مقدمة
التفاحة
باريس يعود
إلى أسبرطة
التعبئة
أخيل
القربان1
الفدائي الأول
من السماء
فتنة
معركة بين الآلهة
أندروماك
بتروكلوس
مقتل بتروكلوس
أخيل يبكي بتروكلوس
صلح
فزع الآلهة
طوفان
مصرع هكتور
بعد مصرع هكتور
بريام الحزين
مقتل أخيل
فتح طروادة1
مقدمة
التفاحة
باريس يعود
إلى أسبرطة
التعبئة
أخيل
القربان1
الفدائي الأول
من السماء
فتنة
معركة بين الآلهة
أندروماك
بتروكلوس
مقتل بتروكلوس
أخيل يبكي بتروكلوس
صلح
فزع الآلهة
طوفان
مصرع هكتور
بعد مصرع هكتور
بريام الحزين
مقتل أخيل
فتح طروادة1
قصة طروادة
قصة طروادة
تأليف
دريني خشبة
إلى هوميروس الخالد.
مقدمة
هوميروس
لزمت هوميروس أعواما ثلاثة أقرؤه وأدرسه وألخصه فما ضقت به ولا نفرت منه، بل ازددت له حبا وبه إعجابا. وكنت كلما تركته فترة أحسست شوقا عجيبا إلى أدبه يجذبني ويلح علي فأعود إليه، فيخيل إلي أنه قد شرع يغني لي، ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عودا على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس
1
وديوميدز وأوديسيوس في جانب من المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى، ينصرون أو يخذلون.
ما أجمل هوميروس!
لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافا شديدا، لكن اختلافهم فيه لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بدا من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته فيهما معا، وأن يطبعهما بطابعه الخاص فلم لا يكون هذا المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكون أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، ولا يزالون ينهلون. هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟!
ألا يكون التواتر صحيحا في أربعة قرون ويكون صحيحا في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريده من الإلياذة ومن الأوديسة ومن غير الإلياذة والأوديسة، وكان هيرودوتس خبيرا بأدب بلاده وبتاريخ هذا الأدب، وكان يعرف أن الإلياذة والأوديسة لم تكونا معروفتين بحالهما الذي تواتره الناس عن هوميروس قبل هوميروس. حقا؛ لقد كانت الأساطير التي حشدها في ملحمتيه معروفة قبله بأجيال، لكنه كان أول من نظمها في هذا العقد الجميل الرائع الذي قبس منه إسخيلوس، والذي حام حوله يوربيديز، والذي ظل موردا لجميع شعراء الكلاسيك من غير استثناء.
لقد كتب هيرودوتس تاريخه في زمن استقرار الحضارة اليونانية ونضوجها، ونحن نلمح في تاريخه روح النقد والتمحيص، والبحث والتحقيق، فهو إذا روى لم يثبت إلا ما يراه متفقا عليه من الناس، فإذا رآهم يتفقون على شيء لا يطمئن إليه ضميره لم يبال أن يقول بعد إثبات ما اتفقوا عليه: أما رأيي فهو كيت، أو أنا أعتقد كذا ... ولم يكن يبالي كذلك أن يدلي برأيه في الآلهة، فقد صرح أنه لا يدري من أين نشئوا، وأن شيئا عن ذواتهم لم يكن معروفا إلى زمنه. وذهب إلى أبعد من هذا، فقرر أنهم جميعا من صنع هوميروس وهسيود؛ اللذين وضعا للإغريق ذلك الثبت الطويل من الآلهة وأنصاف الآلهة، ثم راحا يوزعان عليهم ذلك الاختصاص العجيب من مقاليد البر والبحر والأفلاك والهواء والنور والظلمة والحكمة والفنون ... وقد رفض ما ذهب إليه الشعراء من أن هذا التوزيع وذاك اللاهوت بطقوسه التي تعارفها الناس كانا موجودين قبل هوميروس وهسيود، وأكد أن الميثولوجيا اليونانية كلها لم تعرف إلا بعدهما.
وإذا كان هيرودتس قد ولد سنة 484 قبل الميلاد، فليس يبعد أن يكون هوميروس قد ولد سنة 884 أو حوالي ذلك، أو أنه قد عاش بالفعل في القرنين التاسع والثامن ؛ أما ما قيل غير ذلك فلم تقم على إثباته حجة، ولم يؤيده برهان.
وتتنازع فخر مولده مدائن شتى، على أن الذي حققه المؤرخون ويؤيده ما جاء في ترتيلة أبوللو فهو أنه من مدينة خيوس الواقعة في الشاطئ الشرقي من الجزيرة المسماة باسمها والقريبة من مدينة أزمير، وهو لهذا إيونيوي (من إيونيا) بدليل أن أقدم نسختين من الإلياذة والأوديسة مكتوبتان بلغة إيونيا.
ويختلف المؤرخون في اسمه ومعناه، فيذكرون له أسماء معقدة لا داعي لذكرها هنا، ثم يفسرون اسمه فيقولون إن معناه «أعمى»، وإلى ذلك ذهب هيرودوتس، وهو يعلل ذلك بأن الاسم «هوميروس» مركب من هو - مي - أورون، ومعناها: الرجل الأعمى. ويتعصب هيرودوتس لهذا التأويل بالرغم من وجود تفاسير أخر قد تكون أقرب إلى المعقول من تفسيره هو؛ ذلك أن بعض القدماء يقولون: إن كلمة هوميروس قد تكون مشتقة من «هوميريدا»، وهي اسم لإحدى العشائر التي كانت تقطن جزيرة خيوس آنفة الذكر، وقد قطنوها برغمهم لأنهم كانوا أسرى حرب (رهائن) نفوا إلى تلك الجهة، وذاك بدليل أن كلمة هوميروس نفسها تحمل معنى أسير تحت الفدية، أي رهينة حرب.
ولم يضمن هوميروس إحدى ملحمتيه الخالدتين اسمه كما صنع هسيود في منظومته العظيمة «شجرة أنساب الآلهة»
Theogony ، فقد ذكر في مقدمتها اسمه الصريح، ثم ذكر في قصيدته الأخرى «الأرجا
Erga » كيف هاجر من كيمي إلى أسكرا، وكثيرا من حياته الخاصة وحياة أهله، ولو قد صنع هوميروس مثل هذا أو شيئا من هذا لما وقع المؤرخون في هذا الخلط الكثير عن شخصه وعن زمانه وعن حقيقته.
ولم يشر قط إلى السبب الذي ذهب ببصره. ويؤكد المؤرخون أنه قضى شطرا عظيما من عمره بصيرا سليم العينين بحيث استطاع أن يقرأ ويكتب ويسجل كثيرا مما نظم. ويذهب بعضهم إلى أنه بدأ نظم ملحمتيه - أو إحداهما - وهو بصير معافى.
وكل ما جاء في ذلك لا يعدو إشارة طارئة في آخر ترتيلة أبوللو يخاطب فيها العذارى اللائي كن يصغين إلى إنشاده: «إذا سألهن: أيما ظاعن - أي المنشدين - أحب إليهن وآثر إلى قلوبهن؟ أن يجبن على الفور: إنه رجل أعمى من قطان خيوس الجبوب المعزاء.
2
وإن أغانيه سيخلدن آخر الزمان!»
وحتى هذه الفقرة لم تسلم من تشكك المؤرخين في قائلها: هل هو راوية هوميروس، أو هو هوميروس نفسه؟!
هذا ولقد كان للإغريق أدبهم وأشعارهم وأغانيهم وموسيقاهم قبل هوميروس. وليس معقولا أن هوميروس هو الذي بدأ ذلك جميعا؛ لأن ذاك الكمال أو ما يقرب من الكمال الذي جاء في ملحمتيه لا يمكن أن يأتي طفرة. وإذا صدقنا هيرودوتس يكون هوميروس صاحب فضلين عظيمين على هيلاس - اليونان - كافة؛ فهو الذي صنع آلهتهم وأنشأ بذلك لاهوتهم الوثني العجيب، ووزع ما في الحياتين الأولى والآخرة على هذه الآلهة وتلكم الأرباب، ثم هو الذي بدأ نظم الملاحم الطوال، ودبجها هذا التدبيج المتألق البراق، مستغلا أساطيرهم القديمة، وذاك الفوكلور الساذج الذي يفيض به تاريخهم القديم.
والثابت أن هوميروس لم ينظم الإلياذة والأوديسة للقراءة والاستمتاع الأدبي، بل هو قد نظمهما للتلاوة والإنشاد في المحافل ومجامع السمر؛ إذ كان من دأب دويلات بحر إيجه استدعاء الشعراء والمنشدين والمغنين لإحياء أفراحهم وبعث المرح في حفلاتهم. وقد حفظ لنا الأثر أسماء أورفيوس وميوزيوس ولينوس وغيرهم من شعراء عصر البطولة ومنشديه وموسيقييه الذين سبقوا هوميروس إلى نظم الخرافات وقرض الأساطير، متأثرين في ذلك بقصص الشعوب السامية في مصر والشام وأساطير الفرس والبابليين. ولم يحفظ لنا التاريخ شيئا من آثار هؤلاء الشعراء، اللهم إلا نتفا مما كان يستشهد به اللغويون ومؤلفو المراجع للتدليل على صحة كلمة أو سلامة استعمال، وهو شيء يسير ليس فيه غناء.
وقد سهلت اللغة اليونانية القديمة على شعرائها الكلاسيكيين عملهم، وجعلت نظم الملاحم الطوال من أيسر الأعمال الأدبية وأهونها عليهم، ذلك أنها لغة واسعة شاسعة استوعبت لهجات كثيرة لمختلف القبائل والبطون والأفخاذ الضاربة في شطآن البحر الإيجي، وقد تهيأ لها بذلك ما تهيأ للسان قريش من كثرة المترادفات وليونة التعبيرات وتعددها.
ولم يكن نظم الملاحم للتلاوة يستدعي فنية الأسلوب أو صقله بحيث يحتاج مجهودا ويلتفت فيه الناظم إلى ما يلفت إليه شعراؤنا من التهذيب والتطرية البيانية والزخرف الصناعي، وقد يحسب قارئ أدبهم أنه عبث أطفال كما قال قدماء المصريين مرة لصولون، وقد كان المصريون معذورين في قولهم هذا؛ فلقد كانوا يعنون بالجد الصارم من أمور الحياة أكثر مما كانوا يلتفتون إلى هذا القريض الطويل الشعبي يهرف به الشعراء والمغنون.
والحق أن روح الطفولة شائعة في ملاحم اليونان كلها، ولم تظهر العناية القليلة بالأسلوب إلا عند شعراء الدرامة، ثم شعراء الإسكندرية بعد ذلك. وهذه الروح واضحة في هوميروس وضوحا شديدا، فهو لا يعنى إلا بالحادثة، وكثيرا ما يتحاشى (الرتوش) والتهاويل المملة والزخارف اللغوية التي لا تتهيأ إلا في الأثر الأدبي الذي يؤلف للقراءة لا للإنشاد أو للتمثيل. وهو لهذا يحصر انتباه سامعيه في صميم القصة، وقل أن يشرد بهم خارجها كما يصنع شعراء الرومانتيك. وقل كذلك أن يستعمل الأصباغ لتطرية بيانه كيما يستر فيه ضعفا أو يعوض السامع بفخامة العبارة تفاهة الموضوع، فهو دائما يلتزم الروح ولا يلتفت إلى دمام
3
الجسم إلا بقدر وإلا في حدود النظم الذي أخذ به نفسه في الملحمة.
وفي ذلك يقول الأستاذ بورا: «إنه يكتب - أو ينظم - لكل الناس وليس لطبقة بعينها من الناس.»
وقد ساعد هوميروس تقلبه في البلاد على هضم اللهجات المختلفة في الأصقاع المتدانية اليوم - المتنائية يومئذ - التي زارها. ونحسب أنه من أجل ذلك تنازعت فخر مولده هذه المدائن السبع التي فعلت ذلك، فقد كان يقيم حقبة بكل منها فينشد إلياذته - ولما يكن قد نظم الأوديسة - ويغنيها بلهجة الجهة التي هو مقيم فيها، فيتقن إنشادها بهذه اللهجة إتقانا لا يدع أثارة من الشك في أنه من أهلها. وهنا ملاحظة طريفة انتبه إليها كل من برتون راسكو الأديب الناقد الأمريكي، وجلبرت موري - المؤرخ الثقة في الأدب اليوناني - ذلك أنه لا بد أن يكون هوميروس قد نظم الإلياذة مرتين، تتلى إحداهما في بلدان الشاطئ الآسيوي وفيها يغلب أبطال طروادة على أبطال هيلاس، وتتلى الأخرى في بلدان هيلاس، وفيها يغلب أبطالها على أبطال طروادة ويظفرهم بهم ، وبغير هذا لم يكن يستطيع أن ينشد إلياذة واحدة في كلا الشاطئين. ولو صح أنه فعل لثار به الأهلون بفعل العصبية ولمزقوه إربا؛ لأنه كيف يترك أخيلا مثلا يقتل هكتور وهو ينشد هذا الشعر لأحلاف هكتور وأهله؟ وكيف يسيغ أن يترك هكتور يقتل أخيلا إذا كان الإنشاد للملأ من مواطني أخيل؟
غير أن هذه الملاحظة لا تزال تفتقر إلى ما يثبتها؛ لأن الإلياذة التي بأيدينا هي التي كانت تنشد وتغنى في هيلاس. •••
ألم ينظم هوميروس غير الإلياذة والأوديسة؟
لقد ذكر كالينوس الشاعر اليوناني القديم (660ق.م) منظومة لهوميروس تدعى
Thebais
لما يعثر عليها إلى عصرنا هذا. ويظن بعض المؤرخين أنها لا تعدو أن تكون الإلياذة في صورة أفخم، نظمها للإنشاد في طيبة اليونانية؛ ولذلك أطلق عليها هذا الاسم.
وعثروا على آثار للشاعر سيمونيدز «أمورجوس» الذي كان يعيش في منتصف القرن السابع قبل الميلاد، وردت فيها مقتطفات من هوميروس يظن أنها من الإلياذة، منها ذلك البيت المشهور: «وكما تساقط الأوراق (في الخريف) فكذلك تساقط أرواح البشر.»
وبعد ذلك بقرن كامل (556-468) روى شاعر آخر يدعى: سيمونيدز (من كيوس) بالتواتر عن هوميروس شعرا من ملحمة مفقودة لا تمت بصلة لا إلى الإلياذة ولا إلى الأوديسة.
أما بندار (522-448ق.م) - وهو زعيم الشعر الغنائي في اليونان القديمة - فقد كان مشغوفا بهوميروس وإن لم يمنعه شغفه به من مآخذ أخذها عليه فيما يتعلق بأوديسيوس، وقد ذكر لهوميروس ملحمتين طويلتين عن أخيل لا تزالان - وا أسفاه - مفقودتين إلى اليوم، وإذا كانت الأوديسة قد بلغت هذه الغاية من الإبداع في سمو القصص وكثرة الوقائع - وهي لبعض أبطال الإلياذة - فما بال هوميروس في ملحمتيه في أخيل وهو بطل أبطال الإلياذة جميعا؟! أية ثروة أدبية من شعر البطولة قد فقدها العالم؟! لقد كان بندار يعجب بهاتين الملحمتين «الإلياذة الصغيرة والأثيوبيون» إعجابا فائقا جعله يشدو بهما كما يشدو عصفور الكنار باللحن الموجع.
أما إسخيلوس فقد كان يقول عن ثلاثياته
4
التي نيفت على الثمانين ولم يصلنا منها - ويا للأسف - إلا سبع: «إنهن فتات موائد هوميروس الحافلة!» والثابت أنه استخدم أبطال الملاحم الهومرية في أكثر ما ألف إن لم يكن في كل ما ألف، فهل كانت جميع مآسي إسخيلوس عن أبطال الإلياذة والأوديسة فقط؟!
وقد ألف سوفوكليس أربعا وعشرين ومائة مأساة، وكانت مآسيه تحوم حول أبطال هوميروس
5
كما كان يفعل إسخيلوس، فهل كانت أبطاله في هذه الأربع والعشرين والمائة المأساة كلها من الإلياذة والأوديسة؟
يقول المؤرخون حين يعرضون لهذا إن كلا من إسخيلوس وسوفوكليس كان يعد كل ما وصل إليهما من ملاحم العصر القديم هومريا، ولو لم يكن من نظم هوميروس، ومن هذا التراث العظيم استمدا موضوعات مآسيهما، بل يقولون إنهما كانا يدعوان ذاك العصر كله العصر الهوميري، على أنه ليس في هذا الكلام دليل على أن هوميروس لم ينظم غير الإلياذة والأوديسة، وإلا لم يقل إسخيلوس إن مآسيه فتات من موائده الحافلة؛ لأن إسخيلوس كان يعني ما يقول أكثر مما يحاول مؤرخو زماننا هذا أن يفهموا من عبارته وجهها الصحيح، وهو ولا شك كان يعني هوميروس نفسه ولم يعن عصره كله وبعض العصر الذي سبقه وبعض العصر الذي جاء بعده، أو ما يسميه المؤرخون العصر الهوميري، أو ما يزعمون أن إجزنوفان (القرن السادس) كان يدعوه كذلك.
هذا وقد اعترف تيوسيديدز لهوميروس بالإلياذة وبالأوديسة وبترتيلة أبوللو؛ أما أفلاطون فلم يستشهد بأكثر من نتف من الإلياذة والأوديسة وجاء أرسطو فاعترف له بالإلياذة والأوديسة وملحمة فكاهية تدعى «مارجيتس» ضاعت فيما ضاع من تراث الإغريق، أما أرسطرخوس الإسكندري العظيم (160ق.م) فلم يعترف له بأكثر من الإلياذة والأوديسة.
وعلى ذكر أفلاطون وأرسطو نروي أن كلا منهما كان يقتني نسخة من الإلياذة مختلفة في كثير من فصولها عن النسخة الأخرى، ولم يستطع المؤرخون تعليل ذلك بعد، اللهم إلا ما يعزى إلى بزستراتوس - منظم أشعار هوميروس فيما يقال - من أنه تناول الإلياذة بشيء من التحوير، وأقحم عليها زيادات في تمجيد الأثينيين، وهو ما يشك في صحته الأساتذة لانج وامري وبورا والعلامة كارل موللر.
على أنه ليس بزستراتوس وحده الذي اتهم (بتحشية) الإلياذة والتزوير على هوميروس ، بل إن صولون نفسه قد اتهم بمثل ذلك، بل اتهمت بها كل مدينة يونانية، وما حدث للإلياذة من ذاك القبيل هو ما حصل لحديث الرسول
صلى الله عليه وسلم
حينما اختلفت الأحزاب وأراد كل منها أن ينصر مذهبه بأثر من كلام الرسول، فكثر التلفيق وشاع الوضع، ثم نشأ بعد ذلك ما نشأ من مدارس الحديث، وشمر الأئمة في التجريد والتضعيف وما إلى ذلك، فمثل هذا حدث في اليونان القديمة.
ولقد ساهمت مدرسة الإسكندرية بأوفى نصيب في درس الإلياذة والأوديسة، وفرغ من تلاميذها الأفذاذ لكلتا الملحمتين عدد عظيم استطاعوا عرفان الزائف من غيره، وكان إمام هذه المدرسة المؤرخ الناقد الكبير أرسطرخوس الذي وضع لنقد الأدب الهوميري قواعده الرائعة.
ويحددون عصر البطولة الذي وقعت فيه حوادث الإلياذة ثم حوادث الأوديسة بالقرنين الثاني عشر والثالث عشر، وذلك أن القبائل اليونانية (الإيونيوية والإيوليوية والدورية) كانت قد أخذت تنهض فجأة وتناضل في سبيل مجدها وتناوئ الحثيين والمصريين على السواء، وكان لا بد لها قبل كل شيء من أن تقهر طروادة المحصنة القوية الرابضة على ضفة الهلسبنت «الدردنيل» الشرقية، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها، وبعد أربعة قرون أو نحوها جاء هوميروس ليروي وقائع هذه الحرب في منظومته الخالدة، أو وقائع السنة الأخيرة من السنوات العشر من حصار طروادة - أو إليوم - كما كان يدعوها غالبا.
فالإلياذة من هذه الوجهة قصيدة حربية حافلة بأنباء المعارك، تكاد تسمع صليل القتال وأنت تتلوها. وتكاد تشرف منها على ميدان صاخب ثائر النقع شديد الروع فائر بالدماء، وإذا كنت من رجال الحرب سرتك الخطط المرسومة والخدع المحبوكة، وراعتك هذه الفيالق المجيشة تأخذ أماكنها ثم تتحرك كالموج، ثم ترتد قطعة بعد قطعة وهي في حالتي الكر والفر كالرجل الواحد أو كالبنيان المرصوص، والإلياذة من هذه الوجهة أيضا تصور لك حياة الجند في الثكنات أبرع تصوير وأروعه، كما تصور لك حياة البحارة والرياضيين والرعاة ورجال الجبال، لكنها لا تبلغ من ذلك ما بلغه هسيود في ملاحمه، وذلك ما نرجو أن يوفقنا الله إلى التحدث عنه في كتاب آخر.
الإلياذة وصف قوي لهذه المجازر التي نشبت بين جيل من الناس يسكن في طروادة، وبين جيل مختلف عن جيل طروادة؛ لأنه جيل من أنسال الآلهة وذراري أرباب الأولمب فيما تزعم أساطير اليونان، جيل توالد من تزاوج عجيب بين هذه الأرباب الأولمبية وبين إنسيات فاتنات من بنات حواء، فليس أخيل العظيم ولا أودسيوس ولا أجاممنون ولا منلوس ولا ديوديميد ولا نسطور ولا أجاكس ولا أبطال أخايا
6
جميعا أشباها لهكتور ولا باريس ولا أبيهما بريام ولا لأبناء طروادة؛ لأن الأولين أبناء آلهة والآخرين أبناء بشر مثلنا.
شخصيات عجيبة جدا تلك الشخصيات التي اخترعها هوميروس، فهو لم يكتف بأن صنع للإغريق لاهوتا يعج بكل زوج من الآلهة، بل راح يزاوج بين تلك الآلهة وبين الناس ثم ينسل أولئك الأبطال العظام الذين دوخوا طروادة، وأرووا سوحها بالعزيز الغالي من دماء أبنائها.
فالسيدة هيلين التي بسببها نشبت الحرب، هي ابنة زيوس كبير الآلهة من ليدا التي أحبها الإله الأعظم في غفلة من زوجه هيرا.
وأخيل - بطل الإلياذة - هو ابن بليوس ملك فتيا، لكن أمه عروس الماء الحسناء المفتان ذيتيس، التي استطاعت أن تزلزل قلب الإله الأكبر زيوس بجمالها الساحر، وأن تجعله - وهو سيد أولمب - بعض عبادها، كما استطاعت كذلك أن تسحر قلوب الآلهة الذين أهرعوا من كل مكان ليشاركوا في زفافها ويشربوا النخب في أكواب مما أهدى إليها الصب المدنف إله الخمر باخوس!
وأوديسيوس - بطل الأوديسة - وثاني أبطال الإلياذة، وصاحب فكرة الحصان الخشبي - يتصل بزيوس من أمه مايا - وكذلك ابنه تليماك.
أما أجاكس، وهو من أبرز فرسان الإلياذة وأشدهم بأسا فهو من حفدة دردانوس.
وأجاممنون وأخوه منالوس هما ولدا أتربوس حفيدة تنتالوس؛ ذلك الملك القاسي المتحجر القلب الذي حاول مرة أن يطعم الآلهة من شواء صنعه لهم من بدن ابنه.
7
فكان جزاؤه النفي إلى ظلمات هيدز، حيث قاسى الظمأ الممض وهو غريق في نهر من الماء العذب لا يصل إليه فوه، وإن بينه وبين الماء لشبرا واحدا.
وجميع الأبطال الآخرين هم حفدة الآلهة وأبناء السماء كما دعاهم هوميروس (الإلياذة ج2 سطر 513).
على أن أبطال طروادة يمتون هم أيضا بوشائج النسب إلى بعض الآلهة؛ فبريام وأبناؤه التسعة (هكتور وباريس ... إلخ) ينحدرون من أسلاف أجاكس «دردانوس».
وفي كثير من كتب الإلياذة مفاخرات عجيبة بالأنساب بين أبطال اليونان وأبطال طروادة، إذ يرد الطرفان أصولهما إلى الآلهة (المفاخرة الجميلة بين أخيل وبين إيناس - إلياذة - الكتاب العشرون).
8
بيد أن أبطال اليونان في الإلياذة يبدون أكثر اقترابا إلى الآلهة وأشد اتصالا بهم مما تبدو العناصر المكونة لجيش طروادة.
وكذلك الحال بين آلهة الأولمب؛ فأكثرهم يعطفون على اليونانيين ويناضلون عنهم، ويسدون إليهم أحسن الجميل فيما تقتضيه معاركهم من تيسير وترشيد.
أما طروادة؛ فيعطف عليها أبوللو وتنحاز إلى صفوفها فينوس. أليس باريس قد قضى بالتفاحة لها من دون هيرا ومينرفا؟
لذلك تكاد تكون حرب الإلياذة قائمة بين قبيلين متفاوتين في الطبائع، فأحدهما أقرب إلى الآلهة منه إلى الناس والآخر أقرب إلى الناس منه إلى الآلهة، وفي ذلك ما فيه من ميل هوميروس الذي يبدو هواه مع اليونانيين في الإلياذة التي نملكها، والتي هي من تمحيص اليونانيين من أهل أثينا والإسكندرية.
على أن هذا الميل لم يكن حادا أو مبالغا فيه كما هي الحال في القصص الشرقي الذي خلفته لنا عصور البطولة، ومن نحو قصة عنترة أو أبي زيد أو سيف بن ذي يزن، فالغالب في هذه القصص أن يطبع الراوي سامعيه بطابع خاص، فيجعل هواهم في جهة واحدة بحيث يطربون أبلغ الطرب وأشده إذا جال عنترة جولة فأطاح برءوس مائة أو مائتين أو ألف أو ألفين، أو إذا انهزم الزناتي أمام أبي زيد، لا، لم يفعل هوميروس كما فعل هؤلاء، فهو بالرغم مما جعل لأبطال الإغريق من شرف النسب وكرم الحسب، وبالرغم مما أنهى به الإلياذة من فتح طروادة وإشعال النيران فيها وقتل أبطالها البارزين، قد خصهم بنوع عجيب من البطولة يرفعهم درجات فوق الأبطال الإغريق؛ وذلك أنه جعلهم أناسا وجردهم في المعمعة من هذه الحضانة الربانية التي خلعها على أخيل وغير أخيل، ومع ذلك فقد صبروا وصابروا ولقوا جموع اليونانيين بمثل الشجاعة التي لقيهم اليونانيون بها، فلم يجبنوا ولم يهنوا ولم يتخاذلوا عند اشتداد اللقاء، وكانوا يقتلون ويقتلون، وكانت الكرة تكون لهم مرة ولخصومهم مرة، وكانت لهم مواقف عجيبة مشرفة تنتزع من القارئ استحسانه أو رثاءه، وقد استطاع هوميروس أن يستدر دموع سامعيه وهو يصور وداع هكتور لزوجه وولده، وفزع هذا الولد العجيب وأبوه يتناوله من يدي أمه ليقبله القبلة الأخيرة التي لم يره بعدها؛ لأنه ذهب ليصاول أخيلا فيقتله أخيل بمساعدة الآلهة، لا لأنه أقوى منه وأشد مراسا.
لقد استطاع هوميروس أن يستدر دموعنا وهو يصور لقاء أخيل لبريام المحزون وقد ذهب - وهو ملك طروادة - يرجو بطل الإغريق وزعيم الميرميدون في أن يدع له جثة ولده هكتور، وأن يخلي بينه وبينها، فما كان من أخيل إلا أن أصاخ ودموعه تنزف، فترك الجثة؛ جثة هكتور الذي قتل بتروكلوس حبيب أخيل ووكيله على جنده وأعز الناس إلى نفسه، والذي بكيناه أحر البكاء حينما قتل وحينما انتزعت أسلابه، وحينما جيء به إلى معسكر أخيل معفرا بتراب المعمعة، وحينما سهدت عليه العيون وسهرت عليه حبيبة أخيل.
وهكذا يرتفع هوميروس بأبطاله في الناحيتين، ويوزع إعجاب القارئ على المعسكرين مما سنبينه فيما يلي. •••
كان هوميروس يخفض الآلهة إلى مراتب الناس فيجعل لهم من الغرائز الدنيا مثل ما للناس، ثم يرفع الناس إلى مراتب الآلهة فيجعل لهم من الفضائل ما ليس ينبغي إلا للآلهة أو ما ليس يتوفر إلا للآلهة.
وعجيب أن تتخذ آلهة هوميروس مثلها العليا من البشر الذين خلقتهم بأيديها؛ لأن هوميروس - على ما يبدو في ملاحمه - لا يرى الحياة الدائبة النشيطة المفعمة بالغرائز المتضاربة إلا في محيطها المرئي المعترف به الذي يتكون منا نحن البشر، ولكي تتم الصورة الشعرية التي هي روح ملاحمه، والتي تفوق بها على ضريبه هسيود، تراه يلجأ إلى الأساطير يلون بها فصوله، وليثير بغرابتها شوق سامعيه، وليجدد فيهم الحماسة التي هي أولى غايات الملاحم؛ لذلك تراه يعقد مجالس الآلهة للتشاور فيما ينبغي أن تكون الوسيلة لنصرة فلان أو لخذلان فلان، فإذا اجتمع شمل الأولمب فلا بأس أن تثور الحفائظ بين أرباب وأرباب وبين ربات وربات، ولا بأس أن يعير أحد الآلهة فلكان إله النار بما وقع بين زوجة فينوس وبين مارس إله الحرب من خطيئة وفسوق
9
ولا بأس أن يدس هرمز أنفه في الموضوع فيصرح أن مارس معذور جد معذور فيما حدث له من الصبوة إلى فينوس، وأنه أول من يشتهي أن يكون الذي وقع لمارس كان قد وقع له.
وليس يرى هوميروس بأسا في أن ينزل الآلهة في معمعان الحرب ينافحون عن الأبطال الذين ينتمون إليهم، ففي الكتاب العشرين من الإلياذة يستأذن الآلهة سيد الأولمب فينقسمون فريقين، فتكون هيرا ومينرفا وهرمز وفلكان في صفوف الإغريق، وينحاز أبوللو ومارس وديانا وفينوس إلى صفوف الطرواديين، فإذا ثار النقع واضطرمت الحرب، والتقى أخيل وهكتور (الكتاب العشرون) وقعقعا بالسلاح، وأوشك هكتور أن يظفر ببطل أبطال اليونان عندما يسقط رمحه، تتقدم مينرفا فجأة وعلى عجل فتأخذ الرمح من فوق الأرض وتناوله لأخيل فتنقذه من قتلة لم يكن فيها شك ولا عنها متحول، وهي تفعل مثل ذلك في الكتاب الثاني والعشرين فتنقذ أخيل وتمهد له بذلك فيقتل هيكتور، ومع أن مينرفا هي ربة الحكمة في الميثولوجيا اليونانية فهوميروس في هذا الموقف ينحط بها إلى أسفل مراتب الإنسان؛ لأنها تكون سببا في قتل رجل عظيم مثل هكتور يدافع عن وطنه ويذود عن حمى بلاده، وهي لا تتسبب في قتله فقط بل تحرمه فرصة نادرة أوشك أن يبطش فيها بأخيل.
وليتها فعلت كما صنع نبتيون في الكتاب العشرين حينما أنقذ إبنياس من رمح أخيل مرتين حتى لا يغضب زيوس كبير الآلهة على بطل الإغريق.
10
هوميروس يزخرف الإلياذة بمثل تلك الأساطير ليقطع تسلسل المعارك وليتقي سأم السامعين وليجدد حماستهم، وهو في ذلك أستاذ أرباب المسرح من أمثال شيكسبير وأضرابه، وهو لا تعييه حيلة في اختراع ما يخفف وطأة الحزن إذا استعرت نيرانه في قلوب الناس حوله ، فلا بأس عنده إذن من أن يترك جثمان بتروكلوس ويقيم حفلا أولمبيا للألعاب يشترك فيه أبطال الحرب، فينافس بعضهم بعضا، فيتسابقون ويتلاكمون ويصطرعون ويقذفون القرص ويرمون الطوق ويحملون الأثقال ويسابقون على الخيل، وتكون حفلة باهرة كأحسن ما يشهد العالم الحديث في حفلات أولمبياد، ثم ينهض أخيل المحزون المرزأ في إثر كل مباراة فيوزع الجوائز السنية على الفائزين (الكتاب الثالث والعشرين).
وقارئ الإلياذة يتولاه العجب وتأخذه الدهشة لبراعة هوميروس الأعمى في الوصف، فكأس نسطور في الكتاب الحادي عشر ودرع هكتور في الكتاب السادس، والنقوش الأخاذة التي حفرت في درع أخيل والستر الأزرق الجميل في قصر ألكينوس، وشروق الشمس وغروبها وتكاثف الضباب والنقع المثار فوق المعمعة، كل هذه آيات من الوصف الدقيق الذي يشهد لهوميروس بملكة فنية قوية تتجلى في أكثر أنحاء منظومته، وتربك المترجم خاصة؛
11
حتى يستعصي عليه أن يساير هوميروس - ملك الشعراء - الذي تراه فيما ينظم مصورا ورساما وقائد جيوش وإلها وسحابا وبرقا ورعدا وحدادا، ثم جزارا وشواء، ثم راهبا وواعظا وما شئت من فنون الحياة التي لا حصر لها.
لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس؛ فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم «يوضبها!» ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها أعواد الند والرند والصندل، ثم يلقي فيها بالقراميد، ثم بقطع اللحم، ثم ينتشر القتار (رائحة اللحم المشوي)، ثم ... ثم ...
حقا إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يرهق بما حشد في كثب فقه اللغة؛ لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل بردا وسلاما على قلوب القراء . •••
وبعد، فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة أم الأوديسة؟
لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل كما نظم الأوديسة للمرأة الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعا، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع؛ لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.
نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالا للرجال يحتذونه؛ إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعانا. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراما وصلوها أعواما.
ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالا رائعا من الوفاء يحتذينه؛ إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن، فلا يفرطن في أعراضهن ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمنا طويلا، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة وصابرت وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فخضد شوكتهم واستأصل شأفتهم.
فالإلياذة خشنة كخشونة الرجال، والأوديسة لطيفة رقيقة فيها كثير جدا من رقة النساء، وهي رقة جعلت صمويل بطلر الأديب الإنجليزي العظيم يؤمن بأن هوميروس لم ينظم الأوديسة ولم يعرفها ولا تمت إليه بسبب، وبأنها من نظم فتاة من جزيرة صقلية استطاعت أن تدرس هوميروس والميثولوجيا اليونانية دراسة هادئة ثم فرغت إلى نظم الأوديسة فأتمت عملها في سهولة وفي يسر، وأخرجت هذه الدرة الفريدة التي تسمو في كثير من فصولها إلى ذروة الإلياذة إن لم تزد عليها.
لشد ما يدهش المرء لهذه الفكرة الغريبة التي قذف بها منطق بطلر! إن كثيرا من القرائن تؤيد هذا الرأي، بيد أننا لا نميل كثيرا إلى الأخذ به؛ لأن الأخذ به شرود خطير مبالغ فيه عن حيز الأدب اليوناني القديم، وقليل من الاستقراء في المآسي التي ألفت بعد هوميروس تهدم رأي بطلر وآراء الذين تشككوا في صحة نسبة الأوديسة إلى هوميروس، فثلاثية إسخيلوس «الأورستيه» مثلا والتي تتركب من مآسيه أجاممنون وحاملات الكئوس والإيومينيدز قد أشير إليها في الأوديسة (الكتاب الحادي عشر)، إذ يقص أوديسيوس على ألكينوس الملك رحلته إلى هيدز (الدار الآخرة) وما تحدث إليه به الكاهن تيرزياس عن أوبة أجاممنون، وما حدث له من الغيلة على يدي زوجته كليتمنسترا وعشيقها إيجستوس ثم ما كان من ثأر الفتى أورست لأبيه وقتله أمه ... إلخ.
فهذه الثلاثية التي أخذها إسخيلوس من الأوديسة وقدمها للمسرح تنقض وحدها دعوى الأديب بطلر؛ لأن الفتاة الصقلية التي يزعم أنها نظمت الأوديسة لم تكن قد وجدت بعد.
وقد جاء سوفوكلس فوضع مسرحيات كثيرة - معظمها مفقود بكل أسف - متخذا موضوعاتها من صميم الأوديسة، ومما وصل إلينا من أسمائها تلك المسرحية الجميلة المسماة نوزيكا، وقد أحذ فكرتها من الكتاب السادس، وهي المسرحية التي يروى أن سوفوكلس نفسه قد قام فيها بتمثيل دور الفتاة نوزيكا ابنة الملك ألكينوس حينما ذهبت إلى شاطئ البحر في سرب من وصيفاتها تغسل أثواب عرسها وتنشرها في الشمس فوق أغصان أشجار الغابة التي كان أوديسيوس مختبئا فيها بعد نجاته من الغرق.
وهناك أدلة كثيرة تهدم ما رآه بطلر خطأ في نسبة الأوديسة إلى مؤلف غير هوميروس ولم أعثر في الكتب التي درست فيها ملك الشعراء من يوافق الأديب الإنجليزي على وجهة نظره هذه.
والذي يقرأ مآسي اليونانيين القديمة يلاحظ أن الشعراء قد عنوا بالإلياذة أكثر مما عنوا بالأوديسة، فأخذوا من الأولى أضعاف ما أخذوا من الثانية. وقد لا يكون بعيدا أن إسخيلوس قد أخذ من الإلياذة ستين مأساة على أقل تقدير من الثمانين التي ألفها والتي قال فيها إنها فتات من موائد هوميروس الغنية، وكذلك أخذ سوفوكلس كثيرا من مآسيه التي وضعها للمسرح.
والإلياذة حقيقة بهذا الالتفات من شعراء اليونان فهي النهر العظيم الجياش المتدفق الذي تفرعت منه الأوديسة والإلياذة الصغيرة والإلياذات الكثيرة التي ألفها شعراء القرن الثالث قبل الميلاد في كل من أثينا والإسكندرية، والتي لا نستطيع هنا أن نحصرها ولا أن نتكلم عنها. •••
وليس من شك في أن شخصية أخيل هي أبرع شخصيات الإلياذة ولا غرو، فقد سمى هوميروس إلياذته «قصيدة غضب أخيل!» وروح أخيل هي كهرباء الحماسة في الإلياذة من أولها إلى آخرها.
انظر إليه وقد ذهبت به أمه إلى نهر الخلود تغطه
12
فيه حتى لا ينفذ في جسمه رمح ولا سهم من رماح الحرب أو سهامها؛ لأن لماء هذا النهر ذلك الفعل العجيب! وانظر إليه كيف يبتل جسمه كله ما عدا عقبه، ثم يكبر أخيل ويشب ويصبح بطل أبطال اليونان، ثم تكون حروب طروادة فيمضي إليها بخيله ورجله، ويقتل الأبطال الصناديد، ثم يصوب إليه باريس سهما من سهامه يقر في العقب التي لم تبتل بماء نهر الخلود فيكون فيه حتفه!
وانظر إليه يختلف وأجاممنون من أجل الجارية بريسيز التي هويها أخيل وعلقها قلبه، فيرفض أن يغشى المعركة، ويعتزلها وجنوده الميرميدون، فتدور بذلك الدوائر على جيوش اليونان ولا يغنيها أن يكون في صفوفها الأبطال المغاوير أودسيوس وأجاكس وديوميدز ومن إليهم، وانظر إليه يكلمه بتروكلوس في نصرة بني جلدته حين يعز عليه أن يصطلمهم أبطال طروادة فيأذن له، ويضفي عليه درعه العظيمة التي ذهبت أمه فصنعتها له عند فلكان الحداد، ويذهب بتروكلوس فيكسر شوكة الطرواديين ويصيبهم القرح على يديه وأيدي الميرميدون جنود أخيل.
وانظر إلى أجاممنون يعتذر إليه ويرد عليه بريسيز ويقسم له أنه لم يطمثها ولم يمسسها بسوء. وانظر إلى أخيل لا يفيء ولا يلين ولا ينهض لحرب الطرواديين، فيغضب الآلهة ويسخط أرباب الأولمب ويخرق الشرائع وقوانين الأخلاق فتكون النتيجة أن يقتل بتروكلوس الحبيب العزيز.
وانظر إلى أخيل كيف تسود الدنيا في عينيه حزنا على بتروكلوس فيمضي إلى المعمعة فيصرع أبطال طروادة ويجول فيها ويصول، ويزأر ويزمجر ويطويها كالعاصفة، ثم انظر إليه يظفر بهكتور - قاتل بتروكلوس - فيصرعه ويجره خلف عربته ويدور حول طروادة غير موقر قدس الموت ولا حافل بتقاليد السماء.
ثم قف عند أروع مناظر الإلياذة جميعا : بريام الحزين، والد هكتور! هذا الرجل المحطم يمضي وحده إلى أخيل باكيا ضارعا متوسلا، يرجو الرجل الذي قتل أولاده في أن يدع له جثمان هكتور ليشفي بالبكاء عليه جوى نفسه، وليطفئ بتحريقه السعير المضطرم بين جوانحه، فيعصف الحزن بأخيل العظيم ويعانق الرجل العظيم ويتبادلان البكاء، ثم يأذن له ببدن ولده.
هنا نبل هوميروس، وهنا إنسانيته وسموه، وهنا فرق ما بينه وبين قصاصينا الذين يشتركون مع سامعيهم في السخط على بطل الناحية الثانية. •••
ومن ألمع شخصيات الإلياذة شخصية أجاممنون، تلك الشخصية العجيبة التي رفعها هوميروس فوق شخصياته جميعا، وخصها بالقيادة العامة للأسطول في البحر وللجيوش في البر.
وأجاممنون هو شقيق منلوس زوج هيلين التي بسببها شبت الحرب بين اليونان وطروادة، وهو الذي ضحى بابنته إفجنيا كي تتحرك الريح وتتأذن الآلهة للأسطول في أن يقلع من أوليس بعد إذ لبث هناك زمانا طويلا لا يقوى على حركة، لسكون البحر وجمود الرياح، وقد اتخذ إسخيلوس من مأساة الفتاة إفجنيا
13
موضوعا لمأساته الرائعة التي دبرت فيها كليتمنسترا زوجة أجاممنون غيلة زوجها بعد أوبته من طروادة وذلك بمعاونة عشيقها إيجيستوس، ثم تتسلسل ثلاثية إسخيلوس المشجية «الأورستية» على هذا الغرار.
ومن المشاهد المؤلمة التي ينقم فيها القارئ على أجاممنون، ذلك المشهد الذي يقص علينا فيه هوميروس ما شجر من الخلاف بينه وبين البطل أخيل. إنه مشهد يثير السخط على أجاممنون، كما أثاره تسليم رأس ابنته للجلاد قربانا للآلهة حتى تثير الرياح كي يقلع الأسطول، وبمثل هذه المشاهد التي سنضع بين يدي القارئ صورا رائعة منها وضع هوميروس أساس المأساة اليونانية ومهد السبيل لمن جاء بعده من الشعراء فخلقوا الدرامة وخلقوا المسرح وتركوا للذهن البشري ثروة لا يزال يستغلها ولا يزال يروي ظمأه منها.
وقد ورد ذكر أجاممنون في الأوديسة كما أسلفنا وذلك عندما لقي أودسيوس الكاهن تيريزياس في العالم الثاني وأخذ يقص عليه ما آل إليه أمر أبطال الإلياذة بعد أوبتهم إلى أوطانهم، وقد ذكر له من أمر أجاممنون ما دبرته له زوجه.
وللبطل ديوميد منزلة رفيعة في الإلياذة، ويكاد بشجاعته النادرة يتفرد بالإعجاب بعد إذ هجر المعركة أخيل. ففي الكتاب الخامس الذي قصره هوميروس على هذا البطل لا تقتصر شجاعته على التفوق على الآدميين الذي خاضوا الحلبة، بل تتعداها إلى الآلهة، وحسبه فخرا أنه جرح فينوس ربة الجمال التي كانت تتفانى في مساعدة جيوش طروادة، ثم مارس إله الحرب الجبار المدله بهوى فينوس، وكلما حاق بأحد اليونانيين كرب في المعمعة كان ديوميد أسرع الفرسان إلى نجدته بل إنقاذه، وقد ذهب في الكتاب العاشر في صحبة أودسيوس إلى معسكر الطرواديين في حلك الليل حيث اغتالا ريسوس بعد أن اجتازا ساحة تعج بالمنايا وتضطرب بألوان المهلكات.
أما أودسيوس فله شخصية فذة؛ إنه بطل مخاطر لا يبالي الردى ولا يرهب المنايا، إلا أنه يمتاز بناحية أخرى أظرف وألطف؛ ناحية تثير المرح وتبعث الضحك، ضحك الجد الصارم لا ضحك المشعبذين ورجال المساخر، إنه كان من عشاق هيلين قبل أن تنشب هذه الحرب، فلما فاز منلوس بهيلين حزن وتولاه الكمد، لكنه تزوج من إحدى قريباتها «بنلوب» التي لم تكن تقل عنها جمالا ونضرة وطلاوة، والتي استطاعت أن تحتل من قلبه فراغ هيلين كله، فلما نشبت الحرب بسبب هيلين وعلم أودسيوس أنه مدعو إلى خوض غمارها فيمن دعي من ملوك هيلاس وأمرائها آثر السلامة، فادعى العته وذهب إلى شاطئ البحر بمحراث عظيم يجره ثور وجواد، وجعل يحرث الأرض ويبذر فيها الملح كما يفعل المجانين، ولم تنطل هذه الحيلة على بالاميدز رسول منلوس فقد عمد إلى تزييفها بوضعه الطفل تليماك بن أودسيوس في طريق المحراث. فكان أودسيوس يتفادى ولده في مهارة أشد الناس وعيا وأكثرهم إدراكا. وفي الإلياذة كثير من المشاهد التي تدل على براعة أودسيوس وجمال حيلته وعمده إلى الخدعة في الحرب أكثر من الاتكال على الشجاعة المجردة. كما كان يصنع ديوميد أو أجاكس أو أخيل. وخدعة الحصان الخشبي التي فتحت طروادة هي من تدبير أودسيوس، أما الأوديسة فإنها غاصة بحيل هذا الرجل العجيب، وهي حيل خلابة لا يمكن استيعابها في هذه المقدمة المقتضبة عن هوميروس. وننتهز هذه المناسبة فنشير إلى ما تسرب إلى قصص ألف ليلة وليلة من خدع أودسيوس. فأكثرنا قد قرأ رحلات السندباد البحري، وأكثرنا يذكر المارد الذي حبس السندباد ورجاله في كهفه، وراح يسمنهم ويتغذى بهم واحدا بعد واحد حتى دبر السندباد حيلة سمل عيني المارد بالسيخ (السفود) المحمى وما تم بعد ذلك من هرب السندباد ورجاله إلى زورقهم ونجاتهم بأنفسهم في البحر. هذه صورة كاملة من صور الأوديسة اقتبسها الراوية العربي وكساها هذا الرواء القشيب مباعدا بينها وبين الأصل غير مشير إلى مصدرها. ونحسب نحن أن قصة السندباد كلها لم تكتب إلا بعد العصر الذي فشت فيه الترجمة عن اليونانية، واشتدت فيه أواصر الصداقة بين هارون عاهل بغداد وشرلمان عاهل الفرنك، وما تبع ذلك من وفود تجار القسطنطينية إلى بغداد، ووفود تجار بغداد إلى العاصمة الرومية، وما كان يصحب هذه الرحلات من تبادل القصص وسرد الأخبار، وليس يبعد كذلك أن يكون لاختلاط العرب بأهل الإسكندرية من مصريين ويونانيين أثر فيما نلحظه من تلقيح القصص العربي بطرائف القصص اليوناني.
هذه بعض شخصيات المعسكر اليوناني تقابلها شخصيات أخرى في معسكر طروادة، ولسنا ندري بأيها نبدأ؟ إن باريس الذي كان سبب هذه الحرب الضروس شخصية هزيلة مريضة شاحبة، وليس يستطيع الإنسان أن يفهم كيف جاز أن تنشب هذه المجزرة الشنيعة المروعة بين هذين الحلفين الكبيرين من أجل أن هذا الفتى باريس ينزل ضيفا على منلوس فيكرمه ويحتفي به، ثم لا يلبث الضيف أن يغازل زوج مضيفه، ثم ما هو إلا أن يفر بها بعد تدبير هو أسفل ما عرف في تاريخ الهمجية والقحة! حقا؛ لقد وعدته فينوس قبل أن يقضي لها بالتفاحة المشئومة أن تمنحه أجمل زوجة وأفتن امرأة. أفلم يكن هذا النذر الإلهي يقضى إلا على هذا النحو؟! والغامض الذي لم يفسره علم الأساطير هو كيف أنه قد ساغ صنع باريس في ذهن أبيه ملك طروادة؟ وكيف رضي بطل عظيم مثل هكتور عن هذه الدعارة التي أثار بها أخوه الحرب بين هذين العالمين؟ قد نلتمس العصبية الجنسية عذرا واهيا بهذا الرضى، بيد أنه يكون عذرا متهدما على كل حال.
يدرس الإنسان شخصية بريام الملك فيعجب لنبالة الرجل وفطرته التي فطره الله عليها من محبة للعدل وميل إلى الإنصاف وإشفاق على الرعية، فكيف وزن عمل ولده حين أبى أن يأمره برد هيلين إلى زوجها حقنا لكل تلك الدماء؟! أين المرض إذن؟ أفي رأس بريام وملئه؟ أم هو في رأس هوميروس؟ هنا موضع الضعف في عقدة الإلياذة، وهو ضعف يشبه الضعف في عقدة الأوديسة، حين يجتمع عشاق بنلوب في قصر أودسيوس، وحين تمر عليهم السنون الطوال منتظرين أن تختار منهم ربة الدار بعلا لها، فهم بذلك يشبهون القطط. ويحاكون الديكة حين تقتتل على الأنثى. هذا ضرب حيواني من تفكير هوميروس يشوه جمال ملحمتيه، ولعل للوثنية نصيبا كبيرا في توجيه شاعر الخلود هذه الوجهة، ولعل المصريين القدماء لم يكونوا متجنين حين قالوا عن ملاحم اليونان إنها نتاج صبياني؛ ولذا لم يأبهوا لها ولم يعنوا بها برغم ما مدحها لهم صولون.
والعجيب في هوميروس أنه لم يبال أن ينحط بالمرأة اليونانية إلى مستوى دون مستوى المرأة الطروادية بمراحل هائلة، لقد جعل المرأة اليونانية متاعا شائعا وغرضا تتحيفه لبانات الرجال؛ فهيلين زوجة منلوس ملك أسبرطة تفر مع باريس إلى طروادة دون أن تتأبى أو تتمنع. ثم تشب الحرب بسببها فلا تحاول مرة أن تفر إلى معسكر اليونانيين. بل تظل طوال السنوات العشر متعة حلالا لباريس، وتنتهي الحرب وتضطرم النار في طروادة وتعود هيلين إلى أسبرطة فلا تثور نخوة منلوس ولا يضطرب قلبه بقليل من غيرة الرجال.
أما بنلوب فقد ضربت المثل الأعلى لحفاظ المرأة ووفاء الزوجة، لكنها مع ذلك عوملت من أمراء هيلاس معاملة عجيبة مضحكة تدعو إلى السخرية التي فاجأ بها المصريون القدماء المشترع صولون، وإلا فما هذه العصبة من العشاق لمعاميد تحتل منزل أودسيوس؛ فتريغ خيره وتأكل زاده وترتع في شرفه وتستبيح عرضه ؟! أكانت منزلة المرأة عند اليونانيين - ولو في عصر هوميروس - بهذه الدرجة من الهوان؟! زوجة ملك إيثاكا تكون بطلة هذه المأساة الغرامية الوضيعة، وقد قدم هوميروس من خيوس لينشد ملحمته في المدائن اليونانية ليسمع أهلوها كيف كان أسلافهم يعاملون زوجة بطل أبطالهم؟!
