كلمة المترجم
القروية الحسناء
أحد ملوك الجمهورية
ليا
طرائف ولطائف
كلمة المترجم
القروية الحسناء
أحد ملوك الجمهورية
ليا
طرائف ولطائف
قصص روسية
قصص روسية
جمع وترجمة
سليم قبعين
كلمة المترجم
استفتينا كثيرين من حضرات قارئاتنا وقرائنا عن كتاب نهديهم إياه، فكانت أجوبة الأكثرية الساحقة منهم مجمعة على طلب رواية يتلاهون بمطالعتها في هذا الصيف؛ فنزلنا على إرادة هذه الأكثرية واخترنا لهم بعض الروايات الشائقة التي تستهوي المطالع ببديع أسلوبها، وطلاوة حوادثها، وجزيل فوائدها بما يرد في ثناياها من العبر والعظات البالغات.
وهي لكبار من كتاب الروسيين الأفذاذ، الذائعي الصيت، الموفوري الشهرة، ولا يخفى على جماعة المطلعين من قادة المفكرين والكتاب أن الكتاب الروسيين لهم اليد الطولى والقدح المعلى في فنون الكتابة وأساليبها الشائقة الجذابة. والروايات في كل لغة مرآة آدابها. ومعلوم أيضا أننا نترجم رأسا عن اللغة الروسية فننقل للناطقين بالضاد صورة من الأدب الروسي طبق الأصل.
ولعلنا بعملنا هذا نرضي مشتركينا وقرائنا، وهذا ما نرمي إليه في جميع أعمالنا فحسب.
سليم قبعين
صاحب مجلة الإخاء
القاهرة في أوائل يونيو سنة 1929
القروية الحسناء
للكاتب الروسي الشهير أ. بوشكين
في إحدى ولاياتنا المتباعدة تقع أملاك إيفان بيتروفتش بيريستوف، الذي خدم في سني شبابه في فرقة الحرس الملكي واعتزل الخدمة في أوائل عام 1797 وسافر إلى قريته ولم يبرحها بعد ذلك، وقد تزوج بفتاة حسيبة فقيرة ماتت في خلال الولادة أثناء وجوده في حقل مجاور للقرية، وقد خففت إدارة أعماله حزنه العميق وكانت له سلوى في محنته هذه، ثم شاد منزلا وضع رسمه بنفسه بما يوافق معيشته، وأنشأ معملا للجوخ ونظم إيراداته، وغدا يعد نفسه أعقل وأنبل رجل في تلك الناحية، ولم يعارضه أحد من جيرانه الذين كانوا يستضيفونه مع عائلاتهم وكلابهم. وكان في أيام الأسبوع يرتدي بذلة من القطيفة، وفي أيام الآحاد والأعياد يرتدي حلة رسمية من جوخ معمله، وكان يكتب نفقاته في دفتر خاص، ولم يقرأ غير جريدة الوقائع الرسمية. ومجمل القول أن الأهالي كانوا يحبونه ولكنهم يصفونه بالكبرياء، وكانت العلاقات متوترة بينه وبين أحد جيرانه غريغوري إيفانوفتش مورومسكي وهو سيدوروسي قح وذو مقام محترم، بذر معظم ما يملكه في موسكو، وترمل في أثناء ذلك فسافر إلى آخر قرية بقيت له واستمر في لهوه وقصفه ولكن على نسق جديد؛ أنشأ حديقة إنكليزية أنفق عليها كل ما بقي من دخله، وكان سياس إصطبله يرتدون ملابس السياس الإنكليز، وعهد إلى سيدة إنكليزية تربية ابنته والعناية بها، وكان يستغل حقوله على الطريقة الإنكليزية.
ولكن القمح الروسي لا ينمو ولا يترعرع على طريقة غير روسية، ومع أنه بالغ في الاقتصاد في نفقاته العامة فإن وارداته لم تزد، وقد استطاع أن يستدين مبالغ مختلفة من أهل القرية الذين يحترمونه ويقولون عنه: إنه ليس بالأخرق؛ لأنه أول مزارع في تلك الجهات استطاع رهن أرضه في المصرف الزراعي، وهو أمر يدل على المهارة والجرأة في ذلك العهد لصعوبة المعاملة وشدة شروطها. ومن الذين كانوا يتصدون لانتقاده والتعريض بذمه جاره بيريستوف الذي كان يحسده في إدارة شئون حقوله، ولم يكن يستطيع التكلم باطمئنان عن تكلنز جاره، وإذا زاره ضيف وأراه أملاكه يقول له متهكما وعلى ثغره ابتسامة شريرة: أنى لنا إدارة كإدارة جارنا غريغوري إيفانوفتش، وما لنا وقيادة نفسنا إلى الخراب والإفلاس على الطريقة الإنكليزية. إننا بسيرنا على الطريقة الروسية نكون على الأقل ممتلئي البطون، وكانت هذه المغامز والسخريات تبلغ آذان غريغوري مضافا إليها زيادات وذيول، فيحرق الأرم غيظا ويشابه رجال الصحافة الذين يخرجهم أقل انتقاد يوجه إليهم عن حد العقل، ويوجه إلى خصمه أنواع السباب والشتائم مسميا إياه دبا وقرويا.
هكذا كانت العلاقات بين الجارين المزارعين عندما وصل إلى القرية ابن بيريستوف الذي كان يتلقى علومه في الجامعة وعازما على الانتظام في سلك الجندية، غير أن أباه لم يوافقه على فكرته، وكان الغلام لا يرى في نفسه ميلا للخدمة الملكية، وعليه فإن الأب والابن اختلفا في الفكرة وتمسك كل برأيه، وقرر الشاب واسمه أليكسي أن يعيش في القرية سيدا وأسدل شاربيه لكل حادث.
أليكسي شاب بهي الطلعة، ذو قامة معتدلة، ولو دخل الجندية وارتدى حلتها الأنيقة الجميلة، وامتطى صهوة جواد مطهم لجاءت صورته فتنة للناظرين والناظرات، ولكنه سيقضي عمره منحنيا فوق أوراق مكتب والده. وعندما يمتطي جواده ويخرج للصيد ويجري به في مقدمة الجميع كان الناظرون إليه يقولون بصراحة: إنه لا يصلح أن يكون رئيس مكتب ذا جدارة، إن الأوانس الفاتنات كن يلقين عليه نظرات إعجاب ولم يضبطن أنفسهن عن مسارقته النظر ومشاغلته، ولكنه لم يكن يوجه إليهن التفاتا ولم يشعر بتلك النظرات الحادة الموجهة إليه، فحسبت الأوانس أن عدم شعوره ومشاطرته إياهن النظرات ناجم عن حب ملأ فؤاده فتمكن فيه ولم يدع محلا لآخر.
إن أولئك القراء الذين لم يسبق لهم أن عاشوا في القرى لا يستطيعون أن يتصوروا الأوانس القرويات، وما هن عليه من جمال خلاب، إنهن بعيشتهن في الهواء الطلق تحت ظلال أشجار التفاح في حدائقهن الخاصة وهن لا يعلمن شيئا من أحوال الدنيا إلا ما يطالعنه من الكتب، فالخلوة والحرية والمطالعة تغرس فيهن منذ نعومة أظفارهن الشعور العالي وعواطف الحب والغرام، وينمو فيهن ذلك مع نموهن، تلك الصفات التي لا أثر لها بين أوانس وفاتنات المدن المشردات الأفكار، ففي القرى قرع الجرس يعتبر من الحوادث الهامة، وسفرة إلى أقرب مدينة تسجل في تاريخ الحياة، وزيارة ضيف يبقى أثرها إلى أمد بعيد.
ومعلوم أن لكل إنسان ملء الحرية في استغراب بعض عاداتهن وما يصدر عنهن من الأمور المستهجنة، ولكن انتقاد مراقبهن السطحي لا يستطيع استئصال جوهر مواهبهن السامية وأهمها: سمو أخلاقهن واستقلالهن الذاتي
Individualité
وبغير ذلك على رأي «جان بول» لا وجود للعظمة الإنسانية؛ وبناء على ما تقدم يسهل تصور التأثير الذي أثره أليكسي على تلك الأوانس الفاتنات؛ فإنه أول شاب ظهر أمامهن عبوسا مخيبا آمالهن، وأول من روى لهن عن المسرات الخاسرة وعن ذبول شبابه قبل أوانه، وفضلا عن ذلك كان يحمل في أصبعه خاتما أسود منقوشا على فصه رأس ميت، وجميع هذا جديد في تلك الولاية، الأمر الذي كادت معه الأوانس تصاب بمس في عقولهن.
وانشغلت به أكثر من الجميع ليزا ابنة غريغوري المتكلنز أوبيستي كما يدعوها أبوها، ومعلوم مما تقدم أن والديهما ما كانا يزوران بعضهما، وهي لم تر الشاب أليكسي غير أنه كان موضوع حديث وسمر الفتيات الحسان جاراتها، وكان لها من العمر سبعة عشر عاما، إن عينيها السوداوين كانتا تلقيان على وجهها الأسمر اللطيف نورا من الجمال وهي فتاة وحيدة مدللة، وكانت حركاتها المتوالية وطيشها وسكناتها تجلب السرور لفؤاد والدها، والغم والكدر لمس جاكسون مربيتها الإنكليزية، وهي عانس متكبرة جاوزت الأربعين وتكثر من تبييض وجهها وتزجيج حاجبيها، وكانت تقرأ على مسمع «باميل» الكتب وتتقاضى على ذلك ألفي روبل
1
في السنة، وكادت روحها تزهق في روسيا المتوحشة في ذلك العهد.
دخلت الوصيفة ناستيا غرفة ليزا وهي أكبر منها قليلا، وهي فتاة طائشة كسيدتها، وكانت ليزا تحبها كثيرا وتفضي لها بجميع أسرارها، وكانتا معا تبتكران أنواع الطيش والأفكار الصبيانية، ولها في قرية «بريلوتشينا» مقام ممتاز عن غيرها وخصوصا في منزل والد ليزا.
وفيما ناستيا ذات يوم تساعد ليزا على ارتداء ملابسها، قالت لها: أرجوك أن تأذني لي بالذهاب للضيافة إجابة لدعوة جاءتني. - فليكن، ولكن إلى أين؟ - إلى منزل بيريستوف، فإن زوج الطاهي اليوم عيدها الأسمى، وجاءت أمس ودعتني لتناول الغداء.
فقالت ليزا: كذا كذا! الأسياد في نزاع وخصام والخدم يضيفون بعضهم بعضا. - ما لنا والسادة! أنا لك ولست لوالدك، وأنت لم تخاصمي بيريستوف الصغير، وأما الشيخان فليتخاصما وليتنازعا إذا كان ذلك يعود عليهما بالسرور والارتياح. - ابذلي وسعك يا ناستيا لرؤية أليكسي بيريستوف ثم قصي علي جيدا بعد ذلك ماهية هذا الشاب وماذا يكون من الناس، ولا تتركي شاردة أو واردة عنه إلا وأخبرتني بها.
فوعدتها ناستيا بإتمام رغبتها، ولبثت ليزا طول اليوم تنتظر بفروغ صبر عودة ناستيا، ولما عادت مساء قالت وهي داخلة الغرفة: قد رأيت يا ليزا أليكسي الشاب وتفرست فيه مليا، وطول النهار كان معنا. - كيف ذلك؟ قصي على مسامعي كل شيء بالترتيب. - سمعا وطاعة: ذهبت وإنيسيا إيغورفنا ونيفيلا ودونكا. - أعرف هذا، وبعد ذلك. - هأنذا أروي لك مفصلا: وصلنا المنزل ساعة الغداء فألفينا الغرفة ملأى بالمدعوين وجلهن من السيدات. - وبيريستوف الشاب؟ - اصبري قليلا، جلسنا جميعنا حول المائدة الفخمة وعليها من أنواع الأطعمة أشهاها، وبعد أن أكلنا مريئا وشربنا هنيئا مدة ثلاث ساعات متوالية قمنا وذهبنا إلى الحديقة حيث أخذنا نلعب ونلهو، وفيما نحن على تلك الحال ظهر أليكسي. - وهل صحيح ما يقال عنه: إنه جميل بهي الطلعة؟ - نعم إنه جميل وجميل جدا، معتدل القامة، ذو وجنتين يكاد الدم يخرج منهما. - أمر عجيب! إني كنت أقدر أنه أصفر الوجه، ولكن كيف رأيته أنت؟ هل كان عبوسا كئيبا كثير التفكير؟ - ما هذه التصورات يا سيدتي؟! إنه على غير ما تزعمين؛ فإنه طلب إلينا أن يشاركنا في اللعب والجري. - يجري معكن! هذا أمر مستحيل! - بل صحيح، وصرح بأنه سيقبل كل فتاة يقبض عليها في أثناء اللعب والركض. - إنك تكذبين وتفترين يا ناستيا. - إنني لم أقل غير الحق، وأنا بنفسي تخلصت منه بكل صعوبة، ولبث معنا طول الوقت في اللهو واللعب. - ولكن كيف يقولون: إنه يحب، وإنه لا يلتفت إلى أحد مطلقا؟ - لا أعلم، وإنما أقول: إنه كان موجها نظره إلي وإلى تانيا وباشا، ولكنه لم يهن واحدة منا. - هذا أمر غريب! وما يقولون عنه في المنزل؟ - يقولون: إنه شاب ظريف، طيب، لعوب فكه، لا تفارق الابتسامة ثغره، وصفة واحدة فيه غير محمودة وهي أنه يجري كثيرا وراء الأوانس الحسان، ومن جهة أخرى أن ذلك ليس بالأمر المشين؛ فإنه يوافق ظروف هذا العصر.
