالب بعمل شيء ما ... شيء لا مفر منه. وترى هل استخرج «الآخر» الصندوق بعد مضي العام، وصنع ما يشير عليه به، هل نفد صبره فتسرع فهلك؟ هل انقلبت عليه خطته بسبب تلك الأيام غير المأمونة؟! يا لها من رغبة آسرة في المعرفة لا يمكن مقاومتها! وخطر لي خاطر غريب، وهو أن الماضي لم يتمثل لي إلا لأن «الآخر» حيل بينه وبين الصندوق، وأني مدعو لاستخراجه وتنفيذ ما يشير به بعد إهمال طال واستطال أمدا غير معروف. إنه يأمرني بألا أهجر البيت القديم لكي أعمل بكلمة قديمة مجهولة آن لها أن تتحقق ... ومع أن الموقف كله تسربل بغشاء منسوج من الأحلام، متنافر تماما مع العقل، غير أنه هيمن علي بقوة طاغية ... فامتلأ القلب بأشواق التطلع والانتظار وآلامهما الجامعة بين الترقب والعذوبة، ولم أنم من الليل ساعة واحدة، وظل خيالي يجوب أرجاء الزمان الشامل للماضي والحاضر والمستقبل معا، ثملا بخمر الحرية المطلقة، أمست فكرة الرحيل في خبر كان، واستحوذت علي نية التنقيب في الماضي المجهول لعلي أعثر على الكلمة التي طال رقادها، ثم أتأمل ما ينبغي صنعه بعد ذلك. وبالمقارنة بين المشهد البائد والمشهد الماثل لعيني، قدرت أن موقع النخلة القديم يقوم في موضع السلم الصغير الصاعد إلى المنظرة، وعليه فالحفر يجب أن يبدأ على مبعدة يسيرة منه فيما يلي شباك المنظرة، اعترضتني بعد ذلك مشكلة إخبار أخي وأختي بعدولي عن الرحيل بعد أن تم الاتفاق بيننا عليه. وكنا لا نزال في مرحلة التعليم الجامعي، فأنا في السنة النهائية بكلية الحقوق، وأخي الذي يصغرني بعام يدرس الهندسة، وأختي التي تصغرني بعامين تدرس الطب ... احتج كلاهما على عدولي المفاجئ، ولم يجدا له تفسيرا مقنعا، وأصرا في الوقت نفسه على الانتقال وحدهما غير يائسين من التحاقي بهما في وقت قريب، وقبل أن يغادراني ذكراني بما اتفقنا عليه من عرض البيت للبيع للاستفادة من ارتفاع سعر الأراضي، فلم أعارض بكلمة ... هكذا افترقنا لأول مرة في حياتنا، وكنا نؤمن بأنه لن يفرق بيننا إلا الزواج أو الموت، ولم يبق إلا أن أشرع في العمل ... والحق أني تهيبته أن يتمخض عن لا شيء، ولكني كنت مدفوعا بقوة لا تقبل التراجع، وعزمت على الحفر بنفسي ليلا في حذر وكتمان، استعنت بفأس ومجرفة ومقطف، واستغرقني العمل بهمة لا تعرف الكلل ... صبغني التراب وملأ صدري واستقر في أنفي رائحة مترعة بالأسى والزمان الأول. وتواصل العمل حتى غصت في الأعماق مقدار طولي كله، ولا معين لي إلا شعوري الباطني بأني أقترب من الحقيقة ... وضربت الفأس مرة فرجع صوتا جديدا واشيا بجسم جديد، فخفق فؤادي حتى زلزلت جذوره. رأيت الصندوق على ضوء شمعة يطالعني بوجه أغبر لكنه حي، وكأنما يعاتبني على طول تأخري، ويؤنبني على ضياع العديد من السنين، ويعلن استياءه على حبسه كلمة من حقها أن تعرف، من ناحية أخرى تجسد لي حقيقة صلبة لا يدانيها شك ... معجزة مجسدة، صوتا يملأ الأسماع، وانتصارا محققا على الزمن، صعدت به إلى سطح الأرض ثم هرولت إلى الصالة، حملت بين يدي الدليل الذي عبر بي من الحلم إلى الحقيقة هازئا بكافة المسلمات ... نفضت عنه الغبار، وفتحته، فوجدت رسالة مطوية في لفافة من كتان متهرئ، بسطتها برفق وأنشأت أقرأ: يا بني ليحفظك الله تعالى!
مضى العام وعرف كل سبيله.
لا تهجر دارك، فهي أجمل دار في القاهرة، فضلا عن أن المؤمنين لا يعرفون دارا سواها، ومأوى آمنا غيرها.
وقد آن الأوان لكي تلقى حامي الحمى مولانا «عارف الباقلاني»، فاذهب إلى داره، وهي الثالثة إلى يمين الداخل في عطفة إرم جور، واذكر له كلمة السر، وهي : إذا تغيبت بدا وإن بدا غيبني.
بذلك تؤدي واجبك، وتقبل عليك الدنيا، وتنال ما يحب لك المؤمنون وفوق ما تحب لنفسك.
قرأت الرسالة مرات، حتى حالت القراءة آلية لا معنى لها، أما قريني القديم فلا علم لي بما آل إليه مصيره ... لكن المؤكد أن الدار لم تعد أجمل دار في القاهرة، ولا المأوى الآمن للمؤمنين، ولم يعد لحامي الحمى «عارف الباقلاني» وجود، فعلام كانت الرؤيا وعلام كان التعب؟! ولكن هل يمكن أن تقع معجزة بهذه القوة لغير ما سبب؟! أليس من الجائز أنها تطالبني بالذهاب إلى الدار الثالثة بعطفة إرم جور لتجود علي بما لم يقع لي في تقدير؟! وهل أملك أن أصرف نفسي عن الذهاب إلى هناك مجذوبا بحب استطلاع نهم، ورغبة تأبى أن تؤول معجزتي الفريدة إلى عبث عقيم، ذهبت مستظلا بجناح الليل متأخرا عن ميعادي عدة مئات من السنين. وجدت الحارة خاشعة تحت ظلمة يلوح في عمقها بصيص نور يشع من مصباح، ولم أر من البشر إلا آحادا عبروا بسرعة نحو الطريق ... جاوزت البيت الأول إلى الثاني وعند الثالث توقفت عن المشي ... وملت نحوه كمن يسير في حلم، حتى تبين لي أنه ذو فناء صغير يقع وراء سور قصير، وأنه لا يخلو من أشباح البشر، وقبل أن أتراجع فتح الباب وخرج رجلان طويلان في ملابس عصرية، حصراني بينهما في حركة التفاف رشيقة ثم جاءني صوت أحدهما، قائلا: ادخل لمقابلة من جئت لمقابلته.
فقلت مأخوذا: ما جئت لمقابلة أحد، ولكني أود أن أعرف اسم من يقيم في البيت. - حقا! لماذا؟!
فقلت وأنا أزيح عن صدري انقباضه: أود أن أعرف إن كان المقيم هنا من آل الباقلاني.
فقال الرجل متهكما: دعك من الباقلاني، وواصل رحلتك إلى نهايتها.
أفضى إلي قلبي بأنهما من رجال الأمن ... فخامرني قلق وحيرة، وقلت: لا توجد رحلة ولا مقابلة. - سوف تغير رأيك.
وقبض كل منهما على ذراع، وساقاني رغم مقاومتي إلى الداخل. انتزعت من الحلم ودفعت إلى كابوس، وأدخلت إلى حجرة استقبال مضاءة يقف في وسطها شخص في جلباب أبيض والقيد الحديدي في يديه، ورأيت في أنحاء الحجرة رجالا من نوع الرجلين اللذين ساقاني على رغمي، وقال أحد الرجلين: كان قادما للاجتماع بصاحبه.
التفت رجل - حدست أنه رئيس القوة - إلى المقبوض عليه، وسأله: أحد زملائك؟
فأجاب الشاب بوجه متجهم: لم أره من قبل.
فنظر الرجل نحوي، وسألني: هل تردد الكلام نفسه، أو توفر على نفسك وعلينا العناء، وتعترف؟
فهتفت بحرارة: أحلف بالله العظيم على أنه لا علاقة لي بشيء مما تظنون.
