ذهب الجريح دون أن يخاطب ليا بكلمة، ولكنه نظر إلى عينيها نظرة مملوءة شكرا وحبا، وفهم الأب معنى هذه النظرة، فانقبض فؤاده لأنه علم منها أن الشاب أحب ابنته، وأن ابنته أحبته أيضا.
ذهب إيفان وانقطعت ليا عن الغناء ولم يعد أحد يسمع صوتها العذب، وانقطعت عن تشنيف أذني والدها الشيخ بأغانيها الشجية المطربة وملأ الحزن والدموع عينيها الجميلتين، وكانت تجلس على عتبة المنزل والحزن مالئ فؤادها ورأسها مملوء بالأفكار التي كانت تطرد بعضها بعضا.
وقالت في نفسها ذات يوم: كان في نفسي حاستان: محبة الأب ومحبة الله وكانتا على وفاق وسلام ... أبي علمني أن أحب الله العلي والله أمرني بمحبة أبي ... والآن ليس في نفسي سلام فقد دخلت فيها حاسة ثالثة ليست على وفاق مع الحاستين الأوليين ... لأنه لماذا يكتئب القلب؟ وأيهما أقوى الدين أو ... هو دعاني إليه ... وهو مؤمن بالله، ولم يمنحني الشيطان حبه ... بل ... تمتمت ليا هذه الكلمات وهي في حالة الذهول.
فقال لها والدها سائلا: حب من؟ - لا حب لأحد ... - عزيزتي ليا! إنك لا تهمسين عبثا بالحب ... أنت انقطعت عن الغناء وضحكك توقف عن جلب السرور لسمعي، لماذا أنت حزينة؟ والآن أرى عينيك مملوءتين بالدموع بدل الابتهاج والغبطة. - كلماتك هذه تؤلمني يا والدي! لقد خلطت في أفكاري وفي صلاتي وفي قلبي. - لا تخفي عني شيئا! وقولي لي ما يؤملك ويعذبك؟ - أخبرني يا والدي! أيهما أقوى: دين الآباء أم غرام النساء؟ - ليا، ليا! ما كنت أتوقع مثل هذا السؤال منك، الدين أعطانا إياه الله والحب ... وقرأ على مسامع ابنته كلمات النبي القائلة: «أناشدكن الله يا بنات أورشليم، لا توقظن الحب ولا تثرنه إلى أن يأتي وحده ... وإذا جاء فإن المياه الغزيرة لا تستطيع إطفاءه والأنهار لا تستطيع إغراقه.» - أوليس الحب هبة سماوية كالدين؟! أوليس أن الله بالحب ينير نفسين؟! - ليا! أنى لك هذه الأفكار؟ ومن هو الذي أحببته، وبسبب حبه تحاولين ترك دين آبائك؟ أخبريني، أليس أن ذلك الضابط مس صميم فؤادك، وانتفع بإخلاصك وصلاحك ... تناسيه يا بنتي! أو لعل الله أرسله لتعاستي. - إنك لم تجبني على سؤالي: أيهما أقوى: الدين أم غرام النساء؟ يا أبي لقد تعودت تصديق كلامك وأثق به ككلام النبي، فقل الآن الصدق دون مماراة ... وراء من أسير؟ هل وراء الشعور أم وراء الدين؟ ولا تنس أنني ابنتك الوحيدة ولا تدفعني إلى العذاب بدل السرور والسعادة ... - ليا لا يجوز مطلقا مساواة الدين بالحب، فالدين أعطي للإنسان وحده مرة واحدة وكل إنسان يستطيع الحب مرارا. - إنك يا أبي أحببت مرة واحدة ولم تستطع امرأة أخرى أن تبعد حبها عن ذاكرتك. - لا تقارني، فتلك كانت دورا والدتك. - وإذا كانت أمي على دين آخر فهل كنت تتركها، أو تسير وراء ...؟ أخبرني أمام الله: كيف كنت تتصرف لأقتفي أثرك وأفعل فعلك؟ - لا تعذبيني يا ليا! - يا أبي إن أمي تنظر إلينا من السماء، فمن تختار؟ هل تختارها أم تختار عهد الآباء؟ - فلتسامحني دورا، إني أختار ... - كفى كفى يا أبي! إنك لم تحب كالنساء «إن المياه الغزيرة لا تستطيع إطفاء الحب ولا الأنهار إغراقه.»
فاغتم دافيد وغدا بعد هذا الحديث يئن في خلال نومه، وجعل يصلي إلى الله طالبا منه أن ينزع حب الروسي من فؤاد ابنته.
إن الأحزان تتوالى فلم يكف ما أصاب دافيد من الحزن بسبب حب ابنته بل جربه الله تجربة أخرى.
فقد عزم دافيد على السفر إلى لوفيتش لشراء بضاعة، وبعد أن ربط الخيل بالمركبة دخلت عليه امرأة غريبة لا يعرفها لا هو ولا جيرانه وطلبت إليه أن يحملها في مركبته إلى لوفيتش؛ لأنها تقصد الإسراع إلى زوجها المريض وأرته جنيهين وقالت: أدفعهما لك أجرا، وكان دافيد لم ير الذهب من عهد بعيد، فغره بريق الدينارين ورضي أن يحمل السيدة في مركبته.
شعر فؤاد ليا بمصيبة مفاجئة فرجت والدها أن يعدل عن السفر وأن لا يصطحب معه هذه المرأة، فلم يصغ لكلامها وسافر لا يلوي على شيء.
وفيما هو في الطريق استوقفه الجنود المرابطون في الطريق وبالبحث علموا أنه يحمل رجلا متخفيا بلباس امرأة فقادهما الجنود إلى مركز القيادة.
فأمر القائد بمحاكمتهما في الحال وعلم الجاسوس المتخفي بلباس امرأة أنه لا بد من إعدامه، فاعترف بأنه معهود إليه الوقوف على قوة الروس ومكان معسكرهم، وأكد أن اليهودي يجهل من يحمل في مركبته، وطلب إلى القائد أن يكتب لوالديه في بافاريا ويخبرهما كيف مات ابنهما ... فوعده القائد بتنفيذ رغبته وحكموا عليه بالإعدام رميا بالرصاص.
نامعلوم صفحہ