ولقد كانت الإسكندرية مكانا طبيعيا تتلاقى عنده تلك المذاهب جميعا؛ وذلك لموقعها بين الشرق والغرب، فتستطيع أن تكون حلقة بين الطرفين، فهناك امتزجت الآراء والمذاهب، وفي ذلك يقول «إنج»
Inge : «تقابل الشرق والغرب في شوارعها (الإسكندرية) وفي قاعات الدرس بها وفي معابدها، وفيها اصطبغت اليهودية أولا ثم المسيحية ثانيا بالصبغة اليونانية.»
وأبرز ما شرح في الإسكندرية من مذاهب هي الفيثاغورية والأفلاطونية، ومذهب أرسطو في الصورة والهيولى، ومذهب المدرسة الأورفية في الزهد، ووجه الشبه بين هذه المذاهب جميعا هو تفريقها بين الروح والمادة، وجعلهما عنصرين متميزين، واتخاذها مثلا تكون أمام الإله نماذج يصور الخلق على غرارها، هكذا قال أفلاطون، وهكذا قالت المدرسة الفيثاغورية الحديثة في الأعداد، إذ نظروا إلى الأعداد فاعتبروها نماذج مثالية صيغ على نسقها العالم، وهكذا قال أرسطو إذ ذهب إلى أن الهيولى (أي المادة) تنزع إلى الصورة، ففي كل هذه المذاهب ترى عنصرا مشتركا هو وجود نماذج جاءت الطبيعة على مثالها، مهما اختلفت في شرح هذه النماذج.
أخذت الإسكندرية هذا وأضافت إليه ما ذهبت إليه الفيثاغورية الحديثة من أن «الكشف» هو الوسيلة إلى المعرفة، فالبصيرة فوق العقل، وبهذا انفسح الطريق للنزعة الصوفية التي حاولت التخلص من ظلام الشك الذي ساد في الناس حينا من الدهر، فإن كان العقل قد عجز عن الوصول إلى الحقيقة وأدى بالإنسان إلى حيرة الشك فليلجأ هذا الإنسان إلى كشف البصيرة لعلها تكون له هاديا. (1) فيلو
ونستطيع أن نضرب بهذا الفيلسوف «فيلو» مثلا لذلك الضرب من التفكير، فقد ولد في سنة 25ق.م من أسرة نبيلة في الإسكندرية وكان يهوديا، ومات سنة 50 بعد الميلاد، فكان يؤمن بالوحي حسب ما جاءت به التوراة، كما كان يؤمن بتعاليم الفلسفة اليونانية، وكان يرى أن الفلسفة اليونانية وحي عميق غامض لبيان الحقائق، على حين أن الكتاب الإلهي المقدس وحي واضح جلي لبيان ما في هذا الكون من حق، وكان يرى أن الفلسفة اليونانية مأخوذة من التعاليم العبرية، وأن أفلاطون وأرسطو أخذا تعاليمهما من موسى ومن التوراة، ومن هنا نشأ ما لهما من حكمة، وفيلو هو المسئول عن خلط التعاليم الفلسفية بالوحي والإلهام الشرقي.
كان فيلو يعلم أن الله - وهو الذي لا يحده حد - يجب أن يكون فوق هذا العالم المحدود، وليس هناك لفظ ولا فكر يستطيع أن يساير أبديته، وليس يمكن للفكر أن يدرك كنهه، وهو فوق أن تدركه العقول، وليست تصل نفس الإنسان إلى الله عن طريق العقل والتفكير، ولكن عن طريق رياضة النفس والكشف، ولا يستطيع الله أن يدبر هذا العالم مباشرة؛ لأن هذا العالم مادي محدود، إنما لله كائنات روحانية هم سفراء الله يعملون في هذا العالم ما يريد الله، ويخلقون ويحكمون، وعلاقة الله بالملائكة وعلاقة الملائكة بالعالم علاقة انبثاق كأشعة الضوء تنبثق من مركز ساطع، ويقل ضوء الأشعة كلما بعدت عن المركز، وهذا النوع من الكلام يمثل لنا ما في كلام فيلو من تصوف وبعد عن منحى التفكير الذي كان عند اليونان.
الفصل السادس عشر
الأفلاطونية الحديثة
The New Platonists
يختلف مؤرخو الفلسفة في عد الأفلاطونية الحديثة فلسفة يونانية، أو فلسفة للقرون الوسطى، ولكل وجهة نظر؛ فالذين لا يعدونها يونانية يستندون على بعد الزمن بين العهدين، ولأن مؤسسها وهو أفلوطين ولد سنة 205 ميلادية، فهذه الفلسفة وليدة المسيحية، ولأن طابع هذه الفلسفة ليس طابعا يونانيا بحتا بل هو مصبوغ بصبغة الإلهام الشرقي، وكان مركزها في الإسكندرية لا في اليونان، وكانت الإسكندرية إذ ذاك مدينة عالمية لا يونانية يتقابل فيها الناس من كل جنس ويلتقي فيها الشرق بالغرب. والذين لا يرونها من فلسفة القرون الوسطى يرون أن فلسفة القرون الوسطى نشأت في أحضان النصرانية وفي تربتها، وهي تناهض الوثنية اليونانية، وفلسفة الأفلاطونية الحديثة ليست نصرانية، بل هي عدوة النصرانية، وقد حافظت على الروح الوثني في البيئة المسيحية ، وترى فيها الروح اليوناني ظاهرا، والثقافة اليونانية سائدة، فأولى أن تعد فلسفة يونانية.
نامعلوم صفحہ