فمد يده نحوي، قائلا: بطاقتك.
أعطيته البطاقة، فقرأها ثم سألني: ما الذي جاء بك إلى هنا؟
فأومأت إلى الرجلين، وقلت متشكيا: جاءا بي قسرا. - اقتنصاك من عرض الطريق؟ - جئت الحارة للسؤال عن الباقلاني. - ماذا يدفعك للسؤال عنهم؟
فارتبكت وتحيرت وشعرت بالحذر الواجب أن يشعر به من يجرى تحقيق معه، قلت: قرأت عنهم في التاريخ، وأنهم كانوا يقيمون في ثالث بيت إلى يمين الداخل إلى هذه الحارة. - دلني على المرجع الذي قرأت فيه ذلك.
فغصت في الحيرة أكثر، ولم أحر جوابا، فقال: الكذب لا يفيد، بل إنه يضر!
فتساءلت في شبه يأس: ماذا تريدون مني؟
فقال بهدوء: إنك ملقى القبض عليك للتحقيق.
فصحت: لن تصدقوني إذا صارحتكم بالحقيقة. - ترى ما هي هذه الحقيقة؟
تنهدت وفي ريقي تراب، ثم أنشأت أقول: كنت جالسا وحدي في صالة بيتي.
وأفشيت سري تحت نظراتهم الصارمة الساخرة، ولما انتهيت قال الرجل ببرود: ادعاء الجنون لا يفيد أيضا.
فهتفت بشماتة، وأنا أخرج الرسالة من جيبي: إليكم الدليل.
تفحصها مليا، وهو يهمس لنفسه: ورقة غريبة، سنجلو سرها بعد قليل.
وراح يقرأ السطور بعناية وشفته تتفرج عن بسمة هازئة، ثم تمتم: شفرة مكشوفة!
ثم نظر نحو صاحب الدار المقبوض عليه، وسأله: سيادتك «عارف الباقلاني»؟ أهذا هو اسمك الحركي؟
فقال الشاب باستهانة: ليس لي اسم حركي، وما هذا الغريب إلا أحد مرشديكم جئتم به لتلفقوا لي تهمة، ولكني خبير بهذه الألاعيب.
وتساءل أحد المعاونين: ألا يستحسن أن نبقى لعل آخرين يأتون فيقعون في الشرك ؟
فقال الرجل: سننتظر حتى الفجر.
وأشار إلى الرجلين الممسكين بي إشارة خاصة ... فشرعا يضعان القيد الحديدي في يدي غير مبالين باحتجاجي، ولم أصدق المصير الذي انزلقت إليه ... كيف يبدأ بمعجزة باهرة وينتهي بمثل هذه الوكسة؟! لم أصدق ولم أستسلم لليأس ... أجل إني أنغمس في محنة حتى قمة رأسي، ولكن الرؤيا لم تتجل لمحض العبث، علي أن أعترف بخطئي الصبياني، وعلي أن أعيد النظر، وعلي أن أناجي الوقت.
وشملنا صمت ثقيل، تذكرت أخي وأختي في الدار الجديدة، والحفرة الفاغرة في الدار القديمة، وتراءى لي الموقف من خارجه، ففرت مني ضحكة، ولكن لم يلتفت لي أحد، ولا خرج من الصمت.
الليلة المباركة
ما هي إلا حجرة وحيدة يتوسطها البار والرف المزين بالقوارير في عطفة نوري المتواضعة، والمتفرعة عن «كلوت بك»، اسمها «الزهرة»، ولكن يعشقها لحد الوله الشيوخ المدمنون، وخمارها طاعن في السن، متماد في الهدوء، مؤثر للصمت، غير أنه يشع مودة وأنسا، وبخلاف الحانات تهيم في سكينة رائعة، وكان روادها يتناجون في الباطن ويتحاورون بالنظرات، وفي الليلة المباركة خرج الخمار عن صمته التقليدي، وقال: حلمت أمس بأن هدية ستهدى إلى صاحب الحظ السعيد.
فشدا قلب «صفوان» بنغمة مصحوبة بعزف عود خفي ... فتدفقت موجات الخمر في أرجائه كالكهرباء، فهنأ نفسه قائلا: «مباركة الليلة المباركة» ... وغادر الخمار ثملا يترنح، غائصا في الليل الجليل تحت سماء خريف لم يخل من وميض نجوم، مضى نحو «شارع النزهة» مخترقا الميدان متألقا بنشوة لم يعتورها أدنى خمول، بدا الشارع خاشعا تحت ستار الظلام عدا أضواء المصابيح الرسمية المتباعدة، بعد أن أغلقت الحوانيت أبوابها وركنت المساكن للنوم، ووقف أمام بيته ... وهو الرابع إلى اليمين ذو الرقم 42، من دور واحد، يتقدمه فناء قديم لم تبق من حديقته إلا نخلة فارعة، وعجب للظلام الكثيف الذي يحتويه، وتساءل لم لم تضئ زوجته مصباح الباب الخارجي كالعادة؟! وخيل إليه أن شبح البيت يتبدى في صورة جديدة، جهمة غليظة موحشة، وأن رائحة تفوح منه كالشيخوخة ... ورفع صوته هاتفا: يا هوه!
فاستوى أمام عينيه وراء السور شبح رجل يسعل، ثم يتساءل: من أنت، وماذا تريد؟
فذهل صفوان لوجود الغريب وسأله بحدة: من أنت؟ ... وماذا أدخلك بيتي؟!
فقال الرجل بخشونة وغضب: بيتك؟ - من أنت؟ - أنا خفير الأوقاف. - لكن هذا بيتي.
فصاح الرجل ساخرا: هذا بيت مهجور من قديم، تجنبه الناس لما يشاع عنه من أنه مسكون بالعفاريت.
سلم بأنه ضل طريقه، وهرول نحو الميدان، وشمله بنظرة شاملة، ثم رفع رأسه إلى لافتة الشارع، وقرأ بصوت مرتفع «النزهة»، ودخل هذه المرة وهو يعد البيوت عدا حتى بلغ الرابع ... وقف مذهولا يكاد يجن. لم يجد بيته، ولا البيت المسكون، ولكنه رأى أرضا، فضاء، خرابة، مبسوطة بين البيوت، وتساءل: أفقدت بيتي أم فقدت عقلي؟!
ورأى «الشرطي» قادما وهو يتفقد أقفال الحوانيت، فاعترض سبيله، وسأله وهو يشير نحو الخرابة: ماذا ترى هنا؟
فحدجه الشرطي بنظرة مستريبة، وتمتم: هذه خرابة كما ترى، وتقام فيها سرادقات الموتى أحيانا.
فقال «صفوان»: كان يجب أن أجد مكانها بيتي، تركته وفيه زوجتي وهي في تمام الصحة والعافية عصر اليوم فقط ... فمتى هدم وأزيلت أنقاضه؟!
فدفن الشرطي ابتسامة طارئة في عبوسة رسمية، وقال له بخشونة: اسأل السم الزعاف في بطنك!
فقال صفوان بكبرياء: إنك تخاطب مديرا عاما سابقا!
فقبض الشرطي على ذراعه ومضى به قائلا: سكر وعربدة في الطريق العام!
وسار به إلى «قسم الظاهر» على مبعدة يسيرة، وأوقفه أمام الضابط في حال تلبس، ورثى الضابط لوقاره وسنه، فقال: البطاقة؟
وأخرج له بطاقته، وهو يقول: إني في تمام وعيي، ولكن بيتي لم يعد له أثر.
فقال الضابط ضاحكا: سرقة من نوع جديد لا أدري كيف أصدقها.
فقال صفوان بقلق: ولكني أقول الحقيقة. - الحقيقة مظلومة، ولكني سأعاملك برفق إكراما لسنك.
ثم قال للشرطي: اذهب به إلى البيت رقم 42 بشارع النزهة.