فتنهدت ليزا، وقالت: أتمنى من صميم فؤادي أن أراه. - الأمر على غاية السهولة، فإن قرية توغيلوفو لا تبعد أكثر من ثلاثة كيلو مترات، بل المسافة بيننا وبينها دون ذلك، اقصدي تلك الجهة للرياضة أو امتطي صهوة جوادك فإنك ترينه لا محالة؛ لأنه كل يوم يتقلد بندقية ويخرج مبكرا للصيد. - هذا رأي غير مناسب؛ لأنه سيظن أني أجري وراءه، ومن جهة أخرى إن والدي ووالده متخاصمان ولا يليق بي في هذه الحالة أن أتعرف به، ولكن هل تعلمين يا ناستيا ما خطر ببالي؟ أرتدي ثياب قروية بحيث تصعب عليه معرفتي. - هذا رأي حسن جدا، ارتدي قميصا غليظا وجلبابا فضفاضا، وسيري بجرأة إلى توغيلوفر، وإني كفيلة بأن بيريستوف لا يفلت من يدنا. - وأنت تعلمين يا ناستيا أني أحسن تقليد لهجة كلام الفلاحين، فما أحسن هذه الفكرة يا عزيزتي ناستيا! ثم اضطجعت في سريرها وهي عازمة على تنفيذ هذه الفكرة التي صادفت هوى في نفسها. وفي اليوم التالي همت لإتمام ما رسمته، فأرسلت وابتاعت من السوق كتانا (تيل) غليظا خشنا ونسيجا قطنيا أصفر وأزرارا نحاسية، وبمساعدة ناستيا خاطت لها قميصا وجلبابا، واستدعت جميع الخادمات لمعاونتها بالخياطة، وتم كل شيء عند المساء وارتدتها على سبيل التجربة، ولما وقفت أمام المرآة صرحت بأنها لم تر نفسها أجمل منها اليوم، ثم أخذت تمثل الدور الذي ستمثله، فانحنت مرارا وهزت رأسها وجعلت تتكلم بلسان الفلاحين، ثم تضحك وتغطي وجهها بكمها؛ فصفقت لها ناستيا تصفيق الارتياح والاستحسان. ووجدت صعوبة بأمر واحد وهو أنها جربت أن تمشي حافية في فناء المنزل فوخز العشب الأخضر رجليها الرخصتين، وشعرت بصعوبة غير محتملة في السير على الرمل والحصى، فساعدتها ناستيا في هذا أيضا فإنها قاست رجل ليزا وهرولت مسرعة إلى الراعي «تروفيم» في الحقل وطلبت منه أن يجهز لها خفا بحسب القياس الذي دفعته إليه.
وفي اليوم التالي قبل الفجر والشروق استيقظت ليزا بينما جميع الذين في المنزل نيام، ووقفت ناستيا أمام باب الدار تنتظر الراعي تروفيم، وما هي إلا فترة حتى نفخ في البوق واندفع قطيع القرية مارا بمنزل سيد القرية وناول الراعي ناستيا الخف، فوضعت بيده نصف روبل على سبيل المكافأة، وارتدت ليزا الملابس القروية وألقت أوامرها همسا على ناستيا بشأن مس جاكسون، وخرجت من الباب الخلفي عن طريق المبقلة
2
وقصدت الحقل دون أن تلوي على شيء.
سطع نور الفجر من جهة الشرق، وصفوف السحب الذهبية كانت تنتظر شروق الشمس انتظار رجل القصر للملك، إن السماء الصافية وغضاضة الصباح ورطوبته والندى والنسيم العليل وزقزقة العصافير كل ذلك ملأ قلب ليزا بابتهاج الأطفال وانشراحهم، وخيفة أن يصادفها أحد كانت تظهر أنها تطير ولا تمشي، ولما قربت من الغابة المتاخمة لأملاك والدها خففت السير لأنها تنتظر مقابلة أليكسي في هذا المكان، وجعل قلبها يخفق بشدة دون أن تدري لذلك سببا، ولكن الخوف الذي يتبع طيشنا ومرحنا في الصغر أبدع وألذ ما فيه، ثم دخلت ليزا في ظلام الغابة فحياها حفيف أشجارها وهنا خفت سرورها وابتهاجها واستسلمت للأفكار العذبة. أجل جعلت تفكر! ولكن من يستطيع معرفة ما تفكر به فتاة في السابعة عشرة من عمرها وهي منفردة في غابة عند الساعة السادسة من صباح أيام الربيع؟ وعليه كانت تسير على درب على جانبيها أشجار باسقة، وفيما هي مستسلمة لأفكارها فاجأها عواء كلب سلوقي جميل، فاضطربت ليزا وصاحت، وفي هذا الوقت خرج صوت عال يقول:
tout beau Sbogar, ici
وظهر على أثره الصياد الشاب من وراء شجيرة، وقال: لا تخافي يا عزيزتي، إن كلبي لا يعض، وكانت ليزا قد تمكنت من استعادة طمأنينتها وذهاب خوفها، وانتهزت هذه الفرصة للانتفاع بها.
فقالت: كلا يا سيد، وتظاهرت ببعض الخوف والحياء.
ثم قالت أيضا: إني خائفة، فما أشر هذا الكلب! إنه يحاول الهجوم علي.
أما أليكسي (ولا بد أن القارئ عرفه) فقد وجه نظره إلى القروية ولم يحوله عنها، وقال لها: إني أرافقك وأوصلك إذا كنت خائفة، وهل تأذنين لي بالسير إلى جانبك؟
فأجابته: ومن يعارض في ذلك؛ لأن المستقل له ملء الحرية والطريق عام.
فقال لها: من أين أنت؟ - من قرية «بريلوتشينا» ابنة باسيل الحداد، جئت لأجمع الفطر (كمأة) وكانت تحمل سلة مربوطة بحبل، ثم قالت له: وأنت أيها السيد من أين؟ أظن أنك من قرية توغيلوفر. - نعم وإني خادم رب القرية الشاب. قال أليكسي ذلك ليساوي بينها وبينه في المنزلة والنسبة، ولكن ليزا ألقت عليه نظرة وضحكت، وقالت: ألا تكذب بهذا! إنك لا تخاطب حمقاء، وإني أرى أنك سيد القرية بنفسك!
فقال لها: لم تفتكرين بمثل هذا؟
فأجابته: الأمر واضح لا يحتاج إلى برهان، وهل تصعب معرفة الفرق بين السيد والخادم، وهذه ملابسك ونداؤك للكلب غير المعروف عندنا، كل ذلك أدلة تؤيد نظريتي.
وازداد شغف ليزا بأليكسي بين دقيقة وأخرى، وبما أنه اعتاد على رفع الكلفة مع الفلاحات أراد أن يطوق خصرها بيديه، ولكن ليزا قفزت من أمامه واتخذ وجهها هيئة الجد والصرامة، الأمر الذي أضحك أليكسي كثيرا، ولكنه أوقفه عند حده وحال بينه وبين هجوم جديد.
فقالت له ليزا بعظمة وشهامة: إذا كنت تريد أن نكون صديقين فأرجو ألا تنسى نفسك. - من علمك هذه الحكمة؟ ألقى عليها أليكسي هذا السؤال مقهقها. ألعلها ناستيا التي تعرفت بها أو كريمة سيدك؟ إني أرى بأي طريق ينتشر العلم والثقافة.
ورأت ليزا إذ ذاك أنها أنهت تمثيل دورها وعزمت على الانصراف، ولكنها خاطبت الشاب بقولها: أوتظن أني لم أزر منزل رب القرية؟ لقد زرته مرارا ورأيت وسمعت كل شيء. ثم استطردت الكلام وقالت: ثرثرتي معك حالت دون جمع الفطر، فاذهب أيها السيد من جهة وأنا أسير من جهة أخرى وأرجوك المعذرة، وأرادت أن تبتعد لكن أليكسي أمسك بيدها، وسألها: ما اسمك يا روحي؟
فأجابته: اسمي أكولينا، وحاولت سحب أصابعها من يده، وقالت: اتركني أيها السيد فقد حان الوقت لذهابي إلى المنزل. - اسمعي يا صديقتي أكولينا إني سأزور والدك باسيلي الحداد. - إياك أن تفعل هذا، باسم المسيح أرجوك ألا تقدم على هذا الأمر؛ لأنهم لو علموا في المنزل أني ثرثرت مع شاب على انفراد في الغابة لحلت بي مصيبة دهماء، وأبي باسيلي الحداد يضربني حتى الموت. - ولكنه لا بد لي من رؤيتك. - سآتي في وقت ما إلى هنا أيضا لأجمع الفطر. - ومتى تحضرين؟ - حتى ولو غدا. - يا عزيزتي أكولينا! أريد تقبيلك ولكني لا أجسر على ذلك؛ وعليه فإني أنتظرك غدا هنا في مثل هذا الوقت. - نعم! نعم. - وأنك لا تخدعيني. - لا أخدعك. - اقسمي على ذلك. - والجمعة المقدسة سأحضر.
فافترق الشاب والشابة، وخرجت ليزا من الغابة واجتازت الحقل ودخلت الحديقة خلسة، وبطيش وسرعة دخلت المنزل حيث كانت ناستيا تنتظرها، ثم خلعت ملابسها وكانت تجيب الوصيفة على أسئلتها المتتابعة وهي شاردة الفكر، ثم ذهبت إلى قاعة الاستقبال وكانت المائدة جاهزة وطعام الإفطار حاضرا، وقد قطعت المس جاكسون الفطائر اللذيذة، وأثنى الأب على ليزا لرياضتها في الصباح، وقال: وليس أحسن وأصح من النهوض من النوم عند الفجر، وأورد عدة أمثلة على طول العمر الإنساني اقتبسها من المجلات الإنكليزية، وقال: إن كل الأشخاص الذين جاوزوا المائة من سني حياتهم لم يذوقوا الخمر، وكانوا يستيقظون قبل الفجر صيفا وشتاء، ولم تسمع ليزا كلمة مما قاله؛ لأنها كانت تستعرض في فكرها جميع ظروف وأحوال مقابلة الصباح وحديث أكولينا مع الصياد الشاب، وأخذ ضميرها إذ ذاك يعذبها، وحاولت عبثا تبرير زلتها، وقالت: إن حديثها لم يخرج عن حدود الآداب، وإن هذه اللعبة التي لعبتها لا ينجم عنها أية عاقبة، ولكن ضميرها كان يتذمر وارتفع صوته على صوت عقلها وإدراكها.
إن الموعد الذي حددته للمقابلة في اليوم التالي أقلقها كثيرا، وعزمت على أن تحنث بقسمها، ولكنها قالت: إن أليكسي إذا انتظرها كثيرا ولم تحضر يقصد القرية للبحث عنها، عن ابنه الحداد باسيلي أكولينا الحقيقية الثخينة المجدورة، فيفقه إذ ذاك طيشها وخفتها، فأزعجها هذا الفكر كثيرا؛ ولذا عزمت أن تقصد الغابة في اليوم التالي بشخص أكولينا.
أما أليكسي فكان في غاية الانشراح والجذل، ولبث طول النهار مفكرا بالصديقة الجديدة، وتراءت له ليلا صورتها الحسناء السمراء وتكرر ذلك في منامه، وما لاح الفجر حتى كان مرتديا ملابسه ولم يترك لنفسه وقتا لحشو البندقية، بل خرج إلى الحقل مع كلبه الأمين وأسرع نحو مكان المقابلة الموعود بها، لبث نصف ساعة منتظرا حسبه دهرا وأخيرا رأى بين الأدغال بريق الجلباب الأزرق، وهرول لاستقبال أكولينا الوضاحة الجبين، فابتسمت شاكرة له سروره بمقابلتها، ولحظ من فوره على وجهها آثار الكآبة والاضطراب، وأراد معرفة سبب ذلك، فاعترفت ليزا بأن عملها هذا طيش وخفة، وأنها ندمت على ما فرط منها، وأنها لم ترد هذه المرة عدم الوفاء بوعدها، وأن مقابلتهما هذه تكون الأخيرة، وترجوه أن يقطع حبل المعرفة التي لا تقودهما إلى أمر نافع. قالت هذه العبارات بلهجة فلاحية صميمة، ولكن أفكارها وشعورها غريبان بالنسبة لفتاة فلاحة، الأمر الذي أدهش أليكسي وصبره فاستعمل كل ما في مقدوره من حسن البيان والبلاغة ليحمل أكولينا على العدول عن عزمها، وأكد لها أمياله ووعدها بأنه لا يدع مجالا في المستقبل للندم، وأنه سيكون طوع إرادتها في كل شيء، وأقسم عليها ألا تحرمه من سلوى فذة برؤيتها على انفراد يوما بعد يوم أو مرتين في الأسبوع، وكان يتكلم بلسان الحب الخالص الحقيقي، وكان في هذه الدقيقة كالعاشق الولهان، وكانت ليزا تسمع كلامه وهي صامتة، فقالت له أخيرا: عدني وعدا صادقا بأنك لا تبحث عني مطلقا في القرية أو تسأل أحدا عني، وعدني أيضا بأنك لا تطلب مني مقابلة أخرى غير المقابلات التي أحددها أنا، وأراد أليكسي أن يقسم لها بالجمعة المقدسة، ولكنها استوقفته بابتسامة، وقالت: لا لزوم للقسم ويكفيني وعدا منك، وبعد هذا أخذا يتسامران كصديقين واستراضا في الغابة إلى أن قالت ليزا: حان الوقت؛ فافترقا.
ولما بقي أليكسي وحده لم يستطع أن يفهم أو يفقه كيف أن فتاة قروية ساذجة استطاعت بمقابلتين أن تتسلط عليه وتخضعه لإرادتها. ثم إن علاقته بأكولينا كان لها طلاوة الجديد الطريف، وبدا له أن أوامر الفلاحة الغريبة ثقيلة، ومع هذا لم يخطر بباله أن ينقض عهوده لها. ومع ما صادفه من النحس برفض المكاتبة السرية والاجتماعات الدائمة معها بقي ثابتا لا يتزعزع؛ لأنه كان صالحا طيبا ملتهبا حبا، وكان له قلب طاهر جدير بشعور التمتع بلذة الطهارة والعفة.
إنني لو أطعت إرادتي لوصفت وصفا مسهبا تفاصيل مقابلات الفتاة والفتى التي أنمت بينهما الميل المتبادل والثقة التي لا حد لها، واستطردت الكلام إلى ذكر أحاديثهما ومسامراتهما، ولكني أعلم يقينا أن أكثر قرائي لا يشاطروني اللذة في ذلك، وأظن أن هذه التفاصيل تبدو للقارئ تافهة لا قيمة لها، وبناء عليه فإني أضرب صفحا عنها، وأقول بإيجاز: إنه ما مضى على تعارفهما شهران حتى كان أليكسي مغرما بليزا لحد الشغف، ومس الحب صميم فؤاده، ولم تكن الفتاة بأقل منه في ذلك ولكنها كانت أقل كلاما منه، وكان كلاهما سعيدين بالحاضر وقلما فكرا بالمستقبل.