وكليتمنسترا زوجة أجاممنون، لقد عشقت هي أيضا إيجستوس المتآمر على عرش مولاه والذي دبر له تلك القتلة الشنيعة بعد عودته ظافرا من طروادة، فما الذي صنعه هوميروس بنساء اليونانيين؟ لقد عبث بهم وهو يرفع أبطالهم إلى ذروة المجد، ولها بعقولهم حين عرض عليها بضاعة البطولة المزجاة ملفوفة في أكفان تلك الأعراض الممزقة، حتى آلهتهم، لقد تناولها كما يتناول الطفل دماه ولعبه يعبث بها ويلهو، حتى كبير الآلهة وسيد الأولمب، انظر إليه كيف احتالت عليه زوجه جونو «حيرا» - الكتاب الرابع عشر - فجعلته يغفى ثم يغط في نوم عميق كيما يذهب نبتيون لنصرة الإغريق، فإذا استيقظ في الكتاب الخامس عشر وعلم ما كان من أمر نبتيون أرسل إليه ينذره في المعركة، فيعود رب البحار وينبري أبوللو لمشاكسة اليونانيين فترتد جموعهم إلى قواعدها عند الأساطيل.
أما المرأة الطروادية فقد سما بها هوميروس سموا بلغ الغاية وأوفى على المأمول، انظر إلى الأزواج والعذارى والأمهات يجتمعن حول هكتور في الكتاب السادس في عودته من المعركة يسألنه عن ذويهن؛ وانظر إلى أمه تبرز إليه من حريم بريام عابسة مقطبة تزجره لأنه عاد من المعركة وهي على أشدها ثم تحضه على اللحاق بإخوانه ينصرهم ويشد أزرهم ويرد عنهم عادية الإغريق، ثم انظر إلى هذه المرأة المرزأة - هكيوبا - تجمع المتضرعات من بنات طروادة وتذهب فيهن إلى هيكل مينرفا تصلي وتعقر القرابين كيما تشمل جيش طروادة بحسن رعايتها وجميل حمايتها، ثم استمع إليها تحنو على هيكتور في الكتاب الثاني والعشرين بعد إذ وعظه والده خوفا عليه من أخيل «الجني!» وقد أفزعها منظره يصول في الحلبة ويجول، فتذري دمعها وتساقط نفسها بعد إذ أرسلت إلى المجزرة بأكثر أبنائها، أو انظر إليها تمزق نياط القلوب في الكتاب الرابع والعشرين إذ هي تبكي هكتور بعد إذ عاد أبوه بجثمانه من لدن أخيل، أو انظر إليها تتعلق ببريام وقد انقض بيروس (ولد أخيل) على آخر أبنائها يخترمه برمحه، ثم ينقض على بريام الشيخ الفاني المسكين فيجهز عليه، ثم يقتاد هكيوبا، هكيوبا المحزونة المفجعة فتكون في جملة السبي الذي يعود به اليونانيون من طروادة،
14
ويكون سبيا يجر عليهم النحس فيقتل من يقتل ويردى من يردى.
وأندروماك! لشد ما يدوي في فؤاد القارئ هذا المشهد الرائع بينها وقد حملت طفلها، وبين زوجها هكتور في الكتاب السادس من الإلياذة! إن هوميروس يرتفع في هذا المشهد إلى ذروة فنه في ملحمته الخالدة! لشد ما يحرق القلب وداع أندروماك الزوجة لهكتور الزوج!
انظر إليها واقفة فوق برج من أبراج طروادة وقد قتل أخيل زوجها وراح يجره وراء عربته في الساحة حول إليوم. والرأس الكريم العظيم يثير التراب المنضوح بالدم، وأخيل يلهو بكل ذلك ويشتفي!
بل انظر إليها وقد وقفت تضرب صدرها وتسكب دمعها على جثة هكتور بعد إذ عاد بها أبوه بريام من عند أخيل، ثم تقول: «زوجي! أهكذا تمضي في عنفوان الصبا وشرخ الشباب، وتتركني وحيدة فريدة كاسفة! هذا ابنك لا يزال في المهد، وهذان أبواك الشقيان! لن يشب ابنك يا هكتور عن طوقه؛ لأن من دون هذا دك تلك الحصون، وتقويض طروادة التي كنت حاميها وحامي نسائها والذاب عن بنيها! يا لشقاء الحرائر اليوم يا طروادة! إن هي إلا لحظات ثم يحملهن البحر إماء للغزاة، وأنا وولدي في جملة السبي يا هكتور. ولدي! ولدي البائس الشقي! إلى أين المسير! إلى بلاد العدو الظالم لنكون من جملة الخدم والخول، ليراك من يحسب أباك قد قتل أباه أو أخاه فيبطش بك، وينتقم منك ويقذف بك من فوق برج أو حصن.» «لشد ما كنت حزنا لأبويك يا هكتور! بيد أنك كنت حزنا ممضا لمخلوق آخر هو أنا!»
وهكذا بكت هذه الزوجة المخلصة الوفية زوجها، وهكذا كانت دموعها الغوالي مدادا لا ينفد لمآسي يوربيديز.
وبعد، فهذه مقدمة عن هوميروس مسهبة، وهي مقدمة لهذا الكتاب والكتاب الذي سيليه إن شاء الله، لم أر بدا من إثباتها بنصها كما كتبتها بعد أن فرغت من تلخيص الأدب اليوناني، ونشر معظمه في أوقات متقاربة. ولم يبق إلا أن يعلم القارئ لماذا آثرت تلخيص الإلياذة والأوديسة، ولم أوثر ترجمتهما؟ ولا أحب أن أطيل في إيراد سبب ذلك؛ فأنا لا أزال عند رأيي من وجوب تحبيب الأدب اليوناني الخالد إلى قراء العربية، وإزالة ما عساه أن يصرفهم عن ورده، والاستمتاع بروائعه. والأدب اليوناني مثقل بمئات من أسماء الآلهة والإشارات الأسطورية التي تصرف القارئ عن لب الموضوع، بل ربما صرفته عن الموضوع نفسه، وزهدته فيه فلا يعود إليه أبدا.
لهذا آثرت التلخيص على الترجمة؛ ولهذا بدأت بنشر كتابي «أساطير الحب والجمال عند الإغريق» لأمهد به «لقصة طروادة» وهي هذا الكتاب، و«لقصة الأوديسة» التي ستظهر بعد أسابيع. وأرجو أن أوفق إلى نشر الجزء الثاني من أساطير الإغريق الذي لا غنى عنه لقراء الأدب التمثيلي اليوناني قبل أن أنشر كتبي التي أنجزتها عن إسخيلوس وسوفوكلس ويوربيديز حتى أكون قد ساهمت بنصيبي المتواضع في التعريف بالأدب اليوناني، ولفت أنظار قراء العربية إلى روائعه حتى يتيح الله لهذا الأدب من يترجم روائعه ترجمة نثرية لا غنى لقراء العربية عنها.
ولو كانت إلياذة هوميروس تكفي لشرح نفسها بنفسها لاكتفيت بترجمتها، وأعفيت نفسي من عناء البحث، ووصل تاريخ حروب طروادة بأسبابها ونتائجها، فكنت أستريح من تسجيل فصول هذا الكتاب الأولى وفصوله الأخيرة بالرغم مما في ذلك من تحد لأزمة الورق، وما في تسجيل هذه الفصول من رفع لثمن الكتاب لم نتعمده بل اضطررنا إليه اضطرارا.
القاهرة؛ أبريل 1945
دريني خشبة
التفاحة
نشيد الزمان!
وقصيدة الماضي!
وغناء السلف!
وحداء القافلة التي لا تفتأ تخب في بيداء الأزل، إلى الواحة المفقودة في متاهة الأبد؛ ركبانها الآلهة، وأبوللو وكيوبيد وملؤهما ولدانها المخلدون! •••
أنشد يا هوميروس،
واملأ الأحقاب موسيقى،
واللانهاية جمالا وسحرا!
فالأرواح ظامئة، والقلوب متعبة، والإنسانية واجفة، والآذان مكدودة من دوي العصر، فهي أبدا تحن إلى سكون الماضي. •••
لن تصمت يا هوميروس،
فالقيثارة الخالدة لا تزال بيديك،
والقلوب هي القلوب!
فدع أوتارها تملأ الدنيا رنينا؛ فلقد أوسعتنا هذه الدنيا أنينا، ورنينك العذب أذهب لأنين الشاكين ولوعة الباكين!
1
رآها تخطر فوق الثبج، وتميس على رءوس الموج، فهام بها، وشغلته زمانا عن أزواجه في قصور الأولمب، فكان يقضي عند شاطئ البحر أياما يترقب الفرصة السانحة، ويفتش في كل موجة عن حبيبته «ذيتيس»، عروس الماء الفاتنة، «ذات القدمين الفضيتين»، ابنة نريوس - رب الأعماق - الثاوي مع زوجته الصالحة دوريس في قصور المرجان، هناك، هناك تحت العباب.
ورقت له الفتاة حين علمت أنه رب الأرباب وسيد آلهة الأولمب، زيوس العظيم، فوصلت بحبالها حباله تطمع الخبيثة أن تصبح زوجة أولمبية عظيمة، تصاول حيرا أم مارس وفلكان، وتفاخر لاتونا أم ديانا وأبوللو، وتدل على ديون أم فينوس، وعلى سائر ربات الأولمب!
وابتسم لهما الزمان، وتساقيا كئوس الغرام؛ وأوشك الإله الأكبر أن يبني بها لولا وسواس خامر قلبه فآثر أن يستشير ربات الأقدار
1
قبل أن يبت في الأمر أو يقطع فيه بشيء.
ولقد شاء حسن طالع الإله الأكبر أن يفعل؛ إذ أخبرنه أن ذيتيس الجميلة التي يهواها سيد الأولمب تلد غلاما لا يزال يقوى ويشتد حتى يخلع أباه ويستأثر بالملك من دونه، أو على الأقل؛ تكسف شمس عظمته شمس أبيه فيعيش إلى جانبه إمعة لا شأن له، وهولن؛ فحدثنه عما يكون للغلام من مقام حين يثار النقع ويستحر القتال بين شعبه «الإغريق» وجيرانهم «الطرواديين».
وخفق قلب زيوس وذكر تلك الحرب الضروس التي انتصر فيها على أبيه ساترن
2
بعد فظائع وأهوال، فأشفق أن يكون له ولد يصنع به ما صنع هو بأبيه.
لذلك قصر هواه وأصدر على غفلة من كل آلهة الأولمب إرادة سامية تقضي بأن تتزوج ذيتيس من بليوس ملك فيتيا؛ الذي كان هو الآخر مولعا بها مشغوفا بجمالها، حتى لقد خطبها إلى أبيها غير مرة فرفض رب الأعماق أن تبني ابنته على بشري هالك ولو كان ملكا.
بيد أنه صدع بأمر الإله الأكبر وقبل بليوس لابنته بعلا.
وحزنت ذيتيس وانعكفت في غرفتها المرصعة باللآلئ تشكو وتبكي؛ فلما علم زيوس بما حل بها زارها من فوره وطفق يلاطفها ويترضاها حتى رضيت أن تكون زوجة لبليوس الملك: «على أن تحضر بنفسك، أنت وجميع الآلهة ليلة الزفاف، وليعزف أبوللو على موسيقاه، ولترقص ديانا ربة القمر.»
2
ودقت البشائر، واضطرب بطن اليم، وانشق الماء عن طريق رحب يتهادى فيه موكب الآلهة إلى قصر نريوس في أعماق المحيط، ووقفت الأوسيانيد والنيرييد وسائر عرائس الماء صفوفا صفوفا تحيي الضيوف الأعزاء الأوداء الأحباء، وتغني وتنشد وترسل ألحانها الخالدة موقعة على الموسيقى المشجية.
وانبرى أبوللو يوقع على قيثارته الذهبية. أبوللو الذي اشترك في بناء أسوار طروادة، فلم يكن يصنع شيئا أكثر من أن يلعب بأنامله على أوتار القيثارة، فتقفز الحجارة مترنحة من الطرب إلى مكانها من الأسوار!
وانطلقت ديانا ترقص، فما علم أحد من الآلهة أخطرات نسيم تهبط من القمر الفضي وتعلو في السماء، أم ديانا الهيفاء ترقص في القلوب والأحشاء؟!
ونهض الجميع إلى المقصف الفاخر الذي تفننت في تنويع آكاله وأشرباته أيد إلهية ماهرة، فأكلوا ما لذ، وشربوا ما طاب، وأخذوا في سمر جميل. وكان هرمز يرسل نكاته الطريفة فيقرقع المكان الحاشد بالضحك، وتدوي الأكف بالتصفيق!
وبينما الآلهة في قصفهم لا يفكر أحدهم إلا في هناء العروسين، إذا بالربة الخصيم أيريس
3
تظهر فجأة في وسط الجماعة، ثم تشرع تقلب فيهم عينين تقدحان بالشرر، وتنفثان سم البغض وعلى رأسها الفاحم الأسود تتلوى خصل ثعبانية شائهة ذات فحيح وصلصلة، وعلى صدغيها الأبرصين يخشخش عقربان منكران، لكل منهما ذنابى يقطر الموت الأسود منها ها هنا وها هنا.
ظهرت إيريس غضبى محنقة؛ لأن القائمين بالدعوة إلى العرس أغفلوها فلم يرسلوا إليها بالدعوة التي أرسلت إلى الأرباب جميعا. وهم قد قصدوا إلى ذلك عن عمد؛ لأنهم خشوا على العروسين من أذاها الذي ما تفتأ تثيره في كل مكان وطئته قدماها، أليست هي ربة الخصام النافخة في نار العداوة التي تتضرم منذ الأزل في الجوانح والقلوب ؟
لكنها لم تنس لهم هذا الإهمال، بل أقبلت وهي تتميز من الغيظ لتقلب هذا العرس الكريم إلى مأتم أليم.
ولقد أوجس الآلهة جميعا خيفة حين رأوا إليها تقلب فيهم ناظريها المشتعلين، غير أنهم اطمأنوا قليلا حين رأوها تنصرف بعد إذ ألقت على الخوان الفخم تفاحة كبيرة من الذهب، نقشت عليها هذه الكلمة المقتضبة: «للأجمل!»
3
باريس
درجت عادة القدماء على أنه كلما ولد لأحدهم غلام توجه من توه إلى الهيكل يقدم القرابين ويزف الهدي؛ ثم يستوحي المعبود عما يكون من مستقبل ولده وما يفيض به من سعادة أو شقاء، ليأخذ للأمر أهبته وليعد لكل شيء عدته.
فلما وضعت هكيوبا - ملكة طروادة - غلامها باريس، حمله أبوه الملك بريام إلى هيكل أبوللو ليرى رأى الإله فيه.
واربد وجه الملك الشيخ وتغضنت أساريره حين قال له كاهن المعبد: إن ولده سيكون كارثة على قومه وعلى بلده، وسيأتي من الإثم ما يجر إلى قتل ذويه وبني جلدته ويفضي إلى سقوط طروادة في يد أعدائها.
وتحدث بريام إلى هيكيوبا في ذلك، فصمما على الخلاص من الطفل بتركه في العراء فوق إحدى جنبات الجبل ينوشه طير جارح أو تفترسه ذئاب البرية. وأنفذا فعلتهما الشنعاء، ولكن القضاء ينبغي أن يتم والقدر يجب أن يأخذ مجراه، فلقد جاز بهذا المكان من الجبل أحد رعاة الأغنام فوجد الغلام وفرح به واتخذه لنفسه ولدا؛ ثم سهر عليه واعتنى به ونشأه على الفروسية التي كانت أحب مزاولات الحياة في هذا الزمن.
وشب باريس فتى يافعا جميلا ممشوقا فعمل مع الراعي الذي أنقذه. وكان مولعا بالبحر تشوقه أمواجه وتفتنه أواذيه، فكان يختلف إليه ريثما تفيء الأغنام من الحر، يلهو بالسباحة ويتريض بمصارعة الموج. وبدت له إحدى عرائس الماء - إيونونيه - وكانت قسيمة وسيمة فهويها وعلقها قلبه، وما لبثت أن أصبحت أعز شيء عليه في هذه الحياة.
وعشقته إيونونيه وأخلصت له الحب، وكانت تنتظر أوبته من رعي الغنم كما ينتظر الظمآن جرعة الماء والعليل برد الشفاء.
وا أسفاه!
لقد قضت ربات الأقدار - كلوتو وأختاها - ألا يدوم هذا الحب طويلا!
4
4
اجتمع الغانيات حول التفاحة كل تريدها لنفسها، وكل تدعي أنها أجمل من في الحفل جميعا، ثم ساد صمت عميق حينما نهضت حيرا ومينرفا وفينوس، ميممات شطر الجهة التي يتنازع فيها الغانيات من سائر الربات على التفاحة الثمينة. - «أنا حيرا العظيمة، مليكة الأولمب، وصاحبة الحول والطول فيه، وآثركن إلى قلب الإله الأكبر، أنا أحقكن بهذه التفاحة العلوية وأعرفكن بقدرها، سأضمها إلى تفاحات هسبريا
5
فهي بهن أليق، وهن عليها أحفظ، سيعلقنها مع أخواتها الثلاث لتزدان بها حدائقهن.» - «أنت تفاخرين بملك الأولمب، وبالجاه والسلطان؟ إذن أين جمال الحكمة وأبهة الموعظة الحسنة وجلال الرأي السديد؟ بل أنا مينرفا، ربة الهدى والسبيل الحق، أحق منك بهذه التفاحة.» - «فيم تختصمان يا أختي العزيزتين؟ أليس قد كتب الحكم على التفاحة نفسها؟ أليست هي للأجمل؟ أو لست أنا ... فينوس جميعا ... ربة الجمال؟ لم تربعت على عرش الفتنة إذن؟ هي لي من دونكما!»
واختلفت الآلهة، وساد الهرج والمرج، ولم يجسر أحد ممن احتشد حول الخوان أن يفوه بكلمة يفضل بها إحدى الربات الثلاث حتى لا يقع في سخط الأخريين وحتى لا يكون أبدا عرضة لنقمتهما.
وتفرق الجمع بددا.
وقصدت الربات الثلاث جبلا شامخا يشرف على البحر فتلبثن به، واتفقن على أن يفصل أول عابر مهما يكن شأنه بينهن في أمر التفاحة، وتعاهدن بالأيمان المغلظة أن يخضعن لحكمه، وأن تكون كلمته فصل الخطاب فيما اختلفن فيه.
وتنظرن طويلا؛ وكان البحر يضطرب من تحتهن فيقذف باللآلئ والمرجان، كأن إلها حاول أن يشبع نهم الربات بالجواهر الغالية فلا يتشاجرن من أجل تفاحة، ولكنهن ما كن يأبهن لحصباء الدر المنثور على الشاطئ، بل ما كانت أعينهن تريم عن لقية إيريس!
وكانت عروس فتانة من عرائس الماء تعلو وتهبط مع الموج ولا تفتر تحدق ببصرها في الجهة التي جلست بها الربات يتربصن.
وكانت إيونونيه من غير ريب، وكان الجبل مستراد باريس الذي يريح فيه قطعانه، ثم ينطلق للقاء حبيبته فيتباثان ويتشاكيان.
وأقبل باريس يشدو لشائه ويغني فزلزل قلب إيونونيه، وهلعت نفسها وفرقت على حبيبها فرقا شديدا؛ ذلك أن أخبار النزاع الذي انتهى إليه يوم الزفاف من أجل تفاحة إيريس كانت قد شاعت، وتسامع بها كل عرائس البحار؛ فلما عرفت إيونونيه ما اجتمع الربات من أجله اضطربت أيما اضطراب، وقلقت على باريس أيما قلق؛ لأنه وحده هو الذي يجوز بهذا الطريق حين ينفذ إليها يحلمان ويتناجيان. وكان مصدر قلقها هو ما عساه أن يجره على نفسه - إذا قضى بينهن - من سخط الربتين اللتين لا يقضى لهما بالتفاحة.
5
وصاحت حيرا: «قف أيها الراعي الجميل فاحكم بيننا فيما نحن مختلفات فيه: تلك تفاحة من الذهب ساقتها السماء إلينا منحة منها لأكثرنا جمالا وأسطعنا رونقا، وأنا حيرا، مليكة الأولمب، وذات الحول والطول فيه، وربة التاج والصولجان، وصاحبة القوة والسلطان، وآثر أزواج ربك، كبير الآلهة، وأحبهن إليه، أنا حيرا ذات الجبروت، وولدي مارس إله الحرب، ورب الطعن والضرب، أقوى أبناء زيوس العظيم، وولدي فلكان كذلك، إذا شئت سرد لك الدروع من حديد فتصبح سيد أبطال العالم، لا يشق لك غبار ولا يجرى معك في مضمار، إذا خضت حربا حماك مارس وأيدك ونصرك فلكان وآزرك، ألست ترى إذن أيها الراعي الجميل أنني أحق من هاتين بتلك التفاحة؟ أنا حيرا مليكة الأولمب سأمنحك الثروة التي لا تفنى والسلطان الذي لا يبيد، سأجعلك ملك هذه الديار التي ترى، ستكون صاحب عرش وتاج، وستستريح إلى الأبد من هذه الحياة الضنك التي تحياها، أنت جميل يا فتى، وأنت بعرش عظيم أولى منك بهذا القطيع الذي يثغو.»
وصمتت حيرا، وجعل باريس يقلب في التفاحة ناظريه، وفي قلبه مما رأى وما سمع فرق عظيم.
لقد كانت حيرا تختال في ثوبها الأولمبي الموشى، وكان طاووسها الجميل - الذي اتخذته منذ الأزل رمزا لها - يتشبث بناصيتها ويميس فيزيدها جلالا وكبرياء.
وأوشك الفتى الراعي أن يقدم التفاحة لحيرا لولا أن صاحت به مينرفا: «على رسلك أيها الشاب، اسمع منا جميعا ثم اقض بيننا، أنا لن أزخرف عليك بملك ولا سلطان، فأنت أعقل من أن تنخدع بالعرض الزائل وأعلى من أن يهيمن جسمك على عقلك ، وهواك على قلبك. أنا مينرفا ربة الحكمة وإلهة الروح الأعلى المقدس، سأمنحك السداد، سأكشف لك حجب الجهالة، وسيضيء مصباح المعرفة بين يديك فتكون أهدى الناس وأعلم الناس وأحكم الناس.»
وسكتت مينرفا؛ وسمع هاتف من جهة البحر يصيح: «باريس، أعطها لمينرفا يا باريس.» وكانت إيونونيه ما في ذلك شك.
وكاد باريس يلقي بالتفاحة في يد مينرفا لولا أن تقدمت فينوس الصناع، فينوس الحلوة، فينوس الساحرة، فينوس ذات الدل، فينوس التي تكفي غمزة ماكرة من طرفها الفاتر الساجي لإذلال ألف قلب، لولا أن تقدمت فينوس كلها تطارد قلب باريس وتحاصر عينيه حتى ما يقعان إلا على عينيها، تقدمت فينوس ترنو وتبتسم، وتتبرج وتهتز وتشد هذا الثدي وتثني هذه الذراع، وتميل رأسها الذي كله خدود وعيون وأصداغ، تقدمت فينوس تبسم للراعي الجميل عن فم حلو رقيق تتلألأ ثناياه ويتضوع عبير خمره، وقالت: «باريس، هل لك عينان تعرفان الغزل، وقلب يعرف الحب؟ باريس، أنا فينوس التي صليت لها بالأمس، والتمست منها التوفيق، ها أنا ذي يا باريس، أليست التفاحة للأجمل! ألست تحب أن أهبك أجمل زوجة في العالم؟ ستكون زوجتك مثلي تغمرك بجمال لا نهائي لا حدود له، ولن تشعر معها إلا أنك تعيش منها في جنة، قبل، نظرات حلوة، خد مورد، أهداب كظلال الخلد، ساق ملتفة عبلة، جسم ممشوق طوال، جيد مهتز ناضج، ثدي مثمر يتحلب نعيما، هاتها يا باريس هاتها يا حبيبي.»
وقبل أن تتم الخبيثة سحرها كان الفتى البائس قد ألقى التفاحة في يديها الجميلتين برغم الصيحات المتتالية التي كانت تهتف به من البحر: «لا يا باريس، لا يا باريس، أعطها لمينرفا يا باريس!»
وجر على نفسه غضب حيرا ومينرفا وكتبت التعاسة عليه وعلى قومه، ولم يلق إيونونيه بعدها!
باريس يعود
- «ألست تحن إلى وطنك، وتتمنى لو ترى والديك يا باريس؟» - «وطني ووالدي؟» - «...؟ ...» - «وهل لي وطن غير هذه المروج الخضر، ووالدان غير أبي الراعي وأمي المتداعية الفانية؟» - «مسكين!» - «بل أسعد الناس بأن أكون ابنهما! ولمه؟ أليس أبي سيد هذه الفلوات وأمي أعز الأمهات؟» - «ذلك حق لو أن أباك هذا الراعي يا باريس!» - «ماذا تعنين؟» - «أعني أنك لست ابنه!» - «وي! لو لم تكوني فينوس لقتلتك!» - «الحق أقول أيها العزيز!» - «أنت تعذبينني! ابن من إذن؟» - «أترى إلى جمالك البارع وجسمك الممشوق السمهري؟ أيكون هذا الخلق من نسل الرعاة الأجلاف؟» - «...؟ ...» - «أتدور بك الأرض إذا علمت أنك ابن ملك؟» - «سخرية وهزؤ، إلام تلذعين فؤادي يا ربة الحسن والحب؟ ألأني أعطيتك التفاحة الخالدة؟» - «الآلهة لا تكذب يا باريس!» - «أنا؟ ... أبي ... ملك؟ ... هذا الراعي؟! ... ملك ماذا؟» - «ليس هذا الراعي قلت لك! أنت لست ابنه! أنت سليل الملوك الصيد!» - «إذن من عسى أن يكون أبي؟» - «ملك طروادة!» - «ملك طروادة أبي؟ بريام؟!» - «هو ... هو ...» - «ها ها ها ... ومن جاء بي هنا؟ ... سرقوني؟ أليس كذلك؟» - «لا تنس يا باريس أنك في حضرة فينوس، وأقولها لك كرة أخرى: إن الآلهة لا تكذب، أجل أنت ابن بريام ملك طروادة، قيل له إنك تجر عليه ألوانا من العذاب فصدق، وأرسل بك من تركك فوق جبل بعيد لتأكلك الذئاب، كل هذا إذ أنت طفل صغير وليد، ولقد عثر بك ذلك الراعي الذي تحسبه أباك، ففرح بك وقال لامرأته: عسى أن يكون لنا منه ولد، والآن، لقد وعدتك زوجة جميلة، أجمل امرأة في العالم، فاذهب أولا إلى طروادة، والق أباك فإنه سيعرفك لأن له أبناء خلقهم كخلقك، وسيحدثه قلبه، وتكلمه روحه أنك ابنه، سيفرح بك بريام يا باريس، وسيخفق قلب هكيوبا، أمك التي تبكي من أجلك وتتمناك بنصف ملكها!
فإذا اطمأنوا بك ولبثت فيهم أياما فأبد لهم رغبتك في الإبحار إلى بلاد الإغريق في أسطول كبير، إلى أسبرطة، إن ثمة المرأة التي وعدتك، أجمل نساء العالم.»
وغابت فينوس! •••
وجلس باريس على صخرة تشرف على البحر المضطرب من جهة وعلى السفح المعشوشب المصطخب بالحياة من جهة أخرى، ثم أخذ يفكر في كل كلمة انفرجت عنها شفتا فينوس. «ترى؟! أصحيح ما قالته فينوس؟ أصحيح أن بريام أبي؟ ألا أنادي الراعي أبي بعد اليوم؟ وأنت أيتها الشاء والنعم : أفراق لا لقاء بعده؟ وا أسفاه! لم لقيت فينوس؟ عزيز علي أن أهجرك إلى الأبد أيتها البطاح! وأنت أيتها السماء الحبيبة؟ بم أستبدل قلائدك الدرية في الليل وشمسك الدافئة وسحبك الموشاة بالذهب في النهار؟!»
الآلهة لا تكذب! هكذا كانت تقول فينوس! أنا إذن ابن ملك! وأبي لا بد أن يكون غرا ضيق العطن وإلا فلم صدق ما ذكرته له الكهنة عني؟ طفل صغير ينبذ بالعراء لتأكله السباع! يا لقساوة القلوب وتحجر الأكباد؟! وأمي؟ أين كانت أمي؟ وأين كان قلب الأم في هذه المرأة؟ كيف سهل عليها أن تدعني ينطلق بي لأنبذ بالعراء فريسة لا حول لها لكلاب الجبل وطعمة شقية لسباع البرية؟!»
لا بد أن أذهب! لا بد أن أعلم حقيقة أمري! وداعا أيها البحر!
رجاها أبوللو أن تكون له وأن ترتضيه لها بعلا، ووعدها لقاء ذلك أن يبني لها القصور الشماء في قبة السماء، وأن يحملها معه أبدا في رحلاته العلوية فوق مركب الشمس فترى كل ما يدب على الأرض، وأغراها بالتوسط لدى كبير الآلهة زيوس الأعظم فيمنحها الخلود وربما رفعها إلى صفوف الآلهة أنفسهم، بيد أنها ما كانت لتزداد إلا شماسا وعنادا.
ولما ضاق أبوللو بها ذرعا صب جام غضبه عليها، وسلط عليها سخرية سامعيها، فما تقول شيئا ولا تتنبأ بشيء ولا تكشف غيبا إلا استهزأ بها الناس وعيروها بأنها تكذب وتهرف وتدعي!
فلما شاهدت ما كان من فورة الإحساس التي تجرف قلب أمها من أجل باريس ذكرت أن هذا الشاب إن هو إلا أخوها الذي نبذوه بالعراء فوق الجبل لتأكله السباع، وآيتها على ذلك هذا التشابه الشديد بينه وبين أبيها الملك، وحاجها قومها فأحضروا باريس ليطابقوا بينه وبين هكتور، ولكن ما كادت المطابقة تتم حتى أخذته هكيوبا في حضنها الحنون المرتجف صائحة مستعبرة: «ولدي باريس، ابني باريس، ولدي، إلي إلي يا بني!» أما الملك فقد بكى هو الآخر؛ ونهض فعانق ابنه عناقا طويلا حارا، غاسلا جبينه المتلألئ حوله أصدوع الاعتذار عن الماضي البعيد المحزن قطعانه وأوطاهم باريس أن فينوس، ربة الحب والحسن، هي التي هدته، وطمأنهم أبوللو كريم أرومته، خر الملك وأهله لها ساجدين، «لا ترى مثله عين، و... ودخلوا المدينة ...»
لقد عبست عبوسة قاتمة، وحدجت أخاها الغريب بنظرة كالحة، ثم صاحت بالملك: «أبي، لتحذر هذا الأخ! لتحذر باريس، ولتذكر نبوءة الكهنة في معبد أبوللو، ابنك يجر الخراب على مملكتك ويعرض شعبك للدمار وينشر الموت في بيوت رعاياك!»
وهنا ينتقم أبوللو ويسخر من حبيبته الجافية!
لقد تضاحك الملك مستهزئا، وغمزت الملكة ابنتها ولمزتها بكلام قارص، أما هكتور فقد عبث بأخته ومازحها مزاحا ثقيلا.
مسكينة كاسندرا!
حتى الحاشية استهزأت بها وأشعرتها المذلة والهوان!
كل ذلك والرعاة، أصدقاء باريس، ينظرون ويعجبون، ولا يفهمون!
الآلهة لا تكذب!
أفرخ روع باريس إذن، وصدق كل ما ذكرته فينوس!
ها هو ذا يعيش في قصر منيف باذخ؛ وها هو ذا لأول مرة في حياته يخلع هذا الصوف الخشن الغليظ، ليلبس من سندس أبيض وإستبرق، والولدان البيض كالتماثيل يطوفون عليه بأكواب الخمر من فضة وصحاف الآكال من ذهب، وشعب بأسره يطيع أباه ويطيعه، وجيوش تصدع بأمره وأساطيل لجاب تملأ البحر إن شاء أرست وإن شاء أقلعت، وملك وسلطان وتاج وصولجان!
لا تنقصه الآن إلا أجمل فتاة في العالم.
تلك الفتاة التي وعدته فينوس! وما دامت الآلهة لا تكذب فأجمل فتاة في العالم هي من غير ريب في بلاد الإغريق؛ لأن فينوس أوصته بوجوب الإبحار إليها، وهل أجمل من حسان أسبرطة في بلاد الإغريق؟! إنهم قوم يعبدون الجمال واعتدال القوام.
إذن فليبحر باريس إلى أسبرطة!
إلى أسبرطة
- «سمعت يا أبي قصة أختك المعذبة «هسيونيه»، إذ أنا أرعى الشاء والبهم فكان قلبي يتفطر أسى؛ كيف يسكت شعب عظيم كشعب طروادة على إهانة تصيبه في الصميم من شرفه وعار ليس أيسر من دفعه، لكنه يغضى عليه وينام عنه كأن العزة القومية عند أهل هذا البلد ليست إلا أسطورة قديمة أو حلما لا يدور لهم بخلد؟!» - «حسبك يا باريس! حسبك يا بني! إنها محنة كتبت على طروادة صنعها جدك بيديه!» - «جدي؟» - «أجل! جدك، أبي، أبي لايوميدون هو الذي نكث بعهده لبطل الأبطال هرقل، الرجل العظيم الذي أنقذ هسيونيه من براثن هذا الوحش البحري الهائل، الوحش الذي فتك بعذارى طروادة، لقد أعلن أبي أن من يقتل هذا التنين فإنه يتزوج هسيونيه. ولما قتله هرقل العظيم ...» - «رفض والدك أن يزوجها منه!» - «هو ذاك!» - «لم أسمع بهذا من قبل، ولكن كيف سمحتم لهرقل وملئه أن يستبيحوا طروادة ويذهبوا ببعض الأعزاء من أفراد البيت الملكي؟» - «كنت طفلا، وقد كنت بعض هذا السبي، ثم من الذي كان يستطيع دفع هرقل أقوى أبناء زيوس وصاحب المجازفات الخرافية! من كان يستطيع حماية طروادة منه بعد أن نكث الملك بوعده؟ - «أنت كنت بعض السبي؟ أنت يا أبي؟» - «أجل يا باريس! وقضيت في أيدي أعدائنا الشرفاء أجمل حقبة من شبابي! لله كم كانوا كرماء حقا؟» - «وكيف عدت إلى طروادة إذن؟» - «مات أبي بعد حياة مفعمة بالمتاعب ولم يكن له ولي عهد غيري، فتوجه الطرواديون إلى الأعداء يطلبونني ملكا عليهم بأي ثمن، ولكن أعداءنا كانوا أكرم من أن يسترقوا الملوك أو يبيعوا الأمراء، لقد أعادوني معززا مكرما إلى وطني بعد إذ أخمد خصومتهم موت هرقل. - «ولم لم تعد عمتي هسيونيه يا أبتاه؟» - «لقد تزوجها تيلامون يا بني وأحسبها الآن أيما.» - «ذلك أدعى لعودتها؛ إنها لا شك تتعذب في دار غربتها، مسكينة! إن حدائق الخلد لا تجدي نفعا إذا كانت سجنا لأحدنا!» - «هذا حق يا بني، ومثله القفص من ذهب يحبس فيه البلبل المحزون!» - «أنا حزين يا أبتاه، لا بد أن تعود عمتي، أفتأذن لي في الإبحار إلى هيلاس؟ إذا أذنت، فلن أعود إلا بها.» •••
الآلهة لا تكذب!
هكذا قالت فينوس! وإذا كانت الآلهة لا تكذب فلن يكذب أبوللو، لا بد أن تصدق النبوءة القديمة، لا بد أن يبحر باريس إلى هيلاس ليجر الخراب على طروادة وليخيم الموت في داراتها جميعا.
الآلهة لا تكذب!
لقد أبحر إلى أسبرطة في يوم عاصف ، أسود من جبين الموت، وأبرد من بطون القبور ، ولقد كان أسطوله اللجب يرقص على نواهي الموج كما يرقص الطائر المذبوح في قبضة الفناء.
هيلين
1
ثمرة الحب الأولمبي الساحر، ابنة زيوس الغزل، زير النساء؛ من ليدا الفاتنة، التي حولها حبيبها كبير الآلهة وسيد أرباب الأولمب إلى بجعة بيضاء تتهادى في مرايا المستنقعات والغدران، ليسهل عليه لقاؤها دون عزول أو رقيب. ولقد ولدت له هذه الطفلة التي كانت كقطرة المداد يمهر بها إعلان الحرب!
شبت هيلين وشبت في أثرها شياطين الفتنة؛ وكبرت وكثرت تحت قدميها مصارع العشاق.
لقد كان جمالها أسطورة مصورة في الحب موشاة بذهب الأصيل، كانت نظراتها تتغذى بأرواح المحبين في غير شره وترتوي بماء حياتهم في غير نهم، وإن كان محبوها يحصون بالآلاف!
وهي لم تعمد يوما إلى قتل هذه الأرواح المظلومة؛ ولم يكن ذنبها كذلك أن تنظر فتصرع، أو تنعس فتصمي، ولكن القتل كان يذهب بأرواح عاشقيها عفوا كلما نظرت هنا أو هناك، وذاك هو القتل البريء.
وكان لها فم شتيت حلو أودعت فيه السماء أسرارها، وصبغته عرائس
2
الفنون بحمرة القبل؛ فهو دائما يبتسم وكل ابتسامة منه تحيي وتميت!
وخداها الأسيلان كذلك، لقد كانت لهما نعومة ولمعة، و«نونة»
3
خلابة، هي ملتقى الفتنة بين الخد والفم والعين والأنف.
ثم عنقها الطويل البلوري الشفاف، وجيدها الممتلئ الخصب، وجسدها الرخص المرمري، وساقاها الملتفتان يختلط في بشرتهما بياض الندف بحمرة الورد.
هذه هي هيلين!
فإذا فترت العينين وأرخيت الأهداب الكحيلة السوداء ذات الوطف، وأرسلت نظراتك المذهولة ترف بالخد والجيد والفم النضيد فترتد إلى فؤادك بأحمال الحب وأثقال الهوى، رأيت التمثال المعبود الذي خلب ألباب أمراء هيلاس وأجج قلوبهم بالفتنة وقرح أجفانهم بالسهاد! •••
لم تنشأ هيلين مع ذاك في حجور الآلهة إذ تزوجت أمها بعد أن هجرها زيوس من تنداريوس - أحد أمراء هيلاس - فترعرعت الطفلة في مهاد النعمة وسعدت بالهناءة والعيش المخفرج حتى كانت هيلين التي رأيت!
وقد تقدم إلى خطبتها كثير من سادة الإغريق ونبلائهم، ولكن أحدا منهم لم تقبله هيلين بعلا لها، لا لعيب فيهم، ولكن القلب.
أجل ؛ لم يكن يتفتح قلب هيلين الأولمبية الرائعة إلا لكل جميل رائع، ولما لم يكن في كل من تقدموا لخطبتها من هو سليل الآلهة مثلها، فقد رفضتهم جميعا، وعلة ذلك هذا الدم المتكبر الذي يتدفق في عروقها، وذلك الجمال المعبود الذي كان أكثر من أن يجري في امرأة واحدة!
وجرت الألسن في هيلين، وجمال هيلين، وعشاق هيلين، والساخطين على هيلين ممن جرحت كبرياءهم لرفضها إياهم، ولقي زوج أمها من جراء ذلك هولا شديدا ورهقا.
تحدثوا أن عشاق هيلين - ومنهم أبطال هيلاس وشجعانها وذوو الصولة والجبروت فيها - كانوا يضربون معسكراتهم حول بيت زوج أمها؛ يطمع كل منهم أن يفوز هو بهذه الغادة ذات المفاتن التي أذلت الأعناق العزيزة ورغمت بها الأنوف الإغريقية الشماء.
وخشي تنداريوس أن تشب الحرب بينهم لو أن هيلين قبلت أحدهم زوجا لها دون الآخرين، وأسقط في يده حين تقدم منلوس - ملك أسبرطة وسليل الآلهة أيضا - إلى هيلين يطلب يدها، فلما أسرت الفتاة إلى زوج أمها أنها ترضى ملك أسبرطة بعلا لها تضاعف فزعه وازدادت خشيته، وأيقن أنه لو أنفذ من أمر ذلك الزواج شيئا فإن أمراء هيلاس بأسرهم يصبحون له أعداء ألداء وهو لا حول له بعداوة أحدهم بمفرده ولا قوة!
ولجأ تنداريوس إلى الحيلة.
لقد أقام حفلا شائقا دعا إليه كل من تقدموا لطلب يد هيلين، وبالغ في إكرامهم والاحتفاء بهم، ثم خطبهم فتحدث عن فتاته وما كان من أمر خطبتهم لها وعدم التوفيق في إنجاز شيء مما أقدموا له واختلفوا فيه، «أفإن بدا لهيلين يا سادة أن تختار أحدكم ليكون لها زوجا من دونكم انقلبتم على أعقابكم، وثرتم بمن يقع عليه اختيار الفتاة، فقتلتموه أو فضحتموه في عرضه، وجعلتم اسم هذا البيت الكريم مضغة في أفواه الهيلانيين وجيرانهم؟ إنما نريد أن نتقي هذا الشر فلا يستطير، ونتدارك الأمر فلا ندعه همجية بيننا، ولن أكلفكم في سبيل ذلك شططا، يمين يا سادة صادقة تقسمونها فتكون عهد الوفاء بيننا أن ترتضوا جميعا ما ترتضيه هيلين، وأن تكونوا يدا على من يحنث ولو كان أعزكم جانبا وأكثركم قوة، بل لنتفق جميعا على أمر يكون أعم مما أشرت إليه؛ أن نكون يدا على من تحدثه نفسه بالإضرار بهيلين أو بسبيها؛ فقد تحدث إلي من عنده علم أن بعضكم ينتوي هذه النية السوداء، ينتوي أن يسرق هيلين إذا لم يكن من حظه أن يقع اختيارها عليه ليكون بعلا لها، وأنتم السادة النجب من علية الإغريق وجيرة الأولمب؛ أفترضون أن يحدث في أمر كلكم شاركتم فيه من قبل؟»
ويجيب المدعوون في صوت واحد: «حاشا حاشا! لنقسم جميعا.»
وأشرقت هيلين على الملأ وكادوا يفتتنون بعد إذ أقسموا، لولا أن أرسلت الفتاة صوتها الموسيقي الرنان تختار ملك أسبرطة، الملك منلوس ليكون زوجها الوفي الأمين!
وطأطئوا رءوسهم، وانصرف أحدهم في إثر الآخر. •••
رسا أسطول باريس في مرفأ ليسديمونيا
4
الأمين، وخرج الأسبرطيون وعلى رأسهم ملكهم ومليكتهم للقاء ابن بريام العظيم، حيث شاع أنه ينزل ضيفا كريما على صاحبي العرش، فيلبث أياما في ضيافتهما ثم يعود أدراجه إلى طروادة مصطحبا عمته الأيم هسيونيه.
وتقدم الملك والملكة فسلما على الضيف الشاب، وتحرك الموكب الكبير في طريق حفت بالشعب الطروب، وفرشت بأوراق الورد، وتأرجت في جنباتها أنواع الرياحين، وكانت فرق من الموسيقيين تعزف هنا وهناك، فتراقص ألحانها العذبة حبات القلوب. وكم كان جميلا رائعا إنشاد الجنود وقد وقفوا صفوفا صفوفا كلما مر الموكب الملكي بفرقة منهم دوى هتافها حتى يبلغ عنان السماء، فإذا فرغوا وصلت هتافهم فرقة ثانية، وهكذا.
وكان سرب من أجمل قيان اليونان وحسانها يحيط بالملكة الجميلة وقد قصرن ثيابهن وأرسلن شعورهن، فبدون فتنة الركب، وكن سحر الموكب ولفتن من باريس بصره وسمعه وفؤاده!
وكان الفتى يخالسهن نظرات مشغوفة، وكن بدورهن يبسمن له ويتبرجن، حتى التقت عيناه بعيني الملكة، فنسي نفسه!
لقد خيل له أن قلبه انخلع من مكانه الذي بين جنبيه ليتأرجح في مقلتيه! أين رأى هذه الملكة من قبل يا ترى؟ إنه لم يذهب إلى الأولمب قط ! وهل لبشري أن تطأ قدماه أرض الأولمب فيرى مثل هذا الجمال الساحر والحسن الفتان؟
الحق أن هيلين تعمدت أن تشك قلب باريس في قوة وعنف، حين أدركت رسل العيون تنتقل بسرعة بينه وبين قيانها وحسانها، فلما التقت عيناها بعينيه غمزت قلبه الضعيف الغض بسهم مراش من عينيها الساجيتين انطلق إلى جوانحه في برق من بسماتها، ورعود!
لقد زلزل قلبه.
وأحس كأن قوى خفية تجذب روحه لتمرغها تحت قدمي هيلين! وطفق يفكر ويفكر أين رآها من قبل، ولكن بلا جدوى.
ثم بدت له فينوس بحيث لا يراها أحد غيره، وقالت له: «هي، هي، كن شجاعا!» ثم غابت ربة الحسن.
فذكر ماضيه القريب وذكر ما وعدته به فينوس، وذكر أن هيلين إن هي إلا صورة أرضية سماوية من ربة الحب، وأنها مخلوقة كخلقها، عذوبة روح ورقة نفس ودفء دم وسحر عيون ...
فصمم على أن تكون له. •••
ولبث باريس في ضيافة الملك أياما كانت تتصرم كأطياف الأحلام، ثم حدث حادث جلل في أطراف المملكة استلزم وجود الملك نفسه ليرى رأيه فيه، فلما كان يوم السفر ودع منلوس زوجته الحسناء وأوصاها بإكرام ضيفه العظيم باريس «ابن صديقي ملك طروادة»، فطمأنته هيلين وخرجت تودعه حتى إذا كانت عند أسوار ليسديمونيا، حيته تحية فاترة، وعادت لترعى عصفورها الغريد.
أقبلت هيلين على ضيفها غير هيابة وأقبل هو عليها في غير وجل. أقبلت عليه تؤانسه كما أوصاها زوجها، وأقبل هو عليها يغازلها ويبحث فيها عن أجمل امرأة في العالم كما وعدته فينوس! «هي هي، كن شجاعا!» هكذا كانت تتردد هذه العبارة المقتضبة في أذني باريس كما ذكر الوفاء وشكران الجميل؛ وكلما هم أن يبتعد بقلبه عن زوجة الملك الكريم المضياف الذي احتفى به وأكرم مثواه. «هي هي، كن شجاعا»، إذن فليكن باريس شجاعا كما أمرته فينوس! ليقترب من هيلين في هذه الخلوات الحلوة التي تمن عليه بها فتستطيل كل مرة إلى ساعات وساعات.
ليقترب منها، ولتصب هي سلسبيلا من الموسيقى في أذنيه المرهفتين لكل كلمة من كلماتها، وليرشف هو هذه الخمر التي تتدفق من عينيها وأهدابها ، وليرشف هو هذه الخمر حتى تثمل روحه ويسكر قلبه، وتزيغ عيناه.
ليقترب، ليقترب كثيرا، ليمس جسده المشتعل جسدها المعطر الفينان، إنها لا ترفض أن تكون ذراعه فوق كاهلها، بل هي أيضا تنثر ذراعها فوق كاهله، ها هما يتخاصران، الخبيث يجيل عينيه في عينيها، هل يبحث عما يكنه قلبها، أم يفتش عن شيء مفقود في نفسها؟ إنهما ما يتحولان عن عينيها! إنه يحملق فيهما بشراهة!
قبلة ...
هي القبلة الأولى من غير شك، هي الاعتراف الصريح بنضوج الحب!
وقبلة ثانية ...
وهي القبلة المؤكدة لأختها الأولى، هي عدم المبالاة بما عساه أن يكون، أول شرط في عقد هذا الغرام الأثيم، هي الاعتداء الصارخ على عرض منلوس، منلوس العظيم، منلوس ملك أسبرطة، وسليل الآلهة. ••• - «ألا يسرك يا هيلين أن نعيش سويا أبد الدهر؟» - «ألا يسرني؟! ما السرور إذن يا حبيبي باريس؟» - «إذن فلنرحل في ظلام الفجر!» - «إلى أين؟» - «إلى طروادة!» •••
وأقلع الأسطول في غبشة البكور يحمل هيلين.
وعفا الحب عن عمة باريس، عفا الحب عن الأيم هسيونيه!
التعبئة
عاد منلوس من رحلته في الحدود، وليته لم يعد!
لقد جن جنونه حينما علم من أمر زوجه وضيفه ما علم! «علام إذن كانت كل هذه الضجة التي أحدثتها تلك اللعينة قبيل زواجها؟ لقد تركت عشاقها الكثيرين صرعى حول قصر أبيها، وظلت تتيه وتدل وتتأبى وترفض، وفيهم شجعان هيلاس وحماتها وأباتها وملوكها الصيد وفرسانها الصناديد!
فيم إذن كانت كل هذه الضجة؟
هل منحتني جسمها فقط يوم اختارتني بعلا لها؟ وهل ذخرت قلبها للعشق الأثيم والهوى الفاجر حتى ترزقها شياطين الفتنة هذا الشاب الغرانق اللاهي المستهتر فراحت تقدمه فوق مذبح جماله قربانا للذتها النجسة وتقدمة لشبابها الرجيم؟ وا حربا! هل اختارتني بعلا لها لا لشيء إلا لأني ملك وسليل آلهة؟!
يا للفاجرة!
أفي ذلك البيت الرفيع الذرى، ظلت تتقلب التاعسة في ذراعي هذا الخائن شيقة متلذذة؟ هل ظل هو يضمها إلى صدره الثائر في شدة وعنف؟! هل كانت تستزيده؟
أيتها الجدران الحزينة! كم قبلة دنسة أصمت آذانك، وكم صرخة فاجرة دوت كالرعد في حناياك؟ حدثني أيها الهواء المسمم عما كنت تشهد في صميمهما حين كانا ينفثانك من صدريهما سما قتالا! خبري أيتها الستائر، أيتها المصابيح، يا شموع قصري، أيتها الأرض الملوثة، أيها العرش المهين، أيها التاج الذليل، أيتها الكئوس المتناثرة، والأكواب المقلوبة، تحدثي إلي!
حدثني يا كل شيء هنا عن مهازل الفسق ومذابح الشرف!
آه! الشرف؟! الخرافة الكبرى!
الحرب! الحرب! الانتقام! الانتقام من الفاجرة، اقتلوا الخائن يا حلفائي، تنداريوس، ادع حلفاءك، لقد أقسموا جميعا، لقد كنت تتوقع هذه النهاية يا تنداريوس، استيقظ، استيقظي يا أسبرطة، جنودي، شعبي، هلموا إلي.»
وهكذا أرسلها منلوس صرخة مدوية تجاوبت أصداؤها في جميع أجواء هيلاس، واستجاب لها كل قادر على الحرب فيها إلا القليل.
لقد عجب عشاق هيلين حين وصلتهم صيحة تنداريوس، وصدقوا يمينهم التي أقسموا، فلبوا سراعا؛ وانتفضت هيلاس كلها فصارت ثكنة تعج بالجند وتضج بآلات الحرب، واضطربت البحار بالأساطيل تيمم شطر أوليس،
1
حيث اتفقت الكلمة على أن يبحر منها الأسطول المتحد؛ فلا يرسو إلا في مياه طروادة.
لبى الصيحة كل عشاق هيلين الذين أقسموا اليمين، فهرعوا من المشارق والمغارب بخيلهم ورجلهم، إلا ملك إيثاكا، أوليسيز.