وذهب به الشرطي، وأخيرا وجد نفسه أمام بيته كما يعرفه، ورغم سكره دهمه الحياء ... وفتح الباب الخارجي، وعبر الفناء، وفتح الباب الداخلي، وأضاء مصباح المدخل، وعند ذاك بهت، وجد نفسه في مدخل لم تقع عليه عيناه من قبل لا صلة البتة بينه وبين مدخل بيته الذي عاش فيه حوالي نصف قرن حتى أبلى أثاثه وجدرانه ... وقرر التراجع قبل انكشاف أمره، فمرق إلى الطريق، وقف يتفحص البيت من الخارج، إنه بيته، من ناحية الشخصية والموقع، وقد فتح أبوابه بمفتاحه، فلا منفذ إلى الشك في ذلك، فماذا غيره من الداخل؟! ثمة نجفة صغيرة بهيئة الشمعدان، والجدران مورقة، وسجادة جديدة! من ناحية هو بيته، ومن ناحية أخرى هو بيت غريب، وماذا عن زوجته «صدرية»؟!
وقال بصوت مسموع: إني أشرب منذ نصف قرن، فماذا حدث في هذه الليلة المباركة؟!
وخيل إليه أن بناته السبع المتزوجات ينظرن إليه بأعين دامعة، ولكنه عزم أن يحل مشكلته بنفسه دون لجوء إلى السلطات وإلا عرض نفسه لسيف القانون، واقترب من سور الفناء وراح يصفق بيديه، وفتح الباب الداخلي عن شخص لم تتضح معالمه، وجاءه صوت امرأة متسائلا: ماذا يوقفك في الخارج؟!
خيل إليه أنه صوت غريب، أو شك في ذلك، وتساءل: بيت من من فضلك؟!
فهتفت المرأة: لهذا الحد؟! لا ... لا ...
فقال بحذر: أنا صفوان. - ادخل وإلا أيقظت النائمين. - أأنت «صدرية»؟! - لا حول ولا قوة إلا بالله، يوجد من ينتظرك في الداخل. - في هذه الساعة؟! - إنه ينتظر منذ العاشرة. - ينتظرني أنا؟!
فتأففت بصوت مسموع، فتساءل: أنت صدرية؟!
فهتفت بنفاد صبر: لا حول ولا قوة إلا بالله!
وتقدم، في حذر أولا ثم باستهانة، وجد نفسه في المدخل الجديد ... ورأى باب حجرة الاستقبال مفتوحا والأضواء تنير الداخل بقوة ... أما المرأة فقد اختفت، ودخل حجرة الاستقبال فطالعته بمنظر جديد مثل المدخل. أين ذهبت الحجرة القديمة بأثاثها العتيق؟! جدران حديثة الطلاء، ونجفة كبيرة تتدلى منها فوانيس من طراز إسباني، وسجادة زرقاء، وكنبة وثيرة وفوتيات مريحة، فهي حجرة فاخرة ... وفي الصدر جلس رجل غريب لم يره من قبل، نحيل غامق السمرة ذو أنف يذكر بمنقار «الببغاء»، وفي بصره حدة، ويرتدي بدلة سوداء رغم أن الخريف كان يسحب خطاه الأولى، بادره الرجل بضيق: شد ما تأخرت عن ميعادنا!
فذهل «صفوان» وغضب في آن، وتساءل: أي ميعاد؟ من أنت؟!
فهتف الرجل: هذا ما أتوقعه، النسيان! صادق أو كاذب، الشكوى نفسها، تتكرر كل يوم لا فائدة، ولكن هيهات.
فصاح صفوان بحدة: ما هذا الهذيان؟
فقال الرجل وهو يضبط أعصابه: أعرف أنك صاحب «مزاج» وأنك تفرط أحيانا.
فقاطعه: إنك تخاطبني وكأنك ولي أمري، على حين أنني لا أعرفك، ويدهشني أنك تفرض نفسك على بيت في غياب صاحبه.
وهو يضحك ضحكة باردة: صاحبه؟!
فتساءل في عنف: كأنك تشك في ذلك ... أرى ضرورة استدعاء الشرطة!
فاندفع الرجل في غضب: كي تقبض عليك بتهمة السكر والعربدة والاحتيال! - اخرس، إنك محتال وقليل الأدب.
فضرب الرجل كفا بكف، وقال: تتجاهلني لتهرب من تعهداتك، ولكن هيهات. - أنا لا أعرفك ولا أفهمك. - حقا؟! أتدعي النسيان والبراءة؟ ألم توافق على بيع البيت والزوجة، وتحديد هذه الليلة لإنهاء الإجراءات النهائية؟!
فذهل صفوان، وصاح: يا لك من شيطان كذاب!
فقال بهدوء، وهو يرفع منكبيه: كالعادة كالعادة أف لكم! - أنت مجنون بلا شك. - لدي الدليل والشهود! - لم أسمع عن إنسان فعل ذلك من قبل. - بل يحدث كل ساعة، ولكنك ممثل بارع وسكران.
فقال صفوان وهو ممزق بين انفعالاته المتضاربة: أطالبك بالخروج في الحال.
فقال بصوت مليء بالثقة: بل ننهي الإجراءات الناقصة.
ونهض نحو الباب المغلق المفضي إلى الداخل ونقره، ثم رجع إلى مجلسه، وفي الحال دخل رجل قصير مربع الأنف بارز الجبهة يتأبط دوسيها متخما بالأوراق ... فانحنى تحية وجلس، ثقبه صفوان بنظرة قاسية، وصاح: متى أصبح بيتي مأوى للأغراب؟!
فقال الرجل الأول مقدما الداخل: الأستاذ المحامي.
فسأله صفوان بشدة: من أذن لك بالدخول في بيتي؟
فقال الأستاذ مبتسما: أنت مرهق، ولكن الله يسامحك، ماذا يغضبك؟ - يا لك من صفيق!
فقال الأستاذ دون مبالاة بقوله: الصفقة في صالحك دون ريب.
فسأله بذهول: أي صفقة؟! - أنت تعرف تماما ما أعنيه ... وأود أن أقول لك إن التفكير الآن في التراجع غير مجد، القانون معنا والعقل أيضا، دعني أسألك ... أترى أن هذا البيت هو بيتك حقا؟!
لأول مرة يشعر بالحرج، ويقول: نعم ولا. - أكان على هذه الحال عندما غادرته؟! - كلا. - إذن فهو بيت آخر. - لكنه نفس الموقع والرقم والشارع. - جميع ذلك أعراض لا تمس الجوهر، وإليك أمرا آخر.
وقام فنقر الباب ثم رجع إلى مجلسه، وسرعان ما دخلت امرأة متوسطة العمر والجمال مهذبة المظهر مع ميل إلى الحزن، فجلست إلى جانب الرجل الأول، وعاد المحامي يسأله: هل ترى في هذه السيدة زوجتك؟
خيل إليه أنها تمت بشبه إليها، ولكنه لم يملك أن قال: كلا. - عظيم ... لا البيت بيتك ولا السيدة زوجتك ... فما عليك إلا أن توقع على الاتفاق الأخير ثم ترحل. - أرحل! إلى أين؟! - يا سيدي لا تكن عنيدا، الصفقة في صالحك تماما وأنت تعلم ذلك.
ودق جرس التليفون في هذه الساعة المتأخرة من الليل، وكان المتحدث الخمار.
وعجب صفوان لأنه كان يتلفن له لأول مرة في حياته، قال له: «صفوان بك»، وقع دون تأخير. - لكن هل تعلم ... - وقع، إنها فرصة لا تعوض في العمر إلا مرة واحدة.
وأغلق السكة، تذكر صفوان الحوار القصير، وإذا بأعصابه تهدأ وتستقر وتستسلم من أقصى طرف إلى أقصى طرف ... في ثانية تغير حاله تماما، فانبسطت أساريره وزايله التوتر فوقع، عند ذاك سلمه المحامي حقيبة صغيرة وثقيلة نوعا ما وهو يقول: فليبارك الله خطاك، في هذه الحقيبة كل ما يلزم الإنسان السعيد في هذه الدنيا.
وصفق الرجل الأول فدخل رجل بدين جدا باسم الثغر جذاب الروح، فقال المحامي يقدمه إلى صفوان: هذا رجل أمين وخبير في عمله، وسيوصلك إلى مأواك الجديد ... حقا إنها صفقة رابحة!