إن عدم التكافؤ بينهما في الحسب والنسب شغل أفكارهما كثيرا، ولكنهما لم يذكرا ذلك لبعضهما والسبب واضح: فإن أليكسي مهما كان تعلقه شديدا بعزيزته الحسناء أكولينا يعلم الفرق الجسيم بينه وبين الفلاحة المسكينة، وليزا تعلم علم اليقين العداء المستحكم بين والديها ولم تتوقع إمكان صلح متبادل، ثم إن ما اتصفت به من الأنانية المتناهية دفعها إلى الاعتقاد بأن أليكسي ابن المزارع الكبير سيدفعه حبه إلى السجود يوما ما أمام رجلي ابنة الحداد المنتحل، ولكن حدث ما لم يكن في حسبانها وغير مجرى الأحوال، وإليك البيان: في صباح يوم بارد صافي السماء من أيام خريف روسيا المعروفة ببردها القارس، خرج إيفان بيتروفيتش بيريستوف للنزهة على ظهر جواده واصطحب معه ستة من الكلاب السلوقية وسائس خيله وعدة غلمان مع كل واحد بوق، وفي الوقت نفسه غر صفاء الجو غريغوري إيفانوفيتش مورومسكي فأمر بإسراج فرسه وامتطى صهوتها فسارت به خببا إلى حقوله المنسقة على الطريقة الإنكليزية، ولما بلغ الغابة رأى عدوه اللدود على ظهر جواده يختال عظمة وكبرا، وقد ارتدى عباءة مبطنة بفرو ثعلب منتظرا أرنبا أثاره الغلمان من بين الأدغال بالصياح وأصوات الأبواق، ولو علم مورومسكي بهذه المقابلة لتجنبها وعاد أدراجه، لكنه قابله مفاجأة وأصبح منه على مسافة طلقة مسدس فلم يعد بيده حيلة، وبما أنه كان رجلا أوربيا متثقفا مهذبا تقدم من عدوه وحياه بلطف وهشاشة، فرد له بيريستوف التحية بأحسن منها، وكانت تحيته كتحية الدب المربوط بالسلاسل للسادة امتثالا لأمر صاحبه. وفي هذه اللحظة قفز الأرنب من الغابة وخرج إلى الحقل فصاح بيريستوف وسائسه بكل قوتهما وأطلقوا الكلاب واقتفوا أثر الأرنب بكل سرعة، ولم تكن فرس مورومسكي خرجت مرة قبل ذلك للصيد فخافت وجفلت وجمحت، وبما أن صاحبها يعد نفسه من الفرسان المبرزين أطلق لها العنان وسر بهذه المصادفة التي أنقذته من محادثة عدوه المكروهة، ولبثت الفرس تجري بكل قوتها حتى بلغت واديا عميقا فانحرفت عنه بقوة، ولم يتمكن مورومسكي معها من الثبات على ظهرها فسقط على أرض مغطاة بالجليد لاعنا فرسه التي إذ رأت نفسها بلا فارس وقفت، ولما رأى بيريستوف ذلك أسرع إلى جاره وسأله عن سلامته، وهل أصيب برض أو جرح، وفي هذه الفترة قاد السائس الفرس الجموح وساعد مورومسكي على ركوبها. ثم إن بريستوف دعاه إلى منزله للاستراحة فلم يستطع رفض دعوته؛ لأنه وجد نفسه مدينا له، وعليه فقد عاد إلى منزله مملوءا فخرا وعجبا لأنه اصطاد أرنبا، وقاد عدوه جريحا كأسير حرب.
وعندما جلس الجاران على المائدة تحادثا بوداد وإخلاص، ثم طلب مورومسكي من مضيفه مركبة واعترف له أنه بسبب الرضوض لا يستطيع العودة إلى منزله راكبا فرسه، فتبعه بيريستوف إلى الباب الخارجي وسافر مورومسكي بعد أن أخذ منه عهدا قاطعا بأن يزوره في اليوم التالي لمناولة طعام الغداء مع نجله أليكسي، وعليه فإن العداء القديم المتأصل في نفسي الجارين أزاله خوف الفرس وجموحها.
هرولت ليزا لمقابلة والدها، وقالت مندهشة: ما معنى هذا يا أبي؟ ولماذا أنت تعرج وأين فرسك؟ ولمن هذه المركبة؟ فأجابها والدها: حقا إنك لا تستطيعين حل هذا المعمى، ثم روى لها كل ما حدث بالإسهاب، فلم تصدق ليزا ما سمعته أذناها، ولم يدع لها والدها فرصة لزوال دهشها بل فاجأها بقوله: وغدا سيتناول عندنا طعام الغداء بيريستوف وابنه، فكادت تصعق لهذا النبأ، وقالت وقد غطت وجهها صفرة الذهول: ماذا تقول يا أبي؟! - أقول: إن بيريستوف وابنه يتناولان غدا طعام الغداء على مائدتنا!
فأجابته بقولها: اعلم يا والدي بأني لا أظهر أمامهما مهما كان الأمر خطيرا. - هل أصبت بمس في عقلك؟ ومتى غدا عندك مثل هذا الحياء؟ أو أنك تحفظين لهما الحقد الوارثي كبطلة الروايات؟ كفى كفى حماقة وجنونا.
فقالت ليزا: كلا يا أبي إني لا أقابلهما مطلقا، ولو أعطيت ما في الدنيا من كنوز؛ فهز والدها كتفيه وأمسك عن الكلام بهذا الصدد علما منه أن العناد لا يفيد شيئا، ودخل غرفته للاستراحة بعد هذه النزهة النادرة المثال.
وسارت ليزا إلى غرفتها واستدعت من ساعتها ناستيا ولبثتا مدة طويلة يتحادثان عن ضيوف الغد. فقالت ليزا: ماذا سيقول أليكسي إذا عرف في هذه الفتاة المهذبة المثقفة صديقته أكولينا؟ وماذا سيكون رأيه في سلوكها؟ وأخذت تضرب أخماسا بأسداس عن تأثير مقابلتها في نفس أليكسي. وخطر لها خاطر فجائي أبلغته لناستيا ووقع من نفسيهما موقع السرور وقررتا تنفيذه.
وفي اليوم التالي سألها غريغوري إيفانوفتيش وهم جالسون على مائدة الإفطار هل ما زالت عازمة على الاختفاء من وجه بيريستوف وابنه؟ فأجابته بقولها: إني سأقابلهما إذا كان ذلك يرضيك، ولكن بشرط أني في أي شكل ظهرت به أمامهما، أو أي عمل عملته ألا تسبني ولا تظهر أقل استغراب أو عدم رضاء. فضحك والدها وقال: لا ريب أنك تقصدين مفاجأتنا بعمل غريب، إني موافق على شروطك، واعملي ما تريدين يا عزيزتي اللعوبة ذات العينين السوداوين، وقبل جبهتها وخرجت مسرعة للاستعداد.
وعند الساعة الثانية تماما دخلت مركبة فخمة يجرها ستة من جياد الخيل فناء المنزل، ووقفت في ناحية مسكوة بالعشب الأخضر، ثم نزل منها بريستوف الكبير وصعد إلى شرفة المنزل السفلى بمساعدة خادمي صاحب المنزل اللذين كانا مرتديين ملابس خدمة الإشراف، ووصل على أثره نجله أليكسي ممتطيا صهوة جواده ودخل مع والده غرفة الطعام حيث كانت المائدة مهيئة. وقابل مورومسكي ضيفيه مقابلة ودية وبالغ في الحفاوة بهما وإكرام وفادتهما، وطلب إليهما أن يريا حديقته قبل مناولة الطعام وزريبة الوحوش، وقادهما في طرق معبدة ومغطاة بالرمل، فأسف بيريستوف الشيخ على تلك الأتعاب التي ذهبت بلا جدوى على تنظيم لا فائدة منه، ولكنه من باب اللياقة لم يصرح بانتقاده هذا. وأما أليكسي فإنه لم يعر ذلك جانب الالتفات ولم يشاطر مضيفه المتكلنز السرور أو الارتياح؛ ذلك لأن أفكاره كانت مشغولة بغير هذا، وكان ينتظر بفروغ صبر حضور ابنة الدار التي سمع عنها كثيرا، وقد علمنا أن فؤاده كان مشغولا بحب غيرها، ولكن كل آنسة حسناء كان لها تأثير على مخيلته ونظره.
ولما عادوا جلس الثلاثة حول المائدة وجعل الشيخان يذكران أيام خدمتهما وما جرى في خلالها من الحوادث والنوادر، وأما أليكسي فإنه كان يفكر في الدور الذي يمثله أمام ليزا، وقرر في نفسه أن خير مظهر يظهر به هو تشتت الفكر والبرود الشديد، وفيما هم على تلك الحال فتح الباب فالتفت نحوه بعظمة وطمأنينة وبرود بحيث لو رأته على هذه الحالة أشد النساء غنجا وخلاعة لاضطرب فؤادها، وارتعشت أعصابها، ولكن من الأسف دخلت بدل ليزا العجوز مس جاكسون وهي مبيضة الوجه، ضامرة الخصر، غاضة الطرف، فذهبت بدخولها خطة أليكسي الحربية عبثا، ولكنه ما كاد يجمع قوته ثانية حتى دخلت ليزا فوقف الجميع، وأراد أبوها أن يعرفها بالضيفين ولكنه توقف فجأة وعض شفتيه، ذلك لأن فتاته ليزا السمراء قد طلت وجهها حتى أذنيها بطلاء أبيض، وزججت حاجبيها زيادة عن مس جاكسون، وقد كانت سوالف شعرها أزهى من شعرها الحقيقي، وقد جعلتها على شكل قبعة الشعر المستعار لعهد لويس التاسع عشر، وكان رداؤها منتفخا كثيرا، وأما خصرها فقد رفعته جدا حتى أصبح كحرف
X
وتزينت بجميع حلي والدتها الماسية التي لم يرهنها والدها في بنك الرهونات، فكانت تبرق وتتلألأ في أصابعها وعنقها وأذنيها، ولم يستطع أليكسي معرفة صديقته أكولينا بهذه الفتاة اللماعة المضحكة في شكلها وزيها، فصافحها والده وحذا هو حذوها وظهر له أن أصابعها كانت ترتعش في يده، ثم جعل ينظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها فلم يعرفها، أما والدها فإنه ذكر وعده لها وحاول التظاهر بعدم الاهتمام والدهشة، وأما دهشة مس جاكسون فكانت عظيمة لأنها علمت في هذه الساعة أن ليزا سرقت من درج خزانتها كل شيء: صبغة الحاجبين وسوالف الشعر.
جلس الجميع على المائدة وواصل أليكسي تمثيل دور المشتت الفكر، العديم الاهتمام بما حوله، وأما ليزا فإنها أخذت في الغنج والدلال وجعلت تتكلم من بين أسنانها باللغة الفرنسية فقط، وكان أبوها لا يحول نظره عنها دون أن يفهم غرضها من هذا التصنع الغريب المضحك، وأما الإنكليزية فكانت في شدة الغيظ والحنق، ولكنها لم تنبس ببنت شفة، أما بيريستوف الكبير فكان كأنه في منزله وأكل نصيب اثنين وشرب حتى طفح، وكان يتكلم ويضحك ويقهقه.
وأخيرا نهضوا عن المائدة وسافر الضيفان، وأطلق والد ليزا العنان لنفسه بالضحك وأمطر على ابنته وابلا من الأسئلة عما حملها على الظهور بهذا المظهر، وقال لها: ألعلك أردت أن تختلي الضيفين؟ وكانت هي ترقص طربا لنجاح ما ابتكرته، ثم عانقت والدها وهرولت مسرعة لتستعطف مس جاكسون وتسترحمها؛ لأنها كانت في حالة غضب شديد، ولم تشأ أن تفتح لها باب غرفتها لتسمع إيضاحاتها، وأخيرا تم الصلح بينهما، وأهدتها مس جاكسون حقا من الطلاء الأبيض الإنكليزي؛ إعرابا عن رضائها عنها.
وأظن أن القارئ يدرك أن ليزا بادرت في اليوم التالي إلى غابة المقابلات، ولما وقعت عينها على أليكسي قالت له: إنك كنت أيها السيد أمس عند سيد قريتنا. وكيف رأيت فتاته الحسناء؟ فأجابها بقوله: إنه لم يلحظها ولم يلتفت إليها، فقالت له: إني آسفة جد الأسف. فسألها عن سبب أسفها، فأجابته: كنت أريد أن أسألك على صحة ما يقولون أني أشبهها تمام الشبه. فأجابها: إنها بالنسبة إليك تعد شوهاء.
فقالت له: حرام عليك تقول ذلك؛ لأن سيدتنا بضة بيضاء، وأنى لي أن أقارنها بجمالها الفتان! فجعل يقسم لها بأنها أجمل منها بما لا يقاس، ولكي يجعلها تطمئن أخذ يصف لها ابنة مورومسكي وملامحها المضحكة، فقهقهت ليزا بكل قوتها، وقالت: ولو أن سيدتنا مضحكة كما تقول فإني بالنسبة إليها حمقاء جاهلة أمية. فقال لها معزيا: إني أعلمك القراءة بسرعة رائدة. فأظهرت الفتاة ارتياحها، ثم جلسا وأخرج أليكسي من جيبه قلم رصاص ودفترا وكتب على صفحة منه الحروف الهجائية، فتعلمتها ليزا بسرعة أدهشت الشاب، وفي اليوم التالي حاولت الكتابة أمامه فلم يطاوعها قلم الرصاص أولا، ولكنها بعد عدة دقائق كتبت الحروف جميعها وقرأتها، فقال أليكسي مندهشا: إن درسنا ناجح جدا، وأسرع من طريقة لانكاستير، وفي الحقيقة فإنه بعد الدرس الثالث جعلت أكولينا تقرأ الجمل الصغيرة من رواية كانت مع معلمها.
وبعد أسبوع أخذا يكاتبان بعضهما، وجعلا إدارة البريد عند شجرة سنديان قديمة العهد، وقامت الوصيفة ناستيا بوظيفة موزع الرسائل، وكان أليكسي يسلمها رسائله عند الشجرة وهي مكتوبة بخط ثلث واضح ويستلم منها رسائل حبيبته المكتوبة بخط رديء كخط الفتيات والصبيان المبتدئين بتعلم القراءة وهي مكتوبة على ورق أزرق بسيط.
ومع الوقت تحسن خط أكولينا وارتقت عبارة كتابتها، وفي نفس هذا الوقت ازدادت صداقة بيريستوف ومورومسكي وثوقا وأصبحا صديقين حميمين، وفكر الأخير هذا بأنه بعد وفاة بيريستوف سيرث ابنه أليكسي أملاكه ويصبح أكبر وأغنى مزارع في تلك الولاية، ولا يوجد شيء يحول بينه وبين الزواج بكريمته ليزا، وبيريستوف مع انتقاده لتكلنز جاره يرى فيه بعض الصفات الطيبة. وكان مورومسكي من أقرباء الغراف برونسكي، وهو رجل نبيل وذو نفوذ عظيم، فقال بيريستوف في نفسه: لا ريب أن الغراف ينفع أليكسي منفعة محسوسة، ثم إن مورومسكي يرضى بسرور وارتياح إعطاء ابنته لأليكسي. كان كل من الشيخين يفكر بهذا منفردا، وأخيرا تحدثا به وتعانقا وأخذ كل منهما يعد العدة إلى تنفيذه، ووجد مورومسكي صعوبة بمفاتحة ابنته بهذا الشأن وإقناعها بالزواج من أليكسي الذي لم تره بعد أن تناول الطعام على مائدة والدها، وزعم أنهما لم يتحابا ولا أعجب الواحد الآخر، ومن جهة أخرى كلما كان بيريستوف يزور والدها تختفي في غرفتها، وزعم أنه لو زارهما أليكسي كل يوم لألفته ابنته وأحبته مع مرور الوقت.