2
أوليسيز
كبر في نفس أوليسيز أن يتقدم لخطبة هيلين فترفضه فيمن رفضت وهو مع ذاك ملك إيثاكا وبطلها الحلاحل، وفارس هيلاس الذي لا يشق له غبار، وكبر في نفسه أن تؤثر عليه منلوس، وهو مع ذاك دونه شجاعة وأقل منه إقداما حين يثار النقع وتستحر الحرب، وكبر في نفسه أيضا ألا تكون له زوجة يفاخر بها هيلين وأتراب هيلين وآل هيلين، فذهب من فوره إلى عمها فتزوج ابنته الجميلة الرائعة بنلوب: «الزهرة التي تهتز للندى، وترقص لخيوط الشمس الذهبية، وتغني مع الأطيار ويسكر النسيم إذا داعب خديها، قبلة الحب الخالد على خدود الجمال الطليق، وابتسامة السماء الضاحكة في قلوب المحبين المعذبين بنلوب، الوديعة كالأطفال، الحلوة كالرضى، الصافية كقطرة الندى بين أوراق الورد، المرحة كسطور الغرام في خطاب الحب ، بنلوب، التي تفخر الأرض بأنها تحملها، والهواء بأنها تستنشقه، والسماء بأنها تظلها وتشرف عليها، والجبل بأنها تنظر إليه، والبحر بأنه يغسل قدميها المعبودتين!
بنلوب، ذات الفم العطري والخد اللامع المورد، والجبين الناصع الوضاح، والعنق الناهضة الجيداء، ربيبة الآلهة ولمحة الأولمب، وبندورا الثانية.
تزوج أوليسيز من بنلوب هذه فأخلصت له الحب، وأصفاها المودة والغرام، وولدت له طفله الجميل المتلألئ تليماخوس (تلماك)، فزادت محبتها له وتضاعفت عبادته لها بعد هذا الرباط القدسي الكريم.
عز على أوليسيز أن ينأى عن زوجته الجميلة وطفله العزيز المحبوب، لا لشيء يجر عليه مغنما أو رفعة، ولكن ليحارب حربا لا تعلم إلا الآلهة كيف تنتهي؛ فقد تكون عقباها القتل أو الغرق أو الأسر، فتعيش الزوجة الجميلة أيما محزونة، ويحيا الطفل يتيما مفجعا، وثمن ماذا كل هذه المصائب وتلك الآلام؟ ثمن امرأة أذلت سادة هيلاس، وجرحت كبرياء زوجها وفضحت أباها، ثم هتكت عرضها - إذا كان لها عرض - بفرارها مع هذا العاشق الفاجر الأثيم!
لم يشأ أوليسيز أن يقامر بسعادته وحياته في هذه الحرب إذن، ولو كان في ذلك - كله أو بعضه - الحنث العظيم، فما يمين شرف هذه التي يتمسك بها ملك كبير كملك إيثاكا من أجل امرأة ليس لها شرف؟
ليقعد إذن عن هذه الحرب، وليصم أذنيه دون صيحتها الكبرى، فإذا ألح عليه الملحون فليتظاهر بأنه مجنون مأفون، لا تهديه مسكة من عقل ولا ترشده أثارة من تفكير.
أرسلوا إليه رسولهم السياسي الكبير بالاميدز يحضه على الحرب ويذكره بيمينه التي آلاها ويحرضه على «الطرواديين اللؤماء الذين يوشكون أن يفضحوا الهيلانيين في أعراضهم»، ولكنه ألفاه يحرث شاطئ البحر بمحراث هائل يجره ثور ذو خوار، وحصان عربي أصيل! - «عم صباحا أيها الملك.» - «...! ...» - «ماذا يصنع مولاي؟» - «أحرث هذا الحقل الخصيب!» - «أي حقل؟» - «الحقل الذي ترى، أليس لك عينان تسمع بهما، وأذنان تريان ما أفعل؟» - «عينان تسمعان وأذنان تريان؟» - «اذهب، لا تشغلني، أريد أن أبذر حقلي هذا الصباح.» - «وماذا عساك أن تبذر أيها الملك؟» - «لست ملكا فلا تهزأ بي، نحن الفلاحين نطعمكم ونسمنكم ثم يكون جزاؤنا أن تسخروا بنا، اذهب ، اذهب.» - «وماذا عسيت أن تزرع؟» - «سأزرع ملحا.» - «تزرع ملحا؟! وتحصد ماذا؟» - «أزرع ملحا وأحصد ... سمكا ... ها ها ... لا لا ... سأحصد باذنجانا ... ولكن لماذا تقف هكذا قريبا مني؟ لماذا لا تذهب؟» - «ألا تعرفني يا مولاي؟» - «أرجوك! أنا لست مولاك ولا مولى أحد! اذهب ودعني أشتغل.» - «أنا بالاميدز يا مولاي! وا أسفاه! إن هيلاس كلها تنتظرك ليومها المشهود!» - «تنتظرني؟ إنها لا بد جائعة يا بالا، يا باما، يا بالاديز.» - «لست بالاديز يا مولاي، أنا بالاميدز.» - «بالاميدز! هذا عجيب! تعال إذن فاعمل معي ... سأسأ
3 ...» - «الحرب يا مولاي، الأساطيل في أوليس.» - «أي حرب وأي أساطيل يا رجل؟» - «سنحارب طروادة!» - «ولم لم تذهبوا بعد؟» - «نريد أن تكون معنا، فالكل يهتف بك ويدعوك.» - «أنا؟ يدعوني أنا؟ أنت يا رجل لا تريد أن أزرع هذا الحقل ملحا، وماذا أصنع في الحرب؟ هل أخبروك أنني فارس؟ اذهب، اذهب، سأسأ، سأسأ.» - «ألا تعرف من أنت يا مولاي؟» - «وهل تعرف أنت من أنت؟» - «أنا بالاميدز، وأنت؟» - «أنا؟ أتريد أن أرسل اسمي إلى الميدان؟ أتتركني بغير اسم يا رجل؟» •••
لم يستطع بالاميدز أن يفوز من أوليسيز بطائل، فقد مثل ملك إيثاكا دور المجنون تمثيلا متقنا يحاول أن يفلت من هذه الحرب التي لا شاة له فيها ولا جمل، والتي قد يقتل فيها أو يؤسر من أجل زوجة خائنة لا شرف لها ولا عرض. بيد أن بالاميدز لم ييأس حين رأى ما شدهه من جنون الملك، فإن وسواسا وقر في قلبه أن هذا البله قد يكون تبالها، وأن ما بالملك من مس إن هو إلا حيلة يحاول أن يفلت بها من أرزاء الحرب وأهوالها، ثم هو حيلة كذلك للتحلل من اليمين التي أقسمها عشاق هيلين.
لذلك لجأ بالاميدز إلى الحيلة هو الآخر فانقطع أياما ظل يرقب الملك فيها عن كثب بحيث لا يراه أوليسيز، ولكن الجواسيس كانت تحمل أخبار السياسي الداهية أولا فأولا إلى رئيس البلاط، وهذا يحملها بدوره إلى مولاه الذي يفطن إلى مكر بالاميدز فيبالغ في ادعاء الجنون، وينزل إلى البحر يحرث موجه بعد إذ فرغ من حرث شاطئه.
ويسقط في يد بالاميدز فيطلق آخر سهم في كنانته.
ذلك أنه تحايل فسرق تليماخوس الصغير، ولي عهد أوليسيز، والأعز عليه من نفسه ومن الدنيا وما فيها، سرقه فذهب به إلى حيث والده يحرث الشاطئ ويحرث البحر، فطفق يضع الغلام أمام المحراث ليرى ما يكون من جنون الملك، هل يقتل ابنه ويكون بذلك مجنونا حقا، أو يتفاداه ويكون جنونه محض ادعاء وبلهه تلفيقا في تلفيق؟!
ولكن الملك كان أحرص على ولي عهده وقرة عينه من أن تتم فيه حيلة بالاميدز الداهية، فكان كلما تعرض ابنه لخطر الموت لوى عنان الثور، وذاد الفرس متفاديا الطفل إلى الناحية التي لا يكون عليه فيها خطر.
فتضاحك بالاميدز وفضح جنون الملك، وأخجل حيلته، ثم لم يزل به حاضا محرضا حتى أقنعه بوجوب خوض هذه الحرب مع إخوانه الهيلانيين. •••
ازدحمت جحافل الهيلانيين في أوليس وانعقد المجلس الحربي لانتخاب القائد الأعلى، فاختير ابن الشمس البكر، أجاممنون، شقيق منلوس وصفيه بالإجماع.
اختير أجاممنون للقيادة العامة وإن لم يكن خير أعضاء المجلس الحربي، وكيف يكون كذلك ومن أعضاء هذا المجلس أوليسيز العظيم ملك إيثاكا، وأجاكس بطل الأبطال وفارس كل نزال، ونسطور أحكم من أشار بخطة في معمعان، وديوميدز المحارب الصنديد، إلى آخر هذه العصبة المختارة من جيرة الأولمب والسادة النجب من فرسان هيلاس.
اختير أجاممنون إذن؛ لأنه شقيق منلوس وممثله في الحرب، ثم لأنه أكبر أعضاء المجلس الحربي سنا وهو مع ذاك أحد شجعان هيلاس المعدودين. •••
انتظمت صفوف الجند وأخذوا في مران عنيف أياما معدودات، ركبوا بعدها في سفائن أسطولهم العظيم وظلوا ينتظرون إذن القائد الأعلى أمير البر والبحر بالإقلاع فتجري بهم الجواري المنشآت في موج كالجبال إلى طروادة، يحملون إليها المنايا الصفر، والغوائل السود في شفار المشرفيات البيض.
ولكن أمير البحر والبر لم يأذن لهم بالإقلاع.
ذلك أن بعض أعضاء المجلس الحربي أشار بوجوب استيحاء الآلهة عما إذا كانت حملتهم العظيمة هذه قد كتب لها الظفر والانتصار أو الهزيمة والانكسار؟ ليكونوا من أمرهم على بينة، وليكونوا أيضا قد استخاروا أربابهم فتخير لهم، واستشاروها فتخلص لهم المشورة، ويمضون بعد ذلك على بركتها وفي حراستها.
وارتقبوا نبوءة الآلهة بقلوب فارغة ونفوس مبتهلة، ومضت أيام.
ثم رأوا إلى تيرزياس كاهن المعبد يدلف نحوهم في هدأة فجر صامت فشخصت أبصارهم إليه، وظنوا فيه الظنون.
وجلس الكاهن المسن يقلب في القادة عينيه الكبيرتين وصمت لحظة، ثم قال: «أين ابن بليوس أيها الملأ؟»
ونظر القادة بعضهم إلى بعض ولم يحيروا.
فقال الكاهن: «ابن بليوس رب الأعماق من زوجته ذيتيس! أليس فيكم أخيل؟! ...»
فأجاب أجاممنون: «ومن أخيل أيها الأب المقدس؟!»
فقال الكاهن: «هو ابن ذيتيس التي قالت فيها ربات الأقدار إنها تلد غلاما يكسف مجده مجد أبيه، ابحثوا عنه، فلن تفتح طروادة إلا أن يكون معكم، ولن ينفعكم أن تذهبوا بدونه، هكذا قالت الآلهة.»
أخيل
شده القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، ونهض الكاهن الوقور ذو اللحية المرتعشة يضرب في غبشة الصبح متكئا على عكازه الذي أحنته وأحنت صاحبه السنون، ولم يكد يتسنم ذروة الجبل حتى أشرقت ذكاء، فاختلط ذهب أشعتها بفضة لحيته، فزادته رهبة وزاد البعد وقارا، وملأ بهامته السامقة وطيلسانه القشيب قلوب العسكر وعيون القادة ألغازا وأسرارا. •••
عاشت ذيتيس في كنف بليوس قانعة راضية لا يعنيها من هذا العالم الرحب إلا الجنين الحبيب الذي يتقلب في أحشائها فتتقلب معه أكبر الآمال.
ومضت شهور ووضعته غلاما بكاء كثير الصخب، يضرب الهواء برجليه الصغيرتين فكأنما يضرب المشرقين والمغربين، وينظر في السماء العميقة بعينيه الزرقاوين وكأنما يبحث في أغوارها عن جده، ومجده، وترى إليه أمه وتبتسم.
وشب الغلام وأيفع؛ وتحدثت إلى أمه العرافات والكاشفات الغيب أن سيكون محاربا عظيما تتحدث بذكره الركبان وتتعطر باسمه المحافل في كل زمان ومكان؛ وأن لا بد من رحلة به إلى الدار الآخرة - هيدز مملكة بلوتو - حيث تستطيع الأم غمس ابنها في أمواه ستيكس، نهر الخلود الزاخر، الذي أودعته الآلهة أسرارها ونظمت فيه شعراء الأولمب أشعارها، واشتهرت بركاته في العالمين.
حدثنها أنها إن غسلت ابنها في أمواه ستيكس فإنها تكسب جسمه مناعة ضد الموت، وحفاظا من الفناء؛ لأن جلده يصبح كالدرع المسرودة من حديد، لا تنفذ فيه السهام، ولا يؤثر فيه طعن القنا، ولا ضرب المشرفيات البيض.
ووقفت به على شواطئ ستيكس!
وهالها أن تنظر فترى إلى المنايا تقفز على غوارب الموج وتثب فوق نواصي الثبج؛ تدمدم كأنها الذئاب، وتهوم كأنها البواشق، وترقص ظلالا سودا كأنها الجن!
لقد ريعت الأم المسكينة وكادت تنثني بطفلها المعبود إشفاقا عليه من هول ما شاهدت، بيد أن الطفل ... بيد أن أخيل الصغير، كان يصرخ وينتحب كلما بعدت به أمه عن النهر، في حين كان يهدأ ويبتسم كلما اقتربت به منه. فتعجبت ذيتيس وجلست ترقب من النهر فرصة هادئة فتغمر ابنها في مائه لحظة وتمضي لشأنها.
وكأن الآلهة قد استجابت لتوسلاتها، فقد نامت الأمواج واستقر سطح الماء وقالت
1
شياطين النهر المصطخب؛ فتقدمت الأم المضطربة حاملة ولدها من إحدى رجليه وذكرت أربابها مبتهلة إليهم، وغمست أخيل في الماء الهادئ في أقل من لمح البصر، وعادت أدراجها فرحة متهللة.
إلا أن جزءا واحدا من جسم أخيل لم يغمره الماء!
ذلك هو عقب قدمه اليسرى، فيا للهول!
ثم أسلمت ذيتيس ولدها الحبيب للسنتور العظيم شيرون مؤدب هرقل ومدربه، يلقنه الفنون الحربية، وينشئه على أعمال الفروسية ويبث فيه ذلك الروح الكبير الذي بثه في سائر تلاميذه من قبل، فكانوا فرسان كل حلبة وصناديد كل ميدان، ولقد نبغ أخيل في استعمال السيف واللعب بالرمح، وتوتير القسي وثقف حيل المصارعة والملاكمة، وقصارى القول أصبح فتى زمانه والهلع الملقى في قلوب أنداده وأقرانه، إن كان له أنداد وأقران.
وعاد إلى أمه فاحتفت به، وذهبت من فورها هذا إلى العرافات القدامى وكهنة المعبد، فاستوحتهم ما عسى أن يكون في كتاب الغيب من حظ لابنها في الميدان.
ولكنها حزنت ودهاها من الهم ما دهاها حين قال لها الكاهن الأكبر مؤمنا على ما تنبأت به العرافات من أن أخيل سيدعى للقتال في صفوف الإغريق، وأنه سيلقى حتفه تحت أسوار طروادة بسهم يرميه به ألد أعدائه، يصيب منه مقتلا في موضع دقيق من جسمه، هو - وا أسفاه - عقب قدمه اليسرى التي لم تغمرها مياه ستيكس!
حزنت ذيتيس وتجهمت للحياة المشرقة وتجهمت الحياة المشرقة لها؛ وآلت إلا أن تحول بين ابنها وبين حملة طروادة التي كانت الصيحة لها تجوب آفاق هيلاس في تلك الآونة.
وجلست تفكر.
وبدا لها أن ترسل بأخيل حيث يحل ضيفا على ليقوميدس ملك سيروس الكريم المضياف، وأن تنتحل الأعذار الواهية فتعرض على الملك أن يسمح لولدها بالتنكر؛ بأن يصفف طرته ويرسل غدائره، ويزجج عينيه وحاجبيه، ويصبغ خديه وشفتيه، ويضفي عليه من وشى العرائس، وأفواف الإناث، وحبر القيان الغيد، ما يبدو به كأنه واحدة من بنات الملك أو إحدى سراريه! تحسب المسكينة أنها بذلك تعفيه مما قدر له، وهو أينما كان يدركه القتل ولو كان في برج مشيد! •••
واشتد طلب الإغريق لأخيل، ولبث الأسطول الضخم يرقب مجيئه في كل لحظة عدة أيام، وخشي أجاممنون إن هو أقلع بالفلك، ورسا عند شطآن طروادة أن ترسل الآلهة ريحا صرصرا تسخرها عليه فتأتي على أسطوله، أو يظل تحت أسوار أعدائه مرابطا أبدا، لا يتقدم ولا يتأخر، وتكون إقامته ثمة بالهزيمة أشبه، وإلى الانخذال أقرب، فأخذ يبعث الرسول يتلو الرسول للبحث عن أخيل الذي أنبأت الآلهة أن فتح طروادة مستحيل بدونه؛ ولكن عبثا حاول أحد من الرسل العثور بأخيل أو بظل أخيل؛ بل كانوا يعودون جميعا وهم يتعثرون بأذيال الخيبة ويلملمون أطراف الفشل.
وهنا نهض البطل الملك أوليسيز، فتى إيثاكا؛ وندب نفسه للبحث عن أخيل، وأقسم لا يعودن إلا به.
ومع أن بعض القادة من أعضاء المجلس الحربي أوجس خيفة من أن يفر أوليسيز، وأن يكون ندبه لنفسه بحجة البحث عن أخيل، إن هو إلا حيلة يريد بها أن يفلت من تبعات الحرب وأهوالها إلا أن أجاممنون نفسه وهو القائد الأعلى للجيوش والأساطيل قبل أن يذهب أوليسيز كيما يقص أثر أخيل، بعد أن أخذ عليه «يمينا على حد الحسام المهند!» •••
استطاع أوليسيز أن ينفذ إلى مملكة بليوز في أعماق المحيط، واستطاع أيضا أن يختلط بالخدم وحاشية القصر، وأمكنه أن يستدرج بعض الأمراء المقربين من رجال الأسرة المالكة فيعلم منهم أين يختبئ أخيل، وكيف يمارس حياة العذارى في بلاط ليقوميدس - ملك سيروس - كأنه إحداهن، وعلم أيضا أن أخيل نشأ نشأة عسكرية على يدي شيرون العظيم ومن كان تلميذ شيرون فأخلق به ألا يستنيم لهذه الحياة الناعمة التي لا تليق إلا بأبكار الخدور وربات الحجال لا بالأبطال وصناديد الرجال، فانطلق إلى سيروس من فوره.
انطلق أوليسيز إلى سيروس النائية التي تكاد تكون منقطعة عن العالم، وقد حمل على ظهره العريض وكاهله القوي حقيبة كبيرة جمع فيها من كتان مصر وأصباغها وعطورها، وحبر الشام وحريره وسموره،
2
وتصاوير فارس وقماقمها
3
وسنجابها،
4
ومشرفيات الهند، وتحف السند، وطرف الصقلب، ومن كل ما غلا وارتفع ثمنه من أدق صناعات العالم جميعا.
فلما كان في حاضرة المملكة يمم شطر قصر الملك، وكان الوقت ضحى؛ ثم طفق يصيح باللهجة السيروسية معددا أسماء السلع التي: «استحضرناها حديثا من مصر الجميلة المتفننة، والشام الصناع العبقري، وفارس الغنية الكسروية، والهند العظيمة، والسند ال ... ونحن لا نبيع إلا للملوك وأبناء الملوك؛ لأن الشعب فقير لا يقدر بضائعنا الغالية، ونحن معروفون في مصر - لا يشتري فرعون إلا منا - وفي الشام، وفي فارس، وفي الهند، حيث الأقيال العظام وال...».
وأرسلت بنات الملك فأحضرن هذا التاجر المفاخر بما معه واجتمعن حوله يتفرجن ويتلهين؛ هذه تختار منديلا من حرير الهند، أو منطقة من خز الشام، وتلك تشتري من أصباغ مصر وعطورها وخرزها، وثالثة تفتتن بتصاوير فارس، فتشتري كل ما مع الرجل منها.
ولكن فتاة ملثمة وقفت وحدها ترمق سائر الفتيات بنظرات ساخرة، ولا تكاد تبين إلا عن عينين زرقاوين متألقتين، تقدمت في خطوات متزنة ومشية منتظمة، وأخذت الحقيبة من الرجل فقلبتها، وما كادت ترى إلى المشرفيات الرقاق الظبى حتى تهللت وبدا البشر في عينيها، وتناولت حساما مرهفا وشرعت تلعب به في الهواء ها هنا وها هنا كأنما تطيح به رءوس أعدائها الذين تتصورهم في لوحة الخيال البعيد المنطبع على أسوار طروادة!
وشده أوليسيز مما رأى!
إنه هو نفسه لا يستطيع أن يلاعب السيف كما تلاعبه هذه الفتاة!
وإن فتاة تغازل السيف هكذا، لا يستطيع عشرة آلاف فارس أن يقفوا في وجهها إذا جمعتهم وإياها حلبة للوغى!
إنها تأخذ على الهواء مسلكه؛ فالهواء نفسه ذبيح هذه الضربات القاسيات.
وانقشع الشك عن نفس أوليسيز وأيقن أنه أمام البطل المنشود، فصاح بصوته الجهوري وكأن الرعد ينبري من بين شدقيه: «أخيل! ...»
وكأن كل ما في الأرض والسماء راح يردد صيحة أوليسيز: «أخيل ... أخيل ... أخيل ...»
ووقف أخيل لحظة جامدا، شارد اللب، زائغ العينين، كأنه مستيقظ من حلم كريه مفزع؛ ثم ما هو إلا أن نثر لثامه ومزق الغلالة الحريرية التي كانت تحبس جسمه العظيم في سجن امرأة، وصاح بأوليسيز، وقد بدا في برد الأسد. - «أنا هو، أنا أخيل، فمرحى يا رجل!» - «أنت هو؟!» - «أجل، أخيل بن بليوز، أبي إله عظيم وأمي بنت إله عظيم، فلبيك وسعديك!» - «وأنت مختبئ هنا في خدور النساء خشية الحرب التي احتشد لها قومك دفاعا عن الوطن؟!» - «أية حرب يا رجل؟!» - «بين هيلاس وبين طروادة.» - «ومن أثارها؟» - «لقد سرق باريس بن بريام، هيلين ملكة أسبرطة.» - «سرقها؟ ولم لم تقتله الفاجرة؟» - «فرت معه، ولم تبال بأن تلقي شرف هيلاس في الوحل!» - «ولم لم تذهب أنت إلى الحومة ويبدو لي أنك محارب كبير؟» - «بل أقبلت من الصفوف لأبحث عنك!» - «ومن أنت حتى ينتدبك الجيش للبحث عن أخيل؟» - «ومن أنا؟! وماذا يسرك أن أكون؟» - «من أنت يا رجل؟» - «أيسرك أن ملكا هو الذي يبحث عنك يا أخيل بن بليوز؟» - «ماذا تعني؟ أأنت ملك إذن؟ ملك ماذا؟» - «ملك إيثاكا يا أخيل.» - «أنت ملك إيثاكا؟ أنت أوليسيز؟ ها ها، وما تلك الحقيبة إذن؟» - «هي وسيلتي إليك، لقد مزقت بها خمارك وهتكت بما فيها أستارك.» - «أنت تهينني!» - «لا عليك؛ ما دام محدثك أوليسيز.» - «أفي الحق أنك هو ؟» - «أقسم لك بالكناس
5
الذي آواك ...» - «وفيم كنت تحرث شاطئ البحر إذن؟ لقد ذكر أنك زرعته ملحا فهل حصدت سمكا يا أوليسيز؟» - «أخيل، الأسطول ينتظرنا، ألف ألف يتحرقون شوقا لرؤياك، وأنت أكرم من أن تفر من حرب، فهلم!» - «هلم إلى أين؟» - «إلى أوليس أيها العزيز، إلى حياة البطولة والمجد والشرف!» - «البطولة والمجد والشرف! ماذا تقول؟» - «لم يخلق تلاميذ شيرون للتقلب في قصور الراحة، والتلذذ بما في العيش من طراوة ونعومة، هلم يا أخيل نخض المعمعة ونلق طروادة العاتية، ونلقنها درسا داميا في الذود عن كرامة الوطن! لا تقتل وقتنا فقد حرصنا جميعا على أن تكون معنا، وتحدثت إلينا آلهتنا أن طروادة لا تفتح إلا عليك، ولا تعنو إلا لك، وقد اتفقت المقادير أن ترميها بك، لا تترك لخصومك فرصة أن يقولوا فر أخيل وتقاعس، فأين أبطال هيلاس؟! هلم هلم، فقومك بنو الكريهة وقروم الحرب وحتوف الأعادي، لو رأيت إليهم مستلئمين في سلاحهم مقنعين في حديدهم ململمين في سفينهم، لزهاك عسكرهم الجرار، وبهرك خميسهم العرمرم! وتمنيت أن تكون أحدهم بالدنيا وما فيها.
دع الغيد يفاخرن بالقلائد والعقود، وتعال نحن نعد ما في أجسامنا من ضربات السيوف ووخزات الرماح ومواقع السهام، فهذه أعز مفاخر الرجال يا أخيل.
أخيل، رد علي! قل سأحضر معك. كلنا ننتظرك يا أخيل؛ لن تفتح طروادة إلا عليك، فأي فخر ينتظرك تحت أسوارها، وأي مجد يكلل هامتك يا أعز أبطالها!
تكلم ولا تصمت هكذا، إن ملك إيثاكا يتوسل إليك، أنا أوليسيز كله! سأكون خدنك في الحومة، وصديقك في المعمعة. وأجاممنون! إنه قائدنا إلى الفخار، وصاحبنا في مصارع الشرف. وديوميدز! بطل الأبطال وفارس كل كريهة وقتال، سينسى شجاعته حين ينظر إليك تلاعب الأسنة وتقبل مراشف الرقاق البيض. وأجاكس
6
يا أخيل! لقد بهره ما سمعه عنك، وهو يتمنى أن يراك، ويحارب تحت بند من بنودك خفاق؛ أجاكس نفسه يود أن يكون جنديا من جنودك وهو أقوى وأبسل جنودنا جميعا.
ماذا؟ تبكي؟ لا لا يا أخيل، لترقأ دموعك فهي أغلى من أن تنسكب هكذا، أكرم بك هيلانيا رقيق القلب، بارا ببلادك، مناضلا عن رايتها في ساحة المجد.
لتشرب من دموع أخيل يا ثرى الوطن.
لتروك هذه العبارات الغاليات، فهي ترياقك إذا حزبك أمر، أو ادلهمت بك الخطوب.» •••
وهكذا كان أوليسيز ماهرا في إثارة النخوة في قلب البطل!
وهل أحلى من كلمات البطولة، وأوقع من حديث المجد في نفس شاب مثل أخيل؟ لقد تقدم مختارا طائعا، فقبل جبين أوليسز، ولثم سيفه، ثم ودع بنات الملك، وحيا القصر، وتزود من الحدائق نظرات.
وانطلق في إثر أوليسيز!
إلى ...
أوليس!
القربان1
لم يبق إذن على الأسطول إلا أن يقلع إلى طروادة فيدمرها تدميرا!
ولكن البحر هادئ، والرياح نائمة ولا بد لهذه السفن المثقلة بالعدة والعديد من قوة هائلة تدفعها في هذا الخضم الساخر!
الأيام تمضي دون أن تستيقظ الريح!
والملال يدب في قلوب الجند من طول ما تلبثوا في تلك الجهة من الشاطئ العابس المتجهم لا يريمون!
والميرة تكاد تنفد ...
والخيل تعلك حديدها كأنها برمت بهذا الركود! - «كالخاس!» - «مولاي!» - «اذهب يا رجل فاستوح لنا أربابك ماذا تبتغي لتطلق الرياح؟» - «لبيك يا مولاي.»
وانطلق عراف الحملة إلى المعبد القريب فمكث غير قليل، وعاد بقلب موهون، وجسم مضعضع، ووجه مغبر وجبين كاسف معقد. - «ما وراءك يا كالخاس؟!» - «مولاي! ...» - «تكلم! تكلم يا كالخاس!» - «الآلهة! الآلهة عطشى يا مولاي!» - «عطشى؟!» - «أجل، عطشى إلى الدماء.» - «دماء من؟!» - «دماء ابنتك!» - «ابنتي؟! ابنتي من؟!» - «إفجنيا!» - «ويلاه! ماذا تقول؟» - «لا بد من تقديمها قربانا! لا بد من أن يطل دمها على مذبح ديانا يا مولاي!» - «ولمه؟» - «لكي تطلق الرياح من عقالها، ولكي تكون فدى للجيش كله، ولهيلاس جميعا!» - «يا للهول! لا كانت هذه الحرب!»
وما كاد يقولها حتى تكبكب القواد حوله، وطفقوا يترضونه: «من أجل الآلهة، وفي سبيل الوطن!» والرجل يبكي وينشج، ويذهب نفسه شعاعا!
وأمرهم أن يتركوه وحده ليرى رأيه.
فلما انصرفوا دعا إليه كالخاس وأخذ معه في حوار طويل، ثم ترجاه أن يذهب إلى المعبد فيضرع إلى الآلهة عسى أن تقبل قربانا آخر غير هذه الفتاة الحبيبة المنكودة مهما غلت قيمة هذا القربان!
وعاد كالخاس وأخبر أن الآلهة لا تبتغي بإفجنيا بديلا!
وانهزم أجاممنون الأب وانتصر أجاممنون المؤمن التقي الورع الذي يقدس الآلهة، ويعرف لها قدرها، فأمر بقرطاس وقلم، وكتب إلى زوجه كليتمنسترا:
بشراك يا حبيبتي!
أتعرفين أخيل؟
أخيل الذي أصبح ملء الأسماع والأفواه والقلوب، بطل هيلاس الذي وعدتنا الآلهة طروادة على يديه، الشاب الوسيم القوي الأبي الشجاع، يتقدم أخيل لخطبة إفجنيا - ابنتنا المحبوبة - ويود لو تزف إليه قبل أن يقلع الأسطول لتدمير طروادة! إنه لا شك سيرى في مرآة إفجنيا وطنه، وحينئذ يكون حربا على الأعداء ونقمة عليهم من السماء!
أرسليها أيتها العزيزة، وبودي أن تسرعي بإرسالها من دون ما جلبة؛ فالوقت ضيق ونحن على وشك الإبحار.
أجاممنون
وانطلق رقيق عجوز بالخطاب إلى آرجوس، حيث تثوي كليتمنسترا في قصرها المنيف «أتريدي» مع ابنتها إفجنيا وأبنائها الآخرين.
وخفق قلب الفتاة حينما أخبرتها أمها أن أخيل يريدها؛ فقد كانت هيلاس كلها تتحدث بالفتى وتصلي للآلهة التي وفقته للانضمام إلى الجيوش الغازية.
خفق قلب إفجنيا، وكأنما غرقت في لجة من الأحلام التي تجيش عادة في قلوب العذارى حين يمر بهن هذا الطور الناعم الجميل من أطوار الحياة.
ولكن ما الذي أوحى إلى أجاممنون بهذا التدبير؟ ولم اختار هذه الحيلة المكشوفة لاستدعاء ابنته التاعسة؟ لا ندري!
لقد مرت أيام دون أن تحضر إفجنيا، ولم يكن الطريق طويلا أو شاقا بين أوليس وآرجوس حتى تتأخر كل هذه المدة، فهل حدث شيء؟
وكأنما أثار طول الانتظار العاصفة من جديد في قلب أجاممنون الأب، فبدا له ألا يصدع لهذا الظلم الأولمبي، ولو صار بعدها زنديقا ملحدا مطرودا من جنة الآلهة، مغضوبا عليه من قلب الوطن.
وقد كان!
فإنه استدعى الرقيق العجوز الذي كان يحمل دائما بريد القائد العام إلى آرجوس، ودفع إليه برقعة أمر فيها ألا تحضر إفجنيا، وأمره أن يسرع بها إلى زوجه قبل أن تكون قد أخذت أهبتها للسفر! •••
وا أسفاه!
لقد لقي منلوس - شقيق أجاممنون وزوج هيلين وملك أسبرطة؛ والذي من أجله شبت هذه الحرب - الرقيق العجوز حامل الرسالة، فاستوقفه وقرأها!
ودارت الدنيا بالملك المحزون واحلولكت الحياة في عينيه، وقصد من فوره إلى أخيه فانتهره، ونشبت بينهما معركة حامية من السباب والتعيير، يدفع أجاممنون عن ابنته وفلذة كبده ويفتديها بنفسه وبالدنيا وما فيها، ويعيره منلوس بالمروق من الدين وعصيان الآلهة وشق عصا الطاعة على السماء!
وإنهما لكذلك إذا رسول يعلنهما أن كليتمنسترا زوجة أجاممنون وابنتها إفجنيا تستأذنان في لقاء الملك ولقاء القائد العام!
يا لسخرية المقادير؟ لقد ذهل أجاممنون وانطلق يبكي حتى تفجر الحنان في قلب منلوس المتحجر، ورق لأخيه البائس الملتاع، فقال له: «أخي، أنقذها يا أخي؛ إنها ابنتي كما هي ابنتك، فأنقذها كما يحلو لك.»
ويبهت أجاممنون لهول الموقف، ولا يدري ماذا في وسعه أن يصنع، ثم يراه واقفا وحده يبكي كما يبكي الأطفال بعد إذ غادره أخوه.
ويلمح زوجه مقبلة فيصلح من شأنه ويتكلف البشاشة والتبسم، وإنها لبشاشة باكية، وإنه لتبسم مر حزين! - «أهلا أهلا إفجنيا! مرحبا مرحبا كليتمنسترا، سفر حميد ورحلة طيبة.» - «أين أخيل؟ وماذا أعددتم للاحتفال بالعروسين؟» - «أ... أ... أجل. ولكن لا بد أن تعودي أنت إلى آرجوس.» - «أعود إلى آرجوس! أعود وأترك ابنتي؟!» - «أجل! تعودين وتتركين إفجنيا.» - «والعرس؟ وإعلان الخطبة على الأقل؟ ألا أحضر شيئا من ذلك؟! هذا لن يكون؛ لن أعود حتى أشهد كل شيء.»
وتصر كليتمنسترا على بقائها حتى تحتفل بابنتها، وحتى ترى إلى هذا العسكر المجر والأساطيل المنتشرة في البحر كالدبى
2
تحيي ابنتها وتحيي أخيل وترقص طربا للعروسين.
ثم يحدث ما ليس في حسبان أحد!
يحضر أخيل ليقابل القائد العام وليبدي له سخطه وسخط جنوده «الميرميدون» من طول هذا الانتظار الذي يبدو أن ليس له آخر، ويلح لديه في وجوب الإقلاع إلى طروادة مهما كلفهم الأمر!
وما تكاد كليتمنسترا تسمع كلام أخيل،
3
وتسمعه يذكر فرقة الميرميدون المشهورة في جميع الآفاق ببسالتها وكلفها الخارق بالحروب حتى تعرفه، وتعرف أنه أخيل، أخيل بعينيه، خطيب ابنتها، وزوج إفجنيا الحبيب !
فتتقدم إليه هاشة محيية حتى إذا أنس إليها، بدهته بالسؤال عن العرس! - «عرس! عرس ماذا؟» - «عرس ماذا؟ ألست أخيل؟! ألست قد تقدمت إلى أجاممنون أمير آرجوس تطلب أن تكون إفجنيا زوجة لك؟ ألم تطلب يد إفجنيا؟ تكلم!»
ولكن أخيل يسمر مكانه باهتا لا يدري ماذا يقول؛ لأنه لا يعرف مما قالت السيدة شيئا! وتحملق الملكة في أخيل طويلا ويتصبب العرق من جبين إفجنيا - الفتاة البريئة - لما ترى من حيرة أمها وارتباك هذا الجندي الباسق الجميل الذي كانت تحلم به زوجا كريما لها!
وكأن هذا الموقف لم يرض أحدا، حتى الرقيق العجوز حامل بريد القائد العام؛ فقد انفجر هذا الخادم الأمين من شدة الحنق، فباح بكل شيء، باح بكل ما سمع من تحاور منلوس الملك وأجاممنون القائد الأعلى بخصوص هذا الزواج المفترى: «مولاتي الملكة! خذي حذرك لفتاتك المسكينة؛ إنها ستذبح! إن الكهنة الأشرار سيذبحونها اليوم ليسقوا أربابهم الظامئة من دمها الزكي البريء! إن أخيل الكريم لم يتقدم ليطلب يد إفجنيا، بل هو لا يعرف من أمر ذلك قليلا أو كثيرا، ها هو ذا أمامك فاسأليه.»
وكأن صواعق السماء جميعا نزلت على قلوب القوم!
لقد تحطمت كليتمنسترا!
وذاب الثلج في عروق إفجنيا!
وزلزل أجاممنون!
أما أخيل! فقد شده وحجبت ناظريه سحابة كثيفة من الذهول! ثم ما هو إلا أن أفيق فاضطربت به الأرض، وأحنقه أن يتخذ مطية لهذا العبث العابث والسخرية المهينة!
وصاح الشاب كأنه أسد مهيج، وانقدح شرر الغضب من عينيه حتى خيف أن يبطش بأجاممنون وجنوده، كيما يثأر لاسمه ويصون كرامته.
وانتهزتها الملكة فرصة غالية لتنقذ ابنتها من القتل؛ فانبطحت عند قدمي أخيل تقبلهما وتغسلهما بدموعها متوسلة إليه أن يدفع عن إفجنيا ويحول بينها وبين الموت! - «فإن لم يكن بحسبك أن أمرغ خدي تحت قدميك لتكون حامي ابنتي؛ فإنها هي أيضا تفعل مثلي يا أخيل! إنها تمرغ حر جبينها عند موطئ هذه القدم الطاهرة لتكون حاميها وحارسها.» - «قفي يا سيدتي! وكلمي أباها في شأنها، فإن لم يحل بينها وبين الموت فإني سأقاتل من دونها حتى أنقذها من الهلاك ولو حاربت هيلاس جميعا!» •••
وترجو الأم زوجها أن يحول بين ابنته وبين هذه القتلة الشنيعة؛ ويتصدع قلب أجاممنون، وتنهمر دموعه شفقة على الفتاة التعسة فيعد! ولكن لات حين موعد!
لقد نمى إلى العسكر أن أخيل أنذر أن سيقف دون الدم الذي أمرت به الآلهة أن يراق فغيظوا وأحنقوا وذهبوا إليه يتحسسون جلية الأمر، فصارحهم به فانقضوا عليه يرشقونه بألسنتهم الحداد ويرجمونه بحجارة الشاطئ، فولى مدبرا!
وريعت الأم حين رأت إلى الميرميدون - جنود أخيل الأمناء - يرجمون سيدهم فيمن يرجمه من الجنود الآخرين فعولت على أن تحمل السلاح وتقف إلى جانبه لتذود هؤلاء الوحوش!
ولكن إفجنيا الصغيرة، إفجنيا الفتاة، إفجنيا العظيمة! وقفت في وجه أمها، وصرخت قائلة: «مكانك يا أماه! لن يموت أخيل من أجل فتاة!
من أنا حتى يفتديني هذا البطل العظيم؟ وما حياتي التافهة في حياته المذخورة الغالية؟ إن رجلا يحارب من أجل هيلاس أجدر بالحياة من عشرة آلاف امرأة لا يستطعن إلى حرب من سبيل؟
أيها الجنود!
خلوا سبيل سيدكم فلن تفتح طروادة إلا عليه كما أخبرت بذلك آلهتكم! وما دام النصر معلقا بحياتي، فكم يبهجني أن أفتدي الوطن وأرضي أربابي! إن هيلاس كلها تنظر إلي اليوم، فهل فخر أكثر من أن أكون عند حسن ظنها بي، أنا لها، أنا أفديك يا وطني، أماه، لا تحزني! انظري إلي، ها أنا ذي أبتسم للموت، للقتل، للذبح، هلموا يا سادة، هلموا، أين المذبح؟ صلوا من أجلي، تحيا هيلاس!»
وفي هذه اللحظة فقط تكبر إفجنيا في عيني أخيل فيتمنى لو أجلت في حياتها لتكون زوجة كريمة له، ويعرض استعداده للمنافحة عنها بسيفه، ولكنها تنهاه وتوصيه أن يعيش لوطنه ليذب عن بيضته ويعلي كلمته.
وتنسكب دموع أخيل.
فيا للفتاة!
ويا للأم!
ويا لأخيل البطل! •••
وتضع إفجنيا رأسها على رخامة المذبح، ويرهف الكاهن مديته، ولكن؟ لقد شده القوم! ونظر بعضهم إلى بعض.
إنهم ينظرون فلا يرون إفجنيا!
بل يرون مكانها ظبيا ... رشأ غريرا!
إذن هي المعجزة !
لقد تفطر قلب ديانا الكريمة من أجل الفتاة، فهبطت من ذرى الأولمب لتنقذها، فرفعتها إلى السماء، ثم أرسلتها لتكون راهبة معبدها العظيم في مملكة توريس!
وارتفعت أغاني الغواني.
يسبحن للآلهة العطشى!
الفدائي الأول
رويت الآلهة إذن وشفت ما في أنفسها من ظمأ إلى دماء الضحايا وإن لم تغفر لديانا البارة - ديانا ربة القمر - إنقاذها للفتاة التعسة إفجنيا، وهي قاب قوسين من خناجر الكهنة والربيين القساة.
لقد أبت الآلهة إلا أن تشرب من ماء الحياة القرمزي المتدفق في عروق عبادها المخلصين من أبناء هيلاس؛ فلما ذهب كالخاس - عراف الحملة - يستوحي أربابه في معبد دلفي هل لها مطلب آخر في ضحية أو قربان بعد تقدمة إفجنيا، ارتفع الصوت الخافت المنبعث من صميم مقصورة الإله الأكبر يقول: «لا ... ولكم أن تقلعوا اليوم ... فإذا كنتم عند شطآن طروادة، فإن لنا دم الفارس الأول الذي تطأ قدماه رمال الشاطئ، سيقتل، وسيكون لنا عوضا من إفجنيا.» •••
ودعا إليه أبناءه
1
إيولوس رب الرياح الست، فأمرهم أن يكونوا جميعا في خدمة الأسطول الهيلاني، حتى يصل إلى طروادة، «وأنا أعرفك يا بوريس حين تعصف وتزف، وتصبح ويلا على الجواري أي ويل، وأنت يا كورس إياك وهذه البوارح التي تصلى بها سفائن القوم، وأنت يا أكويلو؛ وأنت أيضا يا نيتوس، إن ريحك مجفل وهبتك هوجاء، ولفحاتك حرور، وأنفاسك سموم، فإن لم تترفق بالقوم وتجر بين أيديهم رخاء، فلأسجننك في الكهف الأسود حتى حين، أما أنت يا ولدي إيوروس فاحذر أن تصيب الناس سيافيك، أو يسوء فألهم فيك؛ بل كن لهم خادما أمينا تدفع ركبهم في رفق، وتملأ شراعهم في أناة، ويسرني أن تسمعوا لنصيحة زفيروس، فهو ألينكم عريكة وأكثركم صفاء، ألقوا إليه بزمامكم، ولا تختلفوا في أمر يلقيه إليكم، أصلح لكم زيوس أحوالكم.»
وهبت الريح فخفقت أفئدة العسكر، وابتهجت أنفس القادة، واجتمع الميرميدون حول أخيل يترضونه، ويعتذرون عن رجمهم إياه يوم القربان المشئوم، ثم انتشرت الشراع ورفعت المراسي، وهمت الفلك فاحتواها البحر اللجي، وما عتمت أن صارت من الماء والسماء في خضرتين، ومن دروع الجند وزبد الموج في لبدتين ، ومن قلوب الشعب الهاتف فوق الشاطئ الشاحب في بحر من الآمال!
واضطرب البحر بعرائس الماء وأبكاره، أسرعن من كل فج يحيين أبطال هيلاس، يخفين الوشائح السود التي ادخرنها لأيام الفصل، إن أيام الفصل كانت ميقاتا أي ميقات!
وتوارت الشمس بالحجاب، وبزغ القمر يفضض حواشي الماء، وحملقت النجوم ترى إلى هذا الأسطول اللجب يمخر عبابا من خلفه عباب، ويطوي لجة من ورائها لجة، والملاحون دائبون ما ينون، مرسلين في اللانهاية ألحانهم، مرددة الرياح أغانيهم وأنغامهم؛ والقادة متكبكبون حول القائد الأعلى - حول أجاممنون - يدرسون تلك الخطة وينقدون هذه الفكرة، ويدبرون من أمرهم ما يصل بهم إلى نصر عزيز.
وتنفس صبح اليوم الثالث.
وبدت طروادة العاتية في الأفق الشرقي متشحة بالشفق النحاسي الذي صبغ سماءها بالبنفسج الرائع تتفجر منه أنهار من الدم.
طروادة!
ذات الأبراج المشيدة، والقباب المنيفة!
إليوم!
2
بنية
3
نبتيون إله البحار يوم نفاه زيوس من جنة الأولمب ونفى معه أبوللو، فساعده في بنائها بموسيقاه!
يا ما أروعه منظرا أن ترى إلى أبوللو العظيم يعزف على قيثارته المرنة، فتثب الحجارة وتتراقص وتقفز إلى مكانها من أسوارك يا إليوم!
طروادة يا ذات الحول!
أين تنام هيلين الساعة سالمة حالمة، وأيان تتقلب ترب فينوس ملء ذراعي باريس!
ويحك يا منلوس!
إنه ينظر بعينين مشدوهتين إلى أسوار طروادة يتمنى لو تندك على العاشقين الآثمين! «أهو الآن يقبلها، ويجني جنا خديها بفمه النهم المشتعل؟ أم هو يضمها إليه في عنف غير آبه لقلبي الخافق المضطرب!»
منلوس، لا بد مما ليس منه بد.
لقد ترامت أخبار الحملة الهيلانية إلى طروادة فهب أهلها البواسل يستعدون، ويستعدون جيرانهم فنصروهم ولبوا نداءهم، وهرعوا إليهم من كل فج عميق، وها هي ذي مشارف الجبال وقننها وسفوحها ونتوء الشاطئ وصخوره ومغاوره، وها هي ذي ليديا المتيقظة، وإيوليا المتحفزة، وإيونيا الرابضة
4
ها هي ذي تلك البلاد جميعا تضج بالجند، وتعج بالسلاح، وتقعقع بآلة الحرب، وتدق طبول الوغى، وتذكي نيران الحراسة في قمم الجبال، فلا تغفل عين ولا تهمد همة، ولا يتسرب إلى النفوس كلال.
واقترب الأسطول من الشاطئ.
ولكن أحدا لم يجسر أن يجازف بنفسه؛ لأن القتيل الأول هو أول من يهبط إلى الأرض كما أخبرت النبوءة في معبد دلفي!
ومرت أيام والهيلانيون في سفائنهم ينظرون إلى أبراج طروادة وفجاجها، ويتحرقون شوقا إلى لقاء جنودها، منلوس يحرق الأرم هو الآخر؛ ولكن أحدا لا يرضى أن يكون الفدائي الأول؛ «لأني إذا نزلت إلى هذا البر المخوف فسيكون الموت محتوما علي، دون أن أستطيع إلى قتل أحد من هذا الجند من سبيل، وأنا لم أحضر إلى هنا لأكون قربانا للآلهة، ولكن لأزاحم وأقاحم، وأنافح وأصول، فإن قتلت بعدها فبعشرات وعشرات، لا كما يقتل كلب البرية غير مفدى.»
بروتسيلوس البطل
بيد أن هيلانيا مقاحما، هيلانيا واحدا من خيرة القادة ومذاويدهم عز عليه ألا يكون في هذا الجيش العرمرم على ما جمع من صناديد اليونان ومغاويرهم، فدائي واحد يتلقى الطعنة الأولى النجلاء بثغر باسم وقلب لا يجزع، ونفس مؤمنة مطمئنة لا تهلع في موقف الموت ولا تفرق إذا حم القضاء.
كبر على بروتسيلوس أن يرمى قومه بجبن ليست لهم يد فيه، وكبر عليه أن يقف ألف ألف لو شاءوا لدكوا الجبال وزلزلوا السموات من دون هذا البلد لا يتقدمون ولا يتأخرون كأنما حربهم هزل، ونفيرهم مكاء وعزمهم تلفيق. أو كأنما ملئوا الدنيا وعيدا لتمتلئ الدنيا عليهم سخرية وضحكا!
كبر على بروتسيلوس ألا يكون هو شهيد هذا الموقف فارتخص نفسه وهانت عليه الحياة، وتفهت في عينيه لذائذ هذا العيش الذليل، ثم استخار أربابه واستعاذ بسيد الأولمب، وما هو إلا أن لمح الشمس يذر قرنها في خدر الشرق فوق جبين طروادة حتى قذف بنفسه على الشاطئ، وأرسل في الخافقين صيحة الحرب كأنها رعد يميد به جانب الجبل وتهتز من قصفه أسوار المدينة؛ ثم جال جولة هنا وجولة هناك، وإذا بالسهام ترشقه من كل مكان، وإذا هو ملقى على أديم الثرى مضرجا بدمه معفر الجبين بأول نقع هذه الحرب. •••
وذاع خبر مقتله حتى انتهى إلى تساليا حيث زوجته المفجعة، فحزنت عليه حزنا أمض قلبها وشف جسمها وأقض مضجعها وصير الحياة في عينيها حلكا شديدا وظلاما قاتما، «بروتسيلوس! أهكذا يا حبيبي ذكرت كل شيء في ميدان المجد والشرف ونسيت فيه كل شيء؟ أهكذا يا حبيبي ذكرت التضحية والإقدام حيث تخاذل مواطنوك عن مواطن التضحية والإقدام فغامرت بنفسك في هذا المعترك المضطرب، ونسيت أن وراءك قلبا ينعقد رجاؤه بك، ونفسا ترف من خلف البحار فوقك، وروحا لا سكن لها إلا صدرك الحنون، وعينين لا تعرفان جمال الحياة إلا في وجهك المشرق، وأذنين ما التذتا إلا الموسيقى المنسكبة من فمك! بروتسيلوس! ما قيمة الحياة بعدك يا حبيبي؟! من لزوجتك التاعسة يوم يفخر النساء بأزواجهن؟ من للمحزونة الكاسفة لاءوداميا؟ ما أشق الحياة علي بعدك يا رجلي ومن كنت كل شيء لي!
لا أسخط عليكم يا أربابي.
بل أنا أصلي لكم، أصلي لكم بدموعي وقلبي، أصلي لكم بأحشائي التي تتمزق، ورأسي الذي يحترق! أصلي لكم بلساني الذي يجف من شرق في حلقي، وكان حديث بروتسيلوس يرطبه وينديه! أصلي لكم يا أرباب الأولمب عسى أن تلين قلوبكم لي فأرى حبيبي وأموت!
رجية يسيرة على مقدرتكم يا أرباب الأولمب! إما أن أقضي فأستريح من هذا الكمد الممض والبث المؤلم، وإما أن تأذنوا فيعود بروتسيلوس، فأراه وأموت!
أتمنى عليكم أن يعود فأكلمه، أملأ أذني وقلبي من موسيقاه، أناديه باسمه ويناديني باسمي، يعانقني وأعانقه، يرى إلى عبراتي وأنظر إلى عبراته! يبتسم لي في رضاه وفرحه، وأبتسم له في انكساري ولوعتي!
ائذنوا يا أرباب الألمب، فأنا ما أفتأ أصلي لكم، وأتوسل إليكم بدمه الزكي وروحه الأبي وقلبه الكبير!