ومضى الرجل البدين إلى الخارج فتبعه صفوان ساكنا مطمئنا ويده تشد على مقبض الحقيبة، تقدمه الرجل في الليل فتبعه، ولما لفحه الهواء ترنح فأدرك أنه لم يفق بعد من سكرة الليلة المباركة، وأوسع الرجل خطاه فطالت المسافة بينهما، فأسرع بدوره رغم سكره مسددا بصره نحو شبح الآخر، وهو يعجب لجمعه بين الخفة والبدانة، وهتف به: تمهل في سيرك يا حضرة.
فكأنه حثه على مزيد من السرعة، فتدفق في خطى متلاحقة، فاضطر صفوان إلى الهرولة خشية أن يفقده فيفقد أمله الأخير، ولكنه خاف أن يعجز عن الصمود، فهتف به مرة أخرى: تمهل وإلا ضللت طريقي.
فإذا بالآخر غير عابئ به، ففزع صفوان واندفع يجري غير مبال بالعواقب، وناله من ذلك عناء شديد وغير مجد أيضا؛ لأن الرجل غاص في الظلام وتوارى عن عينيه، وخاف أن يسبقه إلى «ميدان الينابيع» حيث تتفرق طرق شتى فلا يدري في أي طريق ذهب، فراح يجري بأقصى سرعة مصمما على اللحاق به، وأثمر جهاده، فلاح له شبحه مرة أخرى عند مفترق الطرق، رآه ينطلق صوب الأمام نحو الحقول متجاهلا الفروع المائلة نحو المدينة شرقيها وغربيها ... فانطلق وراءه، وتواصل العدو بغير انقطاع ودون أدنى شعور بالعجز من ناحيته، وفغمت خياشيمه روائح طيبة، مستثيرة ذكريات شتى لم يجد وقتا لتمليها ومعايشتها، وعندما انفرد بهما فضاء السماء والأرض أخذ الرجل يهدئ من سرعته على مهل، حتى رجع إلى الهرولة فالمشي، ثم توقف، ولحق به وتوقف وهو يلهث ... نظر إلى الظلمة الشاملة المشعشعة بأضواء النجوم الخافتة ثم تساءل: أين المأوى الجديد؟
فلزم الرجل الصمت، على حين راح وهو يشعر بغزو ثقل جديد ينقض على منكبيه وسائر جسمه، ونما الثقل وتصاعد حتى خيل إليه أن قدميه ستغوصان في الأرض، واشتدت وطأته حتى لم تعد تحتمل الصبر، وباندفاعة عفوية خلع حذاءه، ومضت الوطأة في صعود فنزع جاكتته وبنطلونه وطرحهما أرضا، ولم يحدث ذلك أثرا يذكر، فتخلص من ملابسه الداخلية غير مبال برطوبة الخريف، غير أن الألم ألهبه، فلم يجد بدا من ترك الحقيبة تهوي إلى الأرض وهو يتأوه ... عند ذاك خيل إليه أنه استعاد توازنه وأنه يستطيع أن يتابع الخطوات المتبقية، وانتظر أن يفعل صاحبه شيئا، ولكنه غرق في الصمت، وأراد أن يحاوره فامتنع عليه الحوار، وتسلل الصمت الشامل من مسامه إلى صميم قلبه، وخيل إليه أنه سيسمع بعد قليل الحوار الدائر بين النجوم.
رأيت فيما يرى النائم
الحلم رقم 1
رأيت فيما يرى النائم.
أنني راقد، أنني نائم أيضا، ولكن وعيي يرامق الظلام المحيط ... وثمة أنثى أقبلت يند عنها حفيف ثوب، والحجرة ما الحجرة؟ أهي حجرتي الراهنة أم أخرى آوتني فيما سلف من الزمان؟ ويتهادى الوجه إلى حسي رغم الظلام باستدارته الناعمة وسمرته الصافية ورنوته الناعسة، نسق تسريحتها عصري ... أما ثوبها فقديم يجر ذيلا مثل سحابة رشيقة، وهمس صوت لم أر قائله: للزمن نصل حاد وحاشية رقيقة.
وركعت في استسلام وانهمكت في عمل، ثبتت عليها عيناي، ولكني لم أنبس بكلمة ... وحدست وراء انهماكها غاية دانية، وقال الصوت: الأنفاس العطرة تصدر عن قلب طيب.
وانتظرت حتى جمعت أدواتها ونهضت في رشاقة، ومضت نحو الخارج ... شدتني بخيوط خفية لا تنقصف، فانزلقت من الفراش وتبعتها، وهيمن علي شعور بأنني مدعو لأمر ما، وأنني لن أحيد عن التطلع إلى الأمام ... تمضي متأودة كأنها ترقص باعثة وراءها بنسائم من الذكريات، تعرف طريقها في الليل وأهتدي أنا بشبحها، ومررت بأشياء وأشياء ولكني أنسيتها فتوارت مثل شرر متطاير. وعند موضع عبق بشذا الحناء فصل بيننا قطار سريع طويل رج الأرض ومن عليها ... وبذهاب ضجيجه استوى الليل أمامي وحده فضاعفت من سرعتي، وأطبق الليل وحده واختلجت فيه الوعود المضمخة بشذا الحناء ... لم يعد في وسعي التراجع، وليس معي من الحوافز إلا الظمأ والشوق.
الحلم رقم 2
رأيت فيما يرى النائم.
حبة رمل ملقاة بين جذور أشجار في مكان لعله غابة، جذبت انتباهي واستحوذت عليه ببريقها، وبما أوحته إلي من أنها تراني كما أراها ... وقلقت في موضعها فلم أشك في أنها مقبلة على مغامرة، وأثارت حب استطلاعي إلى أقصى حد، ومضت تنتفخ رويدا حتى آلت إلى كرة مغطاة بزوائد مثل أوراق الورد، مرقوم على صفحاتها كلمات لم أتبينها ... ووثبت كأنما قذفتها قوة في الفضاء مقدار أشبار، وتهاوت مرتطمة بالأرض محدثة صوتا قويا استرسل صداه فيما يشبه النغم، وتمادت في الانتفاخ حتى صارت في حجم قبة ضخمة ثم انطلق منها عمود عملاق بسرعة مخيفة زلزلت لها الأشجار الفارعة حتى تلاطمت ذراها مع حشائش الأرض، وانبثقت من العمود فروع لا حصر لها غاصت في الفضاء، وانبسطت أوراقها كالزواحف مثقلة بآلاف الكلمات المبهمة، وركبني الارتياع فعدوت بأقصى ما لدي من سرعة مبتعدا عن مركزها المتفجر، عدوت منها، ولكني عدوت في مجالها وحضنها وقبضتها، فلا منفذ للهرب ولا صبر على التوقف أو الاستسلام ... والفورة محدودة وسطح الأرض معاند والرياح على غير ما أشتهي، واستوى في شعوري البعد والقرب إزاء تلك الكينونة المتمادية في التعملق بلا نهاية. إن صوت نموها الهائل يدوي، وظلها يغشى الأشياء كالليل، وردة فعلها تعبث بالكائنات، وأطراف قبضتها تنحدر فيما وراء الأفق، وتبين لي أنني لست الوحيد في المأزق، وأن ملايين يلهثون من العدو، وأن السحب تركض أيضا والرياح وأضواء النجوم، وارتفع صوت قائلا: رفهوا عن أنفسكم بالغناء.
فتساءل صوت آخر: هل يطيب الغناء والمطرب يتخبط في القبضة؟
فقال الصوت الأول: رفهوا عن أنفسكم بالغناء!
وتحركت الحناجر تغني كل على ليلاه، وتضاربت الأصوات، فانقلبت عربدة تنضح بالوحشية والجمال.
الحلم رقم 3
رأيت فيما يرى النائم.
أن ثمة عينا ترنو إلي ... عين كبيرة كأنها فسقية، جميلة الرسم، عقيمة السواد، ناصعة البياض، مستوية في مكان غير معروف، ولكن سحائب بيضاء تظللها ... وفي نظرتها ما يوحي بأنها تراني، وربما تعرفني، ولكن يكتنفها حياد يقصيني إلى ما وراء الغيب، وقلت لنفسي إنها عين امرأة، فأين بقيتها؟ وقلت أيضا بصوت مسموع: آفة الحب الحياء!