وكان بيريستوف أقل اضطرابا بنجاح مقاصده ودعا في ذلك المساء ابنه إلى مكتبه، وبعد أن أشعل غليونه وتلذذ بالتدخين قال له: أراك يا أليكسي من زمن بعيد سكت عن خدمة الجندية، وهل أن رداء الفرسان غدا لا يغويك؟
فأجاب أليكسي والده باحترام بقوله: كلا يا والدي! فقد رأيت أن رداء الهوسار لا يعجبك وواجبي يقضي علي بطاعة والدي. - حسنا جدا، وأرى أنك ابن بار طائع، وذلك أكبر سلوى لي في شيخوختي، وإني لا أقف حائلا بينك وبين حرية الإرادة، ولكني أريد تزويجك. - بمن يا أبي؟ أجابه أليكسي وهو مندهش. - بليزا كريمة جارنا مورومسكي الفتاة الحسناء. - إني يا أبي لم أفكر للآن بالزواج. - إنك لم تفكر ولكني فكرت عنك، وصحت عزيمتي على ذلك. - الأمر أمرك يا والدي، ولكن ليزا مورومسكي لم تعجبني ولم تصادف هوى في نفسي. - ستعجبك فيما بعد والصبر مفتاح الفرج. - أشعر بنفسي أنني لست جديرا بجعلها سعيدة. - إن سعادتها ليست حزنا لك، وعلى كل حال احترم طاعة والدك، وانزل على إرادته ففي ذلك نفعك. - قل ما تريد، إني لا أريد الزواج. - يجب عليك أن تتزوج وإلا فإني ألعنك، وأما أملاكي فالله القدوس يعلم أني أبيعها وأبدد أثمانها ولا أترك لك وسادة، وإني أمهلك ثلاثة أيام للتروي والتفكير وقبل هذا لا تريني وجهك.
وكان أليكسي يعلم أن والده إذا قطع عهدا أو قال قولا لا يرجع عنه، فذهب إلى غرفته وجعل يفكر بحكم السلطة الوالدية الجائرة، وبليزا وبوعيد والده بتركه فقيرا مسكينا لا يملك ما يسد به رمقه، ثم بأكولينا التي رأى لأول مرة أنه يحبها حبا يشبه العبادة، وقد خطر له خاطر غرامي وهو أن يتزوج بالقروية الساذجة ويعيش من عرق جبينه وكد يمينه، ووجد في هذه الفكرة بعد التروي خير حل لموقفه الحرج.
وكانت المقابلات بينه وبين أكولينا في الغابة توقفت بسبب الأمطار، فكتب إلى أكولينا رسالة بخط واضح جلي كبير الحروف أخبرها به عما ينتظره من الهلاك والوبال، وطلب يدها في ختام الرسالة وحملها بنفسه إلى جوف السنديانة، ونام بعد ذلك نوما عميقا.
وفي اليوم التالي استيقظ مبكرا وهو ثابت على عزمه وعزم على السفر إلى منزل مورومسكي ليفاوضه بالأمر بإيضاح وصراحة، ورجا أنه يستفز فيه شهامته ويستميله إلى مساعدته، ولما وقف بجواده أمام باب منزل مورومسكي سأل عن وجوده.
فأجابه الخادم: إنه سافر في الصباح؛ فأسف الفتى لذلك، وسأل الخادم: وهل كريمته ليزا موجودة؟ - نعم يا سيدي، إن حضرتها في المنزل.
فترجل أليكسي عن جواده ودفع مقوده للخادم ودخل المنزل بدون أن يعلم عن قدومه ، وقال وهو سائر إلى غرفة الاستقبال: سيتم كل شيء على ما أريد، فإني سأتفاهم مع ليزا بدون وساطة أحد، دخل وجثم مكانه لا يبدي حراكا، بل قل: إنه ذهل ولم يصدق ما ترى عيناه ... رأى ليزا، وقال: كلا هذه أكولينا! لم يرها في الجلباب الفضفاض بل برداء الصباح جالسة بجوار النافذة تقرأ رسالته، وكانت مشغولة بقراءتها لدرجة أنها لم تلحظ ولم تشعر بدخوله عليها، ولم يستطع أليكسي أن يضبط نفسه عن صراخ الفرح؛ فانتفضت ليزا كعصفور بلله القطر، ورفعت رأسها وصرخت وحاولت الفرار فهجم عليها وأمسك بها، وقال: أكولينا، أكولينا! ولكن ليزا حاولت التخلص منه، وقالت له بالفرنسية: اتركني يا سيد وشأني، وكررت عبارتها مرارا، فصاح أليكسي: أكولينا! أكولينا، كرر ذلك وهو يقبل يديها، شاهدت المس جاكسون هذا الدور ولم تدر ما تقول أو ما تظن، وفي هذه اللحظة فتح الباب ودخل غريغوري إيفانوفيتش والد ليزا، وقال: يظهر أن الأمر بينكما قد تم على ما يرام فليكن كذلك.
وإني أرجو القارئ الكريم أن ينقذني ويعفيني من واجب الإسهاب في وصف النتيجة، فقد يستطيع كل قارئ أن يدركها ويتلذذ بها ويشاطر العروسين وآلهما في أفراحهم وارتياحهم لتلك النتيجة المفاجئة.
أحد ملوك الجمهورية
للكاتب الروسي المتفنن مكسيم غوركي
إن ملوك الحديد والفولاذ والبترول في الولايات المتحدة كانوا دائما أبدا يشغلون أفكاري؛ لأنني كنت واثقا تمام الوثوق بأن أصحاب الملايين من الدنانير لا يمكن أن يماثلوا البشر، بل إنهم من فصيلة خاصة.
كنت أتصور أن لكل واحد منهم على الأقل ثلاث معد، وفي فم كل منهم مائة وخمسون سنا، وكنت أعتقد أن صاحب المليون لا عمل له في كل يوم غير الأكل حيث ينهض من النوم عند الساعة السادسة صباحا ويسرع حالا لالتهام الطعام حتى الساعة الثانية عشرة مساء دون أن يتخلل ذلك شيء من الراحة، وأنه يستعمل في طعامه أفخر المأكولات كالأوز والديوك الرومية والخنانيص والخراف الصغيرة والدجاج وسائر أنواع الحلوى وأفخر الفواكه وأغلاها ثمنا، وإذا جاء المساء وكل فكاه عن مضغ الطعام يأمر الزنوج فيمضغونه له ويضعونه في فمه فيزدرده ازدرادا، وبعد حشو معده بالطعام يفقد النشاط والحركة، ويأخذ العرق يتصبب من جسمه فيحمله الزنوج إلى سريره حيث ينام نوما ثقيلا، حتى إذا وافت الساعة السادسة من صباح اليوم التالي ينهض ويعود إلى ما كان عليه بالأمس من التهام الطعام، وعلى هذا المثال يقضي حياته التعيسة.
وهذه النفقات الطائلة التي ينفقها على طعامه لا تبلغ نصف دخله من فائدة أمواله، ولا يخفى أن هذه العيشة ثقيلة متعبة، ولكن صاحب المليون مدفوع إليها بحكم الثروة الكبيرة، وإذا لم يعش على تلك الصورة التي ذكرناها فلا فارق بينه وبين أدنى الناس.
وكنت أظن أن قمصان وسراويل صاحب المليون منسوجة من خيوط ذهبية، وأن مسامير نعل حذائه أيضا من خالص الذهب، ويرتدي على رأسه بدلا من البرنيطة قبعة مصنوعة على نمط خاص به مرصعة بالجواهر والدر وسائر أنواع الحجارة الكريمة، وأن رداءه الخارجي (السترة) خيط من أفخر الحرير وأغلاه ثمنا، ولا يقل طوله عن مائة متر مزدان بثلاثمائة زر من الذهب النقي، وأنه في أيام الأعياد يرتدي ثماني سترات واثني عشر بنطلونا، ومع أن ذلك يبهظ جسمه ولكنه يتحمل ذلك بسرور؛ ليمتاز عن سائر الناس في كل شيء، وكنت أتصور أن جيب صاحب المليون عبارة عن هوة عميقة يستطيع أن يخفي فيه الكنيسة ودار الندوة العمومية وكل شيء أراده، وإذا تصورت جوفه فكان في نظري لا يقل اتساعه عن مخزن إحدى البواخر البحرية الكبيرة الحجم، ولكني مع كل هذه التصورات ما كنت أقدر أن أتصور طول رجليه ورجلي بنطلونه، ولكني ظننت أن اللحاف الذي ينام تحته صاحب المليون لا يقل طوله عن ميل مربع، وتصورت أيضا أنه إذا كان من المغرمين بمضغ التبغ فإنه يلقي في فمه دفعة واحدة كمية من أجوده لا تقل عن رطلين، وإذا كان من المغرمين في استنشاقه فإنه يضع من مسحوقه المعروف بالنشوق كمية في أنفه لا يقل وزنها عن الرطل، وهو معذور فيما يفعله لأن النقود تطلب إنفاقها .
وأما أصابع يديه فإنها عجيبة مدهشة ليست كأصابع الناس المعروفة، وقد اختفت فيها قوة سحرية بحيث يمدها إلى أبعاد شاسعة إذا شاء ثم يرجعها إلى حالتها المعتادة، حتى إنه لو كان جالسا في نيويورك وبلغه بأن دولارا نبت في سيبيريا فإنه يمد أصابعه من فوق بوغاز بيرين ويقتلع الدولار الذي نبت في أرض سيبيريا وهو جالس على مقعده.
ومع كل ما تصورته من هذه التصورات فإني لم أستطع تصور رأس صاحب المليون الذي أتخيله بأنه لا يقل عن أحد المردة، وإنما كنت أظن أنه في غنى عن الرأس ما دام له تلك الأعضاء الضخمة والفم الواسع والطول المتناهي والأصابع السحرية التي كلها تعصر الذهب عصرا؛ وبوجه الإجمال فإني أجهدت القريحة جهد الطاقة وحصرت كل قواي العقلية لأستطيع تمثل وتصور صاحب الملايين فذهبت أتعابي العقلية سدى.
ولكن لا أقدر أن أصف لك أيها القارئ الكريم عظم الدهش والحيرة والاضطراب التي وقعت علي عند ما أتاح لي الزمان مشاهدة صاحب الملايين وأنه لا يفرق في شيء مطلقا عن بقية الناس.
رأيت أمامي رجلا شيخا نحيف الجسم حليق الذقن صغير اليدين كباقي الناس، وقد سقطت أسنانه فاستبدلها بأسنان اصطناعية من الذهب، وكذلك تساقط شعر حاجبيه ورأسه؛ وبوجه الإجمال فإن الشخص الجالس أمامي لم يكن يفرق في شيء عن طفل صغير ابن ساعته، ويصعب على كل أحد أن يحكم هل هو في بدء حياته أم في منتهاها.
وأما ملابسه فهي قريبة الشبه من ملابس ميت من عامة الناس، وفي يده خاتم ذهب، وعلى صدره سلسلة ذهبية، وأسنانه أيضا من الذهب كما قدمنا، وإذا وزن الذهب المتحلي به فلا يزيد عن مثقال، وكل إنسان يتصور خدمة الدوقات في فرنسا ورأى رسومهم لا يشك إلا بأن هذا الرجل واحد منهم، وقد استقبلني في غرفة ليس فيها شيء من الرياش الفاخر والداخل إليها يظنها من أول وهلة أنها إصطبل أفيال لا قاعة استقبال.
ولما وقفت أمامه سألته قائلا: هل أنت صاحب الملايين؟
فأحنى رأسه وقال: نعم أنا هو ذلك الرجل.
فتظاهرت بتصديق كلامه، ولكن أردت أن أتحقق تصوراتي السابقة بشأنه، فسألته مستفسرا عن كمية اللحم التي يستطيع أكلها على طعام الصباح؟
فأجاب: إني لا آكل لحما في الصباح مطلقا، وإنما أتناول نصف برتقالة وبيضة وكأسا صغيرا من الشاي، قال ذلك وأبرقت عيناه ولم أر فيهما شيئا من الكذب.
ثم قلت له: أرجوك أن تعلمني كم مرة تأكل في النهار؟
فأجاب بكل سكينة: إني أتناول الطعام دفعتين في اليوم في الصباح والظهر، وأتناول على الغداء صحنا من الحساء وصحنا من اللحم الأبيض وشيئا من الحلوى والفاكهة وفنجال قهوة ولفافة تبغ.
فقلت له: وإذا كان الأمر كما ذكرت فما تفعل بقناطير المال المقنطرة المحشودة في خزائنك؟
فأبرقت عيناه واختلج حاجباه وارتفع كتفاه، وقال: أصنع من نقودي نقودا أخرى.
فقلت له بسرعة: ولماذا تصنع النقود؟ - لأزيد ثروتي اتساعا.
فقلت: وما الفائدة في تلك الزيادة؟
فقام عن مقعده ودنا مني ووضع يده على كتفي، وسألني قائلا: هل أنت في عقلك أم أنت معتوه؟
فأجبته من ساعتي: وأنت أيهما العاقل أم المعتوه؟
فاطرق مليا وقال: الجنون فنون، والحق أني أول مرة في حياتي أرى رجلا مثلك، ثم تثاءب حتى كادت شفتاه تلتصق بأذنيه، ثم أخذ يتفرس في وينظر إلي من رأسي حتى قدمي، ولحظت من وجهه أنه يعد نفسه إنسانا طبيعيا كسائر الناس، ولحظت أن في ربطة عنقه دبوسا صغيرا من الزمرد، وبعد برهة ساد فيها السكوت سألته: ما هو العمل الذي يتعاطاه؟ فأجاب: أتعاطى مهنة عمل النقود.