ارحموا ذلي ورقوا لهواني وارثوا لحالي!» •••
وصيرت بنواحها إشراق الصباح ظلمة من الحزن لا أول لها ولا آخر؛ وأرسلت في الليل البهم أناتها المؤلمة وزفراتها الحارة؛ ووصلت بكاءها الطويل بصلاتها الخاشعة حتى ارتجفت قواعد الأولمب، واهتزت عروشه الذهبية، وانعقدت بينه وبين لاءوداميا قنطرة من الحزن عبرت عليها بركات الآلهة إلى فؤادها المكلوم، فمسحت عبراتها، وهدأت من روعها، وبشرتها بعودة بروتسيلوس.
وفي هدأة ليلة مقمرة، سكن هواؤها وصدح بلبلها، وأنشد البدر لحنه الصافي على آراده الفضية؛ ليغمرها بهاء وروعة، خرجت لاءوداميا المحزونة من قصرها المنيف لتلقى روح بروتسيلوس يهدهده هرمز الكريم بين يديه، حتى يكون تلقاء زوجه، فترتمي بين ذراعيه!
ويغرقان في طوفان من القبل!
ويغرقان في لجة من العبرات!
ويقص عليها بروتسيلوس أنباء مقتله، فتبكي، وتبكي، وتعاتبه لاءوداميا، وتعذله، ولكن الساعات الثلاث التي سمحت بها الآلهة للقائهما تمر كاللمح، فينبههما هرمز إلى انقضائها، وما تكاد تسمع نذير هرمز وتعرف أن زوجها عائد أدراجه إلى هيدز فيظل فيها إلى الأبد حتى تصعق مكانها وتخر مغشيا عليها، وتموت!
فوا رحمتا للزوجين السعيدين اللذين لن يفترقا بعد اليوم!
وما أجمل هذين الطيفين الحبيبين يعودان معا إلى دار الخلود!
من السماء
قضى بروتسيلوس نحبه، وعادت روحه الكريمة إلى هيدز مصطحبة روح زوجته البارة، وغرست عرائس الفنون فسائل الدردار فوق قبر الراحلين فنمت وترعرعت، ونعم بفيئها الوارف ماء الهلسبنت
1
ورتعت في ظلها أترابه.
ولكن!
لقد كانت روح بروتسيلوس الجذوة التي أججت نيران الحرب فجعلتها ضراما؛ فإنه ما كاد يرمى بالسهام فيصمى، فيسيل دمه أنهارا حتى تدفقت جيوش الهيلانيين على الشاطئ الآسيوي غير مبالين بالموت الأحمر الذي كانت تمطرهم به سهام الطرواديين والمنية السوداء التي كانت تقطر من سيوفهم فتحصد صفوف الغازين حصدا. لا؛ لم يبال الهيلانيون بهذا الهول الأكبر، بل انقضوا على الشاطئ شكاكا في سلاحهم مقنعين في دروعهم مرهفين سيوفهم، تفيض عليهم عدة الحرب كأنهم جنة ترقص في زوبعة، أو ظلال من الذعر تجول في معمعة.
وتبعهم قادتهم العظماء فانطلقوا يبوءونهم مواقف للقتال، ويلقون عليهم من كلمات الحماسة وخطب الاستبسال ما أضرموا به جوانحهم شوقا إلى خوض الكريهة وحنينا إلى اقتحام الوغى وصبوة إلى تقبيل الرقاق البيض.
ودقت الطبول فكانت إيذانا بهجوم الهيلانيين.
فانظر الآن إلى البحر يلتطم بالبحر، والموج يساور الموج، والموت يصاول الموت، والحياة الحلوة تأخذ بتلابيب الحياة الحلوة، وصيحات الهيلانيين تردها صيحات الطرواديين؛ وليل الآخرة يغطش نهار الدنيا، وظلام القبور يكشر لهذه الدور ، والفزع يمشي في صفوف هؤلاء وهؤلاء، واليتم يجرح هذه الكبد ويقرح ذلك القلب، والحزن يفيض على هذا السهل ويجوب ذاك الوادي ويرف على قلل تلك الجبال، وأنين الجرحى يطن في فضاء الساحة الحمراء فيملأ الآذان بالهلع، والنفوس بالجزع، والدماء تتفجر هنا وتتحدر هناك، والرءوس منتثرة فوق الأديم المضرج زائغة أبصارها، مفغورة أفواهها، معفرة بالتراب أنوفها التي عزت على العالمين.
ثم انظر إلى أخيل يرعد بين الصفوف ويقصف، ومن ورائه الميرميدون يوزعون المنايا ويهدهدون الحتوف ويقربون الآجال!
وأوليسيز المغوار؛ وتلك العجاجة المنعقدة فوق رأسه من خبار الحرب، وهذه الصعدة السمراء بيمينه تنفث الموت في صدور الأعداء!
وأجاكس وجنوده! الكرار الفرار المذاويد الأحرار!
وبنليوس! قائد العساكر البووطية، القروم البواسل والليوث الكواسر!
وديوميد! نبعة أرومته، وسيد عشيرته، ووجه قومه، وفارس كتيبته، وأجابينور! فتى أركاديا، وملاك أمرها، وشمس ضحاها!
وميجيز! النجد الباسل، والبطل الحلاحل!
وإيدومينيز! ملك كريد وقائد جنودها؛ أباة الذل وكماة الوغى، ومرادي الحروب!
وتليبوليموس بن هرقل بطل المجازفات المقدام أخو الغمرات!
2
ثم انظر إلى الصيد الصناديد من أبناء طروادة وجيرانهم الكماة الأباة الحماة!
هاك هكتور العظيم بن بريام الملك، عضد طروادة وسندها وليث عرينها؛ الثبت الصابر المصابر، رابط الجأش، شديد البطش، قوي الشكيمة، الفارس المقدام.
هاك هكتور الأسد، يرغي في أسود الشرى ويزبد، ويوقل في بطاح طروادة وينجد!
وهاك إينياس الهائل يقود «الدردان»
3
الأبطال إلى كرائم الفعال في ساحة القتال!
وهاك بنداروس! تلميذ أبوللو وربيبه، يقود فرسانه الفحول ورجاله البهاليل!
وها هما ولدا ميروبس الكبير ملك أبيسوس يصولان في الحومة ويجولان!
وهاك آسيوس بن ملك أبيدوس يتقدم رعيل فرسانه ويداعب أعداءه بمرانه!
وها هم أشبال تراقية، يقودهم يوفيموس المقدام، ويقتحم بهم أيما اقتحام!
وها هم نسور أميدون البواشق أقبلوا من هناك، من جنبات سيحون وجيحون ليخوضوا الجحيم في ذلك اليوم العظيم، وليذودوا عن طروادة - حليفتهم - ويدفعوا!
وها هم أمراء ميديا أقبلوا في عدة وعديد، وكل جبار مريد!
انظر إذن إلى الجيشين في مد وجزر، تبسم لأحدهما الآمال، وتعبس للآخر المنايا؛ ثم تدور الدائرة، فيفلذ المنهزم، ويتأخر المتقدم، وهكذا دواليك.
وتغيب الشمس وتشرق.
ويبزغ القمر، ويغرب.
وتكر الأيام، وتمر السنون!
وكلما لاحت للطرواديين غفلة من أعدائهم خرجوا إليهم وهم ألوف فنالوا منهم، حتى إذا كروا عليهم عادوا إلى معاقلهم فلاذوا بحصونها، واعتصموا بأبراجها، وتلبثوا هناك حتى تتاح لهم فرصة أخرى. •••
أعوام تسعة!
مليئة بالتعب، مشحونة بالنصب، مفعمة بالخطوب والأهوال.
وكان الهيلانيون يرسلون البعوث والسرايا، فتجوب الريف، وتئوب بالغنائم والفيء، والأسلاب والسبي، فيقتسمها القادة، ويفيضون منها على الجند.
وهاجموا مرة إحدى القرى، فكان من جملة السبي فتاتان ذواتا رقة وفتون. أما إحداهما فكانت من نصيب أجاممنون، واسمها خريسيز، وهي ابنة كاهن القرية الورع، حبيب أبوللو وخليله وصفيه، القديس خريسز. وكانت فتاة لعوبا حلوة الدل رشيقة الروح، وكان أبوها يحبها حبا جما لا تعدل بعضه كل مباهج الحياة!
أما الأخرى فقد خلصت لأخيل وأخلصت له الود، وصافاها هو المحبة، فكان أحدهما للآخر في هذه المحنة القاسية الصدر الحنون، والقلب النجي، والملاذ الأمين. اسمها بريسيز، وأبوها شريف من أشراف هذه الناحية التي نكبت بتلك الحرب الضروس، فصليت لظاها وطحنتها رحاها.
وعلم كاهن القرية بما كان من أمر ابنته فازدحمت على قلبه الهموم، وأحس في أعماقه بثقل البلية، وشعر كأنه جرد من كل شيء حتى من نفسه.
وبدا له أن يذهب إلى قائد الجند الهيلاني فيفتدي خريسيز، ولو نزل لأجاممنون عن كل ما يملك. وحذره صحبه من المخاطرة بنفسه في هذا الطريق الشائك، ولكنه لم يعرهم التفاتة واحدة، بل دهن نفسه بالطيب الكهنوتي المقدس، ولبس مسوحه، وعقد زناره، وتناول مسبحة أبوللو العظيم، ثم توكأ على عصاه العتيدة، وذهب يتهالك على نفسه، ويتعثر في خطاه حتى كان تلقاء المعسكر الضخم.
وسأل عن خيمة القائد العام، فقيل له إنها هي الفسطاط الأكبر الذي تبدو قبته هناك ... هناك عند شاطئ الهلسبنت، بين الجيش وبين الأسطول.
وانطلق الكاهن الجليل والدمع ينحدر من قلبه قطرات من الدم، عن طريق عينيه، فيعلق بلحيته البيضاء ، ويصبغها بأرجوانه، كأنه آية السماء الباكية، نذيرا لهذه القلوب القاسية، والغزاة الأقوياء!
وبلغ الفسطاط بعد لأي.
واستأذن على القائد العام فلم يؤذن له، فاستأذن ثانية فهدد بالضرب وبالعقوبة! ولكنه أب مفئود، وحزين منكود، فتنظر قليلا واستأذن في أدب ولين واستكانة، فأذن له.
ووقف أمام القائد الأكبر واهي الجسم، موهون القلب، محزونا متصدعا، وحاول الكلام فكانت العبرات تخنقه، والأسى يعقد لسانه، والنار المندلعة في رأسه تنسيه كل شيء.
وثار به أجاممنون!
لأنه على ما يبدو فوت عليه لذة طارئة، وسكرة مواتية بمجيئه في تلك اللحظة الهانئة القريرة، وإلحافه الشديد بضرورة لقاء القائد.
واحتشد القادة ورؤساء الجند حول فسطاط القائد، وسمعوا إلى الكاهن الكبير يقول:
مولاي!
سعيت إليك عائذا بك، داعيا أبوللو العظيم لك، أن يفيء عليكم من النصر والفتح المبين، وأن يهبكم من الرعاية والمنن ما تشتهي أنفسكم، وتقر به أعينكم وما تترفعون به عن ظلم الضعفاء، والجور على الملهوفين، فقد يغني القليل الذي ترضى عنه الآلهة عن الكثير الذي يثير سخطها ويستنزل غضبها.
ابنتي يا مولاي!
خريسيز العزيزة! ردها علي يبارك لك أبوللو، وينر لك سبيلك ببركة دعوات قديسه الحزين الواقف أمامك، المبتهل إليك، المستعد لأن يفتديها بكل ما يملك، وبكل ما يقدر عليه مما يرضي الملك!
لكن الملك أشاح بوجهه وكبر عليه أن يجرؤ هذا الكاهن على التفوه بهذه الطلبة العزيزة أمامه! خريسيز! أينزل أجاممنون عن خريسيز وقد احتلت من قلبه مكانة زوجه كليتمنسترا؟ واستحوذت على لبه حتى نسي الحرب، وعزف عن الطعن والضرب، واستقر معها في فسطاطه آخذين في لهو وحب وغناء وشرب!
أينزل أجاممنون عن خريسيز الجميلة الفاتنة، ولو استحالت عينا الكاهن بئرين تنزفان الدمع وتفيضان بالدم؟
كلا! لن ينزل أجاممنون عن خريسيز؟ «أصغ إلي يا رجل! ليس بي أن تكون قديس أبوللو، وحامل صولجانه، وحامي مسبحته، وعاقد زناره!
ستعود خريسيز معي ... إلى آرجوس ... وسيذوي جمالها هناك، وتذبل محاسنها بين ذراعي، وسأكل إليها منزلي تخدم فيه، وتصير أم بنين، وسيكون بها قصري جنة خلد ونعيما لا يفنى ، اذهب؛ فاسفح دموعك في صومعة أبوللو، وصعد زفراتك في هيكله، وبين يدي صنمه اذهب وانج بنفسك من عذاب أليم.
خريسيز تعود معك؟!
إنك تثير النقمة في نفسي، فانج بنفسك، انج.»
وتصدع صدر الرجل، وكاد قلبه يقف فتقف أنفاسه!
وانثنى والدنيا المظلمة تحجب ناظريه، وكلمات القائد الظالم تردد في مسمعيه، فما كاد يبلغ قريته حتى خلا إلى أبوللو، وجلس يبكي ويصلي! «أبوللو!
يا إلهي! أسمعت؟ لقد استهزأ بك أجاممنون، وفجعني في بنتي، وفلذة كبدي، وقطعة قلبي، وحياة روحي!
أبوللو!
هل سمعت يا رب النور؟! أرأيت إلى ذلك العاتي المتجبر كيف ثار بقديسك الضعيف المسن الذي أحنت ظهره السنون في عبادتك، والصلاة لك، والتسبيح من أجلك، والهتاف باسمك؟!
ألا فلتنتقم لعبدك يا أبوللو العظيم، وليحل على الطغاة غضبك، ولتسحتهم بعذاب واصب ليس له من قدرتك من دافع.
أبوللو!
استجب يا رب الهيكل الخالد، وحامي المعبد الأمين!»
وسقط الكاهن أمام المذبح ينتحب، والشموع الموقدة تذري دموعها معه!
فثار في عليائه أبوللو! •••
انتفض الإله العظيم انتفاضة رجف من هولها الأولمب، ورف في السماء كأنه سحابة مظلمة في ليل بهيم؛ وفوق كاهله الكبير قوسه الفضية المرنان، وعلى ظهره كنانته الواسعة الشاسعة، يسمع لسهامها صليل أي صليل، وأشرف من سمائه المضطربة على سفائن الأسطول المطمئن، وما هو إلا أن تميزها حتى عبس وبسر، ووتر قوسه فانهمرت منها سهام كالمطر، صبها على السفن حاملات الخيل والبغال أولا، ثم لوى فأصلى سفائن الجنود وابلا منها بعد ذلك، فلا تسمع إلا أنينا وبكاء، ولا ترى إلا صرعى يضجون ويعولون، ولا تحس إلا زفير جهنم وشهيقها يأخذ القوم من هنا وهنا فيقعون إلى أذقانهم سجدا وبكيا ...
أمطر يا طاعون.
ولا حنانيك يا أبوللو. •••
واستمر هذا البلاء تسعة أيام طوال كأنها دهر بأكمله.
وفي اليوم العاشر أوحي إلى أخيل أن يدعو مجلس الجيش ليرى رأيه في هذه النكبة التي دهتهم بها ميازيب السماء. فلما التأم شمل القادة اجتمع الرأي على أن يذهب كالخاس فيستوحي أربابه لتكشف هذه الغمة، أو ليرى بماذا ترضى من التضحيات والقرابين!
وعاد كالخاس - كعادته؛ كلما حمل أخبار الشؤم من لدن أربابه - كاسف الوجه كالح الجبين، يحبس في صدره شجون الأرض وهموم السماء! «خريسيز يا سادة!» «خريسيز تعود إلى أبيها القديس، وإلا فتلك مصارعكم جميعا فوق هذا الشاطئ المظلم، المضرج بدمائكم، ودماء أعدائكم!» «هكذا تتفق كلمة الآلهة من أجل أبوللو، فويل لنا جميعا إن لم نهدئ ثورة صاحب القوس، ورب النور، وسيد الشمس!» «اسجدوا لأبوللو، واخشعوا.»
ونهض القوم من صلاتهم مشدوهين لا يحيرون، ينظر بعضهم إلى بعض، ولا تنفرج شفة بكلمة، ولا يتحرك لسان بقول!
ولكن أخيل شعر في صميمه أن القدر يسخره هذه المرة أيضا لتفريج الأزمة، وكشف البلاء، فنهض غير هياب، وأرسل قولة الحق في غير وجل، وصرح بضرورة إرسال خريسيز إلى والدها القديس معززة مكرمة، ثم تقديم القرابين من لحم العجول وشحم الأوعال إلى معبد أبوللو وإطعام الحاضر من شوائها والباد.
وزلزلت الأرض زلزالها وهوت السماء فوق رأس أجاممنون!
ونشبت ملحمة هائلة بينه وبين أخيل أوشك البطل أن يغمد سيفه من جرائها في صدر القائد العام، الذي طلب بكل صفاقة أن ينزل له أخيل عن غادته بريسيز: «إذن، كان لا بد من نزولي عن خريسيز ليسلم الجند من هذا الوباء، وليسكن غضب أبوللو، وترضى السماء!»
وتأججت نيران العداوة بينهما؛ ذاك يحرص على فتاته الهيفاء، وذاك يحض على إنقاذ الجنود بتضحية الذات وإنكارها في سبيل ما هو أسمى وأرفع، ولكن أجاممنون عمي عن هذا المثل العالي، فتشبث وأصر إلا ما نزل له أخيل عن بريسيز لينزل هو عن خريسيز.
وهنا تنزل الآلهة لتحكم بين الخصمين!
تبدو مينرفا، ربة الحكمة والموعظة الحسنة، رسولا من لدن حيرا، سيدة ربات الأولمب، للبطل أخيل، بحيث لا يراها غيره، فتعظه أن يضحي بفتاته ما دام هذا الفظ يتأبى إلا أن يكون ذلك.
ويصدع أخيل بأمر السماء.
ويذهب أوليسيز بابنة القديس إلى أبيها حيث يلقاه في معبده يبكي ويصلي، فيبشره بها، ويسأله الصفح والمغفرة فيهش الكاهن ويبش، وتنهمر من عينيه دموع الفرح .
وتقدم القرابين باسم الجيش الهيلاني إلى معبد أبوللو.
فينكشف البلاء، وترضى السماء، ويدفن الهيلانيون موتاهم!
أما أخيل.
فينقطع عن المعركة، وينعزل في معسكره، لا يشترك في الحرب، ولا يشترك فيها جنوده الميرميدون!
وتحس أمه بما يلم به من الحزن وتعده خيرا على يد الإله الأكبر - زيوس - سيد أرباب الأولمب!
فتنة
انتظرت ذيتيس - أم أخيل وحبيبة زيوس من قبل - حتى عاد الإله الأكبر من حفل أولمبي دعي إليه حينما شبت السخيمة بين أجاممنون وبين ابنها، فأسرعت إليه لتكلمه في الإهانة التي لحقت أخيل العظيم، وأزرت بكبرياء بطل هيلاس.
عجلت ذيتيس إلى زيوس.
وكانت ذكريات غرام الإله الأكبر لا تزال تتدفق في قلبه، وكان رنين القبل فوق شفتيها القرمزيتين لا يزال تتجاوب أصداؤه الموسيقية على شفتيه المنهومتين الملتهبتين، وكان هذا الجمال الفتي لا يزال له رجع في كل جوارحه وجوانحه.
وقفت أمام زيوس!
وكأن حلما لذيذا طوف بعينيه فرأى إلى قصة حبه تمثل بكل ماضيها الحافل أمامه؛ ورأى إلى هذه الأويقات الحلوة التي التذ فيها فتنة ذيتيس تثب فجأة من الأيام الخوالي فتغمره بسحرها وأسرها؛ ورأى إلى ذراعيه المرتجفتين ملتفتين حول خصرها النحيل، وطرفه الساهم الباكي يحول في طرفها الناعس الكحيل، ورأى إلى هذا المرمر الطروب المنصب في تمثالها يكاد يكلمه، فيروي له من أخبار العناق، وسكرات الهوى ما يفيض له دمعه، ويجب قلبه وترتعد من ذكره فرائصه. - «ذيتيس؟!» - «...؟ ...» - «ما لك؟ ... تبكين! ...» - «...! ...» - «لا ... لا ... إلي يا حبيبتي!»
وكانت كلما ألحت في الصمت والبكاء، ألح هو في التلطف والرجاء، وكانت ذيتيس تدرك ما أثارته في قلبه من غرامه القديم، فدلت وتاهت، حتى أيقنت أنه منقاد لما تطلب، ولو كلفته هدم الأولمب، وثل عروش السماء! - «أ... أخيل ...!» - «أخيل؟ ... ما له؟ ...» - «ما كفاني أن يذهب ليلقى حتفه تحت أسوار طروادة حتى يهينه أجاممنون!» - «يهينه أجاممنون؟ يهينه كيف؟» - «أغضب قديس أبوللو وكاهنه الأكبر، ولم يقبل أن يرد عليه ابنته خريسيز؛ فغضب الراهب الشيخ، ودعا ربه، فسخر الطاعون على الهيلانيين، حتى كاد يبيدهم، فلما طلب إليه أن يرد ابنة القديس على أبيها الشيخ، أبى، وأخذته العزة بالإثم، فلما ألح عليه أخيل - ولدي البائس - إنقاذا للجيش، وإبقاء على أبناء هيلاس، رضي أن ينزل عن الفتاة، إذا نزل له أخيل عن بريسيز ...
وآثر أخيل حياة المحاربين ونجاتهم، فنزل عن الفتاة للقائد الغاشم.» - «... ثم ...» - «ثم هو الآن يحترق بينه وبين نفسه، وقد اعتزل الحرب وخلا وحده في معسكره، يجتر أحزانه وتجتره الآلام.» - «لا عليك يا ذيتيس! لا عليك يا حبيبتي! قري عينا ... قري عينا ... فيما أخذه الناس بغير ما ينبغي له، لأذيقنه وجنوده البلاء المبين!»
وعادت ذيتيس جذلانة بعد أن طبع على جبينها المتلألئ قبلة ... كم كان يشتهي أن يطبعها على فمها الخمري ... لولا أن ذكر أنها زوجة. •••
زلزلت ذيتيس قلب الإله الأكبر بدلالها وقوة فتونها، وأرق طيفها الرائع جفنيه، فلم يذق طعم الكرى تلك الليلة بطولها، فهب من مضجعه السندسي فوق سدة الأولمب، واستدعى إليه إله الأحلام، فأمره بالذهاب من فوره إلى معسكر الهيلانيين. «فإذا كنت ثمة فانطلق إلى فسطاط أجاممنون فداعب عينيه واجثم على قلبه، وقل له وهو يغط في نومه العميق، إن الآلهة تأمرك أن تصبح فتنفخ في بوق الحرب، حاضا عساكرك على اقتحام طروادة، فإن زيوس يبشرك بالمدينة الخالدة، ولا يكاد النهار ينتصف حتى تكون جنودك في شوارع إليوم ظافرة منتصرة بإذنه.»
وصدع إله الأحلام بما أمره سيد الأولمب، وانطلق إلى معسكر أجاممنون في أقل من لمحة، فداعب عينيه وألقى في روعه الحلم الكاذب، وعاد أدراجه إلى مولاه.
فلما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، هب أجاممنون من نومه مذعورا، وأرسل رسله إلى رؤساء الجند، فاجتمعوا لديه قبيل الشروق، وأعلن هو انعقاد المجلس الحربي، فصمت الجميع، ونظر بعضهم إلى بعض، وكل يظن أن لا بد من أمر جلل، استدعى انعقاد المجلس في هذه الساعة من بكرة اليوم!
ونهض أجاممون فتحدث إلى القادة، وأخبرهم برؤياه. ولما فرغ؛ نهض نسطور الحكيم المحنك، فسبح باسم زيوس وأثنى عليه، وقال: لو أن أحدا غير القائد الأعلى رأى تلك الرؤيا لأثار استهزاء الجميع، ولرماه الجميع بجنة أو مس ، ولكنه قائدنا وملكنا، وسليل الآلهة العظام، أجاممنون، هو الذي رآها وهي لا شك موحاة إليه من لدن ربنا وسيدنا ومولانا مليك الأولمب، وهو لا بد ناصرنا على أعدائنا الظالمين. فهلموا أيها الإخوان إلى رجالكم فأيقظوهم، وانفخوا فيهم الحمية والحماسة، فإذا أشرقت ذكاء، فسووا صفوفهم واشحذوا عزائمهم، ولنتوكل على أربابنا، وليهتف الجميع باسم زيوس، ولنصل له، ولنسبح تسبيحا كبيرا.»
فلما كان الصبح، ارتجف السهل والجبل، ودوى المشرقان والمغربان بجلبة الجند، وصار كل المعسكر كأنه خلية صخابة من النحل، تطن وتطن، وصارت الساحة الحمراء كأنها سماء معتكرة، لرعدها هزيم ولريحها هزيز، ولبرقها خطف يذهب سناه بالأبصار.
وشرعت الرماح، وأرهفت السيوف، وحملقت المنايا كأنها الأغربة السود ترنق فوق الفرائس، وتدوم فوق الجيف!
ولم يكن أجاممنون قد انخدع بالحلم الكاذب، فشدهه أن يرى إلى استعداد الجيش ونفرته نفرة واحدة، ولم يخدعه كذلك هذا العدد العديد من الجنود طالما أن ليس فيهم أخيل وشياطينه المقاتلة، الميرميدون!
فأوجس في نفسه خيفة، وهاله أن يكون في الأمر سر، ووقر في قلبه أن غضبة أخيل لا بد أن تغضب السماء، واستقر في نفسه أن هذا الجيش العرمرم سائر إلى الهزيمة المؤكدة، ووارد موارد الردى!
وهكذا جبن القائد العام، وندم على أن عقد المجلس الحربي!
فما إن متع النهار، ونظر إلى الجند فرآهم يغمرون الأودية، ويربضون في مشارف الجبال، ورأى إلى طروادة المنيعة تهزأ بكواكب الهيلانيين وجيوشهم، حتى نهض فوق يفاع من الأرض، وهتف بجنوده يقول:
يا أبناء هيلاس! يا بني قومي!
لست أدري إلام تمتد بنا هذه الحرب، وحتام ننفى هنا في هذا المكان السحيق من الأرض!
تسعة أعوام يا قوم، ونحن هنا بمعزل عن العالم؛ ننام في الخيام، ونأوي إلى السفائن، تلفحنا الرياح، ويثور بنا البحر، وتتخطفنا المنايا!
وعبثا ينتظرنا أبناؤنا ونساؤنا في هيلاس العزيزة! ومن يدري؟ فقد يكون بعض أبنائنا أو آبائنا قد انتقلوا إلى هيدز، ونحن هنا نتصارع مع الموت من أجل امرأة آبقة لا عرض لها ولا شرف!
أبناء وطني!
ألا أقولها لكم كلمة سواء صريحة؟! هلموا فاغمدوا هذه الرقاق البيض، ولنعقد مع الطرواديين هدنة يعقبها صلح شريف، ثم لنركب أسطولنا الذي نخر السوس في أخشابه أو كاد، ثم لنعد أدراجنا إلى هيلاس سالمين!
حرب!
أية حرب هذه التي اشتعلت من هولها الرءوس شيبا!
أية حرب هذه التي تودي بأعز المهج، وتذهب بأغلى الضحايا من نفوس الشباب؟! بل أية حرب هذه التي توقع العداوة والبغضاء بين أخوين من أعز أبناء هيلاس، فيتراشقان بالفحش من القول، ويتبادلان الهجر من الكلام، ويوشكان أن يلتحما في نزال يودي بحياة أحدهما من أجل امرأة؟!
أنا - أجاممنون - أغضب أخيل أخي من أجل لذة طارئة، ومتاع غير مقيم!
يا للهول!
لتنته هذه الحرب، لتنته هذه الحرب، ولنعد إلى هيلاس.
وأرسلها أجاممنون خطبة طويلة تفيض بالحق وتعترف بالواقع.
فصادفت من قلوب الجند المعذبين هوى، ولقيت منهم استحسانا وتحبيذا، وطربت لها نفوسهم التي أضناها الحنين إلى الأوطان، وشفها التوق إلى لقاء الأهل، ونبذ نير هذه الغربة الطويلة التي أنهكت قواهم وأوهنت شبابهم.
وفكر كل في أبنائه وأبويه وأحبائه، فهفت نفسه إلى الارتحال عن هذه الساحة المشجية، عسى أن يقضي الحقبة القصيرة الباقية من حياته الخريفية في راحة وهناء بين أهله وذويه.
لكن الآلهة لا تريد هذا!
وكيف تنتهي حرب أثارها باريس بين ربات الأولمب في البدء؟!
أليس هو قد قضى بالتفاحة لفينوس؟
إذن ففينوس تنصره، وهي لذلك تقيه هوان الهزيمة وذل الانكسار؟ ولكنه أين يهرب من حيرا سيد الأولمب التي وعدته نعيما وملكا كبيرا إذا هو كان قد أعطاها التفاحة؟
لقد أسخطها بما لم يسخطها أحد به من قبل، وهي لذلك تصل ليلها بنهارها في تدبير السوء له، والكيد لوطنه وعشيرته وكل من يلوذ بهما.
ثم أيان يهرب من سخط مينرفا كذلك؟!
أليست مينرفا كذلك قد وعدته الحكمة التي لم يؤتها أحد من قبل إذا كان قد قضى لها بالتفاحة؟
إن مينرفا هي الأخرى تتربص به السوء، وتود لو أظفرت به أعداءه فينكلون به، ويسقونه عذاب الهون بما قضائه في التفاحة لفينوس !
سمعت حيرا خطبة أجاممنون من علياء الأولمب، فأفزعها أن ينقاد الجند له، وهالها أن يستعد الجميع للرحيل!
فاستدعت إليها مينرفا، وخاطبتها بصدد ما قال قائد الهيلانيين، ثم اتفقتا على أن تذهب مينرفا إلى معسكر القوم فتلقى البطل المغوار أوليسيز، فما تنفك تحضه وتحرضه حتى يقوم بإلهاب عاطفة الجند، وتفتيح عيونهم على العار الأبدي الذي ينتظرهم في بلادهم، إذا عادوا إليها من غير أن يظفرهم أربابهم بأعدائهم، قانعين من الغنيمة بالإياب! بعد تسعة أعوام في دار الغربة.
وانطلقت مينرفا إلى ساحة الحرب، وكانت ترف كالسحابة البيضاء في دجنة الليل فيما بين جبل إيدا وشواطئ الهلسبنت، حتى إذا شارفت المعسكر أطلت على القوم فوجدت رؤساءهم يتحاورون فيما قال أجاممنون، ورأت إلى أوليسيز متجهما منقبض النفس مثقل الروح، يكاد ينشق من الغيظ مما سمع من كلام القائد العام الدال على الخور واليأس، واستبشرت مينرفا بما رأت من هياج أوليسيز، فهبطت عليه رحمة من السماء، وكلمته قائلة، بحيث لا يراها أحد غيره: «أوليسيز فتى إيثاكا وبطل هيلاس!
أسرعت إليك - إليك أنت - إليك يا أشجع جندي هنا، لأحذرك من أن تنخدع بكلام أجاممنون! إنها خدعة يا أوليسيز! إن القائد العام يحاول أن يسبر عزائمكم ويخبر هممكم فلا تنطل عليكم كلماته.
إنكم لم تنفروا إلى طروادة خفافا وثقالا لتغتربوا عن أوطانكم تسعة أعوام طوال ثم لتعودوا كما أتيتم! بل أضل سبيلا!
أوليسيز! ما ذنب القتلى الأجرياء الذين خضبت دماؤهم ثرى هذه الساحة، تتركونهم في حمرتين من مقابرهم؛ حمرة الدم، وحمرة الخجل مما فرطتم في حقوقهم وتهاونتم في كرامتهم؟
وما خطب السنين التسع يا أوليسيز؟
أكنتم تلعبون يوم ضحيتم بإفجنيا؟
أكنتم تلهون يوم أهدر بروتسيلوس دمه؟
وشرفكم الذي يذبح كل يوم في قصور طروادة!
واستهزاء الأمم بكم، وضحك القبائل عليكم؟!
لا يا أوليسيز! هلم فحرض القادة، وانفخ من روحك في قلوب الجند.»
وسمع أوليسيز إلى ربة الحكمة، فخفق قلبه، وثارت نخوته، والتهبت نحيزته؛ وعاهدها على إضرام المعمعة، وتأجيج لظى الحرب.
وانطلق بين الصفوف فلقي نسطور وأجاكس وبالاميدز وغيرهم من زعماء الجيش ورءوس فيالقه، فحذرهم «من الانخداع بكلمات أجاممنون؛ لأنها حيلة يريد بها القائد سبر عزائمهم واختبار هممهم»، كما تحدثت إليه مينرفا!
وحضهم على التضحية والصبر، وحرضهم على الجلد والاستبسال، وذكرهم بعهودهم ونظر الدنيا جميعا إليهم، ثم حذرهم من العار السرمدي الذي يتربص بهم إذا عادوا من دون أن يفتحوا طروادة!
وتغيرت الحال!
وتجددت روح الحرب، وفتح كل جندي عينيه على مجد الوطن! ونجح أوليسيز!
ونجحت مينرفا! •••
ودهش أجاممنون لهذا التحول المفاجئ في نفسية الجيش، تلك النفسية التي كانت منذ لحظة فقط، مزيجا من القنوط واليأس، وخليطا من السرور المخامر لمجرد الإيذان بالعود إلى الوطن؛ فصارت تضطرم تشوقا إلى الحرب، وتتحرق شوقا إلى امتشاق السمهريات الظوامي!
وما وسعه إلا أن يثني على شجاعة الجنود، و... عدم استسلامهم، و... ترفعهم عن الاستكانة والاستحذاء!
فكان تحوله أعجب، وموقفه بين عشية أو ضحاها أغرب!
ونظر الطرواديون من كوى أبراجهم، فراعهم التفاف الهيلانيين بمدينتهم وإحاطتهم بها من كل جانب وسرى الرعب في قلوبهم، ودعوا ثبورا كثيرا!
وكان يحنقهم أن باريس الذي جر عليهم كل ذلك الكرب، وكان السبب العقيم لهذه الحرب، يقر في مخدعه الوثير، يداعب هيلين المنحوسة، ويلاعبها ويساقيها كئوس الهوى وتساقيه، غير آبه لما يغص به قومه من كئوس الردى والحمام!
وخرج باريس لشأن من شئون لهوه، وعبث باطل من أغراض غرامه الدنيء، فسمع الناس يلغطون ويلمزون، ويلوكون اسمه بألسنة الهوان والتحقير، فثار ثائره، وفارت حماسته، وأقسم ليرين الجبناء من ضروب شجاعته ما تنخلع له قلوبهم، وتطير من هوله ألبابهم.
وذهب من فوره إلى أخيه هيكتور، فطلب إليه أن يرفع الراية البيضاء، ويخترق الصفوف حتى يكون في وسط الميدان، وينادي قائد القوم ليتفق معه على أن يستريح الجيشان طيلة هذا اليوم، ثم لتكون مبارزة بين باريس - على أن يمثل الطرواديين - ومنلوس - على أن يمثل الهيلانيين - فإذا فاز أحدهما بصاحبه، وأظهرته الآلهة عليه، عاد إلى قومه فرحا مسرورا!
وطرب منلوس لما اقترحه غريمه الذي كان كالساعي إلى حتفه بظلفه؛ وصمتت الأفواه وحملقت الأنظار، وتلمس كل جندي في الجيشين قلبه من شدة الخفق وثورة الوجيب، وبرز منلوس وبرز إليه باريس، ومرت الأحداث سراعا أمام عيني ملك أسبرطة، فذكر عشاق هيلين وصدود هيلين، وذكر يوم الخيرة الكبرى، يوم رضيته من دون عشاقها الكثيرين بعلا كريما لها، وذكر يوم احتفائه بباريس واحتفال أسبرطة كلها به كضيف عظيم لملكها، وذكر أن هذا الفارس الذي تزلزل من تحته الأرض إن هو إلا الغادر الختال الذي اعتدى كأحقر الجبناء على عرضه، ولطخ بوحل الفضيحة شرفه، ثم ذكر كيف فرت زوجه معه تحت جنح الليل ... ذليلة للذتها أسيرة هواها ... فثارت في قلبه زوبعة من الجنون، وتفجر في رأسه بركان من الغضب، واتقدت في عينيه جحيم بأكملها من النقمة، واندفق الدم يغلي في ساعديه، وانقض على خصمه فأوشك أن يحطمه، لولا أن هاله هذا الطيف الغريب الذي كان يحمي باريس منه، واقفا إلى جانبه، وخلفه، وأمامه، ومن فوقه، ومن كل جهة جاءه منلوس منها، يذود عنه، ويتلقى الضربات الأسبرطية فوق درعه المسرودة السابغة ذات الحلقات!
ماذا؟
آه! إنها هي! هي بعينها! هي فينوس! لقد أسرعت إلى باريس تحميه في ذلك الروع الأكبر! فلما أوشك أن يستسلم عز عليها ألا تنقذ حياته وهو هو الذي حكم لها بالتفاحة.
لقد رفعته إلى عل!
وطفق منلوس يبحث عنه ها هنا وها هنا، ولكنه لم يعثر له على أثر! لقد ذهبت به ربة الحب إلى مخدع الحب!
إلى هيلين!
ولكن ويل له من هيلين! لقد كانت تطلع على الساحة فترى إلى مبارزة البطلين، فهالها أن يبطش ملك أسبرطة بحبيبها، لولا هذه السحابة البيضاء التي كانت تحميه دائما من خصمه وتقيه.
وعذلته هيلين على هذا الفرار المشين، فكان عذلها له أشد على نفسه من ضربات منلوس.
معركة بين الآلهة
وقفت ندمانة الآلهة «هيب» اللعوب الهيفاء، تسقي أربابها خمرا! وكان الأولمب يزخر بسادته.
فهذا زيوس العظيم مستويا على عرشه الضخم المرصع بالجوهر والياقوت.
وهذا أبوللو سيد الشمس وصاحب القوس يوقع على قيثارته أشجى ألحانه.
وهذا فلكان الحداد القذر قد بدا في حلة جديدة ذات ألوان صارخة.
وذاك مارس الجبار، إله الحرب، يلاعب الأسنة، ويداعب الصعدة المرنة.
وذلك هرمز قائد الأرواح إلى هيدز، ورسول الآلهة إلى سكان الأرض، يرسل في الملأ نظراته الساخرة، ونكاته المنكرة.
وهذه حيرا مليكة الأولمب، تود لو تضرم النار في قصور مولاها إن لم يقض بانتصار الإغريق!
وهذي مينرفا الحكيمة الراشدة تصمت صمتا أبلغ من وحي الأولمب كله، ترى هل تستطيع تسخير هذه العصبة من الأرباب لسحق باريس وقومه وأحلافه!
ثم طائفة كبيرة من الآلهة وأنصاف الآلهة ...
وهيب اللعوب تسقي الجميع خمرا!
وللخمر الأولمبية كما لخمر هذه الأرض نشوة وسورة، ولها على رءوس أربابها صولة وسلطان، وهي مثلها تروي حتى تبلغ المشاش وتتغلغل حتى تمتزج بالدم!
وهيب تروح وتجيء حلوة بسامة، كأنها مدامة!
وروي الجميع إلا حيرا!
وانتشى الجميع إلا مينرفا!
لقد كانتا لا تفكران إلا في هذه الساحة الحمراء وما يقع فيها من بلاء!
أليس قد ذهب الهيلانيون ينتقمون لكبريائهما من باريس ومن قوم باريس؟
ألم تنصح عروس الماء - إيونونيه - لباريس ألا يصيح لفينوس وأن يعطي التفاحة لمينرفا؟
ألم تحذره من التعرض لنقمة الربتين العظيمتين؟
غير أنه أبى!
وآثر الجمال والحب، ثم الشقاء والحرب مع فينوس، على القوة والصولة، والملك الكبير، والحكمة والنورانية مع حيرا أو مينرفا!
وبذلك جلب على نفسه وقومه وبال هذه الحرب ونكالها!
وليس اليوم أروح إلى قلب حيرا، وأرضى إلى نفس مينرفا من أن تنصرا جحافل الهيلانيين، وتثبتا في ساحة الحرب أقدامهم!
ولكن أخيل منفرد في معسكره وهو مفئود محزون!
وقد وعدته أمه بالإثآر له، وكلمت فيه زيوس سيد الأولمب، ولم تزل به تسلط عليه ذكريات غرامهما القديم حتى زلزلت أركانه وسلبت جنانه، وانتزعت منه وعدا قدسيا بأن ينتقم من أجاممنون وجنوده لأخيلها العزيز!
تانكم إذن حيرا ومينرفا.
وذاكم زيوس كبير أرباب الأولمب.
أما أبوللو فهو لا ينسى ما فضحه أجاممنون به في بنت كاهنه، وهو ما يفتأ يتربص بالقوم، ويدبر لهم سوء المنقلب!
وأما فينوس ...!
فتلك أبر بباريس وبقوم باريس، وهي أبدا ستحمي باريس وجند باريس؛ لأنها ستذكر له أبدا أنه نصرها على حيرا كما نصرها على مينرفا!
وكذلك أوقدت هذه الحرب العداوة والبغضاء بين الآلهة، وأضرمت النيران في قصور الأولمب!
فللآلهة في جبل «إيدا» معسكران كما لبني الموتى حول طروادة معسكران! •••
أوشك منلوس أن يفتك بباريس لولا أن أنقذته فينوس ولقيته هيلين عاذلة مغضبة، لكنه نسي نفسه بين ذراعيها واستماحها أن تدع حديث الحرب إلى نشوة الحب، «على أن أعود فأثأر لنفسي من منلوس العنيد الذي لولا حماية مينرفا وحيرا له لبطشت به وجعلته خبرا في الذاهبين.»
وكان العهد بين بريام الملك وأجاممنون قائد الهيلانيين أن يلقى المغلوب السلم، فلما فر باريس تقدم أجاممنون وطلب أن يسلم الطرواديون هيلين الأرجيفية، وأن يقدموا دروع باريس وسيفه وفرسه وجميع عدته الحربية لتكون أثرا خالدا يحتفظ به الإغريق ويتوارثونه رمزا لمجدهم الحربي وتذكارا لفوزهم وغلبهم.
بيد أن الطرواديين رفضوا هذا: «لأن أحدا من المتبارزين لم يظفر بالآخر، ولأن قطرة من الدم لم تصبغ أديم الأرض فتكون شاهد النصر».
وكانت بين الفريقين مهادنة.
فخشيت حيرا ومينرفا أن يطول أمدها، واتفقتا على أن تذهب مينرفا هذه المرة أيضا فتضع حدا لهذا السلام الذي يشمل الساحة، وأن تثير الحرب من جديد!
وذهبت مينرفا فاندست بين صفوف الطرواديين، وسحرت نفسها فبدت في عدة «لاودوكوس» البطل الطروادي وهيئته، ثم وترت قوسها وأرسلت سهما مراشا نفذ في جسم منلوس إذ هو يبحث عبثا عن باريس.
وتجددت الحرب بين الفريقين بسبب هذه السهم، فكانت حربا زبونا، طاشت من هولها الأحلام، وبلغت القلوب الحناجر، وزاغت الأبصار فما ترى إلا حميما.
وعز على فينوس أن ينهزم جند طروادة وهم أولياؤها وصنائعها، فذكرت أن لها في أرباب الألمب عاشقا هيمانا يترضاها ويلتمس وصلة منها تشفي قلبه الخفق، وتداوي هواه الثائر وأعصابه التي مزقها الحب، وأذابها لظى الغرام، فانطلقت إليه تغريه بكل ابتسامة تلين الحديد، وكل نظرة ساجية تفجر الماء من الصخر أن يقوم من فوره فينفخ من روحه في قلوب الطرواديين، ويؤيد بنصره صفوفهم.
ذلك هو مارس، مسعر الحروب وموري لظاها!
وطرب الطرواديون لوجود رب القتال في صفوفهم يناصب أعداءهم الحرب فيجعلها ضراما، ويصلصل دروعه فيوقع في قلوبهم الرعب، ويثير في نفوسهم الهلع، ويروعهم ترويعا.
وكانت إلى جانبه فينوس تنفث فيه سحرها، فكان لا يلقى فارسا إلا طعنه فيكبه على وجهه، ثم يشكه فيجفوه
1
من الأرض كأنما يتخذ منه هزوا وسخريا!
وهرع أبوللو فأمطر الهيلانيين وابلا من سهامه التي ما مست أحدا إلا أردته، وما أقصدت صدرا إلا شقته.
وساء منقلب الهيلانيين!
وعز على حيرا ومينرفا أن ينهزم أصحابهما، وأن يصلوها من مارس وأبوللو نارا حامية، وهزيمة منكرة، ثم لا يكون بحسبهم ضربات مارس اللزاب، وسهام أبوللو المفوقة، بل تطحنهم هذه الصواعق الجهنمية التي سلطها كبير الآلهة عليهم - زيوس سيد الأولمب - الذي أصبح كل همه أن ينتقم لأخيل ابن حبيبته ذيتيس من هؤلاء الإغريق ناكري الجميل!
وعبست حيرا عبوسا ثقيلا، ودعت إليها مينرفا، وجلستا تفكران! وبدا لهما أن يذهبا إلى الأولمب فيستدعيا رب البحار العظيم نبتيون فيضع حدا لهذه القسوة التي يبديها مارس وزميله أبوللو.
ولكن كيف السبيل إلى غل يد زيوس، ورد صواعقه التي تنحط على الإغريق من عل، فلا تبقي عليهم ولا تذر؟
آه! لا سبيل إلى ذلك إلا بمنطقة فينوس السحرية! سستوس! تلك المنطقة العجيبة التي تغوي كل من نظر إليها، وتشعل في قلبه لظى من الهوى، وضراما من الحب. لا بأس إذن من ممالقة فينوس حتى تنزل عن منطقتها أياما لمليكة الأولمب وكبيرة رباته، ثم لتذهب مليكة الأولمب بمنطقة فينوس لتعبث كثيرا - أو قليلا - بقلب زيوس؛ الذي ما يفتأ يرسل صواعقه على الإغريق من جبل «إيدا»، وليس شك في أن سيصبو زيوس حين يرى منطقة فينوس تزين خصر حيرا وتبرز مفاتن صدرها؛ فإذا عصفت به فورة التشهي، وحاول قبلة واحدة من آثر زوجاته إليه، فلا بأس من أن تمنحه إياها، ولكن لتنتهز سكرته العميقة وتسلط عليه إله النوم الجبار - الذي هو دائما في خدمتها أينما سارت - فيغرقه في سبات عميق، ويظل به يداعب أجفانه، ويعسل أحلامه حتى يكون نبتيون قد انكشف لمارس وصاحبه وأجنادهما، فيقذف الرعب في قلوبهم، ويزلزل أركانهم، ويوهي عزائمهم؛ ويختلط حابلهم بنابلهم، فيولوا مدبرين، لا يلوي أحد على أحد!
وقد أفلحت خطة حيرا.
فهذا مارس ما يكاد يلمح نبتيون حتى يذكر هذه الأيام السود التي صب عليه فيها رب البحار سوط عذابه،
2
فيخفق قلبه، وترتعد فرائصه، ويكبو زنده، وتذهب ريحه، وتنحطم شوكته ... ثم يقذفه نبتيون بسهم - وقل أن تطيش سهام نبتيون - فيصرخ إله الكريهة صرخة كريهة، وينفتل من الحلبة الحمراء موليا عقبه، ساخطا على فينوس وما يجر إليه غرام فينوس!
وولى في إثره أتباعه الطغاة، آلهة الشرور: إيريس رب الشغب، وفوبوس رب الرعب، وميتوس رب الخوف، وديميوس رب الفزع، وباللو رب الهلع ... عصبة الإجرام وشرذمة الآثام، والطغمة الباغية من أوشاب الأرباب!
وأفيق الإغريق مما حل بهم من روع ...
ونظروا فرأوا مارس وملأه مولين الأدبار، والدم يتدفق من جراحهم جميعا؛ فأفرخ روعهم وأمن سربهم، ثم لموا شعثهم، وهجموا على أعدائهم هجمة رجل واحد، فأدالوا لأنفسهم، وثأروا لكبريائهم، وانصرفوا يتفقدون جرحاهم، ويحرقون جثث قتلاهم الشهداء!
يا للهول!
لقد قتل أمبريوس البطل! قتله تيوسيز، غير راحم شبابه، ولا مبق على عوده الفينان!
وأمفيما خوس! لقد صرعه هكتور بن بريام، غير راث لأمه العجوز الهرمة، ولا آبه للباكين حوله والمعولين!
وديوميد! زين شباب هيلاس، وآثر فتيانها إلى قلوب الآلهة! لقد جرحه باريس بسهم أوشك أن يكون قاتلا! لولا أن أدركه جنوده فأسعفوه، وضمدوا جرحه، وإلى المعسكر حملوه!
وأجاممنون! لقد برز في المعمعة، ودل على الفروسية التي بهرت الطرواديين، بيد أنه أصيب بسهم نفذ فيه؛ فارتد على عقبه يصرخ ويتلوى!
وأوليسيز! أوليسيز العظيم! لقد أرسل إليه سوكوس أمهر رماة طروادة بسهم مفوق، فجعله ينتفض كما ينتفض المحموم، ويخر إلى الأرض فيتأود كمن لدغته أفعى، ولولا أن أدركه أجاكس ومنلوس فأسعفاه لكان من الغابرين!
وأجاكس هذا كذلك! لقد أتاه سهم كاد يذهب به لولا بقية من حياة !
ومخاون! لقد روعه باريس هو الآخر فشكى وبكى! •••
أرأيت؟
لقد نال الطرواديون وأحلافهم من جموع الهيلانيين، ولولا أن أغاث هؤلاء نبتيون القاهر لكانت ملحمة فاصلة في هذه الحرب الشعواء!
وكأن السماء قد أيقظت ضمائر اليونانيين، وبرهنت لهم على أنهم ما لم يخض معهم المعركة أخيل فلا نصر لهم ولا غلبة، ولا محيص من هذه الهزائم المتتالية، والجروح التي لما تكن قصاصا لولا أن أدركهم نبتيون!
عرف اليونانيون هذا؛ وآمنوا بعد هذا الفزع الأكبر أن لو كان أخيل بينهم يوم هذه الكريهة لما حفلوا بمارس وأتباعه، ولأظفرتهم آلهتهم بأعدائهم، ومارس وملئه، وأبوللو وجنوده جميعا.
وانطلق نسطور فعرض على أجاممنون مصالحة أخيل وإرضاءه، وبعد لأي رضي القائد العام أن ينطلق نسطور
3
وأوليسيز وأجاكس وفونيكس إلى معسكر أخيل، مندوبين عن القائد ليعرضوا عليه صلحا شريفا، وموثقا كريما يرضاه الطرفان؛ ولكن أخيل يثور لكرامته ويأبى إلا ... بريسيز ... ثم لا يشترك في حرب ضد الطرواديين.
ويلح أوليسيز على صديقه القديم ... ولكن صديقه القديم ما يزداد إلا شماسا وما يزداد إلا أنفة.
ويكون فونيكس قد نالت منه حجج أخيل، ويكون قد خلبه بيانه، وبهره حسن منطقه، وطلاقة لسانه، وعظيم شجاعته، فيؤثر البقاء معه مخاصما الهيلانيين جميعا حتى يرضى أخيل، فيتركه أوليسيز وصاحباه، ويعودون إلى أجاممنون ... بخفي أخيل! •••
وهكذا تتم كل هذه الأحداث الجسام.
وزيوس يغط في نومه الهادئ الناعم يوما بأكمله، حتى يبطل السحر، وتذهب الرقية، فيهب الإله الأكبر من سباته حيران أسفا؛ لأنه ينظر من ذروة جبل إيدا، فيرى إلى نبتيون الجبار يصول في ساحة طروادة ويجول، ويصرع الأبطال، ويجندل الأقران، ويرى إلى مارس العتيد وجنوده الأقوياء، يفرون من وجه سيد البحار، لا يلوون على شيء.
