في العصور الأولى للمسيح ظهر في الإسكندرية مذهب الأفلاطونية الحديثة، وقد سمي بهذا الاسم لأنه وليد تعاليم أفلاطون، ولكنه وليد غير شرعي لأنه لم يحافظ على كثير من أسس أفلاطون، فمبنى فلسفة أفلاطون رأيه في المثل، وقد ملأ فلسفته بضروب من الخيالات وأحاطها بكثير من الغموض، فأخذت الأفلاطونية الحديثة هذه الخيالات والأساطير التي استعملها أفلاطون على سبيل التمثيل والاستعارة ونحو ذلك على أنها حقائق، ومزجتها مزجا تاما بإلهام الشرق وأحلامه.
ومؤسس هذا المذهب أمونيوس سكاس
Ammonius Saccas ، كان أول أمره حمالا، وقد ولد من أبوين نصرانيين، ولكنه اعتنق الدين اليوناني القديم، وهو أول المعلمين الإسكندرانيين الذين حاولوا التوفيق بين تعاليم أرسطو وأفلاطون ومات سنة 242م، ولم يؤثر عنه أي كتاب.
وأكبر مؤيديه والمنتصرين لمذهبه تلميذه أفلوطين، وربما عد مؤسس المذهب، وقد ولد سنة 205م في ليكوبوليس (أسيوط) ولكن لم تعرف بالضبط جنسيته، وتعلم في الإسكندرية ولازم أمونيوس إحدى عشرة سنة، ثم سافر مع الحملة التي جهزها الإمبراطور جورديان لمحاربة الفرس، رجاء أن يتعلم الفلسفة الفارسية والفلسفة الهندية من أصولها، وفي سنة 245 قصد إلى روما حيث استقر بها، وأسس مدرسته التي قام عليها حتى مات في كامبانيا سنة 270م، والعرب لم تعرف كثيرا عنه، ولكن تعرف مذهبه وتطلق عليه مذهب الإسكندرانيين، ويطلق عليه الشهرستاني «الشيخ اليوناني» وقد ألف أفلوطين كتبا كثيرة حفظت عنه، ويطلق عليها اسم التاسوعات
Enneads
وتفرع مذهبه إلى فروع كثيرة: فكان منه فرع في الإسكندرية، وفرع في الشام، وفرع في أثينا، ولقد كان أفلوطين في حياته محببا إلى النفوس مقربا من العظماء، فكان الإمبراطور جالينوس ينزله من نفسه منزلة سامية ويقدره أعظم التقدير، حتى قيل إنه اعتزم أن يقطعه منطقة كامبانيا ليقيم عليها مدينة فاضلة تحكم على مثال ما ارتأى أفلاطون في الدولة، هذا وقد عهد إليه فريق كبير من علية القوم بالقيام على تربية أولادهم، فضلا عن أفواج الشبان التي كانت تؤم بيته وتحضر مجلسه، ويقال إنه قد كانت لأفلوطين بصيرة نافذة في الطبائع البشرية حتى استطاع أن يتنبأ لكثير من الأطفال الذي كان يتعهد تربيتهم بمستقبلهم إما فشلا أو نجاحا، ولم يبدأ أفلوطين في كتابة ما كتب إلا وهو في سن الثامنة والأربعين، بعد أن أكمل فلسفته. أما حياته الشخصية فبنيت على الزهد والتقشف لتطهير الروح من أدران الجسد، فلم يكن ينعم بالنوم إلا بقدر ما تضطره إليه الحاجة اضطرارا، ولم يكن يبيح لنفسه من الطعام إلا ما يقيم أوده، وقد حرم على نفسه أكل اللحوم، ومما يذكر عنه أنه لم يسمح لفنان بتصويره بحجة أن المصور لا يزيد بصورته على أن يثبت «ظلا لظل»، وقد تنازل عن كل ثروة، وفك رقاب من كان يملك من رقيق، وكان يصوم يوما بعد يوم، وحاول أن يتصل بالله، وقالوا إنه ظفر بذلك أربع مرات.