عند ذاك رأيت خيالي رفيق صباي الراحل، فتعانقنا بحرارة، وفي غمرة الفرحة باللقاء نسيت حزني الكبير عليه، وسرعان ما اختفى من مجال البصر لتحل محله ساحة المولد النبوي في أيامها البعيدة الزاهرة ... ووجدتني في صف طويل أمام شباك التذاكر الخاص بخيال الظل. ودخلت مسرحه الصغير، ولكني وجدت نفسي في سرادق امتحان ... واتخذت مجلسي كتلميذ وشرعت في الإجابة، ولما لم يبق من الزمن إلا دقائق، وضح لي أنني أجبت على سؤال غير السؤال المطلوب الإجابة عليه ... وضاق صدري، فتساءلت: سهوة عابرة تضيع حياة؟!
فسألني المراقب متهكما: أنسيت قول المتنبي؟!
فحرت أي بيت يقصد، وتحاشيت السؤال، ووجدتني بعيدا أتأبط ذراع رفيق صباي الراحل متطلعين معا إلى العين ... تبدت العين هذه المرة أوغل في العمر وأحوز للحكمة وأعمق في الحياد، قلت لصديقي: أخشى أن يغلبني الحزن.
فأضاء وجهه بضحكة صافية، وسألني هامسا: من القائل «آه لو تعلمون ما أعلم؟ ...»
فعصرت ذاكرتي لأتذكر، ولكن «الديك» صاح مؤذنا بطلوع الفجر.
الحلم رقم 4
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في العوامة كالأيام الماضية، وغنى صوت في أعماقي «عادت ليالي الهنا»، وشعرت بالدفء وسط الأصدقاء والأحباب ... ولما تفرست في الوجوه انتقلت من حال إلى حال، المكان هو المكان، والمنظر هو المنظر، ولكن أين الوجوه أين؟! أمسك الزمن بقلمه ونقش على صفحاتها تجاعيده، وبث في مجاريها ذبوله ... وامتص بنهمه النضارة والرونق، وفي مواضع المصابيح الكهربائية حلت شموع تحترق، فلم يبق من قاماتها الرشيقة إلا أنصاف وأرباع، ورقصت ظلال الأشباح فوق الجدران، ومن الأفواه المثرمة تساقطت ضحكات فاترة كأنها أنات وتنهدات، وفي مركز الجلسة بسطت سجادة مربعة صفت عليها جنبا إلى جنب جثث محنطة للأعزاء الراحلين، قال صوت: هكذا كان يفعل قدماء المصريين في حفلاتهم.
فتساءلت: ولكن أين ذهبت الحضارة؟
فقال صوت: المنبع والمصب يقعان خارج أسوار الحضارة.
وافتقدت بشدة الحوار والثرثرة، فتساءلت: ماذا أسكتنا؟!
فأجاب صديق ضاحكا وعيناه تدمعان: اللعنة في التكرار.
فتساءلت: أليس ثمة شكوى جديدة تقتضي ضحكة جديدة؟
فأجاب مستزيدا من الضحك والدموع: ثبت أن جميع الشكاوى مسجلة على «حجر رشيد».
واقتحم عم عبده علينا مجلسنا، وهو يقول: آن أوان قراءة الطالع.
ونظر في بطون نعالنا مليا ثم قال: ستسيرون فوق الماء إلى جزيرة الذهب.
وهيمن علينا الحلم والابتسام.
الحلم رقم 5
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في استديو، مضيت كمن يعرف طريقه إلى البلاتوه رقم «1» في صمت كامل يوحي بأن ثمة تصويرا للقطة ما، اقترب مني رجل بدين ذو مظهر سيادي ... وهمس في أذني: أهلا بك يا أستاذ.
ووجدتني أعرف أنه المنتج وأنني مندوب فني لمجلة الفن، وتابعت المشهد الذي تدور الكاميرا لتصويره وسط جمع من الفنانين والفنيين يتابعونه أيضا في صمت تقليدي وباهتمام غزير، وكان المشهد يمثل صحراء مترامية ليس بها قائم سوى نخلة فارعة رقد تحتها عربي متلفعا بعباءته ... ويدخل المشهد رجلان، عربي وأعجمي، يقتربان من النائم ثم ينحني العربي فوقه، قائلا بإجلال: يا أمير المؤمنين!
يستيقظ النائم ثم يجلس مرسلا بصره نحو القادمين، فيقول العربي مشيرا إلى الأعجمي: رسول قادم من بلاد فارس.
ينهض «أمير المؤمنين»، يتبادل التحية مع القادم، ثم يسأله: ماذا وراءك؟
القادم يتأمله بدهش ثم يسأله: أأنت حقا «أمير المؤمنين»؟
فيجيب بتواضع: إني عبد الله وإمام المؤمنين من عباده.
فيقول الرجل في انبهار: عدلت فأمنت فنمت.
وعند ذاك ينتهي تصوير اللقطة، ينظر المنتج إلي قائلا: أخيرا سمحت الرقابة بإنتاج فيلم عن سيدنا عمر، فقلت مهنئا: خطوة عظيمة.
فقال الرجل في مباهاة: لقد اقتضى السعي أن نطلب وساطة الرئيس الأمريكي «ريجان»!
وقمت بجولة سريعة في بعض ملاهي الهرم ثم رجعت إلى البلاتوه رقم «1» لمشاهدة تصوير لقطة جديدة ... كان المشهد الذي يجري تصويره هو نفس المشهد السابق، الصحراء المترامية والنخلة الفارعة، غير أنه كان ثمة رجل عربي في عباءة رثة لابسا في رأسه طرطورا، وهو مكب على حفر موضع غير بعيد من النخلة. إنه نفس الممثل ونفس المنظر، ولكنه لا يمكن أن يكون الفاروق عمر! يمر به عربي آخر في عباءة من الخز ثم يدور بينهما الحوار الآتي:
العربي القادم :
ما لك يا جحا؟
جحا :
إني قد دفنت في هذه الصحراء دراهم، ولست أهتدي إلى مكانها.
العربي :
كان يجب أن تجعل عليها علامة!
جحا :
قد فعلت.
العربي :
ماذا؟
جحا :
سحابة في السماء كانت تظلها، ولست أرى العلامة.
وانتهى تصوير اللقطة، فأعقبه همهمة من الاستحسان، وسألت المنتج عن معنى وجود «جحا» في فيلم عن عمر، وكيف يقوم بالدورين ممثل واحد، فضحك طويلا، وقال: إني أنتج فلمين في وقت واحد، أحدهما عن عمر والآخر عن جحا في بلاد العرب، ورأيت أن أستفيد من كل منظر مشترك توفيرا للجهد والمال، وهذا منظر مشترك، فصورنا عمر للفيلم الأول، وجحا للفيلم الثاني. - والممثل واحد في الحالين؟!
فقال بثقة: إنه نجم شباك، ومن القلة النادرة التي تحسن تمثيل الدراما والكوميديا.
رأيتني عقب ذلك وأنا أركض بسرعة فائقة، ولكني لم أدر أأركض وراء هدف أريد أن أدركه أم أركض من مطارد يروم القبض علي.
الحلم رقم 6
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في حجرة بلا نوافذ مغلقة الباب، بها مقعد واحد وشمعة تحترق مثبتة فوق الأرض ... ودق الباب دقا متتابعا ففتحته، فخيل إلي أنني أنظر في مرآة، إنه صورة طبق الأصل مني إلا أنه عار تماما إلا مما يستر العورة. سألته: من أنت؟
فأجاب، وهو يلهث، مما دل على أنه شق طريقه ركضا: إنك تعرف تماما من أكون. - ولكني لا أصدق عيني.
فقال، وهو يتنفس بعمق ليسترد توازنه: أما أنا فأصدق كل شيء، ورائي عمر وأجيال لا تحصى.
فقلت برثاء: كان ينبغي أن تكون راقدا في سلام.
فقال بعتاب: لكنك لم تتركني للسلام، ما زلت تلاحقني بخواطرك حتى أخرجتني من الزمن!
فقلت بأسف: كأنك مطارد! - كيف أفلت من القبضة دون مطاردة؟! أسرع لنهرب معا.
