وحتى هذه الفقرة لم تسلم من تشكك المؤرخين في قائلها: هل هو راوية هوميروس، أو هو هوميروس نفسه؟!
هذا ولقد كان للإغريق أدبهم وأشعارهم وأغانيهم وموسيقاهم قبل هوميروس. وليس معقولا أن هوميروس هو الذي بدأ ذلك جميعا؛ لأن ذاك الكمال أو ما يقرب من الكمال الذي جاء في ملحمتيه لا يمكن أن يأتي طفرة. وإذا صدقنا هيرودوتس يكون هوميروس صاحب فضلين عظيمين على هيلاس - اليونان - كافة؛ فهو الذي صنع آلهتهم وأنشأ بذلك لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب، ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال، ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم.
والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر؛ إذ كان من دأب دويلات بحر إيجه استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم. وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقييه الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين. ولم يحفظ لنا التاريخ شيئا من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتفا مما كان يستشهد به اللغويون ومؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء.
وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم، ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطآن البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها.
ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهودا ويلتفت فيه الناظم إلى ما يلفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي، وقد يحسب قارئ أدبهم أنه عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون، وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا؛ فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون.
والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها، ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا عند شعراء الدرامة، ثم شعراء الإسكندرية بعد ذلك. وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعنى إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو للتمثيل. وهو لهذا يحصر انتباه سامعيه في صميم القصة، وقل أن يشرد بهم خارجها كما يصنع شعراء الرومانتيك. وقل كذلك أن يستعمل الأصباغ لتطرية بيانه كيما يستر فيه ضعفا أو يعوض السامع بفخامة العبارة تفاهة الموضوع، فهو دائما يلتزم الروح ولا يلتفت إلى دمام
3
الجسم إلا بقدر وإلا في حدود النظم الذي أخذ به نفسه في الملحمة.
وفي ذلك يقول الأستاذ بورا: «إنه يكتب - أو ينظم - لكل الناس وليس لطبقة بعينها من الناس.»
وقد ساعد هوميروس تقلبه في البلاد على هضم اللهجات المختلفة في الأصقاع المتدانية اليوم - المتنائية يومئذ - التي زارها. ونحسب أنه من أجل ذلك تنازعت فخر مولده هذه المدائن السبع التي فعلت ذلك، فقد كان يقيم حقبة بكل منها فينشد إلياذته - ولما يكن قد نظم الأوديسة - ويغنيها بلهجة الجهة التي هو مقيم فيها، فيتقن إنشادها بهذه اللهجة إتقانا لا يدع أثارة من الشك في أنه من أهلها. وهنا ملاحظة طريفة انتبه إليها كل من برتون راسكو الأديب الناقد الأمريكي، وجلبرت موري - المؤرخ الثقة في الأدب اليوناني - ذلك أنه لا بد أن يكون هوميروس قد نظم الإلياذة مرتين، تتلى إحداهما في بلدان الشاطئ الآسيوي وفيها يغلب أبطال طروادة على أبطال هيلاس، وتتلى الأخرى في بلدان هيلاس، وفيها يغلب أبطالها على أبطال طروادة ويظفرهم بهم ، وبغير هذا لم يكن يستطيع أن ينشد إلياذة واحدة في كلا الشاطئين. ولو صح أنه فعل لثار به الأهلون بفعل العصبية ولمزقوه إربا؛ لأنه كيف يترك أخيلا مثلا يقتل هكتور وهو ينشد هذا الشعر لأحلاف هكتور وأهله؟ وكيف يسيغ أن يترك هكتور يقتل أخيلا إذا كان الإنشاد للملأ من مواطني أخيل؟
نامعلوم صفحہ