ويرى أيضا إلى أخيل لا يزال منفردا في فسطاطه، قريبا من سفائنه، والحزن يمضه، ويوهي جلده، فيحزن الإله الأكبر، وينفذ إيريس إلى نبتيون ليزجره، ويأمره أن يغادر المعمعان في الحال، وإلا أرسل عليه سيد الأولمب صواعقه، وهناك لا يكون له حول ولا تكون له قوة.
ويغادر نبتيون الموقعة ولكن بعد أن دمر الطرواديين تدميرا!
أندروماك
استطاع نبتيون أن يزلزل قلوب الطرواديين.
وحسبه أن يفر من ميدانهم مارس الجبار، وأن يفر في إثره أتباعه: آلهة الروع، وفينوس، أصل البلية التي حاقت بإليوم لينتقل النصر طفرة من جانبهم إلى جانب الهيلانيين.
وبرزت شمس اليوم التالي على الساحة الملطخة بآثام الإنسانية المضرجة بأوزار الآلهة، المصطخبة بأنين الموتى، لتشهد من جديد صراع الضغائن وتصاول الأحقاد، وأخذ السخائم بعضها برقاب بعض، وهذه الكتل البشرية يفني بعضها بعضا.
واشتد الهيلانيون في طلب الطرواديين، واستبسل هؤلاء، فكانت أمواج الغزاة تتكسر على صخور شجاعتهم، ولكنها لا تتلاشى.
وعظم الخطب، ومارت الأرض، وانعقد رهج الحرب مما تثير الخيل من هبوات، واشتجرت الهيجاء حتى لكأنها قطع من الليل، وصلصلت الدروع حتى لكأنها عواء ذئاب الجن، واستشرى الشر حتى لا ترى إلا إلى منايا وآجال، في قتال ونزال. وأحس جنود طروادة بلغوب الوغى، وشعروا بالرجفة تأخذهم من كل جانب، وكان هكتور العظيم يخطف كالبرق بين صفوفهم يحضهم ويحرضهم؛ بيد أن الشجاعة لا تغني في موقف الموت شيئا، فقد شرعت فيالقهم تتقهقر ببطء نحو الأسوار حتى إذا بلغوها لبثوا ثمة يصلون أعداءهم وابلا من السهام، والرماة يساعدونهم من فوق الأبراج.
لكن الهيلانيين ما تفتر لهم همة، ولا يصل إلى حماستهم كلال؛ فقد صمدوا في مواقفهم وثبتوا وصابروا، وأبدوا من ضروب البسالة واليأس ما حير ألباب أعدائهم، وجعلهم إلبا عليهم واحدا!
وفي عنفوان المعمعة لقي هيلانوس بن بريام الملك، أخاه المغوار هكتور يقصف بين الصفوف ويرعد، ويرغي بين المحاربين الصناديد ويزبد؛ وكان هيلانوس خير كاشفي الغيب وعرافي الطرواديين، وكان حبيبا إلى الآلهة، جميل الطلعة، بسام الثغر، حتى في الحرب، وكان إلى ذلك حازما موفور الحزم، صارما شديد الصرامة، يقهر الغير على احترامه، ولو كانوا يكبرونه سنا، فلما رأى هكتور يعبس العبوسة القمطرير لما يحيق بجنوده من أذى، ذهب إليه قدما، وقال: «أي أخي! أي هكتور العظيم!»
وما كاد هكتور يسمع النداء الحبيب حتى هرع إلى أخيه يلتمس في صدره الحنون بردا لحر تلك الجحيم التي لفحت شجعان طروادة بزفيرها، وصاح به: «هيلانوس! أنت هنا؟ ادع لنا آلهتك يا أيها العزيز! لقد كؤد النصر بعد إذ حسبناه في أيدينا أمس، ادع لنا آلهتك فقد عيينا بهؤلاء الهيلانيين الأبالسة!» «هكتور! أصغ إلي! لن تظفروا بهؤلاء ما دامت مينرفا معهم تؤيدهم، وتشد أزرهم، وترد عنهم سهامكم فتجعلها في نحوركم!» «هكتور! هلم إلى القصر يا أخي، فالق والدتك المرزأة ثمة؛ فتوسل إليها أن تذهب من فورها، مرتدية أبهى ملابسها إلى هيكل مينرفا، فلتبك عند قدمي تمثالها، ولتقدم الضحايا، ولتقرب القرابين، ولتحرق البخور المقدس، الممزوج بالأفاويه والصندل وطيوب الهند، ولتنذر أن تذبح اثنتي عشرة بقرة من خير أبقار إليوم، فتتصدق بلحومها، وتهب الكهنة شحومها، إذا وعدت ربة الحكمة أن ترفع مقتها وغضبها عن طروادة!»
وألحف هيلانوس على هكتور، فألقى نظرة على المعركة، وكاد قلبه يتفطر على هذه الأشبال التي تسقط هنا وهناك، وفي كل صوب وحدب، لاقية حتوفها في سبيل إليوم، وذرف عبرات تذوب حنانا ورحمة، ثم لوى عنان حصانه إلى البوابة الكبرى، فدخلها وقلبه يتصدع من الهم، ووقف مرة أخرى يلقي على الساحة المضطربة نظرة قائد بجنوده رءوف رحيم.
وانطلق إلى القصر الملكي المنيف ذي الشرفات.
وهناك، عند بوابة القصر، وتحت السنديانة الكبرى الوارفة، اجتمع حول هكتور نسوة كثيرات، هن أزواج المحاربين البواسل وأخواتهم وبناتهم وأمهاتهم كذلك، ازدحمن حوله يسائلن عن رجالهن، هل أودى بهم حتف القضاء، وأرووا ثرى الوطن العزيز من دمائهم، أم لا يزالون يناضلون الأعداء، ويردون عن طروادة حمي البلاء؟
ولكن هكتور يوشك ألا يسمع لهن؛ لأنه ينطلق من فوره إلى داخل القصر، وها هو ذا يهرع في أبهائه العظيمة، مارا بتلك الغرف الخمسين التي تضم أزواج أبيه وأطفالهن، ثم بالبهو الأكبر ذي العماد الشامخة، ثم بالجواسق المذهبة ذوات الدمى والتماثيل، حتى يكون عند ردهة الملكة، فتلمحه أخته الجميلة ذات المفاتن، لاءوديس فتجري إليه، وتلف ذراعيها حول ساقيه فيتخلص منها برفق، وتكون والدته قد أحست وجوده فتهرع إليه، وتهتف به: «هكتور! بني، ماذا جاء بك؟ لمن تركت الساحة يا ولدي؟ أهكذا تدع أبناء طروادة للموت الأحمر، وتجيء إلى الحرم تنشد الراحة يا هكتور؟ لا. لا. لا أحسبك تتخلى عن جنودك لحظة، ولكن هلم إلي! إليك هذه الكأس من أشهى ما عصر باخوس! رو ظمأتك منها، وعد إلى الميدان.»
بيد أن هكتور يتجهم تجهمة مغضبة، ويهتف بها: «أماه! حاشاي يا أماه! حاشاي يا أعز الأمهات! لن تهرق الخمر باسمي، وتلك دماء إخواني تهرق باسم الوطن وتراق! حاشاي يا أماه أن أتذوق قطرة واحدة من تلك الكأس، وهناك ... في سعير المعمعة، يجرع أبناء طروادة الأعزاء كئوس المنايا وذوب الحمام! أريقيها على مذبح مينرفا إذن! هلمي؛ ولتك معك أزواج القادة والمحاربين جميعا، فالبسن أبهى ثيابكن الحريرية المفتلة وحبركن المفوفة، وانطلقن إلى هيكل مينرفا، فصلين لها، واحرقن البخور الغالي من الأفاويه والصندل وأفخر طيوب الهند، ثم اركعن عند قدمي تمثالها المعبود، وابكين بكاء طويلا، وسبحن باسم إلهة الحكمة، واغسلن الأرض عندهما بدموعكن، ثم توسلن إليها أن ترفع عن الطرواديين مقتها وغضبها، وانذرن أن تقربن - لو فعلت - اثنتي عشرة بقرة من خير أبقار إليوم، تتصدقن على الفقراء وأبناء السبيل والمعترين بلحومهن وعلى كهنة الهيكل بشحومهن. «أماه! إن لم تفعلن كما أخبرتك فلا نصر لنا، بل لنا الهوان والهزيمة المؤكدة، وعليك وعلى نساء طروادة السلام من أربابها الكرماء!»
وصمت هكتور! واربد وجه هكيوبا!
وانطلق البطل إلى قصر أخيه، إلى قصر باريس، فوجده يلهو ويلعب، ولا يأبه بهذه الأرواح الغالية التي تصطرع في الميدان، فأخذته الحنقة، وصب عليه شواظ غضبه ... «أنت! أنت باريس بن بريام؟! عجبا وزيوس الأكبر! أنت هنا تلهو وتلعب، وتدع ضحاياك تنافح عن آثامك تحت أسوار إليوم، وتذوق الردى بجريرتك؟!»
وأطلق العنان للخيل، فذهبت عربته الحربية المطهمة تطوي الطريق إلى الميدان.
أما أمه فقد جمعت نساء طروادة وجماعة المتوسلات
1
وذهبن جميعا إلى هيكل مينرفا، وصلين وبكين، وغسلن بدموعهن قدمي التمثال المعبود، ونذرن لإلهة الحكمة ما أمر به هكتور أن ينذر.
ولكن!
لقد أصمت مينرفا أذنيها! ولم تصخ لهذه التوسلات المكلومة، ولم ترق لتلك العبارات المسفوحة، ولم تطمع أبدا في ضحايا وقرابين تكفر عن خطيئات باريس؛ ذلك الراعي المفتون الذي آثر الجمال الفاني على الحكمة الخالدة فقضى في التفاحة لفينوس، ربة الحسن والحب، تلك الحية الرقطاء التي لدغت طروادة بأسرها، فهي إلى اليوم تصرخ من سمها الزعاف يسري في أرواح أبنائها، فينكل بهم ويكاد يقضى عليهم ... ولا ذنب لهم ولا جريرة إلا لبانات الهوى الآثم، والغرام الشائن، والحب المجرم المهين! •••
وأحس هكتور وهو منطلق إلى الميدان كأن منيته تنوشه من مكان بعيد، وأحس في صميمه بشوق حار إلى لقاء أندروماك زوجه العزيزة عليه، الأثيرة إلى قلبه، شوقا يشبه وداع الحياة في حرارته وأسره، وشوقا يشبه الاستمتاعة الأخيرة من مباهج هذه الدنيا، في حزنه الصامت، ومعناه العميق!
وأحس كذلك بلوعة إلى التزود بنظرات من سكمندريوس طفله الحبيب؛ هذه الهبة السماوية التي توشك أن تصبح نقمة من نقمات اليتم، إذا كان صحيحا هذا الهاجس الذي وقر في قلب هكتور والذي صور له أنه مقتول اليوم لا محالة.
وألح الشوق على قلب البطل، فثنى عنان الخيل إلى الطريق المؤدية إلى قصره الممرد ليشفي حاجات الفؤاد المعذب.
وذهب من توه إلى مخدع أندروماك! ولكنه لم يجدها هناك، فبحث عنها في الغرف والردهات والأبهاء، ولكنه عبثا حاول الوقوف لها على أثر!
وسأل عنها حشم القصر، وكأن صدره يعلو ويهبط حين كن يتحدثن إليه عن أندروماك العزيزة وما تلقاه دائما من القلق، وما تتفزع به روحها من الهواجس ما دام زوجها يخوض خبار هذه الحرب!
فهل هي من الأرض الثقيلة المخضبة بالدماء هذه العواطف المشتركة، أم هي من السماء الصافية التي لا يرتفع إليها نغل، ولا يورى فيها زند عداء ولا تشب فيها سخيمة؟!
وأخبرنه أنها يممت شطر برج طروادة الرفيع، تشهد منه ما يحدث في المعركة من أهوال، وذلك عندما ترامت الأخبار أن الإغريق قد ضيقوا الحصار على جنود طروادة، وأنهم خضدوا شوكتهم، وفلجوا عليهم ونخبوا قلوبهم، وضعضعوا أركانهم، فريعت أندروماك، وذهبت من فورها إلى البرج لتطمئن على رجلها وذخر حياتها وسندها في هذه الحياة السوداء.
ونهد هكتور إلى البرج، فلقيته أندروماك بعينين مغرورقتين ووجه شاحب وجبين مغضن وصدر ينوء بما فيه من الهموم.
كانت تقف ابنة إيتيون الجميلة البارعة، وعلى ذراعها المرمري الفاتن طفلها الرضيع الشاحب، الذي حل بهذه الدنيا الهازلة ليكون عبرة سخينة من عبرات الحزن القاهر، ثم ليكون مأساة وحده حين تضع هذه الحرب الضروس أوزارها، وحين يشب فلا يرى حوله إلا الباكين والمحزونين، وإلا هذه المدينة الكاسفة التي تعصف بها آلهة الحرب من غير ما شفقة ولا مرحمة!
وتعلقت أندروماك بذراعي زوجها، وشرعت تنظر في عينيه المبللتين، وتقول له: «هكتور! رجلي وذخري من هذه الحياة! إلى أين أيها الحبيب؟ أما لهذه الحرب الطاحنة من نهاية؟ أهكذا قضت الآلهة على طروادة الخالدة بالحزن الأبدي والأسى المقيم؟ هكتور! ألا تفكر في سلم يرفرف على ربوع الوطن، ويبقي على هذا الشباب الذي تعصف به ريح الحرب؟
رجلي!
إن آلافا من الهواجس السوداء تضغط على قلبي تحدثه بالعقبى الوخيمة والأيام الباكية القريبة!
هكتور؟
هذه أشباح القتلى الأعزاء من بني وطني تحدثني عن مأساة أبي وإخوتي السبعة، والمئين من أهلي، قتلهم أخيل الجبار بيده السفاحة، وجعل من جثثهم كومة عالية تقص على القرون تاريخنا الحزين!
لقد هرعوا جميعا إلى هذه الساحة من قيليقية ملبين نداء الملك، الملك التاعس، أبي، الذي سعى إلى طروادة لينام أبد الدهر في ظل أسوارها نومة لا قريرة ولا هانئة.
هكتور!
لقد نام أعز الآباء في تراب ساحتكم دفاعا عن مدينتكم، ولكن المأساة لم تتم بقتله وقتل أبنائه والمئين الأعزاء من بني جلدته، ولكن المأساة أبت إلا أن تكون أمي ... آه يا أمي العزيزة! أن تكون هذه الأم صفحة محلولكة من صفحاتها التي تفجر الدم في القلب، وتضرم النار في الحشا!
لقد ساقها أخيل يا هكتور في جملة السبي، ولولا القود الكبير والفدية الغالية التي بذلناها من أجلها لكانت إلى اليوم - لو مد في أجلها - إحدى خادمات الأعداء الذليلات اللواتي لا يملك لهن في هذا الآسار عزة، ولا يقدر لهن أحد شأنا! لكنها سقطت هناك؛ في هامش هذه الساحة الظالمة، ضحية سهم مراش من قوس الإلهة ديان، فكأنما رفضت أن ترفع كأس هذه الحياة إلى فمها النقي الطاهر، بعد إذ لوثته أحداث الدهر بذل الإسار!
هكتور!
كل هذه النوازل هدت نفسي، وحطمت قلبي، وأثلجت مشاعري، وجعلتني بائسة تاعسة موهونة لا حول لي، لولا أنك إلى جانبي تأسو جراحي وتؤنس وحشتي، وتشيع نورا متلألئا في ظلمات حياتي! فأنت لي اليوم أب نعم الأب، وأنت لي في وحدتي بقلبك الحنون أم نعم الأم، وأنت لي أخ، بل أنت لي كل شيء في هذه الدنيا!
هكتور!
ابق إلى جانبي فأنا لا أستغني عنك بأب أو أم أو أخ، أو بمملكة يزين مفرقي تاجها المشرق ويشد يميني صولجانها الرنان!
ابق إلى جانبي يا هكتور!
ابق إلى جانبي وارع هذا الطفل، ولا تسلمه وتسلمني لليتم والشقاء.
هكتور!
إن المستقبل يعبس من اليوم لولدك سكمندريوس؛ فرده عنه، وادفع عاديات الزمان من الآن عن فلذة كبدك وحبة قلبك، واستشعر نحوه حنان الأب الرحيم، ولوعة الأم المفئودة!
وخنقتها عبرة حجبت عن ناظريها نور الحياة، وحبس منطقها كمد ممض وحزن أليم؛ ووقف هكتور مبهوتا لا يحير، ينظر إليها مرة، وإلى ولده أخرى، ثم يلقي على طروادة نظرات.
واستيقظ بطل إليوم من غفوته الصاحية، وانطلق لسانه من عقاله يقول: «أندروماك! أيتها الحبيبة! اسمعي إلي!»
لا تخالي يا أعز الناس إلى أن قلبي قد تحجر فلم يخفق لكل ما ذكرته من قبل! لا! لقد خفق كثيرا بمثل هذه الهواجس، بل هو قد ذكرك وقد تصور أن هكتور مقتول، وكأنك كما ذكرت عن أمك في جملة السبي، وأنك تئوبين مع أحد القادة الهيلانيين إلى هيلاس! وأن القائد الغليظ قد ضمك إلى حريمه، أو بالغ في الإيذاء فجعلك إحدى سراريه أو خدمه، كلما مر بك أحد أشار إليك بالبنان: «مسكينة! هذه زوجة هكتور فتى طروادة، وابن ملكها المقدام، البطل الذي سفك الدماء وسعر الهيجاء، تعمل هنا اليوم خادمة ذليلة، كسيرة القلب، مهيضة الجناح، تأتمر بأمر السفلة والأخساء!» «لا يا أندروماك! لقد ذكرت ذلك جميعا ومن أجل هذا فأنا لهذه الحرب وأنا لهؤلاء الأعداء! سأحطمهم! سأدك الأرض من تحتهم! سأسقط السماء عليهم كسفا! من أجلك! من أجلك يا أندروماك! لا ... لا ... بل من أجلك يا طروادة! يا وطني! يا بلادي!»
وسكت فتى طروادة قليلا، ثم ذكر المعركة وما يدور فيها، فتقدم إلى زوجه فطبع على جبينها قبلة كلها هموم، ومد يده يريد أن يأخذ سكمندريوس فيداعبه أو يودعه؛ ولكن الطفل صرخ مروعا من هذه الخوذة النحاسية المذهبة التي تحمي مفرق أبيه! وابتسم والداه برغم حزنهما، ورفع هكتور الخوذة وألقاها على الأرض المعشوشبة، وتناول الطفل فأرقصه قليلا حتى انفرجت شفتاه عن ضحكة عالية، ولثمه كما تلثم العاصفة فننا وارفا فتلفحه، ودفع به إلى حضن أمه.
وانطلق يطوي الطريق إلى المعمعة!
بتروكلوس
إن يكن قد أصاب الطرواديين قرح فقد أصاب الهيلانيين قرح مثله.
ذلك أنه ما كاد يغادر نبتيوما حومة الوغى، صادعا بأمر الإله الأكبر، حتى أفاق الطرواديون وأحلافهم، كما أفاق الهيلانيون من قبل حين غادر الحومة مارس وزبانيته.
أفاق الطرواديون إذن، وصحا زيوس من رقية حيرا، فأقسم إلا أن تدور الدائرة على جنودها من شانئي أخيل؛ وإلا أن يحيق بهم مكر هذا السحر الذي ملأ جفنيه، وغلق سمعيه، وأطلق أيديهم في أبناء طروادة يضربون منهم كل عنق كريم وكل بنان!
وما هي إلا أن لم الطرواديون شعثهم، ورتقوا فتقهم حتى استطاعوا أن يعيدوا الزحف، ويأخذوا أعداءهم المزهوين بنشوة النصر على غرة منهم، ويطلع سيد الأولمب من ذروة جبل إيدا فيمكن لهم من أبناء هيلاس، ثم يسلط عليهم صواعقه ويفتح عليهم السماء فتمطرهم بعذاب واقع ليس له من دونه دافع، إلا أن يثأر لابن ذيتيس، حبيبة القلب، ومنية النفس!
وفزع أوليسيز إلى رمحه،
وأجاممنون إلى سيفه،
وديوميد إلى صعدته،
وأجاكس إلى جرازه.
وفزع الجنود إلى أسلحتهم يشحذونها ، وإلى دروعهم يلبسونها، وإلى الجياد الصافنات يمتطون صهواتها، وإلى الواقعة فيخوضون خبارها ويثيرون غبارها.
ولكن ... لا جدوى ...!
فلقد طوردوا حتى بلغوا سيف البحر؛ وضيق عليهم حتى نظروا إلى الهزيمة تأخذهم من هنا وهنا، ورأوا إلى هكتور كالأسد الهصور يزلزل الساحة بزئيره، ويثير في قلوب جنوده الحمية بإقدامه، وأينما توجه كشر الموت في ركابه، وقطرت المنية من سنان سيفه، وانقدح الشرر من حوافر خيله، وتناثر الزبد من أشداقها، فيكون سما في قلوب الهيلانيين.
وطرب الطرواديون لهذا النصر المفاجئ، وشاعت الخيلاء في أعطافهم حين أبصروا فرأوا أوليسيز يغادر الميدان متأثرا بجراحه، وأجاممنون يفر بنفسه كأحقر الأجناد، وديوميد محمولا إلى سفينته كمن يجود بروحه، وأجاكس العظيم يولي دبره غير متحرف لقتال، فأوقدوا مشاعلهم، وأججوا نيرانهم، واعتزموا إضرامها في أساطيل الأعداء، ليكفوا طروادة شرورهم، وليأمنوا آخر الدهر مكرهم، وليتم نصرهم.
وهنا ...؟!
انتفض بتروكلوس الكبير، صديق أخيل، وأعز الناس عليه، وجذوة الحماسة المتأججة في ضلوع الميرميدون!
لقد نظر بتروكلوس فرأى جموع الهيلانيين تنهزم إلى البحر فتلقي بعتادها فيه، ثم يسبح منهم من يسبح إلى الأسطول الحزين الذي بدا عليه كأنه يرثي لرجاله، ويبكي على أبطاله، ثم يغرق منهم خلق كثير، فيبتلعهم اليم، إلى غير عود، ونظر فرأى الطرواديين وأحلافهم - وعلى رأسهم هكتور الهائل كأنه زوبعة - يأخذون أبناء هيلاس غير راحمين، ثم نظر أخيرا فرأى إلى حملة المشاعل والنيران يزحفون إلبا فيكونون غير بعيد من السفائن اليونانية، لو أعملوا منجنيقهم في قذفها لأصبح الأمر غير الأمر، ولأتوا على آخر قوة لبني قومه، ولباء بنو قومه بالفشل العظيم! ولعاد الميرميدون كاسفي البال يحملون إلى هيلاس أنباء مصارع إخوانهم الذين تخلى عنهم أخيل وجنوده وهم أشد ما يكونون حاجة إليهم، ولكن أخيل لا يرضى أن ينسى الضغينة التي بينه وبين أجاممنون حتى في هذه الساعة العصيبة، فينهض لنصرة إخوانه اليونانيين، وليدفع عنهم هذا البلاء الذي حاق بهم، وليرد عنهم عادية هذه الكلاب التي تنوشهم وتمزق صفوفهم.
ورأى بتروكلوس أنه لا سبيل لعودة الميرميدون إلى وطنهم بفرض نجاتهم من نيران الطرواديين، يجرون أذيال الخيبة، ويلملمون أكفان الفشل، فثارت في قلبه نخوة الجندي الباسل، واشتعلت في أضالعه نيران الغيرة من مفاخرات هكتور ومنابذاته التي يملأ بها السهل والجبل، ثم تفطر قلبه أسى وحسرة على هذه الجموع الهيلانية التي تتدافع إلى البحر، فكأنها تفر من موت إلى موت، وتنجو من حمام إلى حمام، فذهب من فوره إلى أخيل، واقتحم بابه غير مستأذن، ثم قال: «أخيل!» «فتى هيلاس وغوثها في كل روع!» «يا سليل الآلهة، المترفع عن الدنايا!» «أرأيت ...؟!» «ماذا تتحدث القرون إذا قيل إن الهيلانيين باءوا بالهزيمة فلم ينهض أخيل لنصرتهم؟ وماذا تحمل إلى هيلاس إذا أبنا غدا غير أنباء السوء ووقائع تلك النهاية المحزنة؟ وكيف نلقى الأمهات المعولات على أبنائهن؟ وماذا نقول للوطن إذا طالبنا بصحيفة الحساب عن هذا اليوم الأسود الذي بدت بوادره، وأخيل العظيم لا يحرك ساكنا؟ وكيف نتقي نقمة الشعب الذي ندبنا لهذا الأمر إذا خنا أمانته، وبددنا ثقته، وحطمنا آماله؟ وأين تذهب الشهرة الطويلة التي أحسبنا خدعنا بطراوة العيش فيها والأحاديث المعسولة عنها؟» «أخيل!» «بل فكر معي إذا تم النصر لهذه الذئاب الوالغة في دمائنا، هل يكون بحسبها أن تستأصل شأفة هذا الجيش المنهزم، وتحرق سفنه، ثم لا تعتزم غزو هيلاس العزيزة لتثأر لهذه السنين السود التي أذقناهم طوالها رهق الحياة وخباثة العيش؟!» «ثم أين لوطننا قوة بعد هذه القوى المبعثرة، وأنى له جيش بعد هذا الجيش المراع، ومن لنا بأسطول يعنو له الموج، وتذل لعزته البحار؟» «أخيل!» «انظر إلى الميرميدون تكاد تقتلهم الحنقة على هذه البلادة التي أخمدت سورة الحرب في نفوسهم، وأطفأت جذوة البطولة في قلوبهم، انظر إليهم يكادون يقذفون بجموعهم من سفائنك لنصرة إخوانهم، وليلقوا على هكتور درسا في النزال لا ينساه آخر الحياة!» «ما لك لا يحركك هذا اللظى يا أخيل؟! إن هذا يوم ينسى فيه أمثالك أحقادهم، ويدفنون سخائمهم، ولا يبالون ألف متعسف أفاك مثل أجاممنون! إن هذا يوم هو كله للوطن من دون أيام الدهر جميعا، فإذا أفلتت فرصته من أيدينا، أفلتت عزة الحياة وكرامة العيش من أيدي الهيلانيين جميعا؛ ولن يقال في سبب ذلك إلا أن أخيل العظيم قد تقاعس بجنوده عن نصرة الوطن، وفي سبيل إشباع شهوة الخصومة قامر بالوطن وأبناء الوطن ومستقبل الوطن!» «إيه يا فتى هيلاس، وحامي ذمارها إذا اشتد بها الكرب!» «ما لك تصمت هكذا كأنك لا تسمع إلى ألف قرن تناديك، وتضع ثقتها فيك؟!» «أنا زعيم لك يا فتى هيلاس، إن هذه الجحافل الطروادية سترتد على أعقابها فتكون للهيلانيين الكرة عليهم إذا رأوا خوذتك التي تكسف بلألائها شمس الضحى، وشاهدوا هذه الشعرات البيض تزين ذؤابتها!» «أخيل!» «رد على أعز الناس عليك؛ فالظرف أحرج من المطل، وأقصر من هذا الصمت، والساعة مفزعة مروعة، وإخواننا في الوطن والآلهة يصرخون ويموتون!» «أخيل!» «إن كان يعز عليك أن تحنث في عزمتك التي عزمت، فأذن لي ألبس خوذتك وأمتشق سيفك، وأحل في دروعك السوابغ، ثم أقود الميرميدون باسمك، فأرد عادية القوم، وأحير إخواننا الهيلانيين.»
وكان بتروكلوس يكلم أخيل وكأنما كان وحي السماء يتنزل على قلب البطل بلاغة وحرارة، وقوة إيمان وثبات يقين، ونفسا تجيش بالحب وأقدس المنى لوطن مصاب في أبطاله، منقوص في عزائم بنيه، يتلفت من خلف البحار، يرى ماذا يصنع أخيل في هذا الروع هو وجنوده الميرميدون!
وهب أخيل من جلسته الخاملة، وأخذ يدي بتروكلوس في كلتا يديه، وطبع على جبينه المرتجف قبلة مهر بها صك التضحية في سبيل الوطن الشقي، وقال لصديقه: «بتروكلوس! أخي! يا أعز جنودي علي!
أما أن أذهب أنا فأرد هذه الذئاب، فلا، ولكني آذن لك بكل ما أردت من قوة وعتاد ما دمت تؤثر صالح الوطن، وتحرص على حقن دماء الهيلانيين.»
بتروكلوس! لا يدر بخلدك يا صديقي الكريم أنني انتويت أن أغضب غضبة لا انتهاء لها؛ ولكنني أمرت أن أنتظر حكم السماء بيني وبين خصمي الذي لم يتورع أن يهتك أمر السماء، فيسلبني ثمرة خلعها رمحي علي، وقدمها لي جيش بأسره، هلم يا بتروكلوس فالبس دروعي، وأسبغ عليك لأمتي وشرف خوذتي بجبينك ، ولأذهب أنا فأعد لك الميرميدون، وتبرهنوا لناكر الجميل أننا سبب مجده وخير جنده، وذخيرته كلما حزبه كرب أو ألم به خطب. «هلم ... هلم ...» •••
وانطلق أخيل فصاح بجنوده، فهرعوا إليه في سفنه الخمسين، الراسية بمعزل من سائر الأسطول الهيلاني، وكم كان رائعا أن يتحرك أسطول أخيل في أحرج ساعة مرت بهذا الجيش المغير الذي وقع فريسة كله في قبضة الطرواديين! لقد كان أجاممنون وجنوده ينظرون إلى سفن أخيل؛ وكأنها الخلاص من الموت الذي يلاحقهم، والمنايا التي ترقص فوق هاماتهم، وهي مع ذاك فيما خيل لهم تزور عنهم، وتشيح عن نجدتهم؛ لأنهم لؤموا مع زعيمها، وأنكروا عليه ما اعترفت به السماء أنه حقه خالصا له!
أقلع أسطول أخيل! ولكنه لم يقلع ليفر من واجبه، بل أقلع نحو الشمال ليكون جنده بمأمن حين يهبطون إلى الشاطئ من كبسة الصفوف الظافرة المشغولة باستئصال شأفة الهيلانيين.
وما هي إلا ساعة حتى رسا شمال طروادة، وحتى أخذ سيل الميرميدون ينهمر على شاطئها الشاحب فيملؤه، وكأنهم كسف من العذاب أرسله نبتيون رب البحار من أعماق اليم ليقذف بها في قلوب الطرواديين!
وطفق أخيل يجيشهم فجعل منهم خمسة جحافل كقطع الليل البهيم، فكان على رأس الجحفل الأول البطل الحلاحل، والقائد المناضل، منستيوس بن سبرخيوس، ابن السماء وصاحب العزة القعساء، وعقد لواء الجحفل الثاني لابن هرمز المقدام، الفتى يودوروس الذي طالما كان جزعا في فؤاد الردى، ووجلا في قلوب المنايا! ووضع على رأس الجيش الثالث القائد بيزاندر، ابن ميمالوس، صفي الآلهة وهبة الأولمب، وأقام على الجيش الرابع صديقه فونيكس الذي آثر البقاء إلى جانب أخيل حين أقبل مع أوليسيز وأجاكس يفاوضون في الصلح من قبل أجاممنون، أما الجيش الخامس فقد عقدت رايته لابن ليرسيز، ألكميدون العظيم، أخي الغمرات وصاحب الثارات.
أما بتروكلوس! فقد أقدم يتخايل فوق عربة أخيل، يجرها جواداه الأشهبان: إكسانثوس وبليوس؛ أعز خيل زفيروس، وأحب دوابه إليه، ولقد كان مظهره الوقور يبعث الروع في النفوس، فهذي خوذة أخيل تتألق فوق هامته، والريح العاصف تداعب شعراتها فتجعل منها بركانا يقذف الحمم، وهذي دروع أخيل سابغة فوق الصدر والفخذين والذراعين، كأنها لبد نبتت فوق حيد جبل شامخ ينطح السماء بروقيه.
وتقدم أخيل فصافحه، ومنحه شرف القيادة العامة، وخطب الجنود، فقال: «إيه أيها الميرميدون، هذا يومكم!
لقد كنتم تنظرون إلى الساحة وبكم من الظمأ إلى اقتحامها ما لو أن بعضه بكم الآن لزلزلتم الجبال وخرقتم الأرض؛ ولقد كنتم تعذلونني فتقسون علي في أني احتجزتكم هنا، ووقفت في سبيلكم دون نصرة إخوانكم، فها هو الميدان أمامكم فاشفوا صدروكم، وأنقذوا أجاممنون مما حاق به، ولا يجرمنكم شنآنه ألا تغيثوه، أغيثوه فنصره عز لكم؛ شد الإله أزركم، وباركت الأرباب أسيافكم، وأحيت مجد الوطن بما أنتم قادمون عليه؛ سيروا على بركة زيوس، وفي حمى حيرا، وعين مينرفا تكلؤكم.»
وانطلق الميرميدون فانطوت الأرض من تحتهم، ورجف الوادي رجفة أجفل منها السهل والجبل؛ إذ كانوا ينسابون فلا يربعون على شيء، ويتدفقون فما تحجزهم لابة،
1
ولا يعوقهم جرف، وتسجد من دونهم حزون الأرض وآكامها.
وانتظم خميسهم؛
2
فبرز القلب تتبعه الميمنة، تلقاءها الميسرة، وهرول الجناحان فأخذا السبيل على جحافل الطرواديين.
ونفخ في البوق فانقض الميرميدون على مؤخرة الأعداء الظافرين، فبدلوا نشوة ظفرهم بأنكر سكرة الموت، وانطفأ في أبصارهم بريق النصر فكان أغطش من ظلام الهزيمة؛ ونظروا فرأوا تلك الخوذة المذهبة التي طال عهدهم بها، وحسبوا أنهم أصبحوا بنجوة منها، خوذة أخيل التي كانت تكفي وحدها لإلقاء الرعب في قلوب الطرواديين، وقذف الوجل في نفس كل منازل أو مناجز.
وتصايح بعضهم ببعض: «يا للهول يا صاح! لقد أقبل أخيل! النجاء والنجاء! أين كان الطاغية ...؟» ثم تنادوا يحذر بعضهم بعضا: «أيها الطرواديون! خذوا حذركم! الفرار الفرار من الداهية الجبار! لقد قطع الميرميدون رجعتنا! دعوا الهيلانيين وانشدوا خلاصكم، إلى البوابة العظمى! أيها المقاتلون! لا تزحموا الجسر! القهقرى القهقرى ...!» إلى آخر هذه النداءات المنزعجة الواجفة ...
ولكن أين يهرب الطرواديون من بتروكلوس؟!
لقد كان إكسانثوس وبليوس - الجوادان الكريمان - زوبعتين مغضبتين، تثيران الرهج وتعقدان العجاجة، في جميع أنحاء الميدان؛ في القلب، في الميسرة، في الميمنة، في الجناح الأيسر، في الجناح الأيمن ... بل ... في السماء!
وكانت الشمس - شمس طروادة الملتهبة - تعكس أضواءها على خوذة أخيل، فتذيب أفئدة الطرواديين!
واختلط نظام القوم، وتدافعت جموعهم مذعورة مولية نحو الجسر الكبير الذي نصبوه فوق الخندق حول إليوم، ولم يحتملهم، فهوى بالألوف المؤلفة في جوف الخندق؛ ولكن المؤخرة، وكانت غالبية الجيش، لم تنتبه لما حل بأكثر المقدمة، وكذلك تدافعت لا تلوي على شيء، فجعلت من جثث الموتى قنطرة تعبر فوقها إلى طروادة!
وأخذ الميرميدون السبيل على كتائب كثيفة فأبادوها، ثم جال بتروكلوس جولة هنا وجولة هناك يبحث عن أصحاب النداءات المنكرة التي كانت تملأ الساحة شماتة بالهيلانيين منذ لحظات، فلقي منهم برنوس فصرعه، ثم ثستور فجندله، ثم إريالوس فأرسل به إلى الجحيم، وعشرات غيرهم من بني طروادة النجب.
وكانت أعز أمانيه أن يلقى هكتور؛ فسعى إليه وضيق الحصار عليه، وأرسل إليه طعنة لو أصابت جانب الجبل لصدعته، ولكن، يا لهكتور! لقد ريع من هول ما رأى من مقاحمة بتروكلوس، فألهب جياده الضاريات فعدت به وأنقذته من قتلة محققة وموت مبين.
ولشد ما شده بتروكلوس؛ إذ رأى إلى جانبه فتى هيلاس ومحاربها الصنديد أجاكس يقود فلول الهيلانيين، ويقتحم بهم الحلبة كرة أخرى، غير مبال بجروحه التي يتدفق من أفواهها الدم صببا.
وكم كان سرور الهيلانيين عظيما حين استيقظوا من سكرة هزيمتهم فرأوا جنود أخيل يذودون عنهم، ويردون عادية الموت والقتل والغرق عن جموعهم!
ونشبت ملاحاة بين بتروكلوس - قائد الميرميدون - وساربيدون
3 - البطل الطروادي الكبير - أدت إلى مبارزة دامية، وانتهت إلى فجيعة طروادة في أشجع فتيانها بعد هكتور؛ إذ شكه بتروكلوس شكة جرعته غصة الردى، وأوردته موارد الحمام!
وانكشفت غمة الهيلانيين.
ولكن الميرميدون هم الذين دفعوا ثمن هذا النصر، ودفعوه غاليا وعزيزا، يا للهول!
لقد قتل بتروكلوس!
فمن لك بعده يا أخيل؟!
مقتل بتروكلوس
قتل ساربيدون ملك ليسيا وقائد فرسانها، وأشجع مقاتل في جيش طروادة بعد هكتور، ووقف بتروكلوس على جثته يصليها سخرية وهزوا، ناسيا أنه يهزأ بابن زيوس سيد الآلهة، من آثر زوجاته إليه؛ أوروبا الجميلة المفتان، التي وقفت من ذروة جبل إيدا تنظر إلى المعركة الحمراء وتشهد مقتل ابنها، وتبكي.
وتثور ثائرة الأم التاعسة وتهيب بالإله الأكبر أن يحمي جثة ولدها، بعد إذ عجز عن حمايته حيا، وبعد إذ عجز عن دفع ما قضت به ربات القدر.
وينظر زيوس فيرى إلى بتروكلوس واطئا بقدمه صدر ساربيدون عادة الجاهلية، ويسمع إليه يقذفه بأشنع عبارات التهكم والاستهزاء، غير راث لهذه الروح التي تفيض، أو معتبر جلال الموت الذي تخشع أمامه القلوب؛ فيثور الإله ويحنق على بتروكلوس، ويأمر ولده من لاتونا ... أبوللو العظيم ... فينطلق من فوره إلى معمعان الحرب، ويرسل إلهي النوم والموت فيحميان جثمان القتيل، ويدفعان عنه سباع الميرميدون التي تكاثرت حوله تريد لو تسبي سلاحه وتستنقذ دروعه.
أما الجثة فيحملها الإلهان الكريمان إلى ليسيا، وثمة، يخلطان بها حنوط الخلود، ويلفانها في ثوب سماوي من ثياب الرحمة، ويجمعان حولها عرائس الفنون تبكيها وتنشد لها أوجع ألحانها، وأشجى ما تكن موسيقاها، ويبدو لبتروكلوس أن طروادة بعد ساربيدون لقمة سائغة وغنيمة باردة، فيهتف بالإغريق مرة، وبالميرميدون مرة أخرى أن يقاحموا نحو أسوارها، وأن ينتهزوها فرصة تفتح عليهم فيها المدينة الخالدة.
ولا تدري كيف يستيقظ الطرواديون وأحلافهم من سكرة الروع التي غشيتهم فينكشف لهم أن البطل الذي قتل ساربيدون وعشرات غيره من صناديدهم، ليس هو أخيل العظيم، وإن يكن يحمل خوذته، ويقنع في دروعه، ويذرع الساحة بعربته، فتهدأ أعصابهم، ويثبت جأشهم، ويأخذون في مناهضة الميرميدون والإغريق جميعا.
ولكن بتروكلوس يهجم غير هياب، ويجندل من حوله الأبطال المذاويد، ويقود جنده إلى البوابة الكبرى، حيث وقف هكتور ينظر إلى المعركة بعينين مشدوهتين ونفس مذهوب بها وقلب حيران متصدع ...
ووقفت الآلهة دون البوابة تحمي طروادة الخالدة.
ذلك أن بتروكلوس كان كلما بلغ ثمة ... وجده وجنده ينسحبون إلى وراء بقوة خافية لا يدرون سرها، ولا يعرفون من أين تأتيهم فتتخطفهم، وتردي جحافلهم، وهي قاب قوسين من داخل المدينة ... أو أدنى!
وفي الهجمة الثالثة سمع بتروكلوس إلى صوت إلهي يقول : بتروكلوس! ليس على يديك تفتح هذه المدينة الخالدة! بل هي لن تفتح على أخيل العظيم الذي هو أقوى منك ومن عشرة من أمثالك! عد من حيث جئت، واحذر أن تكون آخرتك اليوم في هذا الميدان المضرج بدماء ضحاياك!»
وتلفت بتروكلوس فرأى الهاتف هو إله الشمس، أبوللو! أبوللو بعينيه؛ رب طروادة العظيم، واقفا فوق برجها الباذج، يقلب قوسه في يديه الجبارتين، مرسلا في عساكر الميرميدون والجنود الهيلانيين نظرات تقدح الشرر، وتوري نيران الكيد والجبروت!
واقشعر جسم بتروكلوس، وأيقن أن أبوللو هو الذي رفع جثمان ساربيدون من مكانه من المعمعة، وأنه أقبل ليلعب دوره ضد الميرميدون وضد الإغريق وضد بتروكلوس قبل كل شيء!
ولكن بتروكلوس محارب، وقلب المحارب العظيم لا يعرف الجبن، ولا يتلجلج لقصف المنايا في المعركة، فكيف به يخفق فرقا إذا رأى الآلهة نفسها تحارب في صفوف الأعداء!
أقبل يا بتروكلوس وأقدم، ولا يهولنك أبوللو، وألف ألف أبوللو، ما دام أن العمر واحد، والساعة آتية، ولن يفلت أحد مما قدر له! •••
وبهت الجمعان المقتتلان حول جثمان ساربيدون حين رأوا إليه يرتفع في الهواء، ثم يتهادى إلى جهة ليسيا، موطنه الذي يبكي عليه، فعلموا أن السماء تعمل!
وأحس الليسيون هذا الفراغ المفزع الذي خلفه ملكهم المقتول فيهم، فذهب رئيسهم المغوار جلوكوز نائب الملك وخير وجوه ليسيا، إلى حيث وقف هكتور ينظر إلى المعمعة قريبا من البوابة الكبرى، فوقف تلقاءه محطم القلب، دامع العين، موهون القوى، وقال: «يقف هنا بطل طروادة العظيم، ويدع أحلافه البواسل يجودون بأرواحهم من أجل إليوم، ويسيلون نفوسهم على ظبى الرقاق البيض التي يرهفها في وجوههم أعداؤكم! ولأي شيء؟! لأنكم استجرتم بنا فأجرناكم، وأسرعنا إليكم نفتديكم بالمهج الغالية والدماء الزكية! هكتور! لقد قتل ساربيدون، فهل علمت؟ هل علمت هذه النفوس التي يمضها الأسى، والعيون التي تقرحها الدموع، ويعصف بها الدم؟! فيم وقوفك هكذا ترمق الساحة، وقد رأيت من فتك الميرميدون بنا ما رأيت، هل فكرت في حماية مولانا الملك، أو على الأقل صيانة جثمانه العزيز؟! لقد سبوا دروعه وسلاحه، فأي عار يصمنا في طويل الأحقاب والآباد؟ يا لثأرنا ... يا لثأرنا ...!»
ولم ينبس هكتور!
ولكنه شاهد الميرميدون يعيدون الكرة بعد الكرة على الطرواديين، فينالون منهم ويمزقون صفوفهم، وشاهد البطل الإغريقي المشهور إيجيوس يصول بين الجيشين ويجول، ويجندل الأبطال، ويبيد لهاميم الرجال، فأخذ هكتور حجرا كبيرا وانتهز غرة من إيجيوس، وقذف بالحجر فوق رأسه فشجه، وبرز المخ، وتدفق الدم، وتردى البطل فوق الحدود حتى استقر في بسيط الساحة!
واستشاط بتروكلوس غضبا! وود لو كان قريبا من هكتور فيضغط على عنقه ضغطة تذهب به إلى الجحيم! ولكنه لم يستطع إلا أن يثأر للقتيل بمثل ما صنع هكتور؛ فقد تناول جلمودا كبيرا، وقذف به ستينلاس الهائل أشجع شجعان طروادة الأحياء، فأطاح جمجمته، وهوى الجلمود على مفرش جواده فقتله، بين عجب الطرواديين وشدة تحيرهم!
ولكن جلوكوز - رئيس الليسيين - يرى إلى ذلك فيتسخط وينقض على البطل الهيلاني الكبير باثيسليز، فيشكه برمحه شكة تذهب به وتتركه يتشحط في دمه، وتستمر المعركة ... •••
أما أبوللو! فيغيظه من هكتور هذا الجمود الذي استولى عليه، وذلك الموقف الجبان الذي يحول بينه وبين الميدان، وفي الحق؛ لقد كان هكتور ينظر إلى شياطين الميرميدون ولا يصدق أنهم مقاتلة من البشر، بل وقر في قلبه أنهم زبانية من جحيم بلوتو، سلطتهم المقادير على الطرواديين يسومونهم الخسف وسوء العذاب!
وتنكر أبوللو؛ فبدا في زي محارب في عنفوان الشباب، ثم أجرى في عروقه من دماء بني الموتى، وغضن قليلا من جبينه، وسوى من ساعديه، ونثر فوق عدته من ثرى المعمعة، ولوح وجهه بملامح «أسيوس» العظيم - أخي هكيوبا، وخال هكتور - وسار قدما إلى حيث وقف فتى طروادة المسحور بروع الساحة الهوجاء: «هكتور! فيم إحجامك عن لقاء الأعداء يا بني؟ هلم، هلم! فوأرباب الأولمب لو كان لي شبابك وعنفوانك لصاولت هؤلاء الميرميدون الألداء، ولأخليت منهم تلك الحومة التي ملأتك هلعا! أقدم يا هكتور ولا تحجم هكذا! الق بتروكلوس فقد تصرعه، وإنك لصارعه، وإنك لعاقد إكليلا من المجد فوق رأسك لا يذبل أبد الدهر، وحسبك أن أبوللو صاحبك وحاميك ومسدد خطاك، ومضاعف بتأييده ضرباتك! هلم، هلم ، وعش عزيزا يا هكتور، أو مت كريما يا بني، بين طعن القنا وخفق البنود!»
وانفتل أبوللو فانخرط في صفوف المقاتلين، وطفق يصرع أبطال الهيلانيين ليضرب المثل لهكتور، وليشحذ من همته الخابية، وليوقظ شبابه النائم.
فلما رأى هكتور جلائل هذه الفعال التي أبداها خاله - وما هو بخاله - انكشفت عنه هذه الغمة التي غمرته، وأمر سبريونيس - سائق عربته - أن ينطلق به إلى الحومة، فانطلق السائق المسكين نحو بتروكلوس، حتى إذا كان على مقربة من شباة رمحه، ترك صاحبه وجها لوجه معه، وكان السائق من مغاوير أبطال طروادة، فأخذ يناوش بتروكلوس هو الآخر، فما كان من قائد الميرميدون العظيم إلا أن قذفه بحجر هشم رأسه، وصدع فقاره، وطار بروحه إلى هيدز.
واقشعر هكتور من هول الضربة، وعز عليه أن يودي سبريونيس وهو بين يدي مولاه فلا يجد له حاميا. ولكن الطرواديين تكبكبوا حول القتيل، يذودون الهيلانيين الذين كان كل همهم أن يفوزوا بعدته ليحتفظوا به أثرا حربيا خالدا!
واشتد صيال القوم حول جثمان السائق، وصخبت زوبعة القتال فوقه، واشترك هكتور وبتروكلوس مع أجنادهما؛ فكان جماعة يشدون القتيل من قدميه، بينا جماعة أخرى تشده من الرأس، وهم يعفرونه فيما بين هذا وذاك بالتراب ويلطخونه بالدم!
ووجد أبوللو فرصته!
أبوللو الخائن! أبوللو سيد الشمس الذي لا يستحي! أبوللو الإله الذي يفرق أن يلقى بتروكلوس وجها لوجه، فيأتيه من الظهر كأجبن الجبناء!
يا للآلهة! ومسكين يا بتروكلوس!
لقد تقدم أبوللو مستجمعا كل قوته في قبضة يمينه الجبارة، فأهوى على قفا بتروكلوس بضربة خائنة كضربات اللصوص حين ينسلون تحت أستار الليل، فأطار صواب البطل، وأوقع الخوذة الأخيلية الهائلة وغودر الرأس العظيم مكشوفا في متناول كل ظباة وكل سنان!
ولم يدع هكتور فرصته تمضي، بل سرعان ما أبصر بتروكلوس يتلفت ليرى صافعه حتى أرسل رمحه الرعديد الخائر إلى الرأس العاري، فأفصده.
وسقط بتروكلوس المسكين ... مضرجا بدمه!
ووقف هكتور يتشدق ويفاخر تلك المفاخرة الكاذبة: «بتروكلوس! أرأيت؟ لقد انتهيت! ولقد طاحت آمالك وذهبت أمانيك فوق هذه الساحة أباديد! بتروكلوس! أكنت تحلم بأن تفتح طروادة عليك، فتسوق بيض خدورها إماء بين يديك إلى بلادك، وتقرن في الأصفاد أبطالها البهاليل؟! أيها التاعس! لقد ترديت من عربة أخيل التي لم تكن يوما أهلا لها، وبعد قليل تنوشك سباع الطير، وتغادرك فوق ثرى طروادة صعيدا جرزا ورفاتا سحيقا!
بتروكلوس! يا أتعس قتيل في هذه الساحة الحمراء!
كم كنت تحدث نفسك أن لو كان هكتور، هكتور الحلاحل، قاتلك وسافح دمك، هو الذي ينام هذه النومة الساعة بين يديك!
وكم كنت تمني نفسك أن لو عدت بعدة هكتور وعتاده إلى مولاك؛ إلى أخيل الذي أرسلك إلى الحومة، ولم يجازف بنفسه فيها، وهو يعلم أن أسدها الهصور لا بد قاتله، فافتدى نفسه بك، وضحاك في سبيل خلاصه من هذه الصرعة التي زلزلتك!
بتروكلوس!
أهكذا قد غرر بك أخيل، فأطلقك إلى حيث تلقى حتفك، وتسبح في دمك، وتغص بآلامك؛ وإنه ليسبح الآن في شهواته، ويقارف لذاته، ولا يدري مصيرك المحزن، ولا يعرف ما حل بك من موتة زؤام!»
وكان بتروكلوس العظيم يجود بروحه، ويسمع إلى هذا الهذر، ويبكي! فلما انتهى هكتور، تأوه القتيل آهة عميقة، ثم قال: هكتور!
حق لك أن تفتخر الآن!
أما قبل هذه اللحظة فقد كنت تبحث عن قلبك الرعديد فلا تجده؛ لأنه طاش من شدة ما عاينت من ضربت الميرميدون!
على أنك لو كنت رجلا لآثرت أن تدفن وجهك في الرغام، دون أن تفخر بنصر ليس لك في أقله يدان!
لست أنت الذي رميت يا هكتور! بل هو سيد الأولمب، وولده أبوللو هما اللذان رميا، وهما اللذان كتبا هذا القضاء وأبرما هذا القدر!
وإلا؛ فو أرباب هيلاس لو صاولت عشرين كلبا مثلك لما أفلت منهم أحد أبدا؛ ولأرسلت أرواحهم الخبيثة تتردى في نار جهنم!