أما أنا فأطرقت مفكرا ثم لاح لي جواب زعمت أنه فصل الخطاب، فقلت له: إنك إذن مزيف نقود، فلما سمع مني ذلك انتفض كعصفور بلله القطر ولاح الغضب في عينيه، ولبث برهة صامتا جامدا لا يبدي حراكا ثم أخذت السكينة تعود إليه، وكست وجهه علامات السرور، وقال: هل لك شيء آخر تسأل عنه؟
فافتكرت وبدا لي سؤال جديد سألته إياه قائلا: كيف تصنع النقود؟ - سؤالك هذا معقول، والإجابة عليه في غاية السهولة: إني أنشأت كثيرا من الخطوط الحديدية التي تخترق البلاد عرضا وطولا، ولي معامل لا تحصى يعمل فيها ألوف العمال، فالمعامل تصنع البضائع، والسكك الحديدية تنقلها إلى البلاد وتطرحها في الأسواق، وبذلك تنهال علي الأرباح انهيال السيل، ولكن لا تنسى ما أدفعه من الأجور لعمال المعامل حتى لا يقضوا جوعا. - وهل ترى جميع العمال مسرورين من حالتهم، راضين بالأجور التي يتقاضونها؟ - ليس كلهم بالطبع، فإن الإنسان مهما سعى في سبيل إرضاء الناس فلا يستطيع إلى ذلك سبيلا.
ثم سألته: هل الحكومة لا تتداخل في شئونكم، ولا تعطل سير أعمالكم؟
فقال معيدا ما قلت - الحكومة - وأطرق مليا ثم أبرقت أسرته كأنه توصل إلى حل معمى، أظنك تريد أولئك الرجال المقيمين في واشنطون، كلا، كلا إنهم لا يصادروننا في أعمالنا مطلقا، ولا يتداخلون فيها أقل مداخلة، وأعرف بينهم أشخاصا من أهالي جهتنا هذه، ولكن لا أجتمع بهم إلا نادرا؛ ولذلك فلا تعجب إذا قلت لك: إنهم لا يخطرون على بالي أو أني أنسى ذكرهم وأسماءهم؛ وبوجه الإجمال فإن رجال حكومتنا قوم أخيار لا يصادروننا أقل مصادرة، ولكني أريد أن أسألك: هل توجد في العالم حكومة تحظر على رعاياها صنع النقود وتصادرهم في ذلك؟
فأجبته وأنا معجب بحكمته آسف على فضولي قائلا: زعمت أنه توجد حكومات تصادر النهب العلني، وتسعى إلى منعه بالضرب على أيدي النهابين السلابين الذين يستحلون أتعاب غيرهم.
فقال مغضبا: إن هذا لا يفرق بعرفي في شيء عن الفوضوية التي ليس لها أثر في بلادنا، وحكومتنا لا تتداخل مطلقا في الشئون العامة، وفوق ذلك فإن قوانين البلاد لا تبيح لها ذلك مطلقا.
فقلت له: إنك إذن تعتقد بأنه إذا ابتز رجل واحد دماء وأموال ألوف من الرجال والناس لا يعتبر عمله هذا من الشئون العامة التي يجب على الحكومة المداخلة في شأنها لإيقاف جشع ذلك الرجل وكف مطامعه، بل وعقابه على فعله، أوما سمعت قول فيكتور هوجو الشاعر الفرنسي القائل:
1
قتل امرئ في غابة
جريمة لا تغتفر
وقتل شعب آمن
مسألة فيها نظر
والحق للقوة لا
يعطاه إلا من ظفر
ذي حالة الدنيا فكن
من شرها على حذر
فتغيرت سحنته، وقال مكررا: قتل الشعب - سلبه - ابتزاز أمواله، كلمات وإن اختلفت في اللفظ فإنها تؤدي إلى معنى واحد ليس له ظل في بلادنا، وإنما هي تكون في بلاد ارتفعت فيها أجور الفعلة ارتفاعا فاحشا، واعتاد رجال الأشغال فيها على الإضراب عن العمل أو الجنوح إلى الاعتصاب، ولا يوجد في بلادنا شيء من ذلك؛ لأن المهاجرين ينسلون إليها من كل حدب وصوب أفواجا أفواجا، وكثرة عددهم تخفض أجور الفعلة الأميركيين الذين إذا اعتصبوا بدعوى قلة الأجور يحل محلهم عن طيبة خاطر وسرور المهاجرون الذين كلما ازداد عددهم قلت أجورهم، وهم بالطبع ينفقون ما يحصلونه في البلاد التي تجني من ورائهم فوائد جمة.
قال ذلك وأبرقت أسرته وأصبح وجهه يشبه وجه شيخ وطفل مزجا معا فخرج منهما صورة واضحة ممزوجة، وقد انطلق لسانه وزاد نشاطه واستطرد الكلام، فقال: سؤالك بشأن الحكومة سؤال في غاية الأهمية، ولا تحسن حال أمة إلا إذا حسنت حالة حكومتها واتصف رجالها بالأوصاف السامية، والحكومة تحل مسائل عديدة منها أنه ينبغي أن يكون عدد سكان البلاد وافرا ليستطيعوا ابتياع البضائع التي تصدرها معاملي، وينبغي أن يكون عدد العمال في البلاد وافرا لأستطيع أن آخذ العدد اللازم لمعاملي وأطياني، وفي مثل هذه الحالة لا يكون أثر في البلاد للاشتراكيين ولا للاعتصاب، والحكومة لا ينبغي عليها أن تبهظ كاهل الرعايا بالضرائب الفادحة حتى يتوفر لدى الأمة المال وتبتاع به من معاملي، وحكومة مثل هذه هي بعرفي حكومة عادلة جيدة. ولاحت على وجهه المضحك أمارات السخافة والحماقة وازبأر كالأسد حتى خلت أن أمامي ملكا من الملوك يعتز بجبروته وسلطته، ولا غرو فهو ملك وأي ملك! ثم استطرد الكلام أيضا، وقال: وأريد من الحكومة أن تعين برواتب طفيفة عدة من الفلاسفة يعلمون الشعب في أيام الآحاد كيفية اتباع القانون والسير بموجبه؛ بحيث يستمر كل فيلسوف مدة ثماني ساعات متوالية يلقي عظاته وحكمه المؤثرة، وإذا لم يكف عدد الفلاسفة في البلاد تعهد ذلك إلى الجنود، ومتى تيسر للحكومة القيام بهذا العمل الهام وسار الشعب على محور القانون تتوفر في البلاد أسباب السعادة والصفاء.
ولما أنهى كلامه قدمت له سؤالا آخر وهو: هل أنت راض عن الحكومة الأميركية الحاضرة؟
فأبطأ في الإجابة وأطرق رأسه مفكرا ثم رفعه وقال: إن حكومتنا تعمل أقل مما هو مطلوب منها، فإنه يتحتم عليها أن تسهل سبل المهاجرة للبلاد حتى يزداد عدد المهاجرين، ولكن الحكومة تدعي بأن أميركا حرة النظامات، والمهاجرون الداخلون إليها يتمتعون بالحرية السياسية؛ ولذلك ينبغي عليهم عند دخولهم البلاد أن يدفعوا لها ثمن هذه الحرية التي لم يذوقوا طعمها في بلادهم، وفرضت على كل مهاجر أن يكون معه عند دخوله البلاد 500 دولار، وهي كما ترى محقة في صنعها هذا؛ لأن الرجل الذي يملك 500 دولار خير من صاحب الخمسين؛ بل يفضله عشر مرات، وهو على كل حال خير من المتشردين والمرضى والبائسين الذين لا ينفعون البلاد أقل منفعة، بل هم عالة على أكتافها.
فقلت له: ولكن هذا الشرط ينقص عدد المهاجرين، فأجابني في الحال قائلا: إنني أرى أنه ينبغي على الحكومة أن تمنع المهاجرة بعد حين من الزمن، وهي مصيبة الآن في فرضها على كل داخل بلادها أن يكون لديه شيء من المال النافع للبلاد، ثم بعد أجل ترفع القيمة التي كما أشرت آنفا يدفعها المهاجر ثمنا لتمتعه بالحقوق المدنية كما يتمتع بها الرعايا الأميركيون سواء بسواء، وبعد ردح من الزمن ينبغي حرمان المهاجرين من التمتع بالحقوق المدنية التي يتمتع بها أهالي البلاد؛ لأن عدد الأميركيين أصبح كافيا ولا فائدة من زيادته، وكل أميركي يستطيع على حدة أن يعمل لزيادة عدد مواطنيه، وجميع ما ذكرت لك من الشئون من خصائص الحكومة وهي تبدل وتغير وتغير وتبدل في النظامات على حسب ما يتراءى لها، وهي تظن أنها تتوخى خير البلاد ونفعها، والذي أراه أن رجال الحكومة لا يستطيعون إدراك المنافع الحقيقية التي تعود على البلاد بالخير الوفير والنعم الجزيلة إلا إذا ابتاع كل واحد منهم أسهما كثيرة من الشركات التجارية والزراعية والصناعية. وأما الآن فإنهم لا يدركونها حق الإدراك؛ ولذلك تراني وغيري من أصحاب الأموال نضطر إلى ابتياع أعضاء مجلس البرلمان والمجالس الأخرى وندس لهم المبالغ الوافرة؛ لنستطيع الحصول على ما نتمناه من التغيير في نظام البلاد حتى يكون ذلك في غاية الموافقة لمصالحنا. وعندما لفظ هذه العبارة تنهد الصعداء وقال: إنك لترى أنه لا يحسن حال العيش إلا إذا انهال الذهب فيه كالسيل المنهمر.
أما أنا فلما وقفت منه على رأيه السياسي وجهت إليه سؤالا جديدا، فقلت له: وما رأيك في الدين؟
فضرب بيده على فخذه ورفع حاجبيه وقال: إن رأيي في الدين مصيب كل الإصابة، وأعتقد أنه ضروري للشعب، وبدونه لا تسير الأعمال على محور النشاط والخضوع، وأزيدك علما أني في أيام الآحاد أعلو منبر الوعظ وألبث واقفا مدة طويلة أعظ الشعب؛ ولا سيما جمهور الفقراء والعمال، فسألته مستفسرا: ماذا تقول لهم؟ وما هو موضوع عظاتك؟
فأجاب: أخاطب الشعب هكذا: إخوتي وأخواتي، لا تخضعوا لعوامل تأثير شيطان الحسد، واطردوا من رءوسكم كل فكر أرضي، ووجهوا أبصاركم وأفكاركم إلى السماء؛ لأن الحياة على هذه الأرض قصيرة تمر مر الطيف، والإنسان يعد عاملا نافعا إلى السنة الأربعين من عمره، فإذا جاوز ذلك السن يعجز عن العمل، ولا يقبل في المعامل؛ بل يطرد منها طردا. والحياة - كما لا يخفاكم - مملوءة بالأكدار والأوزار. أنتم تشتغلون ولكنكم معرضون دائما أبدا لأخطار الآلات البخارية التي كثيرا ما تقطع أيديكم أو أرجلكم. أنتم معرضون دائما لضربة الشمس وتهددكم في كل أين وآونة الأمراض الفتاكة، وما مثل الفقير إلا كمثل الأعمى الواقف على سطح منزل شاهق البنيان أينما سار يسقط ويتهشم، وقد قال بهذا الشأن يعقوب الرسول أخو الرسول يهوذا ما يأتي:
يا إخوتي، لا تهتموا بالحياة الأرضية؛ لأنها من صنع الشيطان قاتل الأرواح ومضل النفوس. إن مملكتكم يا أولاد المسيح الأعزاء ليست من هذا العالم بل هي من السماء، وإذا تحملتم بصبر وتجلد دون تذمر متاعب هذه الحياة فإنكم تنهون معيشتكم بهدوء وسكينة، وإن أباكم السماوي يقبلكم في مساكن الفردوس الكثيرة، ويكافئكم على أتعابكم الأرضية بسعادة أبدية لا يفنيها الفناء.
قال أيضا يهوذا الرسول:
إن هذه الحياة ليست إلا مطهرة للنفوس، وبمقدار ما تتحملون من المشاق على هذه الأرض الفانية بمقدار ذلك تنتظركم سعادة عظمى وغبطة أبدية في ملكوت السموات.
ثم أشار بأصبعه إلى سقف الغرفة وأطرق رأسه مفكرا ثم استطرد الكلام فقال: أجل! إخوتي الأعزاء، إن هذه الحياة فانية فارغة لا قيمة لها، ويحتم علينا الدين أن نقدمها ضحية على مذبح محبة القريب أيا كان، فلا تخضعوا قلوبكم لسلطة شيطان الحسد والشهوات. لا شك في أنكم تشتهون الحصول على الخيرات الأرضية، ولكنها يا إخوتي خيرات فانية باطلة تشبة الظل السريع الزوال، وما هي إلا من ألاعيب الشيطان التي يزينها ويغرر بها الناس ويخدعهم بها. أيها الإخوة سنموت جميعا؛ الأغنياء والفقراء والملوك والمعدنون وأصحاب الملايين والذين يكنسون الأزقة وينظفون الأحذية، كلنا أمام الموت سواء، ولكن هنالك في الأخرى سيكون الفرق جسيما بين الناس؛ لأن المعدنيين قضوا الحياة في قطع الفحم من مناجم الفحم الحجرية يصبحون ملوكا في الحياة الثانية ويصبح ملوك الأرض خدمة لهم يحملون المكانس ويكنسون بها أوراق الأشجار المتساقطة من أدواح الفردوس، كما يكنسون قراطيس الحلوى الفارغة التي ستكون لكم غذاء يوميا في الفردوس.
أيها الإخوة! ... ماذا يشتهي الإنسان على الأرض التي هي عبارة عن غابة مظلمة مملوءة بالخطايا والآثام تضل فيها النفس كطفل صغير، اذهبوا إلى الفردوس من طريق المحبة والوداعة والتواضع، تحملوا بصبر ما تسوقه إليكم صروف الزمان وطوارق الحدثان، حبوا جميع الناس حتى الذين يهينونكم ويزدرون بكم ويحقرون شأنكم. وعند هذه النقطة من كلامه أغمض عينيه وانتفض وهو جالس في كرسيه، واستطرد الكلام فقال: صموا آذانكم عن سماع كلام أولئك الناس الذين يحركون في قلوبكم حاسة الحسد بقولهم لكم: أنتم فقراء بائسون تتحملون مشاق هذه الحياة، وتعملون الأعمال التي تهدم بنيان أجسامكم، وتخدمون الأغنياء الذين يرتعون في بحابح العز والراحة ويرفلون بمطارف الخز والديباج، ومع أنكم أنتم علة ثروتهم وأساس سعادتهم فإنهم يسومونكم أنواع العذاب والهوان، ويدفعون لكم أجورا طفيفة لا تساوي جزءا من العمل الذي تقومون به. لا تصغوا يا إخوتي لكلام هؤلاء الناس الذي ليس له دليل يؤيد صحته، وهم في الحقيقة ونفس الواقع رسل الشيطان ونذيرو الشر والفساد، فإن الله تعالى قد حرم الحسد على عباده وتوعد الحساد بالويل والثبور وعظائم الأمور. إن الأغنياء أيها الإخوة فقراء محتاجون إلى المحبة؛ لأن الناس يبغضونهم ويحسدونهم دون سبب يدعو إلى ذلك، فحبوا الغني أيها الإخوة لأنه مصطفى من الله جل جلاله. قال الرسول يهوذا أخو الرب وأول كاهن لهيكل الله: أيها الإخوة لا تلتفتوا للمساواة بالناس على الأرض، ولا ترضخوا لتحريضات الشيطان الذي يقودكم إلى الهلاك، إن مساواة الناس لبعضهم على هذه الأرض الفانية لا قيمة لها؛ بل إن الذي يسعى إليها يضل الصراط القويم، ويقود نفسه إلى ارتكاب الشر، والأجدر بكم أن تبذلوا الوسع لتكونوا متساوين أمام الله بطهارة النفس، فاحملوا بصبر صليبكم (أتعابكم) والتواضع يخفف عليكم هذا العبء الثقيل، الله معكم يا أولادي، وأرى أنكم لستم في حاجة أخرى إلى غير ما قلته لكم، والسلام عليكم.