فقلت محتجا: مجيئك إلي ورطني في جريمة لا شأن لي بها.
فجال ببصره في الحجرة، وقال: لا يبدو أن حظك أسعد من حظي، أسرع.
فقلت بقلق: ليس الأمر كما تتصور.
فقال بضيق: ولا هو كما تتصور أنت، أسرع فإنهم لن يفرقوا بيننا. - لولا مجيئك ما لحقتني الشبهة. - إنها مسئوليتك، لا تبدد الوقت.
فسألته بغيظ: ولكن إلى أين؟
فقال بعجلة: سنفكر في ذلك ونحن نعدو.
وتماسكنا باليد وأطلقنا ساقينا في الليل كمجنونين، وتساءلت: كيف نحسن التفكير ونحن نركض بهذه السرعة؟
فهتف بحدة: اجر ... اجر ... ألم تشعر بفساد جو الغرفة؟!
فقلت كالمعتذر: إني لا آوي إليها إلا في الليل.
فهتف: لا يوجد ليل ولا نهار، ولكن يوجد الهواء والركض.
وتساءلت: لماذا لا أسمع أصوات من يطاردوننا؟!
ولكنه لم يجب، وشعرت بأن يدي لم تعد تقبض على شيء، وأنه لم يعد له أثر، ولم تساورني أي رغبة في التوقف.
الحلم رقم 7
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في حديقة من أشجار الليمون، وأن الناس يزدحمون حول أشجارها ويتبارون في ملء مقاطفهم من ثمارها، وأن ثمة بيعا وشراء ومساومات، وتنافسا حاميا يشتعل ... وأن رجال الشرطة يتدخلون أحيانا لفض نزاع بهراواتهم فتسيل دماء، وكنت أتجول بين الجماعات بلا مقطف، حتى قال السمسار ساخرا: رجل مجنون جاء السوق بلا مقطف!
والحق أن الشذا هو الذي دعاني لا السوق، فهمت على وجهي أتغزل برشاقة الأشجار وخضرتها الباسمة وأغصانها الثرية، وتخلق حب خالص في رعاية القبة الزرقاء. وفي لحظة مشرقة استحلت غصنا، فأفلت من مطاردة السمسار، ومضى الزمن وأنا أتأود على دفقات النسيم، وأنهل من حرية عبقة بشذا الليمون.
الحلم رقم 8
رأيت فيما يرى النائم.
أنني عيسى بن هشام بطل مقامات الهمذاني ومريد أبي الفتح الإسكندراني، وأنني كنت أعبر ميدانا في مكان وزمان غامضين ... وترامى إلي هتاف مدو بحياة الاستقلال وسقوط الحماية، ثم وجدتني على حافة مظاهرة ضخمة تحدق بخطيب مفوه جهير الصوت عرفته رغم بعده عني بزيه الأزهري وهو يهدر داعيا إلى الثورة والفداء. وهجم الفرسان الإنجليز، فنشبت معركة، ثم وجدتني وجها لوجه مع الخطيب قريبا من مدخل جامع، قلت: أنت أبو الفتح الإسكندري، خطيب الثورة الحر.
فقال بحزن ملتهب: نفوا الزعيم الجليل، نفاهم الله من الوجود!
ثم أنشد، يقول:
لن ينال المجد من ضا
ق بما يغشاه صدرا
وتغير المكان والزمان كما أوحى إلي وجداني، ورأيتني أمتطي سلحفاة معمرة في حجم عنزة، وشهدت اجتماعا في قاعة عظيمة الاتساع تحرسها رماح الجنود، وظهر فوق المسرح خطيب اندفع يقول بحماس: لوذوا بالمليك، صاحب العرش، هو العامل الأول والعالم الأول والوطني الأول وقد دالت دولة المهرجين.
سرعان ما عرفته رغم زيه الجديد المكون من البدلة الإفرنجية، وتبعته إلى الطريق وهو ينادي تاكسي، فاقتربت منه قائلا: أهلا بأستاذنا أبي الفتح الإسكندري.
فعرفني بدوره، وصافحني ثم سألني: ماذا فعلت بك الأيام؟ - كعادتها خيرا وشرا، ولكن ماذا غيرك أنت فنقلك من النقيض إلى نقيض؟!
فقال بجفاء: العزة في التنقل.
ثم أنشد، يقول:
الذنب للأيام لا لي
فاعتب على صرف الليالي
بالحمق أدركت المنى
ورفلت في حلل الجمال
ومضى الزمن بي وأنا ممتط هذه المرة حمارا، ووجدتني في ميدان لو ذررت الملح فيه لم ينفذ إلى الأرض من هول الزحام، وفوق حافة نافذة في الدور الأسفل من بناء ضخم ... وقف خطيب يرتدي بنطلونا وقميصا نصف كم يعلوه وقار الكهولة، ويقول: ثورة مباركة تنسخ حياة فاسدة، وزعيم مبارك يشهر سيفه في وجه ملك فاسد، وحلم يتحقق تنبأت به كلماتي الحارة المسطورة في الصحف!
ثم وجدتني مع الخطيب عقب انفضاض الجمع الحاشد، قلت: يا أبا الفتح يبلى الزمان وتبقى لك جدتك لا تبلى.
فقال باسما: حمدا لله الذي أبقاني حتى أشهد هذا الزعيم.
فقلت بعد تردد: ولكني لا أذكر أنك تنبأت بما حدث أو ضقت بما كان!
فأنشد قائلا، وهو يضحك:
أنا ينبوع العجائب
في احتيالي ذو مراتب
أغتدي في الدير قسي
سا وفي المسجد راهب
وجرى الزمان وقد أركبني بغلا، وإذا بأمواج من البشر تتلاطم وتقذف بالهتافات إلى أركان المعمورة، وثمة سيارة تمضي على مهل، يقف في مقدمتها رجل يخطب من خلال مكبر صوت: محق الله الزيف والضلال، اختفى مدعي الزعامة، واستوى على العرش الزعيم، الشاب المكافح، والمناضل، والمعلم، والرائد، ومتبني ثورات العالم.
وخلوت إليه في مكان ذكرني بزاوية العميان بالباب الأخضر، وقلت: ما أنت إلا شيخنا أبو الفتح الإسكندري.
فقال، وهو يشد على يدي: لا يحتاج الأمر إلى فراسة!
فقلت: يا لك من وثاب لا يثبت على حال!
فقهقه طويلا ثم أنشد:
بؤسا لهذا الزمان من زمن
كل تصاريف أمره عجب
أصبح حربا لكل ذي أدب
كأنما ساء أمه الأدب
ووجدتني أزحف مع الزمان فوق السلحفاة كرة أخرى، ورأيت جموعا لم أر لكثافتها مثيلا من قبل، تسفح الدمع وتمزق ثيابها من لوعة الحزن. هذا والمدفع يمضي بالنعش دائسا على إرادات البشر، ثم وجدتني في بهو مكتظ المستمعين، ورجل وقور أبيض الشعر يقول بحكمة وأسى: دعوا البكاء للنساء، مصر باقية لا تموت، وآن لنا أن ننطق بالحق، ما كان عهده إلا عهد التعذيب والإفلاس والهزائم ... أفيقوا من الحزن والسحر معا، وابدءوا الحياة من جديد.
فخرقت الصفوف حتى واجهته وهتفت به: إنك لمعجزة يا أبا الفتح.
فهز رأسه ساخرا وأنشد:
هذا الزمان مشوم
كما تراه غشوم
الحمق فيه مليح
والعقل عيب ولوم
والمال طيف ولكن
حول اللئام يحوم
فسألته: ألك نظير في العباد؟!
فقهقه عاليا، وأنشد:
إسكندرية داري
لو قر فيها قراري
لكن بالشام ليلي
وبالعراق نهاري
الحلم رقم 9
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في مدينة أنيقة، أرضها أعشاب عميقة الخضرة، تنتثر في جنباتها عيون ماء، وتظللها أشجار بلح وليمون وبرتقال، تجولت فيها طويلا فلم أصادف إنسانا ولا جانا ولا حيوانا، ثم لمحت تحت صفصافة أسدا يقرأ في كتاب، فقصدته متشجعا بطمأنينة باطنية ... رفعت يدي تحية، وسألته: ماذا تقرأ يا ملك الملوك؟
فرمقني بهدوء، وتمتم: كليلة ودمنة.