أجلي هو الذي أعجلني يا هكتور، وأبوللو هو الذي فتك بي الفتكة البكر، أما أنت فلم تصنع شيئا أكثر من أن رميت رمية الجبان!
على أني أقولها لك قولة غير كاذبة .
إنك ستشرب بالكأس التي شرب بتروكلوس، ولن تبسم لك الدنيا أكثر مما فعلت، فانتظر، فسيأتيك عذاب يشقيك، وسينتفض أخيل العظيم حين ينتهي إليه نبأ مصرعي، فيهرع إلى هذه الساحة، والويل لك من رمحه الظامئ إلى دمك!»
وكانت هذه المقالة قد أجهدته فسكت قليلا، ثم أغمض عينيه إغماضة متعبة، وفتحهما فجأة ونظر إلى جنوده، وقال: «ميرميدون!
وداعا ... سلامي ... إلى ... أخيل!» •••
وفاض الروح الكبير، وسكنت الساحة كلها، كأنها تبكي!
وكأنما هزت كلمات بتروكلوس فؤاد هكتور، وكأنما خشع بطل طروادة لجلال الموت فصمت طويلا، وقال مخاطبا القتيل: «بتروكلوس!
من يدري إذا كان أخيل هو الذي يقتلني، أو كنت أنا الذي أقتل أخيل!
هذه آجال يا أخي ... فالسلام عليك!» •••
ولم يتورع هكتور أن ينزع حربته من رأس البطل، ولم يتورع كذلك أن يأمر فينزع رجاله عدة أخيل ...
تذكارا حربيا!
وعتادا مؤقتا!
أخيل يبكي بتروكلوس
قتل بتروكلوس!
وانقلب هذا النصر المؤزر إلى ذهول استولى على أفئدة الميرميدون، صيرته الصدمة الهائلة أشبه شيء بالهزيمة المؤكدة!
وبينما كانت أبصارهم زائغة تنظر إلى ما حل بمولاهم، وبينما كانوا ينظرون إلى أشباح المنايا ترف فوق الساحة، وتدوم على رءوسهم تكاد تخطفهم، كان هكتور وملؤه ينزعون عدة أخيل، دون أن يلقوا أقل معارضة!
ثم أفاق الميرميدون على صيحة من منلوس العظيم الذي اقتحم الحلبة نحو زعيمهم قدما، وناضل وحده عن الجثمان العزيز الذي كان هكتور يمني نفسه بحمله إلى طروادة ليجعله معرضا هنالك، يشهد له بالشجاعة المغتصبة والجراءة المزورة، والبطولة التي لم يكن لها بأهل، ثم ينبذه بعدها بالعراء، فتنوشه الطير وتغتذي بلحمه المر سباع طروادة وكلابها!
وانقض الميرميدون يذودون عن الجثة مع منلوس، ولكنه انقضاض المهموم المحزون، وهجمة المرزأ المكدود؛ فلم تكن ضرباتهم الواهية تخيف الطرواديين بعد إذ أنقذوا من بتروكلوس الداهية، ولم تكن صيحاتهم الوانية تهز بضعة من قلوب أعدائهم الذين أصبحت لهم الكرة عليهم.
واستطاع منلوس بعد لأي شديد وجهد أن يحمل الجثة يساعده مريونيس الكبير، وأن يقتحما بها المعترك المصطخب إلى الصفوف الخلفية، يحمي ظهورهما أجاكس وجنوده.
وذعر قادة الهيلانيين حين رأوا شدة هجمات الطرواديين بعد مقتل بتروكلوس، وحين نظروا فوجدوا الميرميدون يشتغلون عن المعركة بالبكاء على مولاهم، والرثاء لما حل بهم بعده، والفزع الأكبر للقاء أخيل، لا يتقدمهم إليه قائدهم، ولجأ منلوس إلى الحيلة، وفكر من فوره في إثارة النخوة في قلب أخيل عسى أن يقدم فيقود أجناده، ويتم النصر للهيلانيين، فأرسل إليه أنتيلوخوس يجمل النبأ العظيم، ويزلزل من تحته الأرض حين يقص عليه ما لغط به هكتور.
ولو قد علم أنتيلوخوس ما يثيره هذا النعي في قلب أخيل، ما آثر أن ينفذ إليه به! فلقد صرخ ابن ذيتيس صرخة اضطرب لها البحر، وماد الشاطئ، وتجاوبت لها جنبات الجبال، ثم بكى فاربد أديم السماء واعتكر، واحتلك الضحى وبسر، وشاعت في العالم ظلمة أهول من ظلمة القبور! «بتروكلوس ...!»
أفي الحق يا أعز الأصدقاء أنك أوديت! وا حربا! أإذا لقيتك الآن فأنت ما تحرك شفتيك لتكلمني، وما تفتح عينيك لترى إلى أخيل؟! ألا ينبض قلبك بعد اليوم يا بتروكلوس، حتى ولا بحبي؟!
أإلى حتفك كنت تستأذنني إذن؟
ويلي عليك يا بتروكلوس! ويلي عليك يا أعز الأحباب.»
ولم يطق؛ فطفق يحثو التراب على رأسه ويشد شعره فيكاد ينزعه، ويرسل في السماء وفي الأرض والبحر صرخاته المدويات.
وانتفض الموج وفار الماء؛ وكأنما اتصل قلب أخيل باليم فاضطرب بما فيه من وجد، واصطخب بما يئوده من كمد، وشاعت فيه أشجانه وأحزانه حتى وصلت إلى الأعماق، حيث تأوي ذيتيس إلى زوجها رب البحار السفلية، فشعرت الأم المحزونة بما ينتاب ولدها في أسطوله الراسي على هامش طروادة، وأحست بما يأخذه من ألم، ويمزق حشاه من عناء؛ فصرخت ثمة صرخة اجتمع لها كل عرائس البحر وعذارى الماء من حوريات نريوس،
1
وأخذن يلطمن خدودهن الوردية تحت الثبج، ويذرين من نرجس عيونهن فيضا من الدمع الدري، ثم انتظمن صفوفا صفوفا، ورحن يتهادين وراء ذيتيس، مرسلات في الأعماق أناشيد الحزن، طاويات ذلك الرحب الذي يفصل بين مملكة مولاهن وبين شطآن إليوم؛ حتى إذا كن عند الأسطول الهيلاني طفون فوق الماء فانقلبت اللجة بجمعهن جنة، وارتد البحر بربربهن فردوس نعيم!
وبرزت ذيتيس فرقت سفينة ابنها أخيل الباكي الآن الحزين؛ وتقدمت فضمته إلى صدرها الحنون، وجعلت تهون عليه أمر صاحبه، وتصرفه عن هذه الحرب التي يفرق من هولها قلبها الخفاق أشد الفرق، لما تعلمه منذ قديم من القتلة التي تخترم ولدها تحت أسوار طروادة، كما أنبأتها بها ساحرات الماء ...
وأن أخيل أنة شديدة، وقال لأمه: «أماه! هكذا قدر لنا أن نلقى ما حتمه القضاء علينا، وهكذا شاء سيد الأولمب الكبير المتعال، ولكن خبريني بربك: ما قيمة هذه الحياة ما لم يعد بتروكلس ينضرها ويزين حواشيها، وما دام أعز أحبابي وأودائي ملقى فوق هذه الساحة النكراء، ذبيحا بين أشقى الخصوم الألداء!
آه يا بتروكلوس! لقد شفى هكتور غلة قلبه حين سفك دمك غادرا، وحين انتزع عدتك غادرا، وحين يفاخر بكل أولئك غادرا!
وهذه العدة يا أماه! أيلبسها هذا الشقي وهي هدية الآلهة إلى بليوس، أبي، رب الأعماق، وهدية من أبي إلي؟!
أبدا لن أعود معك إلى حيث العار الأبدي ينتظرني ما لم أثأر لأوفى أحبائي بتروكلوس من هذا النذل هكتور، وما لم أرو هذه الصعدة الظامئة من دمه النجس، وأقذف في وجهه بمفاخراته الكاذبة وإهاناته للقتيل الكريم ... لا، لا، لا تتحدثي إلي عن أوبة تصمنا بالذل إلى الأبد يا أماه، وإني لأقسم بالسماء ومن فوقها: لن أبرح الأرض حتى ينفذ هذا السنان في صدر هكتور!»
وصمتت ذيتيس قليلا، ثم لم تطق أن تخفي ما تخشاه على ولدها من ذلك القضاء المحتوم. فأخبرته بما تحدثت به العرافات عام ولد؛ وما تخافه من أمر هذه النهاية المحزنة، والفجيعة التي لا تكون مثلها فجيعة.
ولكن أخيل يبتسم ابتسامة محزونة، ويتحدث إلى أمه عن المجد الخالد الذي سيحمله اسمه آخر الدهر: «واستبشار الهيلانيين بعودتي لمناصرتهم، ووضوح الحق وجلائه لأجاممنون أنني روح الجيش وحماسة الجند، والقوة المذخورة لدحر الطرواديين! صه يا أماه! فلن تزعجني مخاوفك، ولن تلقي في روعي أقل الجزع؛ لأنه إن كان حقا ما تحدثن إليك به، فأين يهرب أحدنا من القضاء؟!»
وبهتت الأم مما صمم عليه ولدها؛ ولما أيقنت ألا سبيل لها إلى قلبه الجريء، بدا لها أن تعاهده على ألا يخوض الكريهة حتى تعود إليه من عند فلكان الإله الحداد؛ الذي ستذهب هي إليه تكلفه بعمل درع وخوذة تحملهما إليه ليحمياه في كل يوم روع! وعاهدها أخيل.
وأمرت ذيتيس عذارى الماء فانثنين إلى مملكة بليوس يحملن إليه أنباء ولده. أما هي؛ فانطلقت إلى فلكان ... هناك ... هناك فوق ذروة جبل إطنة، حيث وجدته ينفخ في لظى كيره الضخم ... يصنع الدروع والعدد.
ولقيها الإله الحداد بالترحاب، وشرع من فوره يصنع عدة لم تر العين مثلها، ولم يأبه أن يصنع مثلها حتى للآلهة! «وكيف لا، وأخيل الحبيب سيدرع بها فتحميه من أوشاب الطرواديين، وأوغاد هذا الأخ اللئيم مارس، الذي تعلمين مما كان من أمره مع فينوس ما تعلمين؛ لقد فضحني السافل فضحته المقادير.»
2 »
ولكن الساحة كانت تضطرب، وجموع الطرواديين تأخذ الهيلانيين من كل فج؛ وكانت حيرا - مليكة الأولمب - تطلع من عليائها فتأخذها الرهبة لما يحيق بعبادها من تصريع وتقتيل؛ وكانت مينرفا كذلك تهلع عليهم هلعا شديدا.
وتشاور الربتان واتفقتا على أن تنفذا إيرليس إلى أخيل، تأمرانه أن يخوض الكريهة في جانب الهيلانيين، ولكنه قص على الرسول ما عاهد أمه عليه، فعاد الرسول إلى الأولمب يحمل نبأ هذه المعاهدة.
بيد أن حيرا أشارت على مينرفا أن تنفذ الرسول إلى أخيل يحمل إليه درعها، وكان لمينرفا درع اسمه إيجيس لم يصنع مثله لأحد من قبل فلكان؛ وأن ينهي إليه أنهما تأمرانه بالتوجه إلى الساحة فيطلع عليها ليراه الطرواديون، فإنه بحسبهم أن يروه فيولوا الأدبار!
وانطلق إيرليس برسالته إلى أخيل؛ فاهتز البطل من نشوة الطرب، وشاعت الكبرياء في أعطافه؛ لأنه سينال شرفا لم ينله أحد من قبل؛ وذلك بأنه سيدرع بقميص مينرفا، المسرودة من حديد!
وعندما نهض ليلبس الدرع رأى مينرفا نفسها تساعده بيديها الطاهرتين النقيتين كالبلور، وتضع فوق جنينه إكليلا وضاء من الذهب، ثم تقوده إلى الساحة!
وهناك وقف أخيل العظيم فوق ربوة عالية تشرف على الساحة كلها، ثم أرسل في الآفاق صيحة مدوية، كانت تنفخ فيها مينرفا فتزيدها قوة وعنفوانا، فزلزل قلوب الطرواديين وجعلها تدق في صدور ذويها كالنواقيس!
وما كاد الأعداء يستيقنون أن الصيحة صيحة أخيل، وما كادوا ينظرون إلى هذه الآراد المنشرة فوق رأسه والأضواء المتلألئة من إكليله حتى سقط في أيديهم، وارتعدت فرائصهم، وولوا على أعقابهم مدبرين! وكانت خيولهم المذعورة تولي هي الأخرى فتطأ الفرسان هنا وهناك وتسقط في الخنادق المحيطة بطروادة، فتلقى فيها حتفها بمن عليها!
وتورات الشمس بالحجاب.
فتحاجز الجمعان وذهب كل ليستريح من هذا اليوم العصيب.
وكانت صيحة أخيل أكبر عون لمنلوس وزميله في الإسراع بجثة بتروكلوس إلى مؤخرة الجيش، حيث الأمان والاطمئنان؛ فلما عاد أخيل كانت جثة صديقه أول ما وقع بصره عليه ... فبكى ... وبكى ... واجتمع حوله الميرميدون يبكون.
ثم رثاه بكلمة دامعة، ترجمت عن نفس مكلومة؛ وأمر فأوقدت نار كبيرة وضع عليها دست ماء كبير؛ وأخذوا جميعا في غسل الجثة المعفرة بالتراب، ودهنها بالطيوب ثم تحنيطها بالأفاويه والبهار والقرنفل، ولفوها في مدارج طويلة من الحبر الغاليات البيض. •••
واجتمع قادة الطرواديين يتشاورون في هدأة الليل، فخطب بعضهم
3
ناصحا بوجوب التحرز داخل الأسوار في غد، مخافة أن يبطش بهم أخيل وشياطينه، لا سيما وهم سيخوضون الوغى بقلوب جرحها مصرع بتروكلوس، وهم لا بد مثئرون له مهما كلفهم الإثآر له من أرواح ودماء!
ولكن هكتور أبى إلا أن يخرج للقوم، وكأن قتله بتروكلوس غيلة قد خدعه عن شجاعة أخيل وما قدر له مما سيلقاه من بطشة أخيل، وهل غد بعيد؟! •••
وفي هذه اللحظة أيضا، كان زيوس يتحدث إلى حيرا حديث الذي أظفر بأعدائه وكأنما أطرب الإله الأكبر أن أخيل يعود إلى المعركة بعد أن أديل له من الهيلانيين ومن الطرواديين على السواء.
وكانت حيرا تسمع إليه وهي تطفر فرحا! كيف لا؟ وهذا أخيل يعود إلى أعدائها في الغد فيصليهم عذابا ويجرعهم غصصا ما ذاقوا مذ ترك الحلبة أمثالها! ولتحزن فينوس! وليحل غضب السماء على باريس، ولتذهب التفاحة المشئومة إلى الجحيم. •••
وأشرقت شمس الغد.
ولاحت ذيتيس تتهادى فوق الزبد في الأفق الغربي، تحمل الدرع التي لم يصنع مثلها فلكان.
حتى ولا للآلهة أنفسهم!
والويل لك يا هكتور!
صلح
أشرقت الشمس أو كادت، وبدت ذيتيس تتهادى في الأفق الغربي فوق الثبج، وهرعت عرائس الماء وعذارى البحر تحييها وتنشد لها ألحان الفجر طلها الندى.
وكانت تتأود تحت حملها الثقيل فما إن بلغت سفينة أخيل ألقت بالدرع المسرودة؛ وحتى هب ولدها يحييها بعين شكرى ومهجة حرى وقلب موجع حزين.
وكان لا يزال جالسا أمام جثة بتروكلس يبكيها، ويكلم فيها الإخاء والوفاء، ويناجي في لفائفها الود والولاء، وكان ما يزداد إلا لوعة، وكان ما يزداد إلا أنينا!
وحنت عليه أمه تواسيه؛ ثم لفتته إلى الدرع والخوذة، فحدجهما بنظرة قاتمة، وشكر لها هدية فلكان، ثم أوصاها بالجثة خير ما يوصى به الصديق، «ذودي الذباب فلا يمسها يا أماه وادفعي عنها أذى أسرابه، واسقيها من المعتقة الصفراء حتى تأذن الآلهة فأعود إلى بتروكلس بثأره.»
وانطلق في غبشة الصبح يطوف بمعسكر الهيلانيين داعيا إلى مجلس حربي.
وكان يهتف بالجند النائم هتافا عاليا فينتفض المقاتلون وقد خفقت قلوبهم واهتزت جوانحهم وفاضت عبراتهم من الفرح للقاء أخيل!
وكان أجمل ذلك جميعا أن ينهض أوليسيز متهالكا على نفسه، وديوميد مترنحا في عطفه ونسطور مرتجفا كأنه في يوم حشر، و... أجاممنون كأن الحياء والخجل يصبغانه بحمرة الجحيم!
لقد كانت جروح القادة أنطق برهان على ما جرت تلك الخصومة الوضيعة بين أجاممنون وأخيل من هزيمة للجيش، وضياع للجهود، وعبث بآمال أمة ترقب أبناءها من وراء البحار!
وانتظم عقد القادة ووقف أخيل يتكلم؛ فأرهفت الآذان، وصغت القلوب، وتحركت الألسن تبحث عن بلل من الريق تبتلعه: «ابن أتريوس العظيم!
أخي في الوطن!
يا أمير هذه الجيوش الغازية!
أرأيت؟! أي جدوى عادت علي أو عليك من هذه القطيعة التي أججت نارها، واندلع بيني وبينك أوارها، وأي غنم أفدت من شحناء لم تكن تخلق بعظيم بن عظيم، بل سليل آلهة عظماء؟!
ألا ليتها أودت تلك الفتاة التي أثارت كل تلك العداوة، وأغرت جميع تلك البغضاء بيننا! إي وأرباب الأولمب؛ ليتها أودت يوم غنمناها من مدينة ليرناسوس حتى لا تفرح طروادة بما تم لها من نصر، وما حاق بجحافلنا من خذلان، لم يكن شيء منه يقع لولا ما أثارته بريسيز بيننا!
ولكن لا! فالفتاة نقية وطاهرة وبريئة لأنها لا تزر وازرة وزر أخرى! ولكننا معشر الهيلانيين ينبغي أن نذكر أبدا أن لنا ثأرا عند هؤلاء الطرواديين لا محيص لهم من أن نأخذهم به وأن نطلبه عندهم، فلا نرتد عنهم حتى يدال لنا منهم وتكون لنا الكرة عليهم حين يظفرنا اتحادنا بهم.
لنكبح جماح أنفسنا إذن! وليطفئ كل منا غيظه في سبيل هيلاس؛ ولتندمل تلك الجراح التي تفثأ قلوبنا فتكاد تقضي على آمال أمة وتطيح بأماني وطن!
أجاممنون بن أتريوس العظيم!
تلك يدي أضعها في يدك عهدا مخفورا وذمة وفية ألا ندع أهواءنا تهدم ما صبت إليه نفوسنا من قبل، وأن نكون من الساعة يدا على عدونا، وإلبا واحدا.
والويل بعدها لمن يجرؤ من جند طروادة أن يتصدى لنا، أو يجازف بنفسه أمامنا ... هذا رمحي! وتلك قناتي! ويا طالما قد ظمئت إلى الدماء.»
وتدفقت الدماء في عروق القادة، وشعروا كأن السماء ترفعهم إليها فتطهرهم وتزكيهم وتعود بهم لترى قوما آخرين!
ونهض أجاممنون من مكانه ولم يستطع أن يتقدم إلى مكان الخطابة، فقال: «أيها الأصدقاء! يا أبطال هيلاس! يا وزراء مارس!
لست أدري ما أقول ردا على أخيل العظيم، بيد أنني سأفتح له قلبي وأكشف لكم أمامه عن سريرتي وسيد الأولمب على ما أقول وكيل!
أبدا والله ما كنت سبب هذه المأساة التي أغرت بيننا العداوة، وأججت نيران هذه البغضاء! وأبدا والله ما آثرت أن يكون بيننا - ونحن في هذا الأمر ما نحن - شيء من تلك القطيعة التي دفعنا ثمنها غاليا: أرواحا مطهرة ودما زكيا وشبابا أنضر الشباب!
أبدا والله ما آثرت من ذلك شيئا قط؛ ولكنها المقادير ومشيئة سيد الأولمب، وهذه الربات الغالبات «أرينيس»
1
اللائي تحالفن علي فغشين بصيرتي، وأذهلنني عن نفسي، فأتيت ما أتيت على غير وعي مني ولا هدى ولا برهان مبين!
ولقد ثاب إلي رشدي وارتفع الحجاب عن بصيرتي ساعة إذ أبصرت هكتور يأخذ جموعنا فيحصرهم بينه وبين البحر، كأشد ما يكون حصار بين موتين! عندها ذكرت أخيل! وذكرت أنني آثم في حق أخيل، وأن أخيل لو كان في هذه الحلبة لما ملك هكتور رشاده، وما ملكت رجلاه أن تحملاه! فزاغت عيناي واستبنت ضلالتي واستغفرت الآلهة من أجل آثامي!
أخيل!
ما أعظمك حين نسيت غضبتك، وسعيت إلى خصمك، ومددت إليه يمينك من أجل الوطن! مرحبا بك يا أخي! ومرحبا بصلح يغسل الضغن، ويذهب بالجفوة ويرأب ما انصدع من شملنا جميعا!
على أني أرى أن أمهر صلحي وأؤكد محبتي باللهى الغالية، والهدايا العالية، وبكل مذخور ثمين؛ فهلم يا ابن بليوس، هلم؛ هيئ الصفوف وجيش الفرق حتى أعود إليك بتذكاراتي.»
وأبى أخيل أن يلهو أحد في تلك الساعة أو يشتغل إلا بالحرب والاستعداد ليوم الفصل، فشكر أجاممون؛ ورجاه أن يلبث معه حتى يأخذ كل عدته؛ ولكن أوليسيز الجريح يتدخل، ويرجو أن ينطلق أجاممنون فيأتي بالعطايا واللهى، وبالغادة المفتان، بريسيز، فتنة الفتن، ونادرة الجمال، نقية كما هي، أخيلية كما فصلت من خدر مولاها يوم الخصام الأكبر، «وأنا أقسم لأخي على ذلك ويقسم عليه ويؤكده أجاممنون».
ويقسم عليه ويؤكده أجاممنون، ويغسل إقسامه بالدمع السخين؛ ثم يأمر خادمه «تلثبيوس»، فينطلق إلى حيث يأتي بخنزير سمين يذبحه ويطعم القادة منه، ويحلف أخيل لا يذوقن من طعام حتى يعود بثأر صديقه وأعز الناس عليه: «بتروكلوس»!
ويلح عليه أوليسيز في أن يأكل: «لأن الحرب شاقة، ويومها دهر بأكمله، ومقارعة الأقران مجهدة للأبدان ...» وما يزيد أخيل إلا إباء!
وعاد أجاممنون.
وكان أوليسيز نفسه يتقدم الركب الذي أقبل من سفينة القائد العام يحمل هداياه لأخيل، ونهض أجاممنون فأشهد الآلهة على نقاء القلب وصفاء النفس ورضاء الضمير، ثم قدم الهدايا إلى ابن بليوس الذي كان يشهدها ويبكي!
وفي الحق؛ لقد كانت لهى أحسن اللهى وهدايا على قدر مهديها!
فهذه صناديق سبعة مقفلة ملئت بالدر واليواقيت والزبرجد وبكل ما غلت قيمته من كتان مصر وخز الهند وحبر الشام ...
وهذه اثنا عشر من صافنات الجياد كأنما ولدت في ليلة واحدة، ولونتها الآلهة بألوان واحدة، وأضفت عليها عرائس الفنون من سحرها، فكانت كخيل أورورا!
وهذه عشرون دستا من النحاس المزركش، حليت سطوحها بالميناء والفسيفساء، وتبارت في حفرها كل يد صناع وفكر عتيد، وفيها من أصناف الجوهر ما يبهر اللب ويشده القلب ويذهب سنا برقه بالأبصار!
وهذه بدر عشر من الذهب الخالص يحملها أوليسيز ويتقدم بها أبكارا سبعة من جملة اللهى؛ كل منهن كأنها فينوس حقيقية تميس كأنها بانة وتبسم كأنها أقحوانة وتبدي عن الدر النضيد!
ثم ...
هذه بريسيز! بريسيز الهيفاء وأصل هذا البلاء؛ الدمية التي أترعت بالمفاتن، وفاضت عيناها بسحر الهوى!
هذه بريسيز تبرز فتخطف الأبصار وتتقدم فتثب القلوب، تود لو تغمرها لمحة من جمالها النضر وشبابها الفينان!
فهل رأيت إلى العاصفة تقتلع الدوح وتطيح بالأيك، وتهب على اليم النائم فيصطخب، والبحر الوادع فيضطرب ... و... على الغدير ذي الخرير فيرقص من رعشة كأن به مسا من الخدر!
تلك هي بريسيز حين تبدت للقوم!
لقد هتف أوليسيز هتفة ضاعت في انذهال الملأ بما يرى على ما تعرف من جبروت أوليسيز وشدة أيده ... ثم هتف فتلفت الناس، وراح الرجل يكرر ما قيل من نقاء بريسيز وتمام طهرها؛ وأخيل مطرق ساهم، لا يكاد يعي مما يقال شيئا!
واستل أتريديس خنجره، وأهوى به على عنق الخنزير يذبحه، وهو في ذلك كله يصلي لأربابه، ويسبح بحمد السماء، ويشكر سيد الأولمب ما أتم من صلح شريف بين سليلي الآلهة.
ونهض أجاممنون فقدم بريسيز إلى سيدها، وعقب بكلمة طيبة، ثم أشار أخيل إلى الميرميدون؛ فحملوا الهدايا وانطلقوا بها إلى أسطولهم، ومعهم فتاة مولاهم في صفوف موسيقية، وفي موكب رهيب! •••
وانصرف القادة إلى زادهم والجنود إلى ميرتهم، ولا حديث لهم إلا أخيل وفتاة أخيل، والصلح الذي باركته السماء، وكسبوا منه أن يكون فيهم أخيل!
أما بريسيز فقد وصلت إلى سفينة مولاها؛ فشدهها أن ترى جثة بتروكلوس في لفائفها وأكفانها، وإلى هذه الأم البارة، ذيتيس؛ جالسة عندها تبكي، وتدفع أسراب الذباب، وتسقي القتيل خمرا!
لقد كانت بريسيز تعجب بالبطل منذ قريب، ولقد تركته ممتلئا صحة، موفورا شبابا؛ نضر الصبى، ريان الإهاب، ثم عادت فكان أشق شيء عليها أن تراه مسجى هكذا! لا نأمة ولا حركة ولا نفس! قتيلا كأدنى من كان يقتل كل يوم روع، طعينا كأقل من كان يطعن كل يوم نزال!
ودارت الدنيا بالفتاة فراحت تملؤها ندبة وبكاء! واجتمع لديها الفتيات الأخريات يندبن ويبكين.
فما كان أروعه منظرا وما كان أشجاه إخلاصا! •••
وأقبل فونيكس على أخيل يواسيه.
ولكن أخيل ما يرقأ له دمع وما ينقطع له نحيب.
واطلعت أرباب الأولمب فشهدت ما يأخذ البطل من رحضاء الحزن، وبرحاء الأسى، فأشار زيوس إلى مينرفا، فهبت إلى أخيل ترعاه، وتخفف عنه من بلواه. فلما كانت قاب قوسين من ابن بليوس، هالها أن ترى إليه يعصف به الحزن ويوهنه الجزع، والجند مع ذاك قد بوئوا مواقف للقتال، فما هي إلا أن أمرت فونيكس بأن يصب الخمر المعتقة على صدر صديقه لينقذه من ضيقه وليخفف عنه من وطأة الجوع. ويصدع فونيكس؛ فيتقدم إلى أخيل كاشفا عن صدره، ويصب السلافة الأولمبية فيشربها الجسم الضاوي، ويسترجع بها ما فقد من قوة، وما يفتأ فونيكس يصب الخمر، وما يفتأ أخيل ينظر إليه مشدوها، حتى يكون في كل قوته من أثر المدامة، فيصيح صيحة الحرب التي تهتز لها أبراج طروادة!
فانظر إليه مقنعا في حديد فلكان، وانظر إليه تحت تلك الخوذة التي لم تصنع مثلها يد الإله الحداد، وانظر إليه يداعب حربة شيرون أستاذه السنتور العظيم، ثم انظر إليه كالبركان المضطرب يقذف النار من عينيه المغضبتين ومن حوله الميرميدون يملئون الرحب ويسدون الشعاب.
ويل لك يا هكتور!
فزع الآلهة
قلق زيوس من اعتزام أخيل اقتحام الحرب.
وكيف لا يقلق سيد الأولمب وكل من الفريقين يصلي له، ويطلب منه العون، ويتوسل إليه أن يظفره بعدوه، فتنجلي هذه الغاشية التي صرعت الرجال، وضرجت أديم الثرى بدماء الأبطال!
ودعا إليه أربابه فعقد منهم مجلسا للمشورة؛ فانتظم ديوان الأولمب، وحفلت بهم ذروة جبل إيدا، وطفق الإله الأكبر يقلب الرأي على جميع وجوهه، ويبحث المسألة من شتى أطرافها، والأرباب فيما بين ذلك يحملق بعضهم في وجوه بعض، وتضطرم في أفئدتهم نيران العداوة والبغضاء؛ لأنهم كانوا جميعا وقلوبهم شتى! فهذا فريق منهم يعطف على طروادة، ويشيد بذكر طروادة، بل منهم من اشترك في بناء طروادة، وإقام أسوارها وتمكين صياصيها؛ والطرواديون من أجل هذا قد أخلصوا العبادة لهؤلاء فأقاموا لهم الهياكل المشيدة والمعابد المنيفة، وهم في طويل الأحقاب والآباد ما يفترون عن عبادتهم والإخبات لهم، وتقديم القرابين والضحايا بأسمائهم.
وفريق آخر من الآلهة يعتبر الشعب الهيلاني شعبه المخلص؛ فهو لذلك يحدب عليه ويرجو الخير له، وهو أبدا يستأذن سيد الأولمب فيحارب في صفوفهم ويشد أزرهم، ثم الهيلانيون يخلصون العبادة لهذا الفريق وهم أبدا يتعلقون بهم ويقيمون المعابد لهم في كل حنية من جبالهم وبكل منعرج من شعابهم، ومنهم كل مثال صناع اليد، مرهف الحس، رفيع الذوق؛ وهم لذلك ملئوا المعابد والهياكل بتماثيل الآلهة حتى ما تقع العين على أجمل منها!
وفريق ثالث لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، ينقم على هذه الحرب الشعواء التي سعرت لغير ما سبب يستأهل كل تلك الضحايا ويستحل كل هذه المهج؛ وهذا الفريق يحنق على طروادة ويحنق على هيلاس على السواء، ويود لو يأذن سيد الأولمب فيزلزل بهما الأرض، أو يرسل عليهما كسفا من السماء، فلا يبقي على أحد منهم أبدا!
واتفق الآلهة على أن يذهب فريق منهم فيكون في صفوف الطرواديين يرشدهم، ويدفع عنه عادية أخيل، ثم يذهب فريق آخر فيكون في صفوف الهيلانيين يفل من نشاطهم، ويكسر من سورتهم حتى تكون الحرب بين الجمعين سجالا؛ وإلى أن يرى الآلهة في شئون خلقهم رأيا آخر.
وانطلقت حيرا مليكة الأولمب ومينرفا ربة الحكمة، ثم هرمز رسول الآلهة وقائد الأرواح إلى هيدز، وفلكان الحداد إله النيران ، الذي فضحه مارس في زوجه، ونبتيون رب البحار العتيد الذي روع الطرواديين في هذه الحرب أيما ترويع.
انطلق هؤلاء فكانوا في صفوف الهيلانيين.
وانطلقت فينوس إلى صفوف الطرواديين، وراح في أثرها أبوللو وأمه لاتونا وديان ومارس وإكسانثوس وفئة غير هؤلاء من عشاق فينوس.
وانبث الآلهة ينفخون في أبواق الحرب.
وصاح أخيل في شياطين الميرميدون صيحة مدوية. زادتها مينرفا قوة فما تركت فؤادا إلا زلزلته، وما غادرت نفسا إلا تركتها تزحف من خوف وفزع.
وكان أبوللو ينظر إلى أخيل فيتميز من الغيظ، ويود لو يبطش به في غدرة من غدراته التي أودت ببيتروكلوس من قبل، ولكنه أحس بفرائصه ترتعد، وفقاره يندك من الرعب لما رأى حول أخيل من هذه الأرباب المتعطشة للدماء، لا سيما هذا الإله الوحش نبتيون الذي كان يرسل من عينيه بركانين من الغضب يضطرمان اضطراما.
وآثر أبوللو أن يستخفي في زي ليكاون بن بريام وصورته، وأن يذهب من فوره إلى إينياس العظيم مستشار طروادة وأبسل شجعانها بعد هكتور، فيثيره على أخيل ويلهب فيه نخوة الجاهلية التي سداها التفاخر بالأنساب، ولحمتها التباهل بالأحساب، والتبجح بأنا ابن من سمك السماء، ودحا الأرض وأنبت فيها من كل زوج بهيج!
واستطاع أبوللو أن يهون على إينياس من شأن أخيل، وأن يحقر في ناظريه خطبه، واستطاع ببيانه الموسيقي وطلاقته السحرية أن يدفعه إلى ناحية أخيل الذي وقف مكانه يقذف الرعب في قلوب الطرواديين وأحلافهم، باحثا عن غريمه البغيض هكتور بن بريام؛ يود لو يخلي بينه وبينه فيبطش به، ويشفي هذا اللظى الذي يتأجج في جوانحه، لقتله أعز أصدقائه وأحب الناس إليه.
ووقف إينياس تلقاء أخيل، فتبسم زعيم الميرميدون، ووعظ المحارب أن ينثني فلا يلقى حتفه، وذكره بما حدث بينهما قديما، حين ساق أخيل قطعان إينياس السائمة في سفح جبل إيدا؛ وما كان من فرار إينياس، هذا الفرار المضحك الذي أشمت به الأعداء، وأثار عليه سخرية الأصدقاء والأوداء!
ولكن إينياس الذي كان لا يزال مأخوذا بسحر أبوللو وموسيقاه أبى واستكبر، وهز أعطافه ثم أخذته العزة بالإثم، وانطلق يقذف في وجه أخيل بهذا التفاخر الذميم الذي لا يجدي في حلبة الحرب نفعا، ولا يجر على صاحبه مغنما، يوم لا حكم إلا للمرهف البتار، ولا قول إلا ما يقول الفيلق الجرار.
والتحم المحاربان العظيمان!
وارتطم الصخر بالصخر، وثار النقع في الميدان، وأظلم حتى قد تهاوت كواكبه، ونظر الجمعان نظرة القلق الحيران، وأخذ الذهول يضرب أطنابه على الساحة الحمراء، ونظروا فرأوا إينياس يستجمع كل قوته، ويقذف برمحه العظيم فترده درع فلكان، وإن تكن الطعنة قد شقت منها طبقتين، ثم فترت، فلم تصل إلى فؤاد أخيل.
وهنا!
اشتعلت نيران الدنيا في عيني زعيم الميرميدون، وذاب في أعصابه حميم من الغضب، وأرسل بدوره رمحه الهائل يرن على درع إينياس فلا يصيبه بأذى، ولكنه؛ لعظم الطعنة يصرعه ويطرحه فوق أديم الثرى فريسة رخيصة لغوائل الردى، وضربات الرقاق البيض.
وينحني أخيل من عربته الفخمة فيتناول حجرا عظيما تنوء به العصبة من صناديد الرجال، ثم يرفع الحجر ليقد به جمجمة إينياس.
ولكن ...!
لا! ينبغي ألا يقتل إينياس؛ لأنه ابن زيوس سيد الأولمب.
وهو لو قتل لم يرض به أبوه ألف ألف أخيل، وألف ألف جيش من ميرميدون أخيل ...!
هكذا قدر نبتيون! وقتل نبتيون كيف قدر!
لقد أرسلها إلى حيرا، مليكة الأولمب التي كانت قريبة تشهد الحدث الأعظم، قولة غير صادقة إلا في زعم نبتيون!
وعارضت حيرا في تدخل نبتيون، ولكنه؛ لشدة حبه أخيل لم يسعه إلا أن يسرع إليه فينشر أمام ناظريه ضبابة كثيفة حجبت عنهما هدف إينياس، ثم انكفأ يحمله بعيدا من أخيل، حتى انتهى إلى صفوف الطرواديين الخلفية، فسجاه على العشب الأخضر، وأخذ في نصحه ألا يجازف بنفسه أمام أخيل كرة أخرى!
وكان الجمعان ينظران إلى إينياس محمولا في الهواء، فيأخذ العجب منهما كل مأخذ! •••
وامحت الضبابة، وبطل السحر، ونظر أخيل فلم يعثر لإيناس على أثر، وشدهه أن ينجو خصمه من قتلة محققة، فيلقى في روعه أن إيناس سليل الآلهة كما ادعى منذ لحظة؛ ثم يشدهه أكثر تجابن الميرميدون والهيلانيين على السواء، بعد إذ رأوا إلى إينياس محمولا في الهواء!
ويحضهم أخيل على خوض المعمعة، ويستطيع بحماسته أن يلهب في صدورهم روح الإقدام ...
ويكون هكتور في هذه اللحظة قائما في جنوده يحضهم هو الآخر ويطمئنهم أن الآلهة معهم فلا يخافون ولا يحزنون، ويراه أخيل فيخفق قلبه ويعلو صدره ويهبط كأنه الخضم الغاضب، ويدفع عربته نحوه، فتندفع الخيل وكأن النيران تندلع من عيونها وأنوفها.
وكان أبوللو إلى جانب هكتور، فلم يرض له أن يلقى أخيل الذي ما خاض المعمعة إلا ليثأر لصديقه بتروكلوس.
وكاد هكتور لا يأبه لكلام أبوللو، وتقدم فعلا ليلقى أخيل، ولكن الإله الكبير زجره زجرا شديدا، ثم أمره بالتقهقر في الحال، فانسحب بطل طروادة، وترك أخيل يحرق الأرم مكانه؛ إذ أفلته هذا الصيد الثمين!
وانقض أخيل يشفي غيظه بقتل عشرات وعشرات من أبطال طروادة، فصرع إيفتيون العظيم ابن عذراء البحر، ثم ثنى بالكمي الكبير ديموليون فشج رأسه، فانبثق الدم يتفجر منه وبرز المخ، وذهبت روحه إلى هيدز! ثم ثلث ببطل الأبطال هيوداماس، شكه شكة فتركه يخور كخوار الثور، مسوقا إلى مذبح الآلهة، ثم انقض على بوليدور بن بريام ملك طروادة فطعنه في ظهره طعنة صرعته ونشرت ظلام الموت في عينيه، فهوى إلى الأرض يئن أنينا مؤلما أبكى الجند، وأحزن أخيل نفسه.
لقد كان بوليدور أحب صغار بريام إليه، وكان يجري فيسابق الريح وينازل القروم الصيد فيصرعهم عشرات ووحدانا، فيا حزن أبيه الملك عليه بعد اليوم!
وكأن ظلام الموت الذي خيم على عيني بوليدور امتد حتى ظلل عيني هكتور! ولم تكن الحياة رخيصة في نظر بطل طروادة مثلها اليوم، فقد فجعه أخيل في بوليدور، فلا بد أن يفجع ذيتيس وبليوس والدي أخيل، في أخيل نفسه.
وألهب جياده فاندفعت بعربته ناحية أخيل.
واستبشر زعيم الميرميدون حين رأى هكتور يسرع ناحيته قدما، وذكر أنه قاتل بتروكلوس فدارت به الأرض، وذكر أن بتروكلوس ينتظر ثأره ميتا، ولا بد أن يعود أخيل إليه به ، فتقدم نحو هكتور وقال له: «هلم يا ابن بريام فتعجل قتلتك، وودع الحياة الحلوة التي لن تهنأ بها بعد اليوم!» وتجهم هكتور، وكلم أخيل فاعترف أنه أقوى منه وأطول في مواقف الحرب باعا، ولكنه حذره من الغرور؛ «ومن يدري؟! هل أوحت إليك السماء أن تقتل هكتور؟ وهل أخذت على المقادير عهدا ألا يصرعك هكتور؟!» ثم انقض ابن بريام فأرسل حربته الظامئة إلى صدر أخيل، ولولا أن مينرفا كانت جانبه تحرسه، ولولا أنها زحزحته قليلا فتفادته الطعنة، لكان أخيل حديثا من الأحاديث!
وبهت أخيل، ثم صاح صيحة رجف لها جانب الجبل، وجاوبتها أسوار طروادة، ورددت أصداءها أجواز السماء؛ وانقض على هكتور يود لو يقتلعه من عربته فيضرب به الأرض، وتذهب روحه بعدها إلى الجحيم! وكان أبوللو إلى جانب هكتور هذه المرة كما كان إلى جانبه دائما؛ وراع الإله الأكبر أن يهجم أخيل تلك الهجمة الي يعجز عن مثلها مارس الجبار نفسه.
وذهل أبوللو ماذا يصنع ليقي بطله من رمح أخيل؟!
ثم ذكر ما صنعه نبتيون من أجل إينياس، فنشر ضبابة كثيفة أمام عيني أخيل، وتقدم إلى هكتور فحمله وذهب به إلى حيث يكون بنجوة من مصير محزن كان يوشك أن ينتهي إليه.
وظل أخيل يطعن الضبابة، مشدوه اللب حيران!
طعنها مرة ثم مرة ثانية ثم ثالثة، ثم ما كاد يطعنها الرابعة حتى أمحت وبطل السحر، وانكشف له الميدان يضج بالجند ويعج بعدة الحرب، ولكنه مع ذاك وغير ذاك ... خلو من هكتور! «جميل يا هكتور! صل للإله الذي أنقذك اليوم مني! صل لربك أبوللو! لقد أنجاك من قتلة بينة وموتة محققة ... صل له هكتور! ولكن ثق أننا سنلتقي بعدها، ولا أدري هل ينقذك إلهك عندها؟!
إن لي أربابي التي تحميني والتي إن فوجئت بغادر مثلك فهي تنجيني، سنلتقي يا هكتور، فصل الآن لأبوللو.» •••
وثار أخيل فكان زوبعة!
وطفق يصرع أبطال طروادة، فطعن دريوبس طعنة اخترمت حياته، ثم جندل ديماخوس وأسرعت روحه إلى أمواج ستيكس المنصهرة، وتقدم فأطاح رأس دردانوس العتيد، وجال جولة هنا وجولة هناك فكانت المنايا تتعثر أنى ذهب وأيان سار، فهذا تروس البطل ملقى على الأرض، والدم ينبثق من كبده، وموليوس الصنديد زائغ العينين يتوجع مما ألم به، وإخكلوس ابن أجينور تساقط نفسه حشاشات، ثم ديكاليون الذي دوخ الجيوش وروع الأبطال، وبث اليتم في كل دار، ها هو ذا فوق الثرى جسدا مثخنا وجثمانا يتدفق الدم من جراحه، نهاية حمراء لحياة حمراء كلها حرب وتقتيل!
ورجموس!
رجموس بن بريوس! الذي شد رحله من تراقية لينصر الطرواديين على بني وطنه، قائدا جموعه التي لا حصر لها؛ مؤلبا القبائل والأفخاذ على الأرض التي أنجبته والآلهة التي نشأته، لماذا؟ لا سبب معقول!
ولكنه طيش الملك وغروره وكبرياؤه، ولأن الهيلانيين لم يختاروه قائدا لهم في هذه الحرب الزبون!
لقد امتشق أخيل سيفه، وأصلته على رأس رجموس، ثم أهوى به، فخر الخائن يتشحط في دمه، وانتهت بموته حياة ذميمة.
وزلزل قلب أريثوذ، حارس رجموس وسائسه، فود لو فر بعربة سيده لولا أن عاجله أخيل بضربة قدت أضالعه، وذهبت بروحه إلى حيث ذهبت روح مولاه.
طوفان
تفزع الطرواديون مما أخذهم به أخيل؛ وزادهم خبالا هذا الظلام الذي راحوا يضربون فيه على غير هدى، والذي كانت حيرا تمد في دياجيره فيتدجى فوق الساحة الصاخبة، ويمكن لابن بليوس من أعدائه فيضرب في أقفيتهم، ويهوي على أعناقهم ويمسح بسوقهم ويضرب كل بنان.
وضاق الجسر بجموع الفارين، فاضطروا إلى خوض عباب النهر الزاخر، وخوضوا فيه بخيلهم ورجلهم، وتطامن لهم سكمندر
1
فسكنت أواذيه ونامت جراجره، وانكشف قاعه عن حصباء كالدر النضيد.
وتبعهم أخيل فخاض مياه النهر، ثم أعمل سيفه ورمحه، فكانت شآبيب الماء تختلط وشآبيب الدماء، وأنين القتلى يمتزج وأصداء المنهزمين، والجماجم المنتثرة تصطدم بالأشلاء الطافية هنا وهناك، والسماء الكاسفة ترسل عقبانها تتغذى بالجزر المتساقط في رحب المعركة؛ من بطون مبقورة وهام مفلقة ولحم مقروم.
واستطاع أخيل أن يحصر اثني عشر شابا فيأخذ عليهم سبيل الفرار، وفضل أن يرسلهم إلى سفائنه أسرى حتى لا يثخن في الأرض، وحتى يشهدوا ثمة ذلك القتيل المسجى تسقيه ذيتيس الحزينة خمرا؛ فكبل أرجلهم وأيديهم من خلاف، ووكل بهم جماعة من رجاله، فقادوهم إلى الأسطول بعد ما وقفوا هنيهة أمام جثة بتروكلوس، يؤدون لها تحية المعركة التي دارت رحاها عليهم، واصطلوا من بعده بنارها.
وطفق أخيل يأخذ الجموع من كل حدب، ويلقاهم في كل صوب، حتى كان وجها لوجه أمام ليكاون بن بريام، الذي كانت له معه قصة قديمة مشجية، زمان إذ أسره أخيل واستاق قطعانه، وحبسه في جزيرة لمنوس، حتى افتداه أهله من الحرس الموكل به، ورشوهم بمائة ثور جسد ذي خوار ليطلقوا سراحه!
مسكين ليكاون بن بريام! لقد فر من جزيرة لمنوس منذ اثني عشر يوما فقط، وسعى إلى هذه الساحة النكراء ليلقى فوق أديمها حتفه، كما لقيه أخوه بوليدور من قبل.
ودهش أخيل؛ إذ رأى ابن بريام يذرع في الميدان أمامه، وعجب كيف أفلت من منفاه السحيق في عرض البحر، ثم أيقن أن في الأمر مكيدة، فانقض على الفتى المسكين انقضاض الباشق، وأرسل إليه طعنة نجلاء كادت تخترم أجله لولا هذه اللفتة الرشيقة التي انفتلها الشاب فأنقذت حياته، ولو إلى حين!
وفتح الفتى عينيه فنظر إلى شبح الموت تنتشر سماديره من ظبة سيف أخيل، وأحس كأن هذا الشبح يلاحقه في كل مكان فيقبض على عنقه ويضغطه، ثم ينشب فيه أظفاره فيسري السم في هيكله الخاوي فلا يكاد يبين!
وحاول أن ينجو من روع هذا الموقف، ولكنه كان أبطأ من حتفه الذي يسابقه، فلما أيقن أن لا سبيل إلى الفرار ألقى سلاحه وتقدم إلى أخيل فقبل ثرى الساحة عند قدميه، ثم لف ذراعيه المرتجفتين حول ساقي زعيم الميرميدون، وطفق يضرع إليه ألا يقتله؛ «فإن لي أما محزونة ما تفتأ ترسل دموعها على أخي بوليدور الذي قتلته منذ لحظة، والذي أذويت شبابه النضر ولم تبق على عوده الفينان، ولم ترحم فيه قلوبا تعطف عليه، وأبا شيخا أصبته في ولده بقاصمة الظهر، أرسلني يا أخيل تباركك الآلهة وترعاك أرباب الأولمب، ولا تفجع في ذينك القلبين الحنيين علي الحفيين بي ...»
وكان الفتى يغسل توسلاته بعبرات شبابه ، ويصهرها بآهات صباه ... ولكن أخيل الذي يضطرم حزنا على بتروكلوس لم تأخذه رحمة في ابن بريام المسكين، وأخي هكتور الذميم! بل استل جرازه البتار وأهوى به على عنق الفتى، فطاح الرأس الطروادي الكريم!
وكان البطل الطروادي العظيم سترابيوس بن بلجون - رب البركات الذي يدين له بحياته أكسيوس رب النهر الشرقي الكبير - كان سترابيوس على مقربة من أخيل وهو يصرع ليكاون بن بريام، فجزع - شهدت الآلهة - على ابن الملك، وأحزنه ألا يرق أخيل لتوسلاته؛ ووقر في نفسه أن يقتص له من هذا الشيطان ويخلص الطرواديين منه، فيطير ذكره في الخافقين ويقترن اسمه بما لم يقترن به اسم أحد في العالمين. فيمم شطر أخيل والكبرياء تنفخ أوداجه، والغرور يشيع في أعطافه، ثم هز رمحه هزة المتحدي الخصيم.
وزجره أخيل فلم يزدجر، فانقض عليه انقضاض الحتف، وأخذه أخذ المنية، لا تجدي فيها إذا أنشبت أظفارها التمائم، ولا تدفعها الرقى، ولا تفلت من أقصدته ولو كان في برج مشيد!
وأرسل أخيل رمحه كالصاعقة، لو لقي الصخر لقده، أو الجبل لنفذ فيه، ولكن سترابيوس كان أرشق من أن يلقى الطعنة، فانزلق انزلاقة خفيفة أذهبت الرمح في الهواء، ثم هوى إلى الأرض فغاص فيها؛ ومن ثمة راح يداعب أخيل حتى أحنقه وحتى بلغ الغيظ منه، فامتشق ابن بليوس سيفه وصرخ صرخة رجفت لها السماء، وانصدع من هولها جانب الجبل، وهجم على سترابيوس هجمة رابية فلم يفلته، بل أرسل السيف في بطنه فخرج سنانه يلمع من ظهره، وبرزت الأمعاء فاجتمعت حولها أسماك الماء، تنوشها وتتغذى بها.
وريع سكمندر - رب النهر العظيم - إذ نظر فرأى ابن ضيفه المقدام يلفظ أنفاسه ويساقط نفسه، فدارت الأرض به، وضاقت عليه بما رحبت، وتجهم من توه لأخيل، وود لو انشق فابتلع ابن بليوس آخر الدهر، أو لو يأخذ هو سيفا فيقد به أضلاعه ويطيح به رأسه، ويريح العالم من بأسه. لكنه آثر كإله له وقاره، أن ينذر أخيل ويأخذه بالحيلة، فخاطبه من القرار ، فقال: «أخيل! يا ابن بليوس العظيم! أنا لا يهمني أن تصطلم الطرواديين جميعا، ما دام زيوس قد سلطك عليهم ورماهم بك، أنا لا يهمني من ذلك شيء، ولكن الذي يحزنني ويضيق به صدري هذه الجثث الكثيرة التي يعج بها عبابي، وينتشر منها الخبث في أرجائي؛ لقد أنتنت يا أخيل وخالطت عذوبة مائي، ولم يعد لي بها طاقة ولا عليها جلد، وهي إلى ذلك كادت تقف تياري وتشل حركتي، فهلم فارفعها عني، وقف التصريع والتقتيل حتى تطهر مجراي من أدرانها وحتى ألفظ أنا إلى البحر ديدانها ...»
وتبسم أخيل قائلا: «أما أن أقف هذه الحرب فلا سبيل إلى ذلك حتى آخذ بثأر بتروكلوس، وحتى أدك طروادة على رأس هكتور، فإما أن ألقاه فأقتله، وإما أن يلقاني فيقتلني، وأما أن أطهر مجراك من هذه الجثث الطافية فوقه، فليس لي الآن بذلك يدان، أو تضع هذه الحرب أوزراها.»