ثم صمت هذا العجوز وفتح فمه فأبرقت أسنانه الذهبية وتفرس في، وعلامات السرور بادية على وجهه.
فقلت له: إنك تنتفع بالدين انتفاعا عظيما، وتستعمله كآلة حادة للوصول إلى أغراضك.
فقال: لا ريب في ذلك؛ لأني أقدر الدين حق قدره، وواثق كل الوثوق بأنه ضروري للفقراء وبدونه لا تسير أعمالهم على محور النشاط والثبات، والدين يعجبني جدا، وأعيد لك القول مؤكدا أن الدين لا بد منه، ويتحتم علينا - معاشر الأغنياء - أن نبذل النفس والنفيس في سبيل توطيد دعائمه في قلوبهم، ورسوخ عقائده في نفوسهم حتى يعتقدوا اعتقادا لا يتزعزع بأن كل شيء في هذه الحياة الدنيا من صنع الشيطان، وفي جنوحهم وتطلعهم إليه يحرمون الغبطة في الحياة الأخرى الأبدية، ألا تعلم أن الدين يقول: «أيها الإنسان إذا أردت خلاص نفسك لا تشته شيئا من متاع الدنيا الفانية، ولا تتطلع إلى شأن من شئونها الزائلة وزخارفها الباطلة؛ لأنك ستكافأ في الحياة الأخرى حيث ترتع في جنان الخلد في بحبوحة العيش ورياض السعادة وكل شيء في السماء هو لك»، فإذا رسخت هذه المعتقدات في نفوس الناس سهل علينا العمل معهم وسهل انقيادهم إلينا، أجل إن الدين هو بمثابة الزيت الذي كلما زدنا في صبه ودهنا أداة الحياة به كلما لانت بقية أدواتها وسهل إدارتها واستعمالها كيفا نشاء.
فحكمت في نفسي أنه ملك، ثم وجهت إلى هذا الرجل الذي حكمت بأنه متسلسل من فصيلة رعاة الخنازير السؤال الآتي: وهل تعد نفسك مسيحيا بجميع معنى الكلمة؟ - لا ريب في ذلك، ثم رفع يده وقال: ولكنني في الوقت نفسه أميركي، وكل أميركي له مبدأ خاص يتمسك به ولا يحيد عنه يمينا أو شمالا. ثم تغيرت سحنته ومد شفتيه وحرك أذنيه حتى كادتا تبلغان أنفه وافتكر مليا، ثم قال بصوت خافت يكاد لا يسمع: أعترف لك فيما بيننا بشيء أرجو أن تبالغ في كتمانه، وهو أنه يستحيل على كل أميركي أن يعتقد بالمسيح كما يعتقد به جميع المسيحيين. فاضطربت لدى سماعي ذلك منه وقلت له: أرجوك أن تزيدني إيضاحا.
فقال مكررا: يستحيل على الأميركي الاعتراف بالمسيح بل واحترامه؛ لأنه لا والد له معروف، أو بعبارة أخرى: إنه ابن غير شرعي، ومثل هذا لا يمكن أن يكون في أميركا إلها حتى ولا موظفا، ولا يقبله أحد في المحافل والمجتمعات، ولا ترضى أدنى الفتيات بالتزوج به، ونحن الأميركيين بهذا المعنى لا يماثلنا في الدنيا أحد، وإذا اعتقدنا بالمسيح فإننا مضطرون بالاعتراف لجميع الأولاد غير الشرعيين بأنهم أشخاص من أصل ثابت ونسب معروف حتى ولو كانوا من أبناء الزنوج الذين يتزوجون النساء البيض ويولدونهن أولادا شرعيين؛ ولذلك فإننا معشر الأميركيين معذورون في اعتقادنا هذا وتصريحنا به. ثم اخضر سواد عينيه فظهرتا لي مستديرتين كعيني البوم، ثم جذب شفته السفلى إلى فوق وضغط بها على أسنانه زاعما أنه بمسخ وجهه على هذا الشكل يصبح مخيفا مرهبا للناظر.
فقلت له سائلا: وبناء على ما صرحت به فإنكم معاشر الأميركيين لا تعدون الزنوج من البشر بل ولا تعتبرونهم؟
فأجاب: لله ما أقل خبرتك وأضعف حكمك! وهل ترتاب في أننا نحتقر الزنوج ونعتبرهم أدنى الناس وأحطهم مقاما؛ فهم سود الألوان، وتخرج من أجسامهم رائحة كريهة؛ ولذلك ترانا نراقب الزنوج أشد مراقبة حتى إذا علمنا بأن أحدهم تزوج امرأة بيضاء نقبض عليه ونربط عنقه بحبل ونعلقه في الحال على شجرة حيث يموت مشنوقا.
ولما قال ذلك شعرت أنه طعن فؤادي طعنة نجلاء، ودبت في الحال في قلبي عوامل البغض حتى أصبحت بقربه كأني جالس بالقرب من جيفة منتنة تعافها النفوس، ولكنني تحملت بصبر وحكمت على نفسي بالمكوث عنده؛ ذلك لأني قصدته لعمل وينبغي علي أن أتممه مهما تحملت في سبيل ذلك من المكاره والمشاق؛ توصلا إلى إظهار كيفية نظر هؤلاء الناس أصحاب الملايين إلى الحقوق المتبادلة والصدق والحرية والمساواة المتعارفة عند أفاضل الناس وعقلائهم؛ ولذلك سألته قائلا: ما رأيكم في الاشتراكية؟ وكيف تنظرون إلى الاشتراكيين؟
فأجاب من ساعته: إنهم أبناء الشيطان، والاشتراكيون رمل في الآلة التي تدير حركة الحياة، بل هم رمل يدخل بدون استئذان بين جميع الهيئة الاجتماعية فيعطل حركتها ويفسد سيرها؛ ولذلك يتحتم على كل حكومة طيبة منصفة أن تستأصل الاشتراكيين من بلادها، وهذه الطغمة الفاسدة تولد في أميركا مما يدل على أن رجال الحكومة في واشنطون مقصرون في أعمالهم كل التقصير، ولا يدركون المسائل الاجتماعية المطلوبة منهم، ولو كانوا كذلك لما تأخروا ساعة واحدة عن حرمان الاشتراكيين من جميع الحقوق المدنية، وبعرفي أنه يجب على الحكومة أن تكون أقرب مما هي عليه الآن من مرافق الحياة، ولا يتأتي لها ذلك إلا إذا كان الرجال الذين تتألف منهم مأخوذين من أصحاب الملايين.
فقلت له: أظن أنك أنت رجل نافع للبلاد؟
فأجاب من فوره: أجل إني نافع جدا، وذهبت عن وجهه العلامات الصبيانية ولاحت عليه الأسارير، وقال: واعلم أن رأس الاشتراكيين مملوء بالكفر والإلحاد كما أن معدهم مملوءة بالفوضوية، وأما نفوسهم فإنها مظللة بأجنحة الشياطين فأصبحت تنفث الجنون والشر، ولا تفوز الحكومة على الاشتراكيين وتستأصلهم من البلاد إلا بقوة الدين والجنود، فإن قوة الدين تحارب الكفر، والجنود يحاربون الفوضوية، ففي بدء الأمر نصب في رأس الاشتراكي مقادير عظيمة من رصاص التعليم الكنائسي، فإن اتعظ وعاد إلى الصواب وشفي من جنونه، وإلا فإننا نعهد إلى الجنود صب الرصاص في بطونهم حتى يمزقها إربا إربا، ثم قال بعد ذلك: ما أعظم قوة الشيطان! وعند ذلك علمت تمام العلم شدة تأثير السلطان الأصفر - الذهب - على هذا الإنسان الغريب الأطوار، فإنه لدى حديثه هذا رأيت أن عظام هذا الشيخ التي نخرها سوس الأمراض العصبية، وجسمه الذي أنهكته الشيخوخة فأصبح كأنه موضوع في كيس من جلد قد هزته نغمة الطرب والانشراح وأعاد إليه قوة الشباب ذكر السلطان الأصفر الذي ذكره بحياته الماضية حياة الكذب والنفاق والدعارة والرجس والفجور، ثم أبصرت عينيه تبرقان كدينارين جديدين، ولكنه كان أقرب الشبه إلى الخادم منه إلى الملك، ولكني كنت عالما من هو سيده، ثم بعد تفكير ليس بطويل سألته قائلا: ما هو رأيكم في الفنون الجميلة؟ وكيف تنظرون إليها؟
فتفرس في ومسح عن وجهه بيده آثار الحقد والشر، وقال لي: أعد سؤالك فإني لم أتفهمه.
فكررت سؤالي وسألته رأيه بشأن الفنون الجميلة.
فأجابني بقوله: إني لا أفتكر مطلقا بالفنون، وإنما أبتاع ما أحتاجه منها.
فقلت له: ذلك أمر معلوم لدي، ولكن يحتمل أن يكون لكم فيها رأي من الآراء، أو بعبارة أخرى أريد معرفة حاجتك منها؛ فما دمت تبتاعها فلا شك أنه يكون لك رأي في نقصانها وكمالها؟
فقال: أجل! إنني أطلب مطالب خاصة أهمها أن تكون الفنون فكاهية تجلب السرور لفؤادي وتزيل عنه ما علق به من الأكدار والأحزان، وإيضاحا لذلك أقول: أنا أريد أضحك وأسر وأبتهج ولا يوجد في أعمالي الخاصة ما يسبب ذلك، ومما لا يخفى عليك أنه يجب على الإنسان أن يطلب الرياضة أحيانا ويرتاح من عناء الأعمال، ويفرغ ما في دماغه من الهموم، ويعمل لما يعيد لجسمه النشاط والهمة؛ ولذلك فإن الفنون إذا رسمت مثلا على سقوف الغرف وجدرانها يجب أن يكون الغرض منها تهييج الشهية للطعام. وأما الإعلانات التي يعلقونها على جدران الأسواق والبيوت فيجب كتابتها بحبر شديد الاحمرار لتوجه إليها التفات الناظرين عن بعد مسافة ميل، ويجب أن تكون مكتوبة بعبارات مشوقة تجذب قارئيها وتدفعهم بقوة تأثيرها إلى المحلات المعلن عنها، ومتى كانت على هذا المثال تستحق الاعتبار ويهون على أصحاب المعامل دفع قيمة أجرة طبعها. وأما التماثيل فيجب أن تصنع من البرونز لمتانته وصلابته، وكذلك آنية الأزهار يجب أن تصنع من البرونز الذي هو خير من الخزف المعرض في كل آونة للثلم والكسر. وإني أنشرح كثيرا بمصارعة الديوك وتسميم الجرذان لما في ذلك من الفكاهة، وقد رأيت ذلك في لندن وقصدت ملاهيها التي تمثل فيها هذه الأمور، وطابت نفسي برؤيتها. وأما المضاربة «بالبوكس» فإنها جميلة جدا تزيل الغم عن الفؤاد، ولكن لا أريد أن تكون عاقبتها بالموت. وأما الموسيقى فإنها فن جميل ويجب أن تكون أنغامها وطنية محضة، خذ لك مثلا النغم الوطني الأميركي؛ فإنه يؤثر على سامعه تأثيرا شديدا لحسن توقيعه. إن أميركا أحسن وأجمل بقعة في العالم؛ ولذلك تجد الموسيقى الأميركية أرق وأحسن موسيقى في سائر أقطار الأرض، وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل؛ لأنه حيث تكون الموسيقى الجميلة يكون هناك الناس الأفاضل الكرام، والأميركيون أغنى الناس على الإطلاق، ولا تجد أمة تضاهيها في اتساع الثروة وفي كثرة المال؛ وبناء عليه فلا تستغرب إذا صرحت لك بأنه سيأتي وقت يهاجر إلينا فيه جميع سكان الأرض. أما أنا فكنت أسمع ترهات هذا الطفل المريض، وقد مر في مخيلتي ذكر برابرة تاسمانيا
2
الذين يأكلون لحوم البشر، ولكن الذين رأوهم يصفونهم بأن أفئدتهم تضم عواطف شريفة ليس لها أثر عند أمثال هذا الشخص من عبيد الشيطان الأصفر.
وبعد ذلك أردت أن أسأله سؤالا أضع فيه حدا لإعجابه ببلاده التي دنسها بحياته الفاسدة وسيره المفسود، فقلت له: هل تذهب أحيانا إلى مراسح التمثيل؟
فأجاب: لا ريب في ذلك، فإني أكثر من التردد عليها؛ لأني أعتبر التمثيل من ضمن الفنون الجميلة التي تشرح صدر الإنسان.
فقلت: وما يعجبك في تلك المراسح؟
فأجاب بعد تفكير قصير: يعجبني فيها النساء وهن محسورات الصدور، عاريات الأيدي، مرتديات أفخر الحلل ومزينات بأثمن الحلي والجواهر الكريمة، ولا سيما إذا كنت جالسا في لوج فوق ألواجهن أمتع الطرف بالنظر إلى جمالهن الفتان.
