وكليتمنسترا زوجة أجاممنون، لقد عشقت هي أيضا إيجستوس المتآمر على عرش مولاه والذي دبر له تلك القتلة الشنيعة بعد عودته ظافرا من طروادة، فما الذي صنعه هوميروس بنساء اليونانيين؟ لقد عبث بهم وهو يرفع أبطالهم إلى ذروة المجد، ولها بعقولهم حين عرض عليها بضاعة البطولة المزجاة ملفوفة في أكفان تلك الأعراض الممزقة، حتى آلهتهم، لقد تناولها كما يتناول الطفل دماه ولعبه يعبث بها ويلهو، حتى كبير الآلهة وسيد الأولمب، انظر إليه كيف احتالت عليه زوجه جونو «حيرا» - الكتاب الرابع عشر - فجعلته يغفى ثم يغط في نوم عميق كيما يذهب نبتيون لنصرة الإغريق، فإذا استيقظ في الكتاب الخامس عشر وعلم ما كان من أمر نبتيون أرسل إليه ينذره في المعركة، فيعود رب البحار وينبري أبوللو لمشاكسة اليونانيين فترتد جموعهم إلى قواعدها عند الأساطيل.
أما المرأة الطروادية فقد سما بها هوميروس سموا بلغ الغاية وأوفى على المأمول، انظر إلى الأزواج والعذارى والأمهات يجتمعن حول هكتور في الكتاب السادس في عودته من المعركة يسألنه عن ذويهن؛ وانظر إلى أمه تبرز إليه من حريم بريام عابسة مقطبة تزجره لأنه عاد من المعركة وهي على أشدها ثم تحضه على اللحاق بإخوانه ينصرهم ويشد أزرهم ويرد عنهم عادية الإغريق، ثم انظر إلى هذه المرأة المرزأة - هكيوبا - تجمع المتضرعات من بنات طروادة وتذهب فيهن إلى هيكل مينرفا تصلي وتعقر القرابين كيما تشمل جيش طروادة بحسن رعايتها وجميل حمايتها، ثم استمع إليها تحنو على هيكتور في الكتاب الثاني والعشرين بعد إذ وعظه والده خوفا عليه من أخيل «الجني!» وقد أفزعها منظره يصول في الحلبة ويجول، فتذري دمعها وتساقط نفسها بعد إذ أرسلت إلى المجزرة بأكثر أبنائها، أو انظر إليها تمزق نياط القلوب في الكتاب الرابع والعشرين إذ هي تبكي هكتور بعد إذ عاد أبوه بجثمانه من لدن أخيل، أو انظر إليها تتعلق ببريام وقد انقض بيروس (ولد أخيل) على آخر أبنائها يخترمه برمحه، ثم ينقض على بريام الشيخ الفاني المسكين فيجهز عليه، ثم يقتاد هكيوبا، هكيوبا المحزونة المفجعة فتكون في جملة السبي الذي يعود به اليونانيون من طروادة،
14
ويكون سبيا يجر عليهم النحس فيقتل من يقتل ويردى من يردى.
وأندروماك! لشد ما يدوي في فؤاد القارئ هذا المشهد الرائع بينها وقد حملت طفلها، وبين زوجها هكتور في الكتاب السادس من الإلياذة! إن هوميروس يرتفع في هذا المشهد إلى ذروة فنه في ملحمته الخالدة! لشد ما يحرق القلب وداع أندروماك الزوجة لهكتور الزوج!
انظر إليها واقفة فوق برج من أبراج طروادة وقد قتل أخيل زوجها وراح يجره وراء عربته في الساحة حول إليوم. والرأس الكريم العظيم يثير التراب المنضوح بالدم، وأخيل يلهو بكل ذلك ويشتفي!
بل انظر إليها وقد وقفت تضرب صدرها وتسكب دمعها على جثة هكتور بعد إذ عاد بها أبوه بريام من عند أخيل، ثم تقول: «زوجي! أهكذا تمضي في عنفوان الصبا وشرخ الشباب، وتتركني وحيدة فريدة كاسفة! هذا ابنك لا يزال في المهد، وهذان أبواك الشقيان! لن يشب ابنك يا هكتور عن طوقه؛ لأن من دون هذا دك تلك الحصون، وتقويض طروادة التي كنت حاميها وحامي نسائها والذاب عن بنيها! يا لشقاء الحرائر اليوم يا طروادة! إن هي إلا لحظات ثم يحملهن البحر إماء للغزاة، وأنا وولدي في جملة السبي يا هكتور. ولدي! ولدي البائس الشقي! إلى أين المسير! إلى بلاد العدو الظالم لنكون من جملة الخدم والخول، ليراك من يحسب أباك قد قتل أباه أو أخاه فيبطش بك، وينتقم منك ويقذف بك من فوق برج أو حصن.» «لشد ما كنت حزنا لأبويك يا هكتور! بيد أنك كنت حزنا ممضا لمخلوق آخر هو أنا!»
وهكذا بكت هذه الزوجة المخلصة الوفية زوجها، وهكذا كانت دموعها الغوالي مدادا لا ينفد لمآسي يوربيديز.
وبعد، فهذه مقدمة عن هوميروس مسهبة، وهي مقدمة لهذا الكتاب والكتاب الذي سيليه إن شاء الله، لم أر بدا من إثباتها بنصها كما كتبتها بعد أن فرغت من تلخيص الأدب اليوناني، ونشر معظمه في أوقات متقاربة. ولم يبق إلا أن يعلم القارئ لماذا آثرت تلخيص الإلياذة والأوديسة، ولم أوثر ترجمتهما؟ ولا أحب أن أطيل في إيراد سبب ذلك؛ فأنا لا أزال عند رأيي من وجوب تحبيب الأدب اليوناني الخالد إلى قراء العربية، وإزالة ما عساه أن يصرفهم عن ورده، والاستمتاع بروائعه. والأدب اليوناني مثقل بمئات من أسماء الآلهة والإشارات الأسطورية التي تصرف القارئ عن لب الموضوع، بل ربما صرفته عن الموضوع نفسه، وزهدته فيه فلا يعود إليه أبدا.
لهذا آثرت التلخيص على الترجمة؛ ولهذا بدأت بنشر كتابي «أساطير الحب والجمال عند الإغريق» لأمهد به «لقصة طروادة» وهي هذا الكتاب، و«لقصة الأوديسة» التي ستظهر بعد أسابيع. وأرجو أن أوفق إلى نشر الجزء الثاني من أساطير الإغريق الذي لا غنى عنه لقراء الأدب التمثيلي اليوناني قبل أن أنشر كتبي التي أنجزتها عن إسخيلوس وسوفوكلس ويوربيديز حتى أكون قد ساهمت بنصيبي المتواضع في التعريف بالأدب اليوناني، ولفت أنظار قراء العربية إلى روائعه حتى يتيح الله لهذا الأدب من يترجم روائعه ترجمة نثرية لا غنى لقراء العربية عنها.
نامعلوم صفحہ