وحنق سكمندر العظيم وانطلق إلى أبوللو يكلمه في أمر أخيل، ولم يدعه أبوللو حتى أغراه بابن بليوس أعدى أعدائه وأشد شانئيه، وحتى أثاره عليه وهاج فيه كل حقد دفين. وعاد سكمندر فأشار إلى الماء فعلا وفاض، وإلى الموج فتلاطم وجرجر، وإلى الأواذي فدومت وهومت ولاحقت أخيل من ها هنا وها هنا؛ وفطن ابن بليوس إلى الخطر الذي أوشك أن يحيق به فهرع يحاول الفرار، ولات حين فرار؛ فقد أزبد الموج، وانساب العباب، وتشققت الأرض عيونا ومسايل، وعمقت اللجة، وبعد ما بين سطحها وبين قدمي أخيل، أو ما بينه وبين قرارها، فأطلق المسكين ذراعيه يسبح في أغوارها، ويتعلق بالجثث الطافية فوقها.
واشتد الخطب وعظم الكرب، وصرخ أخيل يستنجد أربابه، فما كادت حيرا تسمعه حتى فزعت إليه، وأمرت فلكان ابنها فانطلق يجفف الأمواه بنيرانه، ويرسل على الطوفان بدخانه، ويستعين في كل ذلك بآلهة الريح التي هرعت إليه من كل صوب تساعده، وكان زفيروس الكريم يهب على النهر اللجي سجسجا، ويذهب منه بكل مزنة مثقلة، وديمة محملة، فلم يمض غير بعيد حتى صفا الجو، وغيض الماء، وبرز أخيل يحمل عدته، فطربت الآلهة لنجاته، وانقض فلكان على سكمندر يحاول أن يثأر لأخيل منه، ولكن سكمندر يعاهد حيرا - إذا هي صدت عنه ولدها فلكان - أن يحصر الطرواديين بموجه، فلا يمكنهم من الدخول إلى مدينتهم، ويجعلهم بذلك هدفا لأخيل يصنع بهم ما يشاء! •••
وتثار الخصومة بين الآلهة لموقف فلكان من سكمندر، ويغيظ مارس من مينرفا أنها تؤيد فلكان وتحرضه على رب النهر المسكين الذي أفزعته النيران تأخذه من كل حدب، فتقدم إليها وطفق يقرعها وتقرعه، ويرميها بالمثالب وترميه بها، ثم تناول رمحه العظيم واستجمع كل قوته، وأرسله يود لو يقضي به على ربة الحكمة الحازمة، ولكن؛ ويل لك يا مارس! لقد ارتد الرمح فلم يستطع إلى درع مينرفا من سبيل؛ وانحنت الإلهة المغيظة فأخذت حجرا من أكبر حجارة الجبل وقذفت به مارس فدكت عنقه وقصمت ظهره وتركته على السفح الشاحب لقى من ألقاء هذه الحرب!
وظل مارس ممددا على السفح يخور ويئن ويتلوى بجثته العظيمة
2
التي كانت ترتطم بالجبل فتميد به وتهزه هزا شديدا.
وأقبلت فينوس فوقفت تواسي مارس وتهون عليه ما فعلت به مينرفا، ثم أنهضته وانصرفت به، ولكن حيرا أرسلت في إثرهما مينرفا ترى ما يكون من أمرهما بعد كل تلك الفضائح التي لوثت شرفهما، وجعلت اسمهما مضغة في جميع الأفواه.
وأقبلت فينوس على مارس تشفي حرقة في قلبه، وتنيله من قبلاتها ما تنسيه به بعض الذي لقيه من أذى، ولكن مينرفا أهابت بهما! وطفقت تنصح لهما أن يدعا إليوم فلا ينصراها على شعبهما المختار، هيلاس العزيزة! ولكن! لقد أسمعت لو ناديت حيا! فلقد أعطت فينوس باريس موثقا وإن فينوس لصادقة!
وانطلق نبتيون يعظ أبوللو ويصرفه هو الآخر عن مؤازرة الطرواديين، فذكر له أيام أن نفاهما زيوس إلى أقصى الأرض، فأتيا إلى طروادة، وعملا في خدمة أميدون الجبار الذي لم يتورع أن يرسل أبوللو فيرعى له قطعانه ويسمن نعمه وشاءه
3
كأن لم يكن أبوللو ابن إله عظيم، وكأن لم يكن هو نفسه إلها عظيما! «أتذكر هذه الأيام يا أخي أبوللو ؟! ... أتذكر أيام أن كان هذا العاتية العنيد يسومنا الذل ، ويقهرنا غاية القهر، وينزل بنا أشد ألوان الخسف، متذرعا بغضب سيد الأولمب علينا، لا تأخذه فينا رحمة، ولا يهمه أن نبرم ونتسخط ما دام - فيما كان يزعم - يؤدي ما أمره به أبوك زيوس!
فيم هذه المناصرة كلها لطروادة يا أبوللو؟ ماذا تذكر من حسنات لملكها اللعين أوميدون؟! أنسيت يوم أسخطناه بالتراخي قليلا في عملنا، فأمر بنا فقطعت آذاننا وشد وثاقنا وأصبحنا ضحكة كل راء؟! لا، لا يا أبوللو، أنا لا أرتضي لك أن تكون غبيا إلى هذا الحد ...»
وعملت فيه كلمات العم نبتيون عملها فعاهده ألا يخوض غمار هذه الحرب كرة أخرى، وقاسمه ألا يسدد فيها بعد اليوم سهما، ولو عيرته أخته ديانا ألف تعيير!
وماذا لو عيرته ديانا ورمته بالجبن أمام نبتيون؟ ها هي ذي حيرا تسمع إلى ربة القمر، فتقذفها أشنع القذف وأمره،
4
ثم تهجم عليها فتكبلها وتنثر كنانة سهامها - وتمضي بعد ذلك لشأنها ... تأتي لاتونا - أم ديانا الباكية - فتواسيها وتذهب وإياها إلى زيوس المتربع فوق سدة الأولمب، فتشكو إليه ما لحق ابنتها من زوجه، ويغضي الإله ... لأنه ليس له على حيرا يدان!
ويتم الظفر لأخيل وجنده بعد أن ينسحب أبوللو من المعركة، فيأخذ الطرواديين أخذ عزيز مقتدر؛ ويقف بريام الملك في برج شاهق يطلع على الساحة، ويشهد هزائم جنده، فتدمع عيناه، ويأمر بالبوابة الكبرى فتفتح، ويهرع الجنود ناحيتها فرارا من أخيل وشياطين أخيل، ولكن أخيل وشياطين أخيل تشطر الجنود الفارين شطرين، بل يستطيع أخيل وكوكبة قوية من الميرميدون أن ينفذوا إلى البوابة الكبرى ويدخلوا طروادة فاتحين!
وهناك يثبت لهم أجينو البطل الطروادي الحلاحل، ويأخذ مع أخيل في ملاحاة عنيفة، ثم يتقارعان برهة، ويصاول أحدهما الآخر.
ويكون أبوللو! إلى جانب أجينور يحضه ويحرضه ويثبت قدميه، ناسيا مواثقه التي قطعها على نفسه أمام نبتيون.
ويهم أخيل أن يبطش بفتى طروادة.
لو لا أن يعز على أبوللو أن يلحق أجينور بصاحبه استرابيوس من قبل، وبعشرات الأبطال من مثل استرابيوس، فيتقدم إلى أجينور يحميه، ويرسل عليه سحابة بيضاء فيحمله فيها ... مضللا أخيل عن خصمه، ومبعده خارج البوابة التي يقفلها الطرواديون من دونه.
مصرع هكتور
اختلط حابل الطرواديين بنابلهم، وظلوا يهرعون إلى الأبواب حذر الموت الذي يتلقفهم عن شمائلهم وعن أيمانهم، ومن فوقهم ومن تحت أرجلهم، كأنما جثت المنايا في كل خطوة فهي لهم بالمرصاد ... طالما يكر أخيل هنا ويفر هناك، وتكر من خلفه وتفر شياطين الميرميدون صائحين متهدجين «يا لثارات بتروكلوس!»
ووقف أبوللو وهو يتميز من الغيظ يشهد المعركة ويرى إلى أخيل يحصد تلك الرءوس اليانعة التي لم يحن بعد قطافها فلم يملك أن دنا منه وقال: «على رسلك يا ابن بليوس، فكأني بك ما كفاك من صرعت حتى لتحدثك نفسك بقتال الآلهة، ومحاربتي أنا من دون أرباب الأولمب خاصة! ولكن هيهات! فإنك لا بد يوما ذائق الموت الذي لن يذوقه إله في الأرض ولا في السموات، فاقصد في تقتيل هؤلاء الأبرياء ولا يغرنك نصر قد تكون في آثاره هزائم ...»
وعبس أخيل عبوسة قاتمة ثم نظر إلى أبوللو مغضبا وقال: «حسبك يا سيد الشمس ما ضيعت من جهود وما فوت علي من ثارات. أعرج في سمائك الشاسعة ودع بني الموتى يصطرعون من أجل المجد والشرف ... لقد أنقذت خصمي من قتلة محققة، فهل يا ترى تظل يا سيد الشمس تعترض طريق الأقدار ليمرح في كنفك الفجار الأشرار؟»
وانطلق أخيل يعدو في إثر هكتور، وكان هكتور قد أخذته العزة أن ينجو بنفسه فيدخل المدينة مع الداخلين.
وكان بريام الملك الشيخ يشرف على الساحة الحمراء من أحد أبراج مدينته، فرأى ابنه واقفا في إحدى حنيات الأسوار يستجم، ويرسل في رهج الميدان عينين سادرتين محزونتين تشفان عن قلق عميق، واضطراب دوي، فريع الأب المفئود وزلزل زلزالا شديدا، وطفق يئن أنينا عاليا ويضرب صدره الموهون بيديه الواهيتين ثم يصيح بابنه أن يسارع إلى البوابة الإسكائية قبل أن يلحق به أخيل، عسى أن ينجو مما يتربص به من منون. «أي بني! هكتور! فيم تقف في هذا الميدان وحدك تنتظر الطاغية أخيل عليه لعنة السماء والآلهة بقتله بني وإهداره دماء مواطني!
هلم يا بني فحسبي ما جزعت على بوليدور، وحزنت أمض الحزن وأوجعه على ليكاون، وما حطم قلبي من الأسى على أبناء إليوم!
هلم يا بني فأنت أمل طروادة ومعقد رجائها، وليس لها بعدك من ولي ولا شفيع!
هلم فأبوك الشيخ قد صدعه الحزن وأوقرت ظهره ويلات الحرب وأغطشت عينيه أرزاء هذا البلاء، فلا تكن أنت محنة المحن التي تحل به، واستبق شبابك له يتسل بك، ولأمك المفجعة تستلهم بقربك الصبر على ما كرثها الزمن الصارم من نكبات يلاحق بعضها البعض، وتأخذ أولاها بتلابيب أخراها مشرق كل شمس وكل مغيب شمس.
هلم يا هكتور إلي! إلى والدتك! إلى زوجك! إلى طفلك الذي تكاد تسلمه لليتم، وتدعه خلفك للشقاء!
هلم وحسبنا أرامل شجعاننا اللائي يحلن إشراق أيامنا ظلمة، ويصيرن لألاء الحياة قتاما، ويرسفن في أغلال الاستعباد حيث يقمن في خدمة الإغريق اللؤماء!
هلم إلي يا بني! فوأرباب الأولمب إني لأرتعد فرقا كلما خلتك ملقى بالعراء تنوشك سباع الطير، منبوذا لضواري هذه البرية التي طالما أطعمتها وأكرمت مثواها ...»
وصمت الملك وراعه أن ابنه لم يتحرك لتوسلاته، بل لبث مكانه يرمق الميدان، فراح يضرب يدا بيد، ثم انحنى فجعل يحثو التراب على رأسه المجلل بثلج الشباب وندف الأيام، وبهذه الشعلة البيضاء التي زادتها أحداث الزمان اضطراما.
وكانت هيكوبا إلى جانبه ... هكيوبا مليكة إليوم ... هكيوبا الأم ... التي فجعها أخيل في عدد من أعز أبنائها، ويحاول اليوم أن يفجعها في هكتور، ابنها البكر، وتاج الأمومة الوضاح الذي تفخر به كل أم وتدل به كل والدة!
وقالت الأم الباكية تخاطب هكتور: «هلم يا ولدي؛ فإنك وحدك لا تستطيع أن تكبح جماح هذا البحر الزاخر من الجند، بل لو أن معك ألفا من شجعان طروادة ما وسعهم أن يردوا عادية هؤلاء الميرميدون المقنعين في حديدهم المدلين بعديدهم.
هلم يا هكتور واستبق شبابك وعنفوانك لأمك المحزونة التي لم يبق لها من ولد غيرك، ولا عز إلا في جوارك ولا حمى إلا في كنفك، ولا مجن يرد عنها عوادي الأيام إلا في ظلك، ولا فخر لها بين النساء إلا فخرك، وما تمد الآلهة في أيدك وتشد به أزرك ...
هلم يا بني فقد أزعجتني الرؤى وروعتني الأحلام، وجثمت فوق صدري أشباح هذه الساحة التي تفتأ تلبس الحداد وتخلعه وتغري بالنصر ثم تنزعه، وإن سرت بطلا بفوز تنكص فتفجعه، فتقد أضلعه وتمزج بدمه أدمعه ...»
وكانت الملكة - كما كان الملك - تمزج توسلاتها إلى ولدها بأغلى الدموع وأحر الآهات؛ بيد أن هكتور ظل مسمرا مكانه كالحية الرقطاء التي تتحوى وتتكوم في انتظار عابر تنقض عليه؛ وكان يمني نفسه أن يأخذ أخيل على غرة، فيريح طروادة منه، ويضفر لنفسه بنفسه إكليلا من المجد لم يزن مفرق بطل من قبل.
وكانت توسلات أبويه تتناثر حول أذنيه ولا يصغي لها قلبه، بل هو قد ظل يحلم في يقظته أحلاما معسولة كانت تطن في خلده هكذا: «ضلة لي إذا ثنيت عناني إلى المدينة ألوذ بها من أخيل، فأرسف أبد الدهر في حضيض العار، وأطأطئ حياء كلما رأيت طرواديا يهمس في أذن أخيه: إن هذا هكتور الذي ولى دبره ونكص على عقبيه ولم يجرؤ أن يلقى أخيل بمفرده في الميدان، وأين أذهب من غادات إليوم وحرائرها إذا أنا وليت الأدبار، وهاهن مشرفات على الساحة يرين ماذا يكون من أمري مع ابن بليوس الذي تفزع الآلهة من ضرباته، وتمور الأرض تحت عجلاته، وتنعقد عجاجة الوغى فوق رأسه، في حين يبرز منها كالكوكب الدري! حاشاي أن أعود أجرر أذيال الخيبة؛ فإما أن ألقاه فأريح الدنيا قاطبة من شره، وإما أن يريحني هو من هذا الهم المقيم فأقضي في سبيل بلادي ومن أجل مملكتي.
ثم فيم صراخ أبي وعويل أمي؟ أيرجوان أن أدخل إلى المدينة فأكون بنجوة من الموت الشريف فوق أديم الميدان ساعة ثم يفتحها أخيل علي، فيذبحني كما يذبح شاة لا حول لها ولا طول، أو يضع الأغلال في عنقي ويجرني في شوارع «إليوم» كما تكون أذن الجارية في يد النخاس بسوق الرقيق؟!» «حاشا ... بل خير لي ألف مرة أن أخوض خبار المعمعة ما دام لن يضيرني إلا ما حتمت المقادير علي.»
وما كاد يفيق من أحلامه حتى كان أخيل أمامه وجها لوجه وعلى كتفه الرحب الهرقلي رمحه الظامئ العتيد، وفوق صدره العريض الممرد سوابغ دروعه التي سردها الإله الحداد فلكان، تنعكس عليها آلاف وآلاف من آراد الشمس فتبهر الأبصار وتخلع الأفئدة وتذيب في الجوارح كهرباء الرعب وتشعل في الرءوس ضرام المشيب!
وزاغ بصر هكتور واضطربت مفاصله ونخب قلبه واستطير لبه وأحس كأن جبلا ينحط على روحه فلا يكاد يفلتها، وذاب الثلج في عروقه فجمدت من الروع والفزع وهزته قشعريرة طفقت تعصف بكيانه الضخم وتلعب بفؤاده الوني.
ثم بدا له أن يلهب جياده فتفر به من وجه أخيل، ولكن إلى أين؟ إنه حيثما تولى فثم وجه أخيل! إن أخيل غدا آلافا لا حصر لها من الأشباح المفزعة تملأ الساحة وتكظ الهواء وتأخذ على الطرواديين أنفاسهم!
وانطلق ابن بليوس في إثر هكتور، وأشرف عذاري إليوم يطللن من أبراج المدينة الخالدة ويمسكن حبات قلوبهم أن تثب إلى الميدان فتطأها سنابك تلك الجياد الجوامح. وكان كلما أغذ هكتور خف أخيل في أثره، فكانا كالأبردين:
1
لا الليل يدرك النهار ولا النهار يستأني فيدركه الليل حتى نال منهما الجهد، وتفزعت الآلهة في علياء الأولمب إشفاقا على ابن بريام العظيم، ورثاء لابن بليوس المتهدج ورحمة لهذه الأرض المضرجة بدماء الشهداء.
وهم سيد الأولمب أن ينقذ هكتور لولا أن أقنعته ابنته مينرفا ربة الحكمة والموعظة الحسنة فنحته عن طريق الأقدار وأخلت بين أخيل وخصمه.
وطافا حول طروادة ثلاثا وما كادا يبدآن طوافهما الرابع حتى قبض زيوس إليه ميزان القدر فهوت كفة الحق بقتل هكتور، واربد وجه أبوللو وسقط في يده، وانطلق يضرب أخماسا لأسداس! ...
وأسرعت مينرفا إلى أخيل تزف إليه بشرى السماء، وآثرت له أن يلبث مكانه يستجم نشاطه ويتنفس الصعداء حتى تذهب هي إلى هكتور فتغريه بلقاء خصمه وتنفره من هذا الفرار الذي أضحك منه قيان إليوم وحسانها ...
واستخفت مينرفا وبدت لهكتور في هيئة أخيه الأصغر ديفوبوس، ثم راحت تحضه على الحرب وتحرضه على أخيل، وتهون له من شأن زعيم الميرميدون، وتعده أنها ستقدم له كل عون حتى يظفر به وتنصره السماء عليه نصرا عزيزا.
ولم يشك هكتور في أن الذي يخاطبه هو شقيقه وحبيبه ديفوبوس، فوقف قليلا يفرج عن قلبه بعض ما كرثه من روع، وراح يمزج شكرانه لأخيه بدموع الفزع، وذلة العبارات المتقطعة الحزينة، وخفقان القلب المضطرب ذي الوجيب!
وانثنى هكتور للقاء أخيل.
فما كاد ابن بليوس يشهده مقبلا بعد إذ كان مدبرا حتى طرب قلبه وشاعت بشاشة اللقاء في زنده القوي وسواعده المفتولة، ثم انقلبت هذه البشاشة إلى جهنم من الغيظ تستعر بالتشوف إلى الانتقام في فؤاده، وتضطرم بلظى البطش في سويدائه؛ وتطل من عينيه تود لو تنقدح في أضلع هكتور!
وقال هكتور: تخدع نفسك يا أخيل إذا ظننت أني كنت ألوذ بأذيال الهرب منك، حين أجريتك هذه الأشواط الثلاثة حول إليوم! لا ... فإنني ما حاولت إلا إجهادك وأن ينال الإعياء منك، والآن، ها أنا ذا قد انقلبت للقائك فإما أن أقتلك وإما أن تروي روحك الظامئ من دمي. من يدري؟ أليست الأقدار مطوية عنا في صحائف الغيب؟ لا يعلمها إلا سيد الأولمب وكبير الآلهة: زيوس جل شأنه!
بيد أنني أطمئنك من الآن يا أخيل، إن أظفرتني السماء بك، فلن أفضحك في هذه العدة السابغة من فوقك، ولن أنزع عنك تلك الدروع الضافية التي لن تنفعك من المقادير من شيء ... ثم أعدك أيضا ألا أفضحك بعد موتك في هذا الجسم العزيز الذي سيكون بعد قليل جثة لا نأمة فيها ولا حياة ... لن أرسل بك إلى عراء طروادة فأنبذك فتأكل الطير منك، وتنوشك سباع البرية الموحشة التي تعج بالضواري والكلاب ... لا ... لن أفعل من ذلك قليلا ولا كثيرا ... بل سأترك لجنودك البواسل أن يحملوك إلى سفائنك عزيزا في قتلتك كما كنت عزيزا في معاشك.
والآن؛ يا ابن بليوس! هل تعدني الوعد الذي وعدتك؟ وهل تعاملني بمثل ما أنا معتزم أن أعاملك إن أظفرتك السماء علي؟
وتزلزل الأرض تحت عربة أخيل مما سمع من مهاترة ابن بريام، ويقذفه بشواظ من الكلم المحنق والقول المضطرم ثم يقذفه بصعدته الظامئة التي تمرق إلى هكتور كالبرق الخاطف لو أصابت منه عضوا لذهبت به إلى الجحيم.
ولكن هكتور العظيم ينفتل كالبرق الخاطف، فيهوي رمح أخيل إلى أرض الساحة ويغوص ثمة إلى ثلثيه ... إلا قليلا.
وكانت فرصة طيبة لهكتور ينفرد فيها بخصمه الأعزل لو لم تكن مينرفا حاضرة وعلى أهبة تامة لمعاونة أخيل؛ فلقد سارعت إلى الرمح فانتزعته من الأرض، وسلمته لصاحبه دون أن يلمحها هكتور ...
وقبل أن يتهيأ لها أن تصنع ذلك قال ابن بريام: «أخيل! ها قد طاشت ضربتك وآن لطروادة التليدة أن تستريح منك يا ألد أعدائها! لقد كنت تحدث نفسك برأس هكتور غريمك وخصمك، فلتبحث الآن عن رأسك يا ابن بليوس.»
ولم يكد البطل المسكين يتم قولته ويضيع بها فرصته حتى كانت مينرفا قد أعادت الرمح إلى أخيل ... وحتى تبسم أخيل ابتسامة لاذعة ساخرة بما قال هكتور الذي داعب هو الآخر رمحه ثم أرسله كأنه الحتف فارتد على درع فلكان، ثم هوى إلى الأرض فغاص فيها؛ وقبل أن يلحق به هكتور حال أخيل بينهما، وأصبح الموت أقرب إليه من حبل الوريد؛ وتلفت ابن بريام يبحث عن أخيه ديفوبوس فلم يعثر له على أثر فصاح من الوجل يقول: «يا ديفوبوس! أغثني يا ديفوبوس! أدركني يا ديفوبوس! هات لي رمحا يا ديفوبوس ...»
بيد أن ديفوبوس لم يغثه ولم يدركه ولم يحضر له رمحا، وبدت له مينرفا وهي تبتسم ابتسامة خبيثة زلزلت أركان هكتور؛ الذي فطن إلى الحيلة التي جازت عليه، فقال يخاطب الربة الساخرة وهو يكاد ينشق من الغيظ: «يا للسماء! أهكذا تخاتل الآلهة، فتقضي بموتي في معركة لا أحمل فيها سلاحا ... ولكني سأقاومك يا ابن بليوس، فإذا سقطت فلن يكون لك في ذلك فضل ولا محمدة، واذهب من بعدها فصل للخاتلة التي نصرتك وآزرتك ...»
وامتشق المسكين سيفه، ولكن ماذا يصنع الجزار البتار في ملحمة لا يقطر الموت فيها إلا على أسنة الرماح!
لقد انقض أخيل على فخر طروادة وأملها المذخور فعاجله بشكة من رمحه الظامئ نفذت في عنقه وهوت به إلى أديم الأرض المقدسة التي طالما دافع عنها مع جنوده البواسل الكرماء. «هكتور! اليوم شفيت حزني الممض على بتروكلوس، واليوم تذهب روحك إلى ظلمات هيدز غير كريمة ولا محمدة، يا كلب طروادة المذءوم! كم كنت تمني نفسك لو تظفر بي فتنبذ جثتي بالعراء لوحوش طروادة وجوارح طيرها ... ألا فحدث نفسك الآن ماذا صنع القدر بك!»
ويتهدج هكتور قائلا: «أخيل! يا ابن بليوس العظيم! أستقسمك برأسك الرفيع وأبويك الحبيبين، ألا تأخذ جثتي فتنبذها لكلابك، وتعفر جبيني الحر بثرى المذلة بين أصحابك، وحسبك أن الآلهة قد أظفرتك بي وأن المقادير السود قد أفلذتك علي».
فيقول أخيل وقد زهاه النصر على ألد خصمائه: «اطمئن يا هكتور! فكلابنا لا تستطيب إلا جزر الأبطال، وستكون لها وليمة فاخرة، فو رأس أبيك لو ملأ لي بريام هذه الدنيا ذهبا على أن أخلي بينه وبينك ليعود بك إلى إليوم ما رضينا بك بديلا ...»
وتكون سكرة شديدة من سكرات الموت جاثمة في صدر هكتور تعذبه وتضنيه، فيتأنى قليلا حتى تنجاب عنه الشحرجة ويفتح عينيه، ويقول: «أخيل! لا تغتر بما تم لك من نصر؛ فباريس أخي سيقتص لي منك، وسيرميك من أبراج طروادة بسهم يعجل بك إلي ... في هيدز ... وثمة سنلتقي!»
ويموت البطل!
وتنطوي صحيفة مجيدة من صحائف طروادة. بل تنطوي أنصع صفحاتها جميعا بموت هكتور.
يا عجبا!
هل كان كتاب الغيب مفتوحا أمام هكتور يقرأ منه عندما أنذر أخيل بسهم باريس؟! •••
وازدحم الهيلانيون حول الجثة يطعنونها ويصلونها كلوما عجزوا عن إيصالها إليها حية، فأبوا إلا أن يصلوها بها ميتة.
ونزل أخيل من عربته فانحنى على الجثة، ونزع عنها تلك العدة العزيزة التي نزعها هكتور عن جثة بتروكلوس ... عدة أخيل ... فلن تكون بعد اليوم إلا لأخيل!
واستل ابن بليوس خنجره، وأهوى على عقبي هكتور فخرمهما، وربط القدمين العزيزتين في مؤخر عربته الحربية، ثم ألهب جياده فهامت على وجوهها في الساحة، وطفقت تطويها مثنى وثلاث حول إليوم، والرأس العظيم يتعثر بثرى المعمعة الذاهلة، والطرواديون فوق الأسوار ينظرون ولا يحيرون، إلا هذا الملك الشيخ ... بريام المذهول، الذي راح يملأ الفضاء أنينا موجعا، وشجوا مفزعا، وإلا هذه الأم المرزأة ... هكيوبا الملكة، التي راحت تحثو التراب فوق رأسها، وتتقلب فوق الأرض كالطائر المذبوح.
أما أندروماك ... فلها السماء ... ولها الآلهة!
لقد كانت تضفر أفواف الزهر للقاء هكتور، وترشق الورود في أرائك المخدع، وتعد الحمام الساخن لغسل ثرى الميدان ... ولم تكن تفكر قط إلا في عودة البطل مخضب الذيل بدماء الأعداء.
ولكنها سمعت لغطا وضوضاء يرتفعان فجأة خارج القصر، وكأن هاتفا من السماء هتف بها أن تخرج لتستجلي النبأ، ولكنها شعرت بقوة خفية تدفعها إلى البوابة الإسكائية، حيث وقف بريام يبكي ولده، فما كادت تصل ثمة وتشهد هذا الجمع المحزون يذري دموعه، وما كادت تطل من شرفة البرج فترى إلى هكتور مربوطا في عربة أخيل، وأخيل الجبار يطوي به الساحة، ويذرع به الميدان، حتى وجفت نفس الزوجة البائسة وخرت إلى الأرض مغشيا عليها. •••
وأفاقت أندروماك التاعسة.
وطفقت تبكي زوجها وترثيه بالدم.
وطفقت نفسها تساقط عليه أنفسا!
بعد مصرع هكتور
انتصر أخيل!
وعاد بجثة هكتور ليجد أمه لا تزال تسقي بتروكلوس خمرا! ولا تزال تدفع عن القتيل المسجى فوق سرير الموت أسراب الذباب! ولا تزال تذرف الدموع الغوالي!
ويهرول زعيم الميرميدون، ويهرول معه جنوده حول جثة صديقه ثلاثا، ثم يقف فوق الرأس المتشح بجلال الفناء. ويقول: «السلام عليك يا بتروكلوس؛ فلقد ثأرت لك! السلام عليك فأنت خير حياة من كثيرين ممن ينعمون بالحياة، وإن تكن تسبح في لا نهاية هيدز!
هاك غريمك هكتور سأتركه جزر السباع وكواسر الطير، وسأضحي لك باثني عشر من خير شباب إليوم ... أذبحهم عند قدميك بيدي!
ابكوا بتروكلوس يا رفاق!»
فيبكي الميرميدون على بطل أبطالهم، ويعولون حتى تخفق السماء بأناتهم، وتضطرب الأرض بزفراتهم، ويمتلئ الهواء من حولهم أسى وشجونا!
ويقبل الهيلانيون من كل فج يهنئون ويعزون : يهنئون بقتل هكتور، ويعزون ويا حر ما يعزون في بتروكلوس!
ويمتلئ بهم شاطئ الهلسبنت؛
1
ويأمر أخيل رجاله فيؤتى بالشاء والظباء، وبكل عجل جسد وخنزير سمين؛ وتؤجج النيران، ويسطع الشواء حتى ينضج، وتكون وليمة يقبل عليها القوم أيما إقبال، إلا أخيل ... المنعكف وحده يذرف الدموع على بتروكلوس.
وأمر أجاممنون بماء ساخن يغسل به أخيل ما عليه من نضخ الدم وغبار المعركة، ولكن أخيل يأبى إلا أن يظل النضخ ويبقى الغبار حتى يتم تحريق بتروكلوس وحتى تنتهي المراسيم الدينية التي تقتضيها السماء، ويفرضها بلوتو
2
على موتاه!
وتفرق الهيلانيون بعد أكل شهي وري، ونهض الميرميدون إلى خيامهم يخلعون عددهم ويستجمون من عناء اليوم الحافل، ولبث أخيل وحده على الشاطئ الشاحب يرقب أواذيه الصاخبة ويرى إلى أعراف الموج تنتطح هنا وهناك وترتد ثم ترتد حتى تغيب في لا نهاية الماء!
ثم غفا إغفاءة فتمدد على العشب وأسلم جفنيه لنوم عميق.
ورأى ظلا حزينا يطيف به، ولا يكاد يبين، فتقلب ذات اليمين وذات الشمال مما تأخذه الرؤيا به، ولكن الشبح ما يفتأ يهوم ثم يهوم، ويقترب ثم يقترب حتى يكون عند رأسه، وحتى يقر النائم فما تبدو منه حركة، ويسكن فما يتردد فيه نفس، ويحسر الزائر لثامه، فإذا هو بتروكلوس!
لقد أقبل روحه الكبير يتحدث إلى مولاه، فيقول: «أخيل! أهكذا تنام ملء عينيك وتدع صديقك يهيم في مملكة الظلمات دون أن يؤذن له بعبور ستيكس الفائض بالحميم، ليقر في عدوته الأخرى مع المؤمنين! إنني يا صديقي سأبقى طريدا شريدا ما دمت أنت متوانيا عن تأدية الطقوس التي يتطلبها بلوتو وتفرضها السماء!
ماذا تبتغي بعد أن ثأرت لي يا أخيل؟ ألا يشجيك أن أظل معذبا في هذا التيه الذي لا نهاية له، كاسف البال مسبوه اللب؛ لأنك تأبى أن تؤدي لي فرائض الآخرة!
أتحسب أنا ملتقيان في دنياك كرة ثانية يا أخيل، فأنت تنتظر هذا اللقاء؟ لا، لا يا صديقي؛ نحن لا نلتقي إلا هنا! في هذه الدار الجميلة الهادئة التي لا صخب فيها ولا ضجيج ... سنلتقي هنا ... وسنلتقي سريعا ... ولن أزعجك إذا أخبرتك بما علمته هنا! ... لأنك ملاق حتفك تحت أسوار طروادة، لا تنزعج يا أخيل، فأنت بطل، والأبطال أمثالك لا يرهبون الموت، والبطل الذي لا يجرع الكأس طافحة في حومة الوغى يموت موتة لا تشرفه، فاطمئن! إنما ذكرت لك ذلك لأن لي رجية عندك أتمنى لو أديتها لي، ذلك أن توصي فتدفن رفاتك في نفس الرمس الذي يضم رفاتي لنظل آخر الدهر متقاربين كما كنا أول الدهر متقاربين، ولنقضي أحقاب الموت في مربع معا كما قضينا شرخ الشباب في ملعب معا.
إيه يا ذكريات الماضي السعيد!
أبدا لن أنسى يوم حملني مولاي الأمين أمفيد أماس من نجاد أوبوس إلى بلاط بليوس، حيث نشأت وترعرعت في ظلال القصر الذي ترعرعت فيه يا أخيل، وأبدا لن أنسى هذا الحنان الذي كانت تغمرني به ذيتيس أمك الرءوم حتى اشتد ساعدانا وسار الركبان باسمينا في كل ناد.
هلم يا أخيل، انهض يا زعيم الميرميدون، واذكر ما قلته لك.»
ويذرف أخيل عبرة غالية ويجيب بتروكلوس فيقول: «بتروكلوس! إلي يا أعز الناس علي! سأفعل كل ما تريد، ولكن ... اقترب ... اقترب قليلا ... لنسر من أحزاننا يا أخي! هب لي أن أعانقك فأنا مشوق إليك!»
وهب من نومه مذعورا مادا ذراعيه لعناق بتروكلوس، ثم ضمهما فجأة ... ولكن!
وا أسفاه! لقد ضم أخيل إليه الهواء! لأن الشبح العزيز قد ولى بعيدا عنه ... هناك ... هناك ... في ظلمات السفل ... في ديجور الدار الآخرة ... في مملكة بلوتو الجبار ... حيث الأرواح والأشباح ... وحيث العذاب والنعيم!
وصرخ الزعيم المفئود صرخة زلزلت عماد المعسكر، واجتمع لها القادة مشدوهين مروعين، وروعهم أكثر هذا الحديث الطويل عن الرؤيا المشجية، فأنفذ أجاممنون الملك عصبة قوية إلى غابات الصنوبر والشاهبلوط القريبة، فجمعت أحمالا ثقالا من جذوع الأيك وحطام الدوح اليابس، وأقبلت فكومت ما جمعت كومة واحدة عالية؛ ثم أمر أخيل جنوده فاصطفوا حول الكومة بعددهم وعددهم وخيولهم وعرباتهم، وأقبل فوج منهم يحمل جثمان بتروكلوس ، موارى في شعر كثير انتزعه الفرسان من رءوسهم حزنا على قائدهم بالأمس؛ وكان أخيل يتعثر خلف القتيل وقد حطمه الحزن، ورزأته المصيبة في أعز أصدقائه، وغشيه من الهم ما لو كان بعضه بوضح الضحى لأحاله ليلا من الوجد مظلما ... ونزع شعر رأسه هو الآخر فغطى به وجه صاحبه، ومد ذراعيه المرتجفتين فرفع الجثمان الطاهر، يعاونه نفر من الميرميدون ووضعوه فوق الكومة التي تسامت وسمقت حتى غدا ارتفاعها مائة قدم أو تزيد. وأمر أخيل فذبحت ألوف من العجول والخنازير والنعم، ونزعت عنها شحومها جميعا، فوضعها بيده على الكومة من حول بتروكلوس، ثم أشار إلى حملة الزقاق فطفقوا يصبون الزيت والعسل المصفى ليزيدا في ضرام الوقود.
وارتفع ضجيج بعيد وضوضاء فتلفت القوم وإذا فريق من الميرميدون يسوقون الشبان الطرواديين الاثني عشر الذين أسرهم أخيل في ملحمة الأمس، وقد كبلوا في الأصفاد ورهقتهم قترة مظلمة من الروع والحزن؛ فلما شارفوا، تقدم أخيل المغضب الحنق، فاستل خنجره، وشرع يمسح بأعناقهم ويبقر بطونهم، ويروي سنانه من قلوبهم ... والبشرية البائسة تتلفت يمنة ويسرة ... وتتعذب ... وتبكي!
وأمر الزعيم فصفت الضحايا الاثنتا عشرة حول الكومة.
أما هكتور! فقد حدجه أخيل بنظرة ساخرة، وأقسم ألا يحرق جثمانه فينفد روحه إلى هيدز، بل يتركه ثمة حتى تنوشه الطير، وتأكله كلاب البرية، وتلقى عظامه في اليم، غير كريمة ولا مرجوة!
بيد أن منظرا عجبا خلب ألباب القوم، وأذهلهم عن أنفسهم ... ذلك أنهم رأوا إلى شبح جميل أبيض، يصب دهن الورد فيجعل منه حنوطا مباركا لجثمان هكتور، ورأوا كذلك إلى ضبابة ذات أفياء وظلال باردة تقف من فوقه فتذود عنه أشعة الشمس المحرقة حتى لا ينتن أو يتعفن.
ماذا؟! آه! إنها فينوس الوفية التي تصب دهن الورد فوق هكتور، وإنه أبوللو المحزون الذي ينشر الضبابة من فوقه تحميه من الشمس وتذود عنه حرارتها!
وصلى أخيل صلاة قصيرة، ونذر لآلهة الريح إذا هي أقبلت تروح على النيران حتى تذكو، أن يذبح لها ويقرب لها القرابين! وما كاد يفرغ من صلاته حتى تقلب البحر واضطرب، ومار اليم واصطخب، وثارت العاصفة الهوجاء في بطن الدأماء، وأقبل زيفروس وإخوته آلهة الريح فحاصروا الكومة، وما هي إلا لمحات حتى كانت ضراما في ضرام ولظى يتأجج في لظى.
وسكنت اللهب، وخفت أوار النار، وتقدم أخيل وحملة الزقاق فصبوا على الجمر خمرا حتى خبا.
وتقدم نفر فرفعوا رفات بتروكلوس وهم يبكون، وأقدم أخيل فوضعها بيديه في إران
3
من الذهب، وأشار إلى بعض أصحابه فحفروا في الأرض حفرة كبيرة عميقة، وأسرع هو فوضع الإران فيها بين أنين الجند وبكاء القادة وزلزلة الأرض والسماء!
وهيل التراب على الميت وعمل الكل في ذلك حتى كانت كومة عالية من الردم ستظل آخر الدهر رمز البطولة الخالدة، وتحية الدار الآخرة لهذه الدنيا المشحونة بالأشجان!
وكان من دأب الهيلانيين إذا مات أحد أبطالهم أن يحرقوه كما حرقوا بتروكلوس، ثم تتلو ذلك حفلة ألعاب يشترك فيها أبطالهم، ويساهم فيها الجندي الصغير إلى جانب القائد العظيم، وقد يفوز عليه فينال الجائزة من دونه، وكانوا يعدون هذه الحفلة تتمة للجناز لا يكمل إلا بها؛ فلما انتهوا من إقامة الشعائر الدينية للشهيد الكبير نهض أخيل فأعلن القوم ببدء حفلة الألعاب ثم دعا للمشاركة في سباق العربات الحربية، وعدد الجوائز فذكر أن للفائز الأول غانية من أبرع غانيات طروادة جمالا، وأوفرهن حسنا، وأنبغهن في القيام بشئون المنزل، ثم آنية عظيمة من الذهب الخالص، غالية الثمن، عالية القيمة، لا تقدر بمال لما بذل في زخرفتها ونقشها من فن، وما أضفي عليها من عبقرية؛ وأن للفائز الثاني مهرة صافنا تسبق الريح وتلحق البرق؛ وللثالث كوبا من الفضة الناصعة، عظيم القدر، غالي الثمن، وللرابع بدرتين من الذهب الإبريز، وللخامس إبريقا فضيا للخمر وكأسين للشراب.
واشترك في هذا السباق لهاذم أبطال الإغريق، وصناديدهم الصيد؛ وكان أول من نزل إلى الحلبة يوميلوس الملك ابن أدميتوس العظيم، وتلاه ديوميد الحلاحل ابن تيديوس؛ ثم منلوس سليل السماء، وفرع الآلهة بن أتريوس الكبير؛ وكان رابعهم أنتيلوخوس المشهور بن نسطور الحكيم، الذي أخذ أعين القوم بقامته السامقة، وعوده اللدن ، وقوامه الأهيف السمهري الممشوق، والذي تقدم إليه أبوه فقبله في حر الجبين، وزوده بنصائحه الغوالي؛ وكان خامسهم مريونيس الهائل، صاحب الذكر البعيد، والشأو المجيد، في كل مثار نقع وفي كل ميدان.
وكان على الفارس العظيم فونيكس أن يلاحظ السباق، فكان في مركزه هذا حكما عدلا وقاضيا ماهرا.
وأعطى أخيل الإشارة، فانطلقت الجياد تزلزل الأرض، وتثير عجاجة قائمة من ثرى الميدان، وتضرب الصخر بحوافرها فينقدح الشرر، ويميد جانب الجبل، وتتصل أبصار القوم بالريح التي تتعثر في أدبار الخيل، ويتحسس كل منهم قلبه، متمنيا قصب السبق لصاحبه الذي هو من شيعته ... ثم ... تتدخل الآلهة في هذا اللهو البريء، فتغير دفة المقادير، وتتحمس مينرفا للبطل العظيم ديوميد، حينما ينزع أبوللو السوط من يده، ويلقي به على الأرض، فتعيده إليه؛ وتلحظ أن أبوللو يصنع هذا ليظفر يوميلوس ويفوز بالسبق، فتذهب من فورها إلى ابن أدميتوس، وتنزع إحدى عجلتي عربته، فيهوي البطل ويوشك رأسه أن يتحطم على الجلاميد المتراكمة على جانبي الطريق.
وتعدو الخيل.
وتخفق قلوب القوم، ثم ينظرون فيرون إلى ديوميد قد أنهى الشوط، ونزل من عربته فصافح فونيكس، واستحق بذلك الجائزة الأولى.
وتلاه أنتيلوخس، ثم منلوس الملك ثم مريونيس وكان أبطأهم.
وسكن القوم قليلا، وإذا هم يبصرون يوميلوس المقدام يسوق جياده، وخلفها عربته التي حطمتها مينرفا، فيثير مرآه قهقهة عالية وصخبا لا يقطعهما إلا أخيل بصيحة راجفة تعيد إلى الملأ وقارهم، ويقضي ليوميلوس بالجائزة الرابعة «لأنه لولا الحظ العاثر لكان صاحب الجائزة الأولى!»
واشرأبت الأعناق حين أعلن أخيل عن دورة الملاكمة.
وشارك فيها من الأبطال إبيوس فتى مفتول السواعد مكتنز العضل، رحب الصدر، له قبضتان كأنهما حراشف جذور بارزة من جذع شجرة، ألقت بها الريح في يوم عاصف، ونهض إلى جانبه شاب قوي بادي البأس، لم يلبث القوم أن عرفوا فيه يوريالوس بن مسيتوس، الذي طالما شارك في أولمبيات الملك أوديبوس، وكان أبدا فتاها وفارس حلبتها.
وأعطيت الإشارة فانقض الأسد على الأسد، وارتطم الجبل بالجبل، ولبث البطلان يكيل أحدهما للآخر لكمات كانت تقشعر لها أبدان الآلهة، وتنتفض من هولها أفئدة الرجال، ثم لاحت فرصة للبطل إبيوس كال فيها لخصمه لكمة في ذقنه
4
ألقته فوق أديم الأرض بين هتاف الجند وضجيج القادة، وبذا استحق إبيوس الجائزة الأولى، وهي بغل أشهب مسرج في شدقيه لجام من الحديد يتصل به عنان من الفضة. أما يوريالوس فقد أفاق من اللكمة القاسية لينال كأسين جميلتين أعدتا للفائز الثاني!
وأرهفت الأسماع حين نهض أخيل يعلن عن دورة المصارعة التي لم يجرؤ أحد أن يتقدم إليها حتى أوشك زعيم الميرميدون أن يلغيها لو لم ينهض أوليسيز ويتبعه أجاكس متثاقلين!
وأهطعت الرقاب ذاهلة نحو الزعيمين الهولتين، وشخصت الأبصار ترى إلى الجبل يأخذ بتلابيب الجبل، والبحر ذي العباب يصاول البحر ذا العباب، والشهاب الراصد يندق على الشهاب الراصد، لا هذا ينال فرصة من ذاك، ولا ذاك يرى ثغرة ينفذ منها إلى هذا، والقلوب أثناء ذلك تخفق وتخفق، والقشعريرة الباردة تشيع في أصلاب هؤلاء وهؤلاء، كل يتمنى أن يفوز رجله ... حتى ثارت عجاجة حول البطلين انجلت عنهما صريعين فوق الأرض، لم ينل أحدهما من الآخر! فكان القضاء العادل من السماء!
وحاولا أن يعودا إلى صراعهما الأول، فحال بينهما أخيل؛ لأن الدورة كانت لا تنتهي إذن ... فكان بحسبهما أن ينالا جائزتين متساويتين!
وبدأ سباق العدائين، واشترك فيه أوليسيز وأجاكس أيضا، ثم أنتيلوخوس الذي استطاع أن يفوز بالجائزة الأولى، لما كان يبدو على منافسيه من نصب من جراء صراعهما السابق.
وتبع ذلك سباق المبارزة، وشارك فيه أجاكس أيضا، ثم ديوميد العظيم الذي استطاع بعد لأي أن يجرح خصمه في عنقه، فينبثق الدم من الجرح، فينال الحزام الفضي بذلك!
ثم كان حمل الأثقال، وهو سباق يحبه الإغريق كثيرا، وقد شارك فيه بوليبوتيس وإبيوس وليونتيوس ... ثم ... أجاكس! الذي فاز بالجائزة الأولى.
وتلا ذلك سباق الرماية، واشترك فيه البطلان تيوسير ومربونيس، وفاز الأخير بأسنى الجائزتين للبراعة الفائقة التي أبداها في إصابة الغرض «وكان حمامة تنطلق وتنطلق ... حتى تكون خلف السحب ...!»
ثم كان سباق إصابة الغرض بقذف الرمح، وقد تقدم إليه قائد الحملة العظيم ... أجاممنون الملك ... ثم ... مريونيس الشجاع وأحد أتباع الملك إيدومنيوس ... وقد هال أخيل أن ينافس أحد قائد الحملة، فتقدم إليه معترفا بتفوقه على الجميع في كل شيء، وقدم له الجائزة الأولى ... ثم قدم الرمح لمريونيس ... وكانت مجاملة طيبة من أخيل تقبلها الجميع بثغور باسمة.
بريام الحزين
تفرق القوم إلا أخيل ...
لقد أوهنه الحزن، وشف قلبه الأسى؛ وكأن قتله هكتور لم يشف ما فيه نفسه من شجو، ولم يخفف عنه ما يلقاه من عذاب البعد عن أعز أصدقائه ... الفقيد بتروكلوس!
وخرج لبعض شأنه فرأى جثة عدوه في طريقه، تثير في نفسه الكوامن الشواجن، فينقض عليها كالمجنون، ويشبعها ركلا بقدمه وكلوما بخنجره، ويربط القدمين في عربته ثم يلهب جياده بسوط نقمته فتعدو كالريح حول قبر بتروكلوس، جارة وراءها جثمان هكتور، تقلبه في الأديم المندى، وتلته في التراب الهامد ...
ويكون أبوللو مطلا من سحابة سارية، فينتابه من الهم على صديقه ما يثير في قلبه الحنان المقدس، ويلقي درعه الذهبي على القتيل المهين، فيقيه الدرع من الصخر والحصى.
أما فينوس! فإنها ترف هي الأخرى فوق الجثة، وما تنفك تصب عليها من خمر الأولمب ما تنضح به من دمائها ... وطلائها
1 ...
وتطلع الآلهة من ذروة جبل إيدا، فترثي لما يحل بالميت المسكين من هوان، ويلحظ أبوللو ما ينقدح من عيني سيد الأولمب من شر، فيجد فرصته وينهض خطيبا مصقعا كيما يثير زيوس على أخيل ... عسى أن يحل عليه غضبه، بعد إذ حماه طويلا.
وينجح أبوللو في إثارة رحمة الآلهة، وتأليبهم على زعيم الميرميدون، وجعلهم إلبا عليه واحدا؛ لولا أن نهضت حيرا مغضبة، فانطلقت تدفع عن أخيل، وتذكر سادة الأولمب بهذا المهرجان الفخم الذي أقامه بليوس أخوهم ونجيهم، هناك ... هناك في أعماق المحيط احتفاء بقدومهم للمشاركة في عرسه وبنائه على ذيتيس المسكينة ... التي يعلم الجميع أنها ثكلى ... وإن لم تفقد أخيلا بعد!
وتذكرهم حيرا بالموثق الحرام الذي قطعوه على أنفسهم أن يباركوا نسل بليوس، وأن يدفعوا عنه الضر ... حتى تنفذ مشيئة ربات الأقدار .
ويحار زيوس بين سخط الآلهة ودفاع حيرا، ثم يبدو له أن ينفذ رسوله الأمين «إيريس» إلى ذيتيس الحالمة في أعماق البحر، فتوقظها وتلقي إليها برسالة السماء. «... أن هلمي من فورك هذا إلى سيد الأولمب، فإنه يأمرك أن تسعي إليه في مهمة تعرفينها فيما بعد.»
وتنتفض الأعماق بالأوسيانيد والنرييد وسائر عرائس البحر وعذارى الماء، يسعين خببا في إثر ذيتيس، حتى تكون في أفق جبل إيدا، فينثنين ... تاركات مولاتهن في ثوبها الحريري الأسود وزنارها القاتم، تسعى وحدها حتى تكون فوق الثبج، ومن ثمة تعرج في الأديم الأزرق حتى تلج أبواب السماء.
وألفت حشد الآلهة لا يزال يتحاور ولا يزال أبوللو يحاج حيرا، وحيرا تقرعه، حتى نظر زيوس فرأى ذيتيس تتهادى في طيلسانها الأسود ووجهها المشرق المترع بالمفاتن يزيده الحزن روعة، ويضفي عليه الأسى جلالا ... فتبسم سيد الأولمب واهتز فوق العرش، ثم قال: «مرحبا ذيتيس! فيم هذا الأسى يا فتاة؟! آه ... مسكينة! ولكن أصغي إلي: لقد دعوتك إلى الأولمب لتذهبي برسالتي إلى أخيل العزيز فتوصيه بجثة هكتور؛ لقد أثار بما ينزله بها من هوان غضب الآلهة جميعا، بل لقد أثار غضبي أنا أيضا ... أنا ... حاميه ومنقذه ومرشده في كل مثار نقع ... اذهبي إليه فأمريه أن يقلع عن هذه المثلة؛ فإنه لا شيء يحنق الآلهة مثلها، وليسلم القتيل لأهله، فهذا خير له، وليقبل القود العظيم الذي يقدمه إليه بريام الملك الشيخ الحزين ... الذي حطمه الرزء، وعظمت عليه البلية، وصدعت قلبه المصائب ... أما نحن ... فسننفذ إيريس إلى طروادة تأمر الملك بإعداد القود والتجهز للقاء أخيل في معسكره ... وسنرسل ولدنا هرمز إلى بريام يحدو ركبه إلى معسكر أخيل ويعمي أبصار الميرميدون حتى لا يثوروا به، وحتى يكون أمام زعيمهم وجها لوجه ...
ذيتيس! حسب أخيل ما حل بابن بريام ...»
وهمت ذيتيس فانطلقت إلى ولدها حيث ألفته يتناول وجبة الصباح، فأبلغت إليه الرسالة الأولمبية وعيناها تفيضان بالدمع وقلبها يخفق ويضطرب ونفسها تذوب على شبابه الغض حسرات ...