يقول هذا المذهب: إن هذا العالم كثير الظواهر دائم التغير، وهو لم يوجد بنفسه بل لا بد له من علة سابقة هي السبب في وجوده، وهذا الذي صدر عنه العالم «واحد» غير متعدد، لا تدركه العقول ولا تصل إلى كنهه الأفكار، لا يحده حد، وهو أزلي أبدي قائم بنفسه، فوق المادة وفوق الروح وفوق العالم الروحاني، خلق الخلق ولم يحل فيما خلق، بل ظل قائما بنفسه على خلقه، ليس ذاتا وليس صفة، هو الإرادة المطلقة لا يخرج شيء عن إرادته، هو علة العلل ولا علة له، وهو في كل مكان ولا مكان له. ولما كان الشبه منقطعا بينه وبين الأشياء لم نستطع أن نصفه إلا بصفات سلبية، فهو ليس مادة وهو ليس حركة وليس سكونا، وليس هو في زمان ولا مكان، وليس صفة لأنه سابق لكل الصفات، ولو أضيفت إليه صفة ما لكان ذلك تشبيها له بشيء من مخلوقاته، وبعبارة أخرى لكان ذلك تحديدا له، وهو لا نهائي لا تحده الحدود، فلسنا نعلم عن طبيعة الله شيئا إلا أنه يخالف كل شيء ويسمو على كل شيء. ولأن الله فوق العالم ولأنه غير محدود لا يمكنه أن يخلق العالم مباشرة، وإلا لاضطر إلى الاتصال به، مع أنه بعيد عنه لا ينزل إلى مستواه، ولأنه واحد لا يمكن أن يصدر عنه العالم المتعدد، ولا يستطيع أن يخلق الله العالم؛ لأن الخلق عمل، أو إنشاء شيء لم يكن، وذلك يستدعي التغيير في ذات الله، والله لا يتغير، يقول أفلوطين: إن الله علة العالم، ويقول من ناحية أخرى: إن الله فوق العالم، ولا يمكن أن يتصل به أي اتصال، هذان قولان متناقضان، فكيف التوفيق بينهما؟ وكيف نشأ العالم عن الله؟ فلجأ أفلوطين في الإجابة عن هذا إلى الشعر والاستعارة والتمثيل، يقول: إن تفكير الله في نفسه وكماله نشأ عنه فيض، وهذا الفيض صار هو العالم، وكما يبعث اللهيب ضوءا والثلج بردا كذلك انبعث من الله شعاع كان هو العالم. وبذلك خرج أفلوطين من المأزق المنطقي بعبارات شعرية؛ وعلى ذلك يكون الكون قد انبثق من الله انبثاقا طبيعيا بحكم الضرورة، ولكن ليس في هذه الضرورة أي معنى من معاني الاضطرار والإلزام، وليس في الخلق معنى الحدوث وليس يقتضي تغيرا في الله. ولما كان كل كائن قد تفرع هكذا من الواحد الأول - الله - فهو يميل بفطرته إلى العودة إلى أصله ومبعثه الذي كان صدر عنه، ولا ينفك يحاول أن يصل إليه. أما ذلك المصدر الأول فمستقر في نفسه مكتف بها لا يتصل بما تفرع عنه من أشياء، وهذه الكائنات التي صدرت عن الله تكون سلما نازلا من درجات الكمال، فكل شيء أقل كمالا مما فوقه، ويستمر التناقص في الكمال حتى ينعدم الكمال في آخر السلم انعداما تاما، حيث يتلاشى النور في الظلام.
وأول شيء انبثق من «الواحد» هو العقل، وهذا العقل له وظيفتان: وظيفة التفكير في الله، ووظيفة التفكير في نفسه، وقد خلع أفلوطين على هذا العقل شيئا من خصائص المثال الذي شرحه أفلاطون.
من هذا العقل انبثقت نفس العالم، وهي ليست مجسدة ولا قابلة للقسمة، ولهذه النفس ميلان: فتميل علوا إلى «الواحد» وتميل سفلا إلى عالم الطبيعة، وقد انبثقت منها النفوس البشرية التي تسكن هذا العالم، فنفس العالم - كالعقل - تنتمي إلى العالم الإلهي الروحاني الذي يقع فوق الحس، وهي تعيش عيشة خالدة لا تحدها حدود الزمن، إلا أنها دون العقل درجة، فهي تقف على هامش العالم الروحاني قريبة من حدود هذا العالم المحسوس، ولو أنها ليست جثمانية في ذاتها إلا أنها تميل إلى الأشياء الجثمانية فتنظر إليها، وهي تقف بين الأشياء من جهة وبين العقل من جهة أخرى وسيطا تنقل العلل والأسباب التي تبدأ من العقل فتوصلها إلى الأشياء.
من هذه النفس الأولى - أو نفس العالم - خرجت نفس ثانية أسماها أفلوطين بالطبيعة، وهذه النفس الثانية هي التي تشترك وحدها مع العالم المادي كما تمتزج نفوسنا مع جسومنا، وهذه النفس الأخيرة - التي هي عبارة عن النفوس الجزئية الموزعة على الكائنات - هي أدنى مراتب العالم الروحاني، والخطوة التي تليها مباشرة هي المادة التي هي أبعد الكائنات عن الكمال، ويقول أفلوطين إن انبثاق النفوس الجزئية عن نفس العالم هو كانبثاق الضوء من مركزه، وكلما بعد عن المركز ضعف حتى يصير ظلاما، وهذا الظلام التام الذي انحسر عنه ضوء النفس هو المادة، فالمادة ضوء سلبي، وهكذا يسبح أفلوطين في خيالاته الشعرية.
نامعلوم صفحہ