فسألته باهتمام: لماذا يا ملك الملوك؟ - منه تعلمنا كيف نعيش في سعادة. - ولكن المدينة خالية!
فقال بسخرية: يلزمك أن تتعلم كيف تنظر، ما صناعتك؟
فقلت بإيحاء داخلي: أنا مغن!
فتهلل وجهه، وقال: نحن لا نستقبل إلا المغنين، أسمعني بعض ما عندك.
فغنيت:
ما في النهار ولا في الليل لي فرج
فما أبالي أطال الليل أم قصرا
فهز رأسه طربا حتى تشعثت لبدته، وقال: أرحب بك في مدينتنا لتذكر أهلها بتعاساتهم القديمة، فيزدادوا امتنانا لما حلت بهم من نعمة.
ونادى نسرا فهبط وئيدا في جلال وطاعة، فأمره قائلا: اذهب بهذا الضيف الجديد إلى فندق الرضى.
الحلم رقم 10
رأيت فيما يرى النائم.
أنني في صحراء لا يحدها إلا الأفق، أقيم خيمة لأمضي بها عطلة نهاية الأسبوع ... لا صحبة إلا الرمال في الأرض والزرقة العميقة في السماء وحدأة تدور عاليا فوق رأسي كأنما تنتظر. وظهر أمامي فجأة رجل في عباءة حمراء ينطق وجهه بالشباب والأسى ... تبادلنا النظر ثم تبادلنا التحية، قلت له: لعلك في عطلة مثلي؟
سألني، وكأنه لم يسمعني: من أنت؟
فأجبته بإيجاز: اسمي نديم. - نديم من؟ - إنه اسم لا صفة، كأنك تبحث عن شيء؟!
فقال بحيرة: ملابسك غريبة، أأنت من أهل المكان؟ - إني أزوره أحيانا التماسا للنزهة. - متى زرته آخر مرة؟ - منذ شهر.
فأشار إلى موضع من الرمال المترامية، وقال: كان هنا يقوم قصر الملكة.
فتساءلت بذهول: أي ملكة؟
فأشار إلى موضع آخر، وقال: وذاك موضع دار القضاء.
فداخلني شك في عقله، وسألته: متى زرت المكان آخر مرة؟
فقال دون مبالاة: منذ خمسة آلاف سنة!
فلم أتمالك من الضحك، فقال ببرود: ماذا يضحكك يا هذا؟!
وجعلت أنظر إليه في حذر متحاشيا إثارته، فقال وهو يشير إلى موضع جديد: وهناك كانت تصدح أرجاء البهو بالغناء.
فقلت أجاريه متظاهرا بتصديقه: مائة عام كافية لتغيير أي مكان ... فما بالك بخمسة آلاف سنة، من حضرتك؟
فقال بهدوء: أنا الخضر. - سيدنا الخضر؟! - سيدنا؟! - لقد حظيت بالخلود، فأنت سيد البشر!
فقال بأسى: أنا أسير الوحدة، فأنا الخلاء وأي أغراب لا يعرفونني.
واندفعت بإلهام قوي، أقول: هلا سمحت لي بمرافقتك بعض الوقت؟
فهز منكبيه، وقال: لن تستطيع معي صبرا.
ومضى مبتعدا، وهو يسير بسرعة البرق.
الحلم رقم 11
رأيت فيما يرى النائم.
أنني حزين وقلبي ثقيل، ولكنني لا أعرف سببا معينا لحالي ... وسرت في طريق مجهول حتى أرهقني السير، وشعرت طوال الوقت بأنني أسعى وراء غاية، لكنها غابت عن وعيي أو غاب عنها وعيي. وتبرق لحظة خاطفة في غياهب نفسي مغررة بي، فأتوهم إنني مستكشفها، ولكنها سرعان ما تغوص في الظلام مخلفة يأسا ... ودوما لا أكف عن التطلع والانخداع واليأس، ولا أكف عن السير، وصحبني الحزن مع خطاي، وانثالت علي صور متلاحقة سريعة هامسة بذكريات الهناء الراحل والأحبة الذاهبين. وأذهلتني كثرتها كما أذهلني عدمها، وقعقع الرعد حتى ارتعشت أطرافي، ولكنه قال بصوت واضح: سوف تنقشع الأحزان وينهمر المطر.
الحلم رقم 12
رأيت فيما يرى النائم.
أن الأرض تتقشر، وتتشقق، وتتقلص وتموج، ومن الأعماق تبرز على مهل عمد وأسطح وقباب، ثم مضى يتجلى وجه مدينة غامرة ... شوارعها محجوبة بالأتربة، مساكنها متهدمة، وما بها من قائم سوى المعابد وبعض التماثيل، وتحلقها قوم لا حصر لهم ينظرون ويتحاورون: مدينة أثرية جديدة. - وثائق لتاريخ جديد. - ألا يوجد أثر لإنسان؟ - المقابر لم تكتشف بعد.
ولبثت ما لبثت حتى انتبهت، فوجدت نفسي وحيدا، ورحت أخترق شارعها الرئيسي حتى أدركني الليل وأظلتني النجوم، ومزقت السكون صرخة ... صرخة أنثى فيما بدا لي، وثمة طيف هرع نحوي حتى جثا بين يدي، وثمة صوت هتف: أنقذني!
سألتها: وماذا يتهددك؟ - سيف الجلاد. - من أنت؟ - أنا بريئة.
فسألتها بشدة: ما تهمتك؟ - التهمة التي لا يبرأ منها أحد، حتى أنت!
فقبضت على يدها وأنهضتها، ثم انطلقنا معا كشهابين في ظلمة الليل.
الحلم رقم 13
رأيت فيما يرى النائم.
امرأة في الخمسين تذهب وتجيء بوجه جففته الوحدة، قلت إني أعرف هذا الوجه ولكن من، ومتى، وأين؟! وحيرتني سحب النسيان ... غير أن المرأة لم تهجع، ولكنها ذهبت محمومة وهي ترمقني بعين مفكرة ثم رجعت بشاب رث الهيئة، وهي تربت خده بحنان، وانقض عليها الشاب فاعتصرها بين ذراعيه مليا حتى تأففت ... ورماها بنظرة نكراء ثم دفعها فتهاوت على الأرض فانهال عليها ضربا ثم ذهب ... جعلت تتأوه وتبكي، ثم قامت في إعياء شديد وقد فقدت ذراعها اليسرى، قلت لها: ذراعك!
فأعرضت عني ومضت، ثم رجعت وهي تربت خد شاب شبه عار، وجذبها إليه مثل ذئب جائع واعتصرها بين ذراعيه ... وانفصل عنها متقززا وصب عليها قبضتيه وقدميه حتى سقطت على وجهها، وغادرها. فاستسلمت للنحيب ثم نهضت طاعنة في السن، وقد فقدت ذراعها اليمنى.
وقلت لها: ذراعك!
فأعرضت عني وولت، وتكرر الفعل وردة الفعل حتى لم يبق منها إلا اللسان، وغزاني الحزن والعجب ... فتساءلت: ماذا فعلت بنفسك؟!
فأجابني لسانها: الوحدة والحنان.
وتساءلت في حيرة «متى سمعت هذه العبارة من قبل؟ ...»
الحلم رقم 14
رأيت فيما يرى النائم.
شابا وسيما يسير بسرعة، يشع من عينيه الصافيتين نور يضيء له الطريق، يوحي مظهره بالفتوة والحماس ومعرفة الهدف، فانجذبت إلى اتباعه لأحظى برؤية ما هو فاعل ... منيت نفسي بمشاهدة حدث أو نجاح مأثور، فكلما تحفز تحفزت، وكلما ضاعف من سرعته ضاعفت، وكلما أشرق وجهه أشرقت ... وقطعنا أماكن كثيرة، ورأينا مناظر عجيبة، وتعاملنا مع أناس لا ينسى لهم خير ولا شر، وسليت نفسي المتوترة بأن المشهد المرموق سيهل علي بطلعته الشافية المترقبة، ولم أكترث للزمن المنطوي ولا للجهد الضائع. ولكن الشاب الوسيم راح يتغير منظره، وتتقلص عضلات ساقيه وتنخفض درجات سرعته رويدا، وجعلت أسمع تردد أنفاسه وهي تغلظ وتثقل، وأنات شكواه المتصاعدة، وبرمه بكل شيء ... وأخذ يسب ويلعن ويشتعل غضبا، وأخيرا توقف عاجزا عن الاستمرار، ثم تهاوى على الأرض وهو يلهث ... وجزعت جزعا شديدا، وهتفت: تشدد واستمر.