وهش أخيل لأمه، وتقبل رسالة الإله الأكبر قبولا حسنا، فنهضت ذيتيس وعادت أدراجها بعد إذ طبعت على جبين ولدها قبلة خاطفة كانت، وا أسفاه، آخر وداع منها له في الحياة. •••
وانطلقت إيريس إلى بريام الملك فوجدته ما يفتأ يبكي هكتور، ومن حوله أبناؤه التسعة، خضرا كأفراخ القطا، نضرا كأكمام الزهر، والرجل مع ذاك يقلب فيهم عينين تفيضان حسرة، ووجها يتشح باليأس والهم، وإلى جانبه جلست هكيوبا المرزأة تئن وتتفجع، وترسل من أعماقها زفرات الهم والأسى.
وبلغته إيريس رسالة ربه، وعادت أدراجها إلى الأولمب، وما كاد الملك يخبر زوجه بما أوحي إليه من ربه، حتى اضطربت هكيوبا، وأعولت، وطفقت تضرب صدرها المتهدم بيديها الضعيفتين، لما اعتزم زوجها من تنفيذ ما أشارت به السماء، والذهاب إلى أخيل يرجوه أن يهب له جثمان هكتور خشية أن يأسره زعيم الميرميدون، ويستبقيه عنده رهينة حتى يسلم الطرواديون!
ولكن الرجل كان مؤمنا لا يتسرب إلى قلبه الشك بما رسمت له الآلهة، ولا يساوره ريب في أي مما تشير به أربابه؛ فزجر الملكة، ونهض إلى خزائنه العامرة بالتحف، فتخير اثني عشر قرطقا من أغلى ما نسجت مصر، ومثلها من المعاطف المصنوعة من القاقم والسنجاب، وعددا كبيرا من الوسائد الرائعة والطنافس ذات التصاوير؛ ثم أمر بعشر بدر، فأحضرت من بيت المال، وبدستين كبيرين من الذهب ذوي قوائم من الفضة، وأيد من الجوهر؛ وبأربع قدور مهداة من ملوك الشرق، تزن إحداها ما يملأ خزائن بن بليوس ذهبا، وبكأس من الإبريز الخالص بها من النقوش والصنعة ما يعجز عن مثله عباقرة الجن.
أمر بريام بكل أولئك فوضعت في صناديق كانت هي الأخرى تحفا من صناعات مصر والشام والهند، تهيم فوقها تصاوير فارس.
وصاح بأبنائه التسعة فهرعوا من كل مكان؛ باريس المشئوم وهيلانوس وأجاثون؛ وبامون وأنتيفون وبوليت؛ ثم ديفوبوس وهبوثوس وديوس، كلاب الأزقة كما كان يدعوهم أبوهم، «ليت المنية التي تخطفت هكتور تلقفتكم وخلت سبيل هكتور، أو ليتها أصابت ألف ألف من أمثالكم وعميت عن ليكاون وبوليدور!»
وأمرهم فصفوا الهدايا ورفعوها فوق ظهور البغال، وما ثقل منها وضعوه في عربة كبيرة يجرها بهيمان ؛ وتقدمت هكيوبا فصبت على يدي زوجها خمرا يطهر بها ، وأخذ هو في صلاة طويلة لزيوس ... أن يحميه ويوقيه ويرشده في طريقه إلى أخيل؛ ويرسل إليه الرسول الذي وعد، يقوده إلى فسطاط زعيم الميرميدون!
ولم يكد ينهض من صلاته ويختم توسلاته، حتى رف فوقه طائر ظل يضرب الهواء بخافيتيه، ويهوم ويدوم، ويرنق في سماء الهيكل تارة، ثم يستقر عند المذبح أخرى، حتى أيقن الملك وملؤه أنه الرسول المنتظر والقائد المنشود فخفقت قلوبهم وفرحوا واستبشروا.
وتقدم إيديوس الحكيم فألجم البغال، وأسرج الخيل، وشد البهائم إلى عربة الملك، وأقبل بريام فركب، وأصدر أمره إلى حكيم طروادة وفيلسوفها فسار بين يدي الركب يحدوه ويباركه، ويضمن له رعاية السماء.
أما الطائر الميمون فقد انتفض انتفاضة هائلة، وراح يحلق فوق طروادة، ثم غاب عن الأبصار، إلى أين؟ إلى حيث لا يدري أحد!
وتهادى الركب، وانطلق إيديوس يحدوه، حتى كان عند مقبرة إليوس الأكبر، وحتى كانت طروادة الخالدة وراءهم حالمة في غبشة المساء ساهمة مستسلمة، كالفكرة الشاردة في دماغ الشاعر الغرير.
وغابت الشمس في مياه الهلسبنت، واختلط البنفسج الشاحب بسواد الليل، ونقت ضفادع الأبالسة في فضاء البرية، فملأت القلوب وحشة، وأرسلت في المفاصل رعدة، فلم يكن بد من أن ينيخ القوم حتى يأذن القضاء بالرحيل.
وفيما كان إيديوس يسقي الدواب من الغدير النائم في كلة الغسق، إذا شاب يافع يقبل نحوه ويسأل عن الملك، ويكون بين يديه بعد لحظات، ويسأله الملك عن شأنه فيحدث أنه جندي آبق من جنود أخيل، وأنه ينصح للملك ألا يجازف بنفسه وبما يحمل من اللهى والعطايا في هذه الرحلة المهلكة التي قد تنتهي بما لا يدور للملك في خلد، أو يقع له بحسبان؛ ولكن الملك يبدي تصميمه، ويلح في سؤال الشاب عن هكتور ... «ألا يزال مسجى بين يدي أخيل يشفي بمرآه حرده، أم هو قد أسلمه للسباع وجوارح الطير تنوشه وتتغذى به؟» ويطمئنه الشاب اللعاب الداهية، ثم يرثي له فيعده أن يكون قائده إلى فسطاط أخيل، «لأن أحدا من الناس لا يستطيع أن يخترق صفوف الميرميدون الدواهي ما لم يكن مخاطرا بنفسه أو ملقيا بيديه إلى التهلكة.» ويستسلم الملك الشيخ، ويلقي في يدي الجندي الشاب بزمامه، ويأذن له فيمتطي الجواد الأمامي الذي يتقدم سائر الدواب؛ وتبدأ الرحلة إلى مرابض الميرميدون.
ويتحدث الشاب إلى الملك، ويتحدث الملك إلى الشاب، حتى إذا كانا قيد خطوات من معسكر أخيل، مد الشاب ذراعيه المفتولتين ولفهما حول جذع الملك، ثم رقاه رقية قصيرة، فإذا سأله الملك عما يبتغي بها أنبأه، «كي لا تمتد إليك عين ولا يلمحك أحد، ولا يحس بمسرانا أي من أولئك الميرميدون.» فيسكن جأش بريام الشيخ، ويطمئن قلبه وتتضاعف ثقته في الجندي الشاب.
ويكون فسطاط أخيل تلقاءهما!
فينهض الشاب من جانب الملك، ثم ينتفض انتفاضة تكشف عن حقيقته، ويقول ضاحكا: «أيها الملك أنت الآن في جوار أخيل، وعليك أن تلقاه في غير هيبة ولا وجل، فادخل غير مستأذن، ولتكن رابط الجأش، ساكن الروع، واركع بين يديه ثم اذرف أغلى دموعك حتى تلين ما قسا من قلبه، وتحجر من مشاعره، واذكر له حاجتك فإنه راد عليك جثمان هكتور، وثق أن السماء قد قضت بذلك، ولا مرد لقضائها، أما أنا، فلا تنتظر أن أسعى بك إلى زعيم الميرميدون، وليس سرا أن أذكر لك أنني ... هرمز ... أرسلني أبي إليك لأجيء بك إلى هذا المكان، انهض، انهض ماذا أخافك مني؟ أجل ... أنا ربك ... ولكن لتقصر صلاتك هذه، فالفرصة تكاد تفلت، تشجع يا بريام، قف، آمرك ...»
وينهض الملك من غشيته التي كادت تذهب به حين ذكر له الشاب أنه هو هرمز ... هرمز نفسه الذي ذكرت له إيريس أنه سيقوده إلى فسطاط أخيل.
وينظر بريام فيرى إلى ... الجندي الشاب ... يرف في الهواء المندى ثم يرتفع ويرتفع حتى يكون في السماء التي تتفتح له أبوابها!
ويصلح الملك من شأنه ثم يتقدم بخطى وئيدة إلى فسطاط أخيل، ويدخله ويرى زعيم الميرميدون في الصدر، وبين يديه وزيراه العظيمان أوتوميدون وألكيموس، ثم قادة الجند منتثرين ها هنا وها هنا، يهمسون ولا يكادون يبينون.
وكان السماط لا يزال أمام الزعيم، وزقاق الخمر لا تزال تقبل الكئوس المفعمة، والشواء العظيم يملأ الخياشيم بقتاره، فلم يبال بريام، بل تقدم وتقدم، حتى كان أمام أخيل، فركع ذاهلا عن نفسه، ولف ذراعيه حول ساقي الزعيم، وراح يوسعهما لثما وتقبيلا، ويمطرهما بأحر العبرات!
وشده أخيل!
بيد أنه كان يعلم من أمر هذه المفاجأة كل شيء، فلم يزد على أن قال: «بريام؟!» - «أجل يا بني، أنا بريام!»
وبهت القادة مما رأوا، وأذهلهم ما سمعوا!
أهذا حقا هو بريام ملك طروادة يبكي بين يدي أخيل وينتحب؟ إذن، فيم هذه الحرب؟ وحتام ذاك الصراع؟ وإلام تذهب هذه المهج؟ - «أجل يا بني، أنا هو، أنا الرجل المرزأ المحزون الذي قتلت أبناءه وهرقت دماءهم؛ لأنهم يحاربون من أجل وطنهم، ويذودون عن بلادهم، سعيت إليك، إليك يا أخيل العظيم، لأمطر هذه اليد التي ذبحتهم بدموعي، ولأوسعها لثما وتقبيلا!
أتمنى يا بني أن تعود قريبا إلى أبويك سالما، فيهش أبوك للقائك، وتبش أمك لعناقك، ويفرح ذووك بك؛ لأنك عدت إليهم بالنصر والفخر ... أستغفر الآلهة؛ بل عدت إليهم سالما من نكبات الحرب وكوارثها، فهل أكون قاسيا أن أرجوك، حين تعود إلى ديارك وتلقى فيها أحباءك ... أن تذكر أن أبوين آخرين قد خلفتهما وراءك يشقيان ويبكيان ويلبسان السواد أبد الدهر؛ لأن أبناءهما لم يعودوا من ساحة الحرب كما عدت أنت، بل هم قد سقطوا فوق أديمها، مضرجين بدمائهم، شاكين إلى أربابهم ما حل فيها بهم، تاركين آباء شيوخا فانين وأمهات ضعيفات معولات، وقلوبا تتفجر أسى عليهم، وعيونا تختلط دموعها بدمائها من أجلهم، وأرامل يلطمن الخدود ويشققن الجيوب، ويتامى لا حول ولا قوة على الزمان الغادر، والحظ العاثر، والصبر الجميل!
هل أكون قاسيا يا بني إذا رجوتك أن تذكر ذلك أو بعض ذلك حين تعود إلى ديارك وتلقى أبويك الفرحين بك؟
أخيل! لم أسع إليك يا بني إلا بأمر الآلهة، ووحي سيد الأولمب ... أرجوك في هكتور ...
وا حر قلباه يا هكتور! ... وا أسفاه عليك يا ولدي!
صدرت إليك يا أخيل عن أمر السماء أرجوك في هكتور أن تسلمه إلي حتى تؤدى له فرائض الآلهة وطقوس الموت، وما أحسبك إلا ملبيا ندائي الحزين، حتى تتيح للآلاف المؤلفة من جنوده وذويه وزوجه وابنه أن يبكوه جميعا، وأن يشيعوه إلى الدار الآخرة بما رضيت أن تؤديه لبعض أصحابك، حتى تقر روحه، ويؤذن لها فتلج إلى هيدز.
أخيل، لب ندائي أيها الزعيم الباسل، لب نداء هذا الشيخ الضعيف، وارحم فيه هذا الذل الذي حمله إليك، وأسعده بتقبل هذه الهدية التي أمرت بها السماء ... وإن تكن يا أشجع المحاربين في غناء عنها ولا حاجة بك إليها ...»
وأحس أخيل كأنما تخاطبه السماء كلها بلسان هذا الشيخ المتهدم، وكأنما الآلهة جميعا تنطلق من فمه لتكون بيانا ورحمة في قلبه، فأنهضه من بين يديه، وأجلسه إلى جانبه فوق أريكته، ثم أخذا معا في بكاء حار طويل.
وتقبل أخيل هدايا الملك، وأشار إلى أوتوميدون وزميله فأخذاها إلى الأسطول، ثم أمر الخادمات فغسلن هكتور بالماء الساخن المعطر بدهن الورد، ولففنه في مدارج بأكملها من كتان مصر، وتقدم هو فوضعه على وسادة الموت، وأشار إلى جنوده فرفعوه إلى إرانه، ثم أخذ يهون على بريام ويواسيه، ودعاه إلى تناول العشاء معه، فلبى الشيخ وهو يعول ويبكي بكاء يفتت الأكباد ويذيب نياط القلوب.
وكان الليل قد انتصف أو كاد، وكان بريام الملك قد لبث الليالي الطوال يتفجع على ولده، ولا يذوق جفنه طعم الكرى، فأحس بعد العشاء بإعياء وجهد، وميل شديد إلى النوم، فصفت له ولرجاله وسائد فاخرة، عليها طنافس وملاءات من الهند، واستأذن أخيل، فاستلقى على متكئه، وقبل أن يسلم عينيه للكرى، سأله أخيل أن تكون هدنة بين الجيشين المتحاربين حتى تؤدى كل الطقوس اللازمة لتحريق هكتور؛ واتفقا على أن تكون هذه الهدنة لمدة أحد عشر يوما.
وفي الهزيع الأخير من الليل، أقبل هرمز الكريم فأيقظ بريام الملك، ونبهه إلى الخطر الذي يحيق به إذا أشرقت الشمس وأقبل أجاممنون وسائر القادة الهيلانيين، ورأوا كبير أعدائهم وصاحب إليوم في معسكر أخيل، هنالك يحجزونه لديهم رهينة حتى تسلم مدينته، «فهلم أيها الملك وانج بنفسك، وسأقودك إلى طروادة بحيث لا يشعر بك أحد ولا يحس الميرميدون لركبك ركزا ...»
ويسير الركب في هدأة الفجر، ويحدو هرمز القافلة حتى تكون لدى البوابة الإسكائية الكبرى، فيسلم على الملك ويبارك الميت، ويعرج في السماء، وتكون كاسندرا، ابنة بريام الكبرى، أول من يلمح الركب مقبلا، فتبشر الأهالي المحزونين، ويرتفع اللغط، وتشتد الضوضاء، ويتكبكب المواطنون حول العربة التي تحمل الإران حتى ليتعذر السير، ويبطئ السعي، فيصيح الملك بالملأ، فتنفرج الطريق، ويعم الصمت، ولا يحس إلا وجيب القلوب وخفقانها.
وتقبل أندروماك فتذري دموعها، وتندب حظها، وتبكي زوجها، وتمزق قلوب الطرواديين بما يذيبها من أسى وحزن، ووجد وكمد ...
وأم هكتور! ... ويا لمصاب الأمهات في فلذات أكبادهن، وأعز الأبناء عليهن!
وهيلين! والعجيب أن تبكي هيلين هي الأخرى! هيلين الآبقة، هيلين الأثيمة! •••
ويأمر الملك فينتشر الجند يجمعون الوقود من كل فج حتى تكون كومة عالية؛ ويوضع الجثمان المبكى فوقها، وتصب الخمر تحية لإله الموت وتكرمة، وتشتعل النار فتكون ضراما.
2 •••
أنشد يا هوميروس!
يا شاعر الأحقاب الخالية!
يا صدى الزمان القديم!
أيها القيثارة المرنة في أنامل الأيام!
أرسل من الأزل أنشودتك تملأ الأسماع في الأبد!
واعصف مع الريح.
واهتف مع البلابل.
وتقبل تحيات المعجبين.
مقتل أخيل
انتهت الهدنة، واندلعت نيران الحرب كرة ثانية، والتحم الجمعان تؤجج العداوة بينهما ثارات وثارات؛ ولم يجد الطرواديين أن تنضم إليهم مليكة الأمازون تحارب بفصائلها في صفوفهم، وتشد بجموعها أزرهم، فإن أخيل هو هو لم ينقص ولم يزد، بل هو يزيد كل يوم ظمأ إلى دماء قاتلي صديقه وأحب الناس إليه ... بتروكلوس الشهيد ...
لقد انقض أخيل على مليكة الأمازون التي انقضت بدورها على جحافل الهيلانيين فأوقعت الروع في نفوسهم، وقذفت الرعب في قلوبهم، فلم يزل بها يصاولها ويطاولها حتى نهز منها نهزة أنفذ بها رمحه في صدرها، وعفر جبينها الملتهب بثرى المعمعة، وجردها من سلاحها فإذا هي جثة هامدة، وانكفأ أتباعها وبهن من الحزن على صاحبة الأمر فيهن ما صرفهن عن طروادة والطرواديين.
وإن أخيل ليصول في الميدان ويجول، وإنه ليرتفع بصره عفوا وعن غير قصد إلى البرج الشاهق من أبراج إليوم فوق البوابة الإسكائية إذا هو يلمح قمرا مطلا من شرفة البرج يرنو بعيني ظبي، ويهطع بجيد رئم، ويشرق بخدين ناضجين من خدود ربات الخدور، يرسلان على الساحة كلها سناء ورواء ...
من هي؟
من هذه العذراء البارعة التي تشرف هكذا على الساحة الحمراء فتطفئ جذوات الغل المتقدة بين أضلاع أخيل، وتضع حدا لهذه الثورة التي ظلت إلى تلك اللمحة تعصف بنفسه الغضبى، وتحز في قلبه المحزون؟
أوه! إنها الأميرة الفتانة بوليكسينا، صغرى بنات الملك الشيخ، بريام البائس الباكي الحزين.
لقد أرسلتها العناية لتشرف على الساحة الصاخبة، ولتنظر إلى هذا البطل الخرافي الجبار الذي لم يعد بيت في طروادة كلها إلا وفيه لسان يلهج بذكره، ويتحدث عن شجاعته، ويصف جبروته ... ثم لم يعد بيت في طروادة كذلك إلا وفيه عين مؤرقة تبكي على عزيزها الذي قتله هذا البطل، أو الذي سيقتله، أو الذي يخشى عليه أن يقتله، كأنه أصبح سفير هيدز إلى إليوم، أو وزير بلوتو العظيم!
وأبصر أخيل بها ... ويا لها من نظرة أنبتت في قلبه دوحة من الحب وارفة، ذات ظلال وذات أفياء ...
وظل الرمح يهتز في يده، ولا يصيب أحدا، وظل هو يسارق النظر قمر البرج المطل مشدوها مسبوها، لا يعرف لماذا شبت هذه الحرب، ولماذا يقتتل هذان الجمعان؟!
وانثنى من الميدان ينظر في هذا الغرام الجديد.
ولم يجد بدا من العمل لإحلال السلم محل تلك الحرب التي طالت وتتابعت عليها السنون، من غير أن يظفر الهيلانيون بالطرواديين، أو الطرواديون بالهيلانيين، ومن غير أن يفكر أحد في هذه المجزرة الشائنة التي تتغذى كل يوم بقطوف الشباب من زهرات الأمتين على السواء.
فيا له من حب مهد لسلم لولا قساوة في القلوب زادتها الثارات عنفوانا. ولولا شرف أمة بأسرها تعبث به امرأة، ولولا الإحن التي ذهبت بأبناء الملوك الصيد!
واستطاع أخيل أن ينفذ رسله إلى بريام يستعتبه، ثم استطاع الرسل أن يخاطبوا الملك في بوليكسينا على أن تكون أحب أزواج أخيل وآثرهن إلى قلبه، فوعدهم الملك بعد إذ لحظ من افتتان ابنته هي الأخرى بزعيم الميرميدون، أن تتم مراسيم الزواج حين تضع الحرب أوزارها، وحين تنكشف هذه الغمة القاسية عن طروادة.
بيد أن الهوى المبرح قد ألح على قلب أخيل، والصبابة العاتية قد جمعت أفانين من السهاد في عينيه، وطيف بوليكسينا يراوحه ويغاديه ويملأ عليه أمانيه، ويتهادى أمامه في كل نظرة ينفرج عنها هدبه، أو غمضة يتناعس بها جفناه! فلم يطق إلى صبر من سبيل!
وأنفذ رسله كرة أخرى فاتفقوا مع الملك على إجراء مراسيم الخطبة، عسى أن تفل من غرب هذه الحرب القاسية أو تبزغ منها تباشير السلام المنشود!
وأعلنت هدنة ليوم أو بعض يوم؛ وأقيم المهرجان الفخم في صميم الحومة الرائعة، وتقدم أخيل فصافح الملك، وأعلنت الخطبة، وانثنى الزعيم العظيم وقلبه يكاد يطفر من الفرح أن أصبحت له بوليكسينا ...
وما كاد البطل ينقلب إلى جنده حتى كانت فينوس توسوس إلى باريس أن ينتهز الفرصة العزيزة النادرة، ويريش سهما من سهامه المسمومة إلى عقب أخيل التي لم تغمرها مياه ستيكس فيصميه ... فيرديه!
ووتر باريس قوسه، وأرسل السهم المسموم إلى عقب أخيل فنفذ فيه، وأنفذ فيه قضاء ربات القضاء ... اللائي فرغن الساعة فقط من غزل خيط حياته وقطعته أتروبوس
1
الهائلة بمقصها الجبار الفظيع.
وهكذا أنهى باريس الخائن تلك الحياة الحافلة بغدرة سافلة من غدراته التي توشك أن تنتهي! •••
واستطير الميرميدون! وانقض أوليسيز كالعاصفة ينافح عن جثمان صاحبه، واستطاع أن يستنقذ القتيل العزيز من أيدي أعدائه الجبناء؛ وكان أجاكس العظيم يعاونه في دفع الجموع الحاشدة التي تكاثرت حول الجثة تطمع في عدة فلكان ...
وانصرف الجيش الحزين يذرف دموعه على أخيل!
واجتمعوا حول الجثة المضمخة بالطيب وحنوط المسك يحرقونها!
ووقفت ذيتيس تلقي على ابنها نظراتها الأخيرة، وتذرف عليه دموع الوداع!
وكانت ثيابها السود تبكي معها ...
وكانت السماء كلها تذرف شئونها على أخيل ...
وعرائس البحر ساهمات على شواطئ الهلسبنت الفائض بالدم!
وبليوس المحزون يضطرب في الأعماق فيجعلها ضراما!
والأولمب كله، إلا عصابة فينوس يعزي بعضه بعضا!
وليس أولئك جميعا شيئا إلى ما حدث من بعد، قبيل أن تخمد النيران فوق أخيل ... فقد ضج المكان الصامت بصيحات مفاجئة، نبهت ما سكن من هول هذا المحشر الرهيب ... وتلفت القوم فإذا أجاكس العظيم قد أصابه طائف من المس، وإذا به يرغي ويزبد، ويعول وينشج ثم يقذف من فمه صبيبا من الدم، يتلوه شوب من العلق، وينبطح على الأرض ثم يثب على قدميه، ويروح ويغدو دون أن يلوي على شيء ... ثم يستل جزاره ويركزه فوق الأرض ويتكئ بصدره على سنانه، فينفذ السنان من ظهر أجاكس ضحية جديدة لهذه الحرب التي لا تشبع، وخيط حياة حافلة يمر وشيكا بين الشفرتين من مقص أتروبوس!
ويحك أجاكس! وللآلهة ما وفيت لأخيل يا بطل الأبطال! •••
وذهل القوم لانتحار أجاكس، ولم يفيقوا من ذهولهم إلا ليروا مأساة ضغضغت ما أبقى عليه الحزن من ألبابهم، وأطاشت ما بقي من حلومهم، وتركتهم سكارى وما هم بسكارى.
هذه بوليكسينا!
إنها تقبل من طروادة كأنما بها مس.
وهي تطوي الساحة المزدحمة بالأشلاء المضرجة بالدماء، بقدمين عاريتين لا يقيمها حذاء، وإن الدم ليتفجر منهما.
وهي تصرخ، وتضرب خديها الشاحبتين بكفيها الواهيتين.
وهي تجفل كالظبية المراعة، وتدور حول نفسها، ثم تقف لحظة، وتنطلق.
وهي تفعل هذا حتى تكون أمام البركان الخافت المشتمل على رفات أخيل.
وإنها لتقف تلقاءه جامدة كأنها دمية، ذاهلة كأنها تمثال.
يا للهول!
لقد انطلقت الفتاة فخاضت النيران، ودست رأسها في جمرات الغضى تبحث عن حبيبها المرجو، وزوجها المؤمل، عن أخيل.
2
أخيل الجبار ... قاتل ليكاون وبوليدور ... وهكتور! •••
ويجزع الهيلانيون مما ألم بهم من مقتل أخيل، وانتحار أجاكس حزنا عليه، فينصرفون عن الحرب إلى استيحاء آلهتهم؛ وينفرد «كالخاس» يرسل نظرة إلى النجوم، ويناجي سكان السماء، ثم يقبل على القادة وقد فرغت قلوبهم من الصبر، وتبلبلت أفكارهم من طول الانتظار، فيقول «سهام هرقل! لا بد من سهام هرقل! لن يفتح عليكم طروادة إلا سهام هرقل!»
سهام هرقل؟ وما سهام هرقل هذه؟
آه! لعلها هي هذه السهام التي غمسها هرقل في دم هيدرا
3
فتسممت به، وادخرت من الموت ما يكفي لإبادة الطرواديين جميعا.
ولكن أين هي هذه السهام اليوم؟! وأنى للهيلانيين أن يهتدوا إليها؟
جلس القادة يفكرون.
وذهب العرافون يقلبون صحف الغيب.
وطفق مشايخ الجند يفتشون في زوايا أدمغتهم.
ثم اذكر أوليسيز بعد لأي أن هذه السهام المنشودة قد تركت مع الجندي القديم فيلوكتيتس
4
الذي غادره الجيش فوق جزيرة لمنوس في طريقه إلى طروادة ... فجر الحملة ... منذ عشر سنوات!
ولقد كان فيلوكتيتس قد أصيب بجرح كبير في قدمه جعل اصطحاب الحملة له من المحال، لما كان يلقى أوانئذ من الآلام المبرحة، وما كان يملأ به آذان الجند من الصراخ والأنين، فاضطر أوليسيز إلى تركه في جزيرة لمنوس، حيث أوى الجندي المسكين إلى كهف منعزل عكف فيه على جرحه يعالجه ... دون جدوى!
واتفق القادة على أن يذهب أوليسيز مصطحبا معه بيروس ابن أخيل؛ (أونيوبتلموس كما كانوا يسمونه أحيانا) إلى جزيرة لمنوس ليريا هل الجندي الجريح ما زال يحيا هنالك؟ وقد بحثا عنه في أنحاء الجزيرة حتى عثرا به يئن في كهفه ويتوجع ويشكو إلى غير مسمع، فعرضا عليه أن يصحبهما إلى طروادة فأبى. وجعله يشتد في الإباء تذكره هذا اليوم الأغبر الذي آثروا فيه تركه فوق تلك الجزيرة القاحلة لا أنيس له ولا سمير، ولا لسان يرفه عنه وحشة الألم ووحشة المنفى الذي لا يد له فيه؛ وكبر عليه أن ينطلق مع هذا الجيش الذي جحده وغمطه حق الجهاد في سبيل الوطن والذود عن شرف هيلاس واسمها المقدس ...
وتركه أوليسيز لبيروس يأخذه بالحيلة والرفق، ولكن بيروس ما يستطيع قط أن يقنع فيلوكتيتس، فيكاد يدعه برما متسخطا، لولا أن يظهر طيف هرقل فجأة مرفرفا في العلو؛ فيأمر فيلوكتيتس بعد تهويمة هنا وتهويمة هناك أن ينصاع لما يأمره أوليسيز به.
5
ولا يسع الجندي الكريم إلا أن ينطلق مع أوليسيز، فيركب الجميع في السفينة إلى طروادة، ويلقاهم العسكر المشتاق بالبشر، ويهرع إليهم بالإيناس!
أليس في سهام هذا القادم الأعرج النصر كل النصر؟! •••
ونفخ في صور الحرب، واشتجرت الأسنة، واستحر القتال، وتبوأ فيلوكتيتس مقعدا للرماية لا يبصره فيه أحد؛ في حين يبصر هو منه كل ما في الميدان!
وراش سهامه! وتطايرت المنايا عن قوسه المرنان! وسعت إلى الطرواديين مصارعهم تهدهدها سهام هرقل، وتمهد لهايمين فيلوكتيتس!
ومرق سهم منها إلى باريس!
وكان يشرف على المعركة من أسوار إليوم! فوقع يتشحط في دمه، ويغص بريقه، ويصرخ من الألم الذي يسري في عروقه مع الدم والسم!
واجتمع حول باريس أبوه وذووه وعشيرته ... وهيلين!
وطفق الجميع يبكون في باريس إخوته، والذكريات السود التي أقبلت من كل صوب ترف فوقه وترنق على جبينه.
وأخذ الألم من باريس مأخذه، وراح المسكين يصرخ ويتلوى، غير آبه لما تغرقه به هيلين من قبلات دنسة، ودموع مسمومة، كانت الويل كل الويل على طروادة والطرواديين.
وذكر - وهو يتجرع غصص العذاب - أن حبيبته الأولى، وزهرة صباه، ووردة حبه القديم، إيونونيه، كانت قد ذكرت له أنها تعرف من خواص الأعشاب المختلفة ما يشفي أقله أشد أوجاع الجروح وأنكاها فأشار إلى بعض أهله، وطلب إليه أن يذهب إلى سيف البحر، عله يجد إيونونيه، فإذا لقيها فليخبرها بما انتهى إليه (حبيبها!) باريس، والآلام التي تعذبه وتشقيه من جراء جرح هذا السهم المسموم، بيد أن إيونونيه التاعسة ... إبونونيه المعذبة ... إيونونيه التي أخلصت لباريس الحب حتى عبدته ... ذكرت ما كان من هجر هذا الحبيب وقلاه؛ وذكرت دموعها التي ذرفتها مرة تحت قدميه، ضارعة متوسلة، وتلك القسوة التي كافأها هو بها لما أن خدعته فينوس، وأوقعته في أحبولة هيلين، فرفضت أبية شماء أن تذهب إليه، والآلهة وحدها تعلم مقدار ما كانت تكنه له - برغم هذا الرفض - من الحب النقي، والصبابة الحزينة، والهوى المتأجج المشبوب!
وقضى باريس!
وأعدت النيران الضخمة لتحريقه، فما هو إلا أن أشعلت من حوله حتى شوهدت إيونونيه المتبولة تخرج من لجة الهلسبنت وتعدو، كأن قد أصابها مس، حتى تكون تلقاء النار، فتقف باهتة، وتتنهد طويلا، وتقذف بجسمها الجميل المرمري الممشوق في اللهب، وتصرخ صرخة مشجية ... و... وتنتهي قصة حبها الباكي الحزين.
وهكذا تخط بيدها آخر سطر في كتاب باريس.
فتح طروادة1
لم يبرح فيلوكتيتس يرسل سهامه على الطرواديين، ولم تبرح المنايا تتخطفهم، ولكن المدينة ذات الكبرياء ما برحت أمنع من عقاب الجو على الغزاة الجبارين.
وذهب «كالخاس» عراف الحملة إلى آلهته يستوحيها، ثم هرع إلى سادته قادة الجيش، فذكر لهم أنه ما دام تمثال مينرفا المقدس - البالاديوم المشهور - في طروادة فلن يفتحها على أهلها فاتح، ولو عاونته الأرباب جميعا!
وانطلق أوليسيز، وانطلق معه ديوميديز، فتنكرا، واحتالا على حارس البوابة الإسكائية الكبرى ففتحها لهما وذهبا قدما إلى هيكل مينرفا، وسرقا البالاديوم المقدس، وعادا به، وكل همهما أن تبطل نبوءات العم «كالخاس» التي أخذت تترى، ويأخذ بعضها برقاب بعض، وكرت الأيام، ومع ذلك لم تفتح طروادة!
ثم بدا لأوليسيز أن يصطنع الحيلة.
فعرض على زعماء الحملة أن يدعى مهرة النجارين والمثالين فيصنعوا حصانا هولة كبير الحجم، خاوي الجسم، فيكون بداخله جمهرة من أقوى شجعان الهيلانيين وأبسلهم، ثم يوهم الأسطول أنه أبحر بجنود الحملة، فإذا مضى شطر من الليل، وأقبل الطرواديون على الحصان فأدخلوه مدينتهم تذكارا لهذه الحرب الضروس التي أكلت أخضرهم، وأحرقت يابسهم، وذهبت بالزهرة اليانعة من شبابهم ... ثم إذا كان الهزيع الخير من الليل، خرج الأبطال المختبئون ففتحوا أبواب إليوم، وانقض الجيش المرابط فاحتل المدينة العاتية التي رغمت تحت أسوارها أنوف، وذلت جباه، وذابت أنفس، وذهبت أرواح دون أن ينال منها أحد.
وطرب القادة لهذه الحيلة التي بدههم بها أوليسيز ...
وانصرفوا عن القتال وهم له كارهون، وانصرف الطرواديون فاعتصموا بأسوارهم، ورابطوا داخل صياصيهم، ومهرة النجارين وكبار المثالين دائبون على حصانهم الهولة حتى فرغوا منه.
وأقلع الأسطول.
وانكشفت الساحة من هذا الجراد المنتشر الذي لبث ينوء فوقها عشر سنين.
واختبأ أوليسيز داخل الحصان ومعه نخبة من شياطين الميرميدون، وعلى رأسهم بيروس النجيب ابن أخيل الخالد، وعصبة قوية من فرسان الإغريق البواسل.
ودق الطرواديون البشائر.
وجاءوا يهرعون إلى الساحة ويتكبكبون حول الحصان الهولة، ويكلمون سينون الذي تركه الهيلانيون عند الحصان ليخدع الطرواديين ولينصح لهم بنقله إلى المدينة ليكون آخر الدهر تذكارا لهذه الحرب التي شنها قومه على طروادة ظلما، فباءوا منها بالبوار. ... هؤلاء الهيلانيون اللؤماء، الذين انصبت عليهم أحقاد الآلهة، وثار بهم كبير الأولمب وسيده الأعظم، وسلطت عليهم الزوابع والأنواء حتى كادت تفنيهم لولا أن أمروا بتضحية قربان بشري ينجيهم من غضب السماء ... ولكن؟ ... من منهم أصاخ إلى الأمر المقدس؟ ومن منهم سمع إلى هتاف الأولمب؟ لقد جبنوا جميعا، ولم يشأ واحد منهم أن يضحي بنفسه لينقذ الجميع حتى أوليسيز نفسه! هذا الداهية المغفل! لقد جبن هو أيضا! وفي الوقت نفسه حاول أن يرغمني أنا! أنا سينون المسكين، على أن أقبل التضحية، وأن أهب دمي للآلهة لتهدأ ثورتها.
ولكني رفضت في شمم، وامتنعت في إباء، لا خوفا من الذبح؛ ولكن ضنا بدمي النقي الطاهر عن أن يهرق في سبيل هؤلاء الجبناء ... الذين تكأكئوا وفزعت نفوسهم من صيحة السماء!
وهربت يا مولاي! يا مولاي بريام العظيم ... ولذت بظلال طروادة الخالدة، طروادة المنيفة القوية، وجعلت أصلي لأربابي حتى استجابت لي، وأرسلت إليهم من أنذرهم بسوء المنقلب إذا هم لم يقلعوا هذا المساء! قاتلهم سيد الأولمب! وقاتلهم الآلهة جميعا!
والآن! ها هم أولاء قد تركوا هذا التمثال الرائع الذي أعدوه ليوم نصرهم، فجعلته الآلهة آية فشلهم! انقلوه يا مولاي إلى المدينة واجعلوه تذكار هذه النوبة الجنونية التي شنوها عليكم، فحاق بهم سوء ما كانوا يمكرون، ألا فليكن قربة لمينرفا!
ولقد سمعت هاتفا في صلاتي يقول: «الويل لمن يصيب هذا التمثال بشر! تنقض عليه رجوم السماء، وتنخسف من تحته الأرض، وتميد من فوقه الجبال! وطوبى لمن احتفظ إلى الأبد به! إذن يحميه شر حدثان الزمان وعوادي الأيام ...»
وكان سينون الداهية يمزج كلماته بدموع الصلاح والورع، ويشعل فيها جمرات الإخلاص والصدق ... وكان يرسل آهاته من الأعماق! حتى استطاع أن ينفذ إلى سويداء الملك، ويستولي على مشاعر الطرواديين؛ وحتى ثار الطرواديون أنفسهم على قديسهم الوقور لاوكون، راهب نبتيون الأكبر حين نصح ألا تجوز عليهم هذه الكلمات المعسولة، والنفثات السحرية التي يتلجلج بها لسان سينون، وأن يدعوا الحصان مكانه، «فإنه إن دخل طروادة جلب عليها الشر، وكان فأل السوء للضحايا والشهداء، ولا تصدقوا أن الهيلانيين قد تركوا هذا الحصان تكرمة لنبتيون كما يدعي هذا الآفاقي المأفون، بل هم قد صنعوه حيلة منهم لغرض سيء، وها هي ذي ابنتك أيها الملك ... كاسندرا العزيزة فاسألها ... فإن لديها سر السماء ...»
وسأل الملك كاسندرا فأفتت بما أفتى به لاوكون.
ولكن ... من يصدق كاسندرا ولا تزال نقمة أبوللو تنصب فوق رأسها، وقد جعلها إله الشمس عرضة لكل مستهزئ، وضحكة كل ساخر لعاب!
وزاد الناس استهزاء بالقديس لاوكون، حين رأوا إليه تفترسه حيتان عظيمتان على سيف الهلسبنت؛ إذ هو يقدم قربانه لربه نبتيون، فتقتلانه وولديه، عقب تحذيره الطرواديين ألا يقربوا الحصان المشئوم وألا يدخلوه مدينتهم!
وتعاون الطرواديون جميعا فجروا الحصان الهولة، وهدموا بأيديهم جزءا كبيرا من سور إليوم المنيع لتتسع البوابة للتمثال الهائل، فكانوا كالتي نقضت غزلها أنكاثا! •••
وكان الأسطول قد اختبأ في ظلال الأيك النامي فوق جزيرة تندوس، فلما كان النصف الثاني من تلك الليلة الخرافية الحالكة - وكانت طروادة كلها قد استسلمت للنوم العميق الذي يسبق القضاء الصارم عادة في مثل هذه الأحوال - هب سينون الخبيث ففتح الباب السري الذي لا يعرف إلا هو مكانه من الحصان، وخرج الأبطال فقتلوا الحراس النائمين لدى الأبواب، وأشعلوا النيران فرآها الجنود الذين عاد بهم الأسطول في دجى الليل، فانطلقوا سراعا إلى إليوم الخالدة ... المستسلمة ... فدخلوها ... وأعملوا السيف، وشرعوا الرماح، واستباحوا المدينة، وهتكوا الأعراض النقية، وأحلوا حرمة الهياكل، وأضرموا النيران في القصور، وأتلفوا الحدائق الفينانة، وهشموا تماثيل الآلهة في الميادين العامة، وقتلوا الصبية والأطفال، وجعلوا المدينة أطلالا!
وهكذا، وفي سكرة الليل، وهدأة الظلام، تم للهيلانيين الاستيلاء على تلك المدينة العتيدة، وهبت من تحت الثرى عشرة أعوام طوال مضرجة بالدم، ملطخة بالإثم، حافلة بالذكريات، غارقة في الدموع ... تشهد إلى الفتح المجرم، وترى إلى المأساة الظالمة في آخر فصولها!
وكان إيناس اليافع بن فينوس الهلوك من أنخيسيز ، فتى طروادة وأميرها الجميل ذو القسمات يغط في نومه العميق ملء سريره الذهبي الوثير ... مطمئنا آمنا ... لا يدور بخلده أن تحل تلك الكارثة بإليوم في هذه الغفوة من الفجر.
وكان إيناس محببا إلى الآلهة، ولم يكن قد جاء أجله بعد، فسخرت إليه ربات الأقدار طيف هكتور يزوره في نومه، ويريه حلما مفزعا، وينذره: «أن هب يا إيناس؛ فقد سقطت طروادة، وانج بنفسك وبأهلك؛ فالأسطول ينتظرك، واستنقذ التحف المقدسة والآثار العلوية؛ فقد دنسها الفاتحون!»
وذعر إيناس، وهب من نومه لهفان صعقا، وفزع إلى سلاحه، ثم أشرف على المدينة المروعة، فشهد المأساة تحل بها.
وهاله أن يرى الوحوش الضواري من بغاة الميرميدون وغزاة الهيلانيين يسوقون أتراب طروادة وبيض خدورها المكنون، عاريات أو نصف عاريات، إلى الأسطول، ليكن إماء في بيوت هيلاس، ورقيقا في أسواقها!
وكاسندرا! كاسندرا نفسها! ابنة بريام الملك، حبيبة السماء وصفية الآلهة! التي حذرت أباها يوما من قبول باريس أن يحل البلاء بالمملكة وينزل الشؤم بالناس! ها هي ذي مسوقة في قبضة أجاممنون نفسه، أجاممنون سيد القوم وقائدهم العام إلى سفينته!
وفكر إيناس فلم يجد لإنقاذ المدينة وأهلها من سبيل، فأشار إلى بعض رجال قصره، فقتلوا نفرا من جند الإغريق المتخلفين عن الجيش الغازي، كانوا مشغولين بالسلب والنهب في متجر قريب، ثم نزعوا عنهم ثيابهم فلبسها إيناس وصحبه ليستخفوا بها عن أعين المغيرين؛ وانطلقوا إلى القصر الملكي، وبودهم لو استطاعوا أن يحموا الملك في هذا الروع الأكبر، ولكن وا أسفاه! لقد كان بيروس بن أخيل قد سبقهم إليه في عسكر مجر من أباسلة الميرميدون؛ وكان بوليتيس بن بريام، وآخر فرع من دوحته الباسقة آبقا أمامه، مكروبا مفزعا، فارا إلى ذراعي أبيه الضعيف الشيخ، يلتمس الحماية في أوهى حمى، فلم يزل بيروس ينهب الأرض في إثره، حتى قتله بين يدي أبيه، وانقض على الملك التاعس فوضع حدا لهذه الحياة الطويلة المملولة الشقية التي لطخها الدم البريء وصهرتها جحيم الشدة، ولم يغن عن بريام المسكين توسلات هذه الزوجة المعذبة التي وقفت بينه وبين بيروس، هكيوبا! الملكة المرزأة! التي بقيت وحدها لتجرع الثمالة الباقية في كأس الحياة مرا وعلقما.
وهكذا صعدت روح الملك إلى سماء طروادة.
تتلفت حولها! ترى إلى المدينة الخالدة تضطرم.
النيران في جنباتها، وتندك صروحها العزيزة.
في الرغام، وتتهادى أبراجها المنيفة التي
كانت تسجد تحتها آسيا الجبارة، والآن!
ها هو ذا على ثرى إليوم لقى لا نفس فيه!
وجثة هامدة لا تحمل اسمها بعد، ورأسا
معفرا من غير جسد!
2
وزاغ بصر إيناس حين شهد هذا المنظر الرهيب، ووقر في نفسه أن مثل هذه النهاية المحزنة قد تحل بأبيه الشيخ أنخيسيز؛ وبزوجته الهيفاء كروزا، وبطفله المعبود إيولوس، فلم يبال أن يقتحم صفوف الأعداء إلى قصره الذي خلا غابه اليوم من أسده، وبدل الشوك من ورده، وعاث فيه جنود الهيلانيين فأصبح قاعا صفصفا، كأن لم يشد في دوحه بلبل، ولم يحن فيه فؤاد إلى فؤاد!
وهناك ... في إحدى الردهات المنعزلة، وجد هيلين! نعم، هيلين! سبب هذه الكوارث المتلاحقة التي حلت بطروادة والطرواديين ... هيلين التي لم تبال أن تتزوج ديفبوس - أخا باريس - عقب مقتل حبيبها بأيام معدودة!
وجدها هنالك ... تنقدح المصائب شررا من عينها، وتتدجى غواشي الكروب فوق هامتها، وتنعقد ظلمات الكوارث على جبينها المغضن الكريه ... الجميل!
وهم إيناس أن يفتك بها لما ذكر من الأرزاء التي حاقت بطروادة من جرائها، لولا أن بدت له أمه ... فينوس، فأنذرته ألا يفعل، ثم كشفت له حجاب الغيب المحرم على أعين البشر، فرأى إلى الآلهة أنفسهم يعملون بأيديهم في تخريب طروادة وتدمير الطرواديين، وعلى رأسهم شيخ الأولمب وسيده ... زيوس ... كبير الأرباب! «فانج بنفسك يا بني ... ولذ بالبحر ... ولتنزح عن هذه الديار ...»
وانطلق إلى أبيه فنصح له أن يهرب معه، ولكن أباه استكبر وأبى، بحجة أنه ينتظر نبوءة من السماء توحي إليه بما توحي ... فغيظ إيناس وأغلظ لوالده القول؛ ثم أمره أن يهب من فوره غير مستأن فيركب كاهلي ابنه وإلا قتلوا في الحال!
ولم يسع أنخيسيز إلا أن يطيع، فسار ابنه يحمله، وسار ولده الصغير أيولوس بجانبه، وتبعتهم زوجه الجميلة كروزا.
كان قد اتفق مع أتباعه قبل أن يقصد إلى قصر الملك أن ينتظروه في هيكل خرب قريب من مياه الهلسبنت، فلما أقبل نحوهم يحمل أباه اتفقوا على أن يبحروا في الحال، ولكنه، وا أسفاه! افتقد زوجه فلم يجدها، زوجه كروزا التي كانت الساعة فقط تتبعه! لقد قتلها كلب من شياطين الميرميدون! ولما رجع إيناس ليبحث عنها لقيه طيفها الجميل، عند تمثال مينرفا، فخاطبه قائلا: «هلم يا إيناس! غادر هذه الديار في الحال، واذهب إلى شطآن التيبر؛ فإن الآلهة قضت أن تبني بيديك رومة أم القرى!» وأبحر إيناس وأبحرت فلول الطرواديين معه وعينه تفيض من الدمع على كروزا!
وفي غبشة الصبح المضطرب، كان صوت الطبل الكبير يقصف كالرعد في خرائب طروادة. وكانت الجموع الحاشدة تهرول نحو الأسطول، وكان السبي الكثير من عذارى طروادة وسائر نسائها يهرولن هن الأخريات نحو البحر، فكنت ترى هكيوبا الملكة وأندروماك الحزينة التي اغتصبها بيروس لنفسه، وكاسندرا ... تلك التي أحبتها السماء، فأصبحت في جملة السبي من سريات أجاممنون وغانياته ... وكنت ترى غيرهن يهرولن في الصباح الباكي إلى شاطئ الهلسبنت، ليركبن البحر فيغبن عن أرض الوطن إلى الأبد.
وكانت كاسندرا تنظر إلى المأساة وتبتسم.
وكانت أمها ترمقها بعينين دامعتين، وتسألها عن سبب ابتسامتها، فتفتر كاسندرا، وتقول: «أماه ليس حظ هؤلاء الغزاة المنتصرين بخير من حظ أبطالنا، ها أنا ذي أقرأ ألواح القضاء، انظري ... ها هو ذا مصرع أجاممنون بيد زوجته كليتمنسترا العاشقة ... إنها تفضل اليوم حضن عاشقها الآثم على جنة يكون فيها زوجها ... إنها ستقتله، ستذبحه بيديها ... حينما تطأ قدماه أرض الوطن!
وانظري يا أماه ... ها هو ذا أوليسيز تعصف به الريح، ويلعب به الموج، ويؤرجحه البحر اللجي، والعشاق يتقاتلون من حول زوجه ... وتليماك المسكين يضطرم غيرة ولا يستطيع أن يفعل شيئا ...
وانظري يا أماه ... ها هو ذا منلوس ... بائس ... كم أنت بائس يا منلوس، لقد ظن المسكين أن هيلين نقية كما هي ! لقد نسي الناعس أنها تقلبت في أحضان أزواج غيره! انظري إليه يقذفه البحر إلى شطآن مصر، وانظري إليه ذليلا بين يدي هيلين يتوسل إليها وكان أحرى لو أنه قتلها. •••
ونسي الهيلانيون في نشوة النصر أن يقربوا القرابين للآلهة التي نصرتهم وأيدتهم وأظفرتهم بأعدائهم؛ قبل أن يبحروا، فأثاروا غضب الأولمب، واستنزلوا لعنة السماء، واستحقوا حنق حيرا ونبتيون ومينرفا، ونقمة زيوس!
لقد ثارت ثائرة مينرفا، فانطلقت إلى أبيها وشكت إليه ما فرط هؤلاء الجاحدون في جنبها وجنب الآلهة، واتفق الجميع على أن يسخر نبتيون الجبار إله البحر أرياحه العاتية على أساطيلهم فتمزقها، وتضللها تضليلا.
فما كادت الأساطيل تمخر عباب الماء، وما كادت تبتعد عن شواطئ إليوم، حتى بدأت العاصفة تدوم، وحتى أخذت الأمواج ترسل أعرافها حول السفائن، وحتى نثر الثبج حبابه فوقها، وحتى ارتعدت فرائص القوم، ونظر بعضهم إلى بعض، كأنهم في يوم حشر، فهم لا ينبسون.
ولقد صدقت كاسندرا!
فها هي ذي الأساطيل الكثيفة تتمزق فوق سطح البحر، وها هي ذي جواري منلوس المنشآت تدفعها العاصفة في طريقها إلى ... مصر، وها هي ذي مراكب أجاممنون تنكسر على الصخور الناتئة في عرض اليم، وما يكاد يصل هو إلى مملكته أرحوس حتى تقتله زوجته العاشقة مؤثرة عليه أحضان عاشقها الأثيم إيجستوس، وها هي ذي سفين أوليسيز تضل في البحر الشاسع، وتتكسر بما عليها من سلب، ويظل البطل المغوار في نقلة وترحل ... عشر سنوات، وتظل زوجه بنلوب تنتظره، وعشاقها يقتتلون حول قصرها، وتليماك - ابنها البائس - ينتظر أوبة أبيه، حتى يعود بعد شدة وبعد أهوال، فيدمر العشاق الآثمين.
وهاك بيروس بن أخيل يعود ومعه أندروماك التي تظهر له الحب، عاملة بنصيحة هكيوبا لها، حتى تنشئ ابنها، وكانت تعتزم مضايقة بيروس ومناوأته ليقتلها، ولتستريح بالقتل من عذاب بالعيش بعد هكتور.
3 •••
وهكذا يا صديقي القارئ تنتهي تلك الملحمة الطويلة الدامية؛ فإن أحسست أنت أنها لم تنته بعد، فأنت صادق؛ لأن المأثور أن هوميروس قد نظم ملاحم طويلة عن أوبة كل من أبطاله إلى بلاده، ولم يبق منها - وا أسفاه - غير درته اليتيمة الخالدة.
الأوديسة
وهي التي سنقدمها لك قريبا إن شاء الله مروية بطريقتنا التي آثرنا أن نروي بها روائع الأدب اليوناني، الذي تسمع به جمهرة قرائنا ولا تعرف عنه إلا اسمه.
وليس من شك في أن الأوديسة - كما أشرت إلى ذلك في مقدمتنا عن هوميروس - هي أروع آيات الأدب اليوناني كله، إن لم تكن آية آيات الأدب القديم جميعه، نسأل الله أن يلهمنا السداد، وأن يهبنا من لدنه العناية وحسن التوفيق.
نامعلوم صفحہ