فما أعظم ما كان انذهال المسافر وتأثره عندما سمع هذا الصغير يتلفظ باسمه، فاغرورقت عيناه بالدموع، وأخذه بين يديه وحدق إليه وسأله قائلا: أيها الملاك الكريم! كيف علمت من أنا ولم ترني البتة، فمن أنبأك عن اسمي؟
فأجاب الغلام متبسما: أنيسة الضريرة.
قال الرجل: وكيف عرفتني أنني أنا هو ولا غيري؟ - عرفتك يا سيدي على الفور، فإني لما كنت أذهب مع أنيسة لندور على الأبواب ما كانت تنقطع عن ذكرك، وقد سمعتها مرارا تقول: إنك طويل وعيونك سود لامعة، وإنك ستعود حاملا إلينا التحف والهدايا ... ولذا لما رأيتك ما خفت منك؛ لأن أنيسة أوصتني بأن أحبك ووعدتني أنك تعطيني عند رجوعك حصانا ...
وكان المسافر يصغي إلى كلمات الصبي بمنتهى اللذة، فضمه إلى صدره شديدا والتفت إلى الحائك وامرأته فصاح قائلا: أيها الوالدان إنني آخذ على نفسي العناية بشأن ولدكما فأجعله في المدرسة؛ ليتعلم ويتثقف فلا ينقصه شيء، فهو أول من عرفني وأحبني، ولذا فإني أسعى في أن تكون معرفته لي علة نعيمه على الأرض.
ولا حاجة إلى وصف دهشة ذينك الوالدين وفرحهما، فقال الأب متلجلجا: قد غمرتنا بفضلك يا سيدي ... ولكن نحن كلنا عرفناك، وقد ظننا أن العيان يخدعنا؛ لأن أنيسة لم تخبرنا أنك رجل غني خطير.
فصاح المسافر: وأنتما أيضا تعرفانني يا وجوه الخير فسقيا لكما، يا لله إني أراني بين خلاني عند أهلي في وطن لم أجد فيه بادئ بدء إلا الموت والنسيان.
فأشارت المرأة إلى صورة العذراء في مشكاة وقالت: هنا كنا نوقد قنديلا كل يوم سبت لأجل رجوع حنا غنطوس ... أو لراحة نفسه.
فرفع المسافر طرفه إلى السماء كأنما زال عنه حمل فادح فصاح: تعالت أحكامك يا كريم، فإنه بفضلك غلب الحب البغضاء، لئن يكن الحفار أكمن الحقد في أعماق فؤاده، فأنيسة عاشت بذكري وأضرمت كل ما حواليها بنار الحب، فجعلتني حاضرا مع طول غيبتي، وبعد سفرتي، وطبعت القلوب على مودتي، أشكرك اللهم على عظيم نعمتك.
وعقب هذا الكلام سكوت طويل، فكان المسافر يحاول أن يتجلد لما عراه من شديد التأثر، وصاحبا البيت مطرقان تهيبا وإجلالا، وقد تظاهر الحائك أنه عاد إلى نوله ولكنه ما برح يسارق النظر إلى ضيفه؛ ليبادر إلى خدمته إن بدا منه إشارة.
6
نامعلوم صفحہ