ثم تطفلت وسألته أيضا: وماذا تحب أكثر من كل شيء في المرسح؟
فأجاب بعد أن تثاءب: أحب الممثلات كسائر الرجال الذين يتعلقون بحبهن ويغازلونهن، ولا يخفى عليك أن الممثلات إذا كن حديثات السن ذوات جمال رائع يسلبن العقول ويوقعن الرجال في شراك الهوى والغرام، ولكن من الأمور المكدرة هو صعوبة معرفة كل واحدة منهن هل هي حديثة السن أم جاوزت الأربعين؛ ذلك لمهارتهن في التأنق والاصطباغ؛ مما يجعل الإنسان يخال العجوز الدردبيس منهن في السنة الرابعة عشرة من عمرها، وهن محقات في ذلك لأن مهنتهن تتطلب منهن هذا الأمر، ويحدث في بعض الأحيان أن يقع الواحد منا في غرام ممثلة فينفق في سبيل حبها المبالغ الطائلة، وعندما يتوصل إليها ويبحث في أمرها يجد أنها تبلغ الخمسين عاما، وأنه كان لها أكثر من مائتي خليل فيتألم الإنسان ويتأفف منها ويأسف على ما أضاعه من الأموال في سبيل حبها الكاذب، وأصرح لك أن ممثلات القهاوي وأندية الرقص التي تقام غالبا في الحدائق الغناء أحدث سنا من ممثلات المراسح وأرخص جسما وأثقل أردافا.
ثم سألته بعد ذلك: وما رأيك في الأشعار؟ وهل تجد لذة في مطالعتها؟
فظهرت على وجهه أمارات التفكير ونظر بعينيه إلى أسفل وقال: أجل إن الأشعار تروق لي مطالعتها وقراءتها، ولا أخفي عليك أن المعيشة تتحسن والتجارة تروج إذا جنح أصحاب المعامل إلى كتابة إعلاناتهم بالأشعار؛ لأنها تؤثر في النفس أكثر من النثر.
فأسرعت وسألته قائلا: أي شاعر أحب إليك من سائر الشعراء؟
فأجابني بعد أن استعادني السؤال: لله درك من رجل لا يدرك الأمور ! إنه لا يوجد دافع يدفعني إلى محبة الشاعر، ولماذا تلزمني محبته؟
فقلت له: أرجوك المعذرة لأني أخطأت في سؤالي، وكنت أريد أن أسألك: أي كتاب أحب إليك؟
فأجاب هذا سؤال آخر مفيد: فإني أحب كتابين أحدهما التوراة، وثانيهما كتاب حساب الدوبيا (مسك الدفاتر)، وفائدة الكتابين متساوية في نظري، وعندما أمسكهما بيدي أشعر بأنهما يقدمان لي ما أحتاج إليه؛ لأن فيهما قوة عجيبة لا يستطيع غيري إدراكها.
فزعمت لأول وهلة أنه يهزأ بي، فتفرست في وجهه فلم أجد فيه أثرا للتهكم والهزء، بل بالعكس كانت تلوح عليه علامات الجد والإخلاص، وكان جالسا في كرسيه كلب الجوزة الذي يبس وسط قشرته، ثم أخذ يجيل نظره في أظافره، وقال: لا ريب في أنهما كتابان مفيدان جدا؛ فإن أولهما كتبه الأنبياء، وثانيهما وضعته أنا الجالس أمامك، ثم إن كتابي لا يحتوي على كلام كثير بل مملوء بالأرقام الكثيرة، وهو يعلم الإنسان كيف يعمل إذا أراد الشغل بذمة ونشاط، وأؤكد لك أن الحكومة الأميركية بعد وفاتي ستشهر أمر هذا الكتاب وتجتهد في نشره بين الناس؛ حتى يطلع كل واحد على الطريقة التي توصله إلى أسمى درجات الرقي والشهرة.
وبعد ذلك أردت قطع الحديث لأنه من المعلوم لا يستطيع كل إنسان أن يتحمل عندما يدوسون رأسه بالأرجل، ولكن خطر لي سؤال أردت أن أسأله إياه، فقلت له: هل تستطيع أن تعلمني رأيك بشأن العلم؟
فأجاب بعد أن نظر في ساعته وجعل يتلاهى بسلسلتها الذهبية: نعم لا بأس، فإني أخبرك بما أعرفه عما سألت، فالعلم على رأيي هو الكتب، فإذا كان مؤلفوها يكتبون فيها شيئا حميدا حسنا عن أميركا فهي كتب نافعة مفيدة، والعكس بالعكس، ولكن قلما يلتفت الكتاب في هذه الأيام إلى تسطير الحقائق وتقرير الصدق، وأنا واثق من أن جماعة الكتاب والشعراء قوم فقراء وإيرادهم قليل جدا، ولا عجب في ذلك فإن الأمة المنهمكة في الأعمال ليس لها وقت للمطالعة، وعلى ذلك تصادف مطبوعاتها كسادا عظيما يتحمل منه مؤلفوها أنواع الفاقة وصنوف الحاجة، وفوق هذا وذاك فإن الشعراء قوم أشرار وبعدل يحجم الناس عن ابتياع تآليفهم؛ ولذلك فإن من رأيي أنه يجب على الحكومة أن تدفع للكتاب مبالغ متوفرة لأن الإنسان متى كان شبعان غير محتاج إلى شيء يكون لين العريكة حميد الصفات، وقلما يميل إلى الشر في مثل هذه الحالة، ولذلك أقول: إنه إذا كانت بلادنا في حاجة إلى الكتب المفيدة ينبغي على الحكومة أن تؤجر عددا عظيما من الشعراء والكتاب وتدفع لهم الأجور الكبيرة وتكلفهم بوضع الكتب ونظم القصائد في تعداد مآثر الأميركيين ووصفهم بأعظم الصفات المجيدة، وكذلك وصف أميركا بأنها أحسن بقعة في العالم، وأنها مهد المدنية ومبهط العمران وأرض الحرية وما شابه ذلك، وإذ ذاك فقط تتوفر لدينا الكتب النافعة المفيدة. فقلت له: إنك ضيقت كثيرا في تعريف العلم!
فأجاب: وأزيد على ذلك أن المعلمين والفلاسفة يدخلون ضمن العلم، وقل مثل ذلك عن كبار الأساتذة والقابلات وأطباء الأسنان والمحامين والأطباء والمهندسين وكلهم لا غنى للناس عنهم، ويجب عليهم أن ينفعوا الناس ويرشدوهم إلى ما يفيدهم. ولكن معلم ابنتي قال لي مرة: إنه توجد علوم اشتراكية فلم يعجبني قوله؛ لأني أظن أن مثل هذه العلوم مضرة ضررا كبيرا؛ لأن العلم النافع لا يخرج الاشتراكيين وينبتهم، كما أن العالم الاشتراكي لا يستطيع وضع كتاب نافع مفيد، ولا يستطيع إبراز العلوم النافعة إلا الرجل العاقل الذي يحب وطنه مثل أديسون مثلا مخترع الفنوغراف والصور المتحركة (سينما توغراف) لما فيها من الفائدة الفكاهية للأهالي، وأزيدك إيضاحا: إن كثرة الكتب لا فائدة منها، ومن رأيي أنه لا يجوز للناس مطالعة الكتب التي تثقف العقول وتهيج الأفكار وتولد الظنون والشكوك، وكل شيء في هذه الحياة يجري في مجراه الطبيعي ولا لزوم لإدخال الكتب في الأعمال وتشويش أفكار العمال.
ولما قال ذلك نهضت، فخاطبني قائلا: أراك تريد الخروج.
فأجبته بالإيجاب، وقلت له: إنني أرجوك كثيرا أن تعلمني شيئا أميل إلى معرفته، وهو ما الفائدة التي يجنيها الإنسان من إحرازه الملايين؟
فأجاب: إن ذلك عادة راسخة في الجسم، وكلما زادت ثروة الإنسان يسعى في زيادتها، كما أن العادة المستأصلة في جسم الإنسان تنمو مع نموه.
فأطرقت مليا ووجهت إليه آخر سؤال وهو: فإذن على رأيك أن المتشردين ومدخني الأفيون والسكيرين كأصحاب الملايين سواء بسواء، ولقد ظهر لي أن استنتاجي هذا كدره، فأجابني بصرامة قائلا: إنك يا صاح عديم التربية مجرد عن الأخلاق الطيبة.
أستودعك الله يا صاح!
فسار معي مشيعا حتى الباب الخارجي، وكانت أمام منزله ساحة كبيرة مغطاة بالعشب الأخضر الذي ينمو فيها، فسرت عليه وكان فؤادي يخفق سرورا؛ لأنه خطر على بالي فكر: وهو أني لا أعود أرى هذا الرجل.
وفيما كنت سائرا سمعت رجلا يدعوني باسمي، فالتفت فإذا به واقف أمام الباب ينظر إلي فقلت له: ماذا تريد مني؟
فقال: هل يوجد عندكم في أوروبا ملوك زائدون عن لزوم رعاياهم؟
فأجبته: إن جميع الملوك لا لزوم لهم وجميع الشعوب في غنى عنهم.
ثم قال: أحب أن أستأجر لي زوجا من الملوك.
فقلت له: ولماذا ذلك؟
أجاب: كنت ألزمهما أن يتصارعا كل يوم بالبوكس في هذه الساحة على سبيل الفكاهة كما يتفكه الإنسان بمنظر مصارعة الديوك.
فقلت له: عندكم هنا كثير من الزنوج والمهاجرين تستطيع استخدامهم لمثل هذه الغاية.
أجاب: كلا، كلا؛ لأني إذا تحصلت على ملكين من ملوك أوروبا أتفرد بهذا المعنى، وأكون أحرزت شيئا لا مثيل له عند أحد من أصحاب الملايين، وفي ذلك لذة عظمى، ولكل جديد طلاوة ترتاح إليها النفوس.
فقلت له: إن الملوك لا يحسنون المصارعة؛ لأنهم يتصارعون دائما بأيد غريبة، أو بعبارة أخرى يدفعون رجال رعاياهم ويعرضونهم للهلاك ويتلاهون بمنظرهم كما كان يتلاهى ملوك الرومان واليونان بمصارعة الأسود والثيران.
ثم قال لي: وكم تظن أنه يكلفني استئجار ملكين في خلال ثلاثة أشهر يتصارعان كل يوم مدة ساعتين؟
فلم أرد عليه وسرت في طريقي لا ألوي على شيء.
ليا
للكاتب الروسي بيتروشيفسكي
ما أجمل نساء مدينة لوفيتش! لا فرق بين عقائلها وأوانسها، فقد حباهن الله جمالا فتانا خلابا يعرفه جميع أهالي بولونيا . وسار أهاليها من قبل سيرا حميدا مقرونا بالآداب والفضائل، متباعدين عن إدمان الخمر فمنحهم الله جمالا إنسانيا نادرا، ولكنهم حادوا بعد ذلك عن الصراط السوي، ومع هذا فإن المولى تعالى لم يتخل عنهم وما زال الجمال الجذاب شعار الأمهات والزوجات.
انفردت بينهن بجمالها الرائع ليا ابنة ليزمان، فقد فاقتهن جمالا وقدا واعتدالا، وعاش والدها دافيد ليزمان عيشة راضية محافظا على ناموس أسلافه وآبائه، محصلا خبزه من طريق شريف مجردا عن المطامع والشوائب، فباركه الله وبارك بيته.
قدم دافيد إلى «زدونسكايا فوليا» منذ ثلاثين عاما وكان شابا أسود الشعر، وقدمت معه زوجه الحسناء فعاشا في ظل السعادة والصفاء، ولكن هو الدهر الخئون إن صفا لإنسان يوما كدره أياما، فقد خطفت المنون زوجه دورا من بين يديه فذهبت لخالقها ولم تترك زوجها وحيدا، بل تركت له ليا الصغيرة لتكون له سلوى في أحزانه ووحدته، وكان يصلي في الغدو والآصال ذاكرا زوجته الحبيبة، نمت ليا كالغصن الرطيب تحت أشعة الشمس المنعشة وكانت صورتها كصورة والدتها: بقد مياس، وعينين سوداوين كعيني الوعل، وذؤابتين طويلتين تتلويان كالثعبان، وثغر بسام كحبة الفستق تتلألأ داخله أسنان درية منضدة، إذا سارت تثنت كقضيب الخيزران، وكانت فتنة للناظرين بل إنها فتنة متحركة، ولم يكن أجمل منها في مدينة لوفيتش، ويرى الناظر كل يوم إلى منزل والدها عشرات من الشبان يمرون بمركباتهم لتكتحل عيونهم برؤية ليا، فلم يقلق ذلك دافيد الذي كان يقول: فلينظروا إلى فتاتي الحسناء وليستنيروا بمحياها الوضاح.
ذاعت في تلك الأيام شائعات عن شبوب الحرب التي انتظم في سلكها كل الرجال القادرين على حمل السلاح تاركين زوجاتهم وأولادهم وأخواتهم.
ومرت بمدينة لوفيتش الجنود وعربات النقل والمدافع والسيارات والدبابات والفرسان إلخ إلخ، ولم يخف منظرها الأهلين، بل جلب لهم السرور والحماسة وتحدثوا فيما بينهم بحدوث معارك دموية وأن العدو زاحف بقضه وقضيضه على وارسو.
وعند فجر ذات يوم سمع الأهالي كأن الرعد تجمع فوقهم من شدة قصف المدافع؛ فهب دافيد من نومه مذعورا وأيقظ درته اليتيمة ليا واختفى معها في القبو الذي يخزن فيه الجعة المحفور تحت أرض منزله، وتوالى قصف المدافع بشدة حتى صم الآذان وأوقع الهلع في القلوب، وعلم الأهالي أن الجيوش الروسية اندحرت أمام العدو فتكاثفوا كالبناء المرصوص للدفاع عن وارسو.
أما ليا فإن الخوف ملأ جوارحها وفؤادها فلم يفارقها الاضطراب والقلق ووالدها لم ينقطع عن الصلاة لحظة لتذهب هذه النكبة من فوق رأسه.
فقالت له ابنته سائلة: من ابتكر ومن قال وعلم الناس أن يهلكوا بعضهم بعضا؟
فأجابها أبوها: إن الحرب رجس من عمل الشيطان. - ومن سيغلب؟ - بالطبع سيغلب الروسيون؛ لأن العدو مهما كان قويا لا يستطيع التغلب عليهم، وإنما الروسيون يستطيعون التغلب على بعضهم فقط.
ودام القتال إلى نصف الليل، ولم يستطع الروسيون الثبات أمام العدو؛ فانسحبوا وحل العدو محلهم.
خرج دافيد من حفرته ورأى بيوتا عديدة قد تهدمت وغيرها احترقت، وأذرف الأهالي دموعا سخينة على ما حل بهم من الويلات والخسائر، وقد سلم منزل دافيد فدخله مع ابنته وخادمته وشكر الله على السلامة، ثم ذهب كل واحد إلى مضجعه واستغرق في النوم.
وفيما كانت ليا نائمة سمعت طرقا على نافذة غرفتها المطلة على الحديقة، فأيقظت والدها ونبهته إلى الطرق على النافذة، فسمع بنفسه طرقا خفيفا وصوت ملتمس يرجو فتح الباب، وسمع أيضا أنين الطارق.