وخيل إلي أن النوم يغالبه، فصحت: عليك تقع مسئولية شرودي وانخداعي.
فرفع إلي عينين مظلمتين، وهمس: هبني رحمة الوداع.
حولت عنه عيني الحانقتين ورفعتهما إلى السماء فرأيت السحب تتراكم كأنها الليل، ثم استجابت لرياح الشرق فانقشعت، فبشرني هاتف الغيب بالعزاء.
الحلم رقم 15
رأيت فيما يرى النائم.
أنني أسير في شارع ضيق طويل، شغلت بهدفي فلم أنتبه للمارة، وفي نهاية الشارع طالعني مبنى يجمع في هيئته بين المعبد والجامع والمسكن ... دخلته مطمئنا إلى دعوة لا أدري متى ولا كيف تلقيتها. وقطعت دهليزا بلغ بي بابا مقبب الهامة فدفعته ودخلت، لم أر من المكان إلا الرجل الجالس في صدره ... رجل بالغ الكبر، ولكنه على كبره واضح الصحة والعافية، بارز الملامح، ذو وجه عريق مجلل بالوقار واللحية البيضاء، ينفث عطرا يذكر بالعصور الخالية، لثمت يده، وقلت معتذرا: جئت تلبية للدعوة.
فقال بصوت عميق التأثير في النفس: تأخرت قليلا، ولكن لا بأس ...
وأشار إلي فتربعت على شلتة بين يديه، وأنا أسائل نفسي عما وراء دعوته، ولكنه لم ينبس بكلمة، وسرعان ما وجدت عيني تنجذبان إلى عينيه حتى خيل إلي أنني أنظر إلى بلورتين متوهجتين. اختفى العالم والوجود، ثم عدت إلى وعيي على لمسة من يده وسمعته، يقول: يا له من حديث! ويا لها من مناجاة!
فهممت أن أقول إنني لا أذكر شيئا، ولكنه بادرني بنبرة توديع حاسمة: اذهب مصحوبا بالسلامة.
رجعت من الشارع الضيق الطويل، وأنا أشعر بأنني مشدود إليه بأسلاك غير مرئية، وأنني أسيره الأبدي ... وأردت أن أمارس حياتي المألوفة، فقصدت لونا بارك نزهتي المفضلة، ولكن الأسلاك الخفية صدتني عنها، فتحولت عنها، وأنا أقول لنفسي: إني مسير بإرادته!
اقتنعت تماما بأنني أفعل ما يريد لا ما أريد أنا، وأنه يسوقني إلى أشياء وأشياء، وأنني لم أعد أنتفع بعقلي أو ذوقي، وسمعت الناس يتحدثون عما يقع ويتساءلون عن الفاعل المجهول. وها هم يجدون في أثري والحلقة تضيق، ولكنهم لا يتفقون على رأي، فمنهم من يطالب بعنقي ومنهم من يدعو لي بالسلامة! والحق أن الرجل لم يثر في نفسي الكراهية، ولكنني تقت للتحرر من سطوته الشاملة المخيفة، ولا أدري كيف ساقني الحظ إلى مكتب التحقيق فرأيتني أمام المحقق، وهو يقول لي: اعترف فهو خير لك.
فقلت: إني بريء، وما كان بوسعي أن أفعل إلا ما يمليه علي ...
فقال متهكما: الرجل ينكر قصتك المختلقة معه، فأنت أمام القانون عاقل حر.
فهتفت وكأنما أخاطب الرجل: إنك تعرف الحقيقة فأنقذني!
ومكثت في السجن أنتظر يوم الإعدام، وبلغ بي الضيق منتهاه ... وإذا بشعور يهمس لي بأن ما أعاني ما هو إلا كابوس، عند ذاك قررت أن أستيقظ مهما كلفني الأمر، ورحت أضرب مقدم رأسي بقوة ودون توقف ناشدا بإصرار اليقظة المأمولة.
الحلم رقم 16
رأيت فيما يرى النائم.
أن طيفا زارني بليل فقدم لي كأسا، وقال بصوت عذب: اشرب.
فشربتها حتى الثمالة، ذاب الطيف في الظلمة ... وانتشر السائل في جسدي وروحي كالشذا الطيب، ونهضت وأنا أشعر شعورا راسخا بأنني أملك قوة لا حد لها. وأردت أن أجرب صدق شعوري فأمرت النوافذ أن تفتح، وفي الحال انفتحت النوافذ على مصراعيها وتدفق النور، وخرجت أتجول في شوارع المدينة معتزا بالقوة الخارقة، وفطنت غرائز القوم الملهمة لسر القوة الكامنة في أعماقي ... فخاطبتني نظراتهم الكسيرة بأمانيهم المكبوتة. تلقيت عشرات الرسائل الخفية الضارعة بمحو هذا الشر أو ذاك، وتحقيق هذه الرغبة أو تلك، وتأديب هذا الرجل أو قتل ذاك ... ووجدتني مثقلا بالآمال والأماني والتبعات، فاستحالت القوة إلى عبء تنوء به الجبال. وتسلل إلي خاطر لا أدري من أين جاء بأن هذه القوة الخارقة لن تدوم إلا ما دام السائل في جوفي ... وعلى ذلك تركز تفكيري في استغلالها لدعم سعادتي الشخصية، وألقيت العبء عن كاهلي وانحصرت في هدف محدد واضح. ولكن ما كاد يزايلني القلق حتى ترامى إلي وقع أقدام ثقيلة تطاردني، وهزئت بالمطاردة والمطاردين وقلت لنفسي سيرونني في اللحظة الحرجة وأنا أحلق كالنسر أو أختفي كالوهم ... واقتربت مني الأقدام والأصوات الغاضبة فأمرت جسدي بالاختفاء عن الأعين، وحدثت معجزة ولكن مضادة، لم يصدع جسدي بأمري، وتطايرت قوتي في الجو، فوقعت بين يدي المطاردين بلا حول، ولم يعد لي من أمل إلا في صحوة رحيمة تعقب كابوسا مخيفا.
الحلم رقم 17
رأيت فيما يرى النائم.
أنني جالس تحت مظلة سوداء، أتسلى بمشاهدة صندوق الدنيا. وتتابعت المشاهد أمام عيني المبهورتين بدءا بالإنسان البدائي، مرورا بالحضارات القديمة والمتوسطة والحديثة حتى صعود الإنسان إلى القمر، ثم وجدتني في مسكني فريسة لرغبة جامحة هي أن أصعد إلى القمر، وكنت أجلس وسط متاع غزير، تراكم بعضه فوق بعض حتى غطى الجدران وسد النوافذ، وكان جسمي نفسه مثقلا بالأوسمة والهدايا الثمينة حتى تعذرت علي الحركة وأخذت أغوص في الأرض، وعلمت بطريقة ما أنني أنتظر زائرا هاما، فحرت كيف أستقبله، وأين أجلسه، وخفت سوء العاقبة ... وضاق صدري بفساد الجو والزمن فتمردت على حرصي وأقبلت أنزع الأوسمة والهدايا من أركان جسدي، وأركل المتاع يمنة ويسرة حتى شققت لنفسي طريقا إلى الخارج، وتنفست بعمق فأذهلتني خفة وزني، ولاح الزائر قادما عند الأفق، ولكنني لم أستطع انتظاره؛ إذ مضيت أترجح وأرتفع عن الأرض على مهل وثبات. أدركت أني أحلق في الفضاء وأني كلما ارتفعت مترا ازددت سرعة، وغمرني الشعور بالانعتاق ووعدني بمسرات تعجز عن وصفها الكلمات.
نامعلوم صفحہ