فلما فاجأهما الغريب عراهما الانذهال لأول وهلة فتركا شغلهما وبادرا إليه اعتقادا منهما أنه ضل سبيله، فوافاهما يطلب إيضاحا، فتلطفا بدعوته إلى الجلوس، لكنه قال لهما بصوت يتلجلج: أهنا ساكنة أنيسة حسون؟
فوقعا في حيرة عند هذا السؤال، وتبادلا نظرة لا توصف، وقد منعهما فرط الدهشة عن الجواب، ثم عاد الحائك إلى نفسه فأجاب: نعم يا سيدي، أنيسة ساكنة هنا، لكنها خرجت منذ ساعة، فهل ترغب في مواجهتها؟
فهتف المسافر: ترى أين هي الآن؟ أليس من سبيل إلى أن تحضر في الحال؟ - هذا صعب يا سيدي، فإنها خرجت مع بنتنا الصغيرة روزة تدور دورتها الأسبوعية، لكنها ترجع بلا ريب بعد ساعة، فإنها ما تأخرت ولا مرة، تفضل فاسترح، ربما تكون تعبان. - اسمحا لي بانتظارها هنا.
فأسرعت المرأة إلى خزانة وأخرجت منها مسندا وسجادة وألحت على الغريب أن يستريح عليهما، فتأثر هذا مما صادف من الحفاوة به وجلس مستأنسا، ثم كشف القبعة عن رأسه وأخذ يمسح جبينه المكلل بالعرق، وقد سكن ما جاش في نفسه من الجأش.
وكانت المرأة قد أشارت إلى بناتها فبادرت إحداهن إلى العين تستقي ماء باردا، وأقبلت هي مع الصغيرتين على إضرام النار وإعداد النارجيلة والقهوة، أما الحائك فقام بين يدي ضيفه، كأنه ينتظر أوامره أو يفكر في عمل كل ما من شأنه أن يشرح صدره ويسره، ولا يخفى أن أهل لبنان أشبه الناس بالعرب في حسن الضيافة.
فلم ينتبه الغريب بادئ بدء إلى احتفاء أهل البيت به ؛ لأنه وجه كل أفكاره وكل عواطفه نحو التي قد طار إليها فؤاده، وكان يسرح أنظاره في زوايا المكان عله أن يصادف من الموجودات ما يخبره عن أنيسة، وفيما هو على تلك الحال ذاهلا شعر بيد ناعمة أخذت بأنامله، فإذا بالصبي الذي شاهده يلعب مع البنات منتصبا أمامه، وكان هذا الصغير تخلف عن أمه وأخواته ولحق بالغريب، كأن قوة تدفعه نحوه فوقف بين يديه يشخص إليه بعينين زرقاوين تلمعان انعطافا، ويزف عن ثغر كالدر ابتسامات تسبي الألباب.
فنادته أمه قائلة: تعال يا بطرس، ما هذه الجسارة يا بني؟
وكأن الصغير لم يسمع نداء والدته فبقي يداعب الرجل، وقد أعجب هذا به وحنت إليه جوارحه، وهو لا يقف على سر تبادل الانعطاف بينهما، فقال للولد بصوت الحنو: حييت من ملاك صبوح الوجه وضاح الجبين، فقد خرقت نظراتك فؤادي، وأنت بكل تحفة جدير يا وجه الخير.
وأخرج من جيبه كيسا صغيرا له حلقات فضية يتخللها بعض اللآلئ، فدس فيه شيئا من النقود وقدمه للصبي فطار هذا فرحا بالهدية، لكنه ما برح قابضا على يد الغريب يتأمله كأنما قرت به عينه.
فتقدمت الأم وقالت له بصوت التوبيخ: بطرس لا تكن قليل الأدب، اشكر فضل الخواجة وقبل يده، فقبل الصغير يد المحسن إليه وهتف بأرق النغمات: كثر الله خيرك يا سيد حنا الطويل ...
نامعلوم صفحہ