فخرج دافيد بنفسه في الظلام وكانت أصوات عجلات العربات وزئاط الناس وضوضاؤهم وصهيل الخيل ما زالت مسموعة، ووجد تحت النافذة رجلا جرحت يده وكتفه، وقد لطخ الدم الأسود ثيابه، فحمل دافيد الجريح إلى داخل منزله ورأى على النور أنه ضابط شاب.
فأسرعت ليا وسقت الضيف ماء وضمدت بيديها الرخصتين جراحه وربطتها بلفائف نظيفة، وعلمت منه أن فرقته تركته جريحا ولم تحمله معها.
ولما شبع الجريح وعاد إليه شعوره أراد دافيد أن يوصله إلى العمدة، وشعرت ليا بعزم والدها، فقالت له: أتريد يا والدي أن تسلمه إلى البولونيين، إن هذا أمر غير مستحسن؛ لأنهم يسلمونه للعدو بلا ريب حيث يلبث أسيرا عدة سنين، إن الله قاده إلى عتبة بابنا في هذه الليلة الرهيبة فدعنا نخفه، وأنا أتولى معالجته بنفسي، وإني لواثقة بأن فرقته ستمر من هنا ثانية وتأخذه معها، ونحن بذلك ننقذه من عذاب الأسر. إن الله يساعدنا وأمه لا تذرف الدمع على ابنها، وتراءى للشيخ دافيد أن ابنته تتكلم بلسان أمها دورا من السماء فأصغى إلى كلامها، ونزل على إرادتها، ثم إن دافيد وليا قادا الجريح إيفان (اسم الضابط) المسيحي إلى فراش وثير وما كاد يضطجع عليه حتى استغرق في نومه الهنيء.
بقي الجريح إيفان مدة أسبوعين كاملين في منزل دافيد ليزمان أخذت جروحه بعدهما تندمل وتتماثل للشفاء، وكانت ليا تعتني به وبطعامه، ولم يعلم أحد في الوجود عما فعله دافيد الذي يعلم حق العلم بأنه لو علم العدو بأنه أخفى ضابطا روسيا لقطعوا رأسه لا محالة، ولذا داوم على الصلاة إلى الله لينقذه من هذه المحنة.
وكان يحضر كثيرون من الجنود إلى منزل دافيد ولم يجرؤ أحد منهم على إهانته أو إهانة ابنته، ولم يكتشفوا مخبأ الجريح.
وأما العدو فإنه لم يقترب من وارسو بل انقلب راجعا إلى الوراء ودخلها الروسيون، وكان الضابط إيفان قد شفي، فشكر دافيد وقبله قبلة الند للند، وعرض عليه مبلغا من المال رفضه بإباء وشمم؛ علما منه أنه صنع ما صنع إجابة لطلب ابنته وزوجه دورا الموجودة في السماء.
ذهب الجريح دون أن يخاطب ليا بكلمة، ولكنه نظر إلى عينيها نظرة مملوءة شكرا وحبا، وفهم الأب معنى هذه النظرة، فانقبض فؤاده لأنه علم منها أن الشاب أحب ابنته، وأن ابنته أحبته أيضا.
ذهب إيفان وانقطعت ليا عن الغناء ولم يعد أحد يسمع صوتها العذب، وانقطعت عن تشنيف أذني والدها الشيخ بأغانيها الشجية المطربة وملأ الحزن والدموع عينيها الجميلتين، وكانت تجلس على عتبة المنزل والحزن مالئ فؤادها ورأسها مملوء بالأفكار التي كانت تطرد بعضها بعضا.
وقالت في نفسها ذات يوم: كان في نفسي حاستان: محبة الأب ومحبة الله وكانتا على وفاق وسلام ... أبي علمني أن أحب الله العلي والله أمرني بمحبة أبي ... والآن ليس في نفسي سلام فقد دخلت فيها حاسة ثالثة ليست على وفاق مع الحاستين الأوليين ... لأنه لماذا يكتئب القلب؟ وأيهما أقوى الدين أو ... هو دعاني إليه ... وهو مؤمن بالله، ولم يمنحني الشيطان حبه ... بل ... تمتمت ليا هذه الكلمات وهي في حالة الذهول.
فقال لها والدها سائلا: حب من؟ - لا حب لأحد ... - عزيزتي ليا! إنك لا تهمسين عبثا بالحب ... أنت انقطعت عن الغناء وضحكك توقف عن جلب السرور لسمعي، لماذا أنت حزينة؟ والآن أرى عينيك مملوءتين بالدموع بدل الابتهاج والغبطة. - كلماتك هذه تؤلمني يا والدي! لقد خلطت في أفكاري وفي صلاتي وفي قلبي. - لا تخفي عني شيئا! وقولي لي ما يؤملك ويعذبك؟ - أخبرني يا والدي! أيهما أقوى: دين الآباء أم غرام النساء؟ - ليا، ليا! ما كنت أتوقع مثل هذا السؤال منك، الدين أعطانا إياه الله والحب ... وقرأ على مسامع ابنته كلمات النبي القائلة: «أناشدكن الله يا بنات أورشليم، لا توقظن الحب ولا تثرنه إلى أن يأتي وحده ... وإذا جاء فإن المياه الغزيرة لا تستطيع إطفاءه والأنهار لا تستطيع إغراقه.» - أوليس الحب هبة سماوية كالدين؟! أوليس أن الله بالحب ينير نفسين؟! - ليا! أنى لك هذه الأفكار؟ ومن هو الذي أحببته، وبسبب حبه تحاولين ترك دين آبائك؟ أخبريني، أليس أن ذلك الضابط مس صميم فؤادك، وانتفع بإخلاصك وصلاحك ... تناسيه يا بنتي! أو لعل الله أرسله لتعاستي. - إنك لم تجبني على سؤالي: أيهما أقوى: الدين أم غرام النساء؟ يا أبي لقد تعودت تصديق كلامك وأثق به ككلام النبي، فقل الآن الصدق دون مماراة ... وراء من أسير؟ هل وراء الشعور أم وراء الدين؟ ولا تنس أنني ابنتك الوحيدة ولا تدفعني إلى العذاب بدل السرور والسعادة ... - ليا لا يجوز مطلقا مساواة الدين بالحب، فالدين أعطي للإنسان وحده مرة واحدة وكل إنسان يستطيع الحب مرارا. - إنك يا أبي أحببت مرة واحدة ولم تستطع امرأة أخرى أن تبعد حبها عن ذاكرتك. - لا تقارني، فتلك كانت دورا والدتك. - وإذا كانت أمي على دين آخر فهل كنت تتركها، أو تسير وراء ...؟ أخبرني أمام الله: كيف كنت تتصرف لأقتفي أثرك وأفعل فعلك؟ - لا تعذبيني يا ليا! - يا أبي إن أمي تنظر إلينا من السماء، فمن تختار؟ هل تختارها أم تختار عهد الآباء؟ - فلتسامحني دورا، إني أختار ... - كفى كفى يا أبي! إنك لم تحب كالنساء «إن المياه الغزيرة لا تستطيع إطفاء الحب ولا الأنهار إغراقه.»
فاغتم دافيد وغدا بعد هذا الحديث يئن في خلال نومه، وجعل يصلي إلى الله طالبا منه أن ينزع حب الروسي من فؤاد ابنته.
إن الأحزان تتوالى فلم يكف ما أصاب دافيد من الحزن بسبب حب ابنته بل جربه الله تجربة أخرى.
فقد عزم دافيد على السفر إلى لوفيتش لشراء بضاعة، وبعد أن ربط الخيل بالمركبة دخلت عليه امرأة غريبة لا يعرفها لا هو ولا جيرانه وطلبت إليه أن يحملها في مركبته إلى لوفيتش؛ لأنها تقصد الإسراع إلى زوجها المريض وأرته جنيهين وقالت: أدفعهما لك أجرا، وكان دافيد لم ير الذهب من عهد بعيد، فغره بريق الدينارين ورضي أن يحمل السيدة في مركبته.
شعر فؤاد ليا بمصيبة مفاجئة فرجت والدها أن يعدل عن السفر وأن لا يصطحب معه هذه المرأة، فلم يصغ لكلامها وسافر لا يلوي على شيء.
وفيما هو في الطريق استوقفه الجنود المرابطون في الطريق وبالبحث علموا أنه يحمل رجلا متخفيا بلباس امرأة فقادهما الجنود إلى مركز القيادة.
فأمر القائد بمحاكمتهما في الحال وعلم الجاسوس المتخفي بلباس امرأة أنه لا بد من إعدامه، فاعترف بأنه معهود إليه الوقوف على قوة الروس ومكان معسكرهم، وأكد أن اليهودي يجهل من يحمل في مركبته، وطلب إلى القائد أن يكتب لوالديه في بافاريا ويخبرهما كيف مات ابنهما ... فوعده القائد بتنفيذ رغبته وحكموا عليه بالإعدام رميا بالرصاص.
ولم يكن لدافيد من يدافع عنه أو يقول: إنه بريء، ومعلوم أن قوانين الحرب قاسية فلم يصدقوا أقسامه الغليظة وحكموا عليه بالإعدام شنقا وأرسلوا الحكم للقائد العام لتصديقه، وأجابوا ملتمس دافيد فأرسلوا إلى منزله يطلبون له ملابس نظيفة ليلاقي ربه بجسم طاهر.
فركب أحد الجنود جوادا وأسرع إلى منزل دافيد، وقال لابنته: أسرعي واحملي لوالدك ثيابا نظيفة؛ لأنه غدا صباحا سيشنقونه عقابا له على تجسسه ومحاولته تسليمنا للعدو.
فصعقت ليا ولم تفهم شيئا مما قاله الجندي وجرت وراءه كالوعل إلى مركز القيادة العامة لمقابلة القائد، وهناك رووا لها تفاصيل الأمر. فبكت أمام القائد وانتحبت وسجدت أمامه وقبلت يديه؛ راجية إياه أن يعفو عن والدها فصادفت آذانا صماء، ولما رأت فشل مسعاها عادت مسرعة إلى المنزل لتنفيذ إرادة والدها الأخيرة.
سارت مسرعة لا تعي على شيء ولم تجد من يوقفها، ولما بلغت المنزل رأت جوادا مربوطا، ثم وجدت في البيت شابا ينتظرها، ذلك الشاب الذي هو أعز مخلوق لديها في هذه الدنيا، ذلك الذي تفكر به ليلا نهارا، ذاك الذي أنقذته من الموت بيديها وما كادت تطأ أرض الغرفة حتى وقعت أمامه بلا حراك، فرفعها وعانقها وأجلسها على المقعد، ولما عاد إليها رشدها سألها: أين والدها؟
فروت له وهي تبكي وترتعش ما جرى لوالدها، فصدق إيفان روايتها عن براءة والدها فقفز من فوره على ظهر جواده، وأطلق له العنان قاصدا القائد العام فوجده نائما، فأيقظه وقص على مسامعه إيواء دافيد له في منزله ومعالجته له ومخاطرته برأسه ورأس ابنته في سبيل خلاصه، وأكد له أن دافيد بريء مما نسب إليه، وكان القائد عادلا فأصغى إلى كلام إيفان ونقض حكم الإعدام، وقال: إن اليهودي يستحق الجزاء دون العقاب، وأمر أن يغادر ميدان القتال.
كاد دافيد ينتظر الموت بين ساعة وأخرى بدون خوف أو وجل؛ لأنه عاش عمرا طويلا في هذه الدنيا، ورأى كثيرا من الخير والشر ورجا أن يرى في السماء زوجه الحبيبة دورا، وإنما كان قلبه يؤلمه على ابنته التي سيتركها وحيدة فريدة، وجعل يصلي لإله إبراهيم وإسحاق ويعقوب لكي لا يتخلى عنها، وأن يبعد عنها كل شر ومصيبة ويطهر قلبها من حب ذلك الروسي، لبث يصلي ويبكي ليس خوفا على حياته بل حزنا على ابنته ليا التي ستبقى في هذه الدنيا بين أناس أشرس من الوحوش الضارية وأشد خطرا منها.
لبث في بكائه ولم يسمع فتح باب سجنه ولم ير دخول الجنود ومعهم ذاك الذي طلب أن يؤويه في منزله في تلك الليلة الرهيبة ... - اخرج يا داود! إنك حر طليق، قال له ذلك إيفان الضابط، ثم ارتمت ابنته على صدره، ولكنه لم يصدق ما سمع وما رأى، وقال: من أنقذني؟ من برأني؟ ومن منحني الحياة؟
فأجابته ليا والسرور يطفح من وجهها: ذاك الذي أويته في منزلك وهو الآن رد لك حياة بحياة، ذلك الذي أحبه أنا كما أحبك يا أبي. - ليا، ليا عزيزتي! لا تخاطبيني بشأن حبك لأنه لا يجوز لك أن تحبيه؛ لأننا من دينين مختلفين ... - يا أبي! إن له إلها واحدا مثلنا، هو خلصك وأنا أذهب معه وسيكون دينه ديني.
فبكى الشيخ ورفع عينيه إلى السماء ولم يتكلم بلسانه بل بقلبه وقال: لنا إله واحد فلتكن إرادته المقدسة. «إن المياه الغزيرة لا تستطيع إطفاء جذوة الحب، ولا الأنهار إغراقها.»
طرائف ولطائف
كريم الملك والجارية
قيل: إن كريم الملك كان من أهل الظرف والأدب، فعبر يوما تحت جوسق بستان فرأى جارية ذات وجه زاهر وكمال باهر، لا يستطيع أحد وصفها، فلما نظر إليها ذهل عقله وطار لبه، فعاد إلى منزله وأرسل إليها هدية نفيسة مع عجوز كانت تخدمه، وكانت الجارية قارئة فكتب إليها رقعة يعرض عليها الزيارة في جوسقها. فلما رأت الرقعة قبلت الهدية، ثم أرسلت إليه مع العجوز عنبرا على زر ذهب وربطت ذلك في المنديل، وقالت: هذا جواب رقعته. فلما رأى كريم الملك ذلك لم يفهم معناه وتحير في أمره، وكانت له ابنة صغيرة السن فرأته متحيرا في ذلك فقالت: يا أبت أنا فهمت معناه!
قال: وما هو لله درك؟
فأنشدت تقول:
أهدت لك العنبر في جوفه
زر من التبر خفي اللحام
فالزر والعنبر معناهما
زر هكذا مختفيا في الظلام
الرشيد وجارية
قيل: إن الرشيد حلف أن لا يدخل على جارية له أياما وكان يحبها، فمضت الأيام ولم تسترضه، فقال شعرا :
صد عني إذ رآني مفتتن
وأطال الصبر لما أن فطن
كان مملوكي فأضحى مالكي
إن هذا من أعاجيب الزمن
ثم أحضر أبا العتاهية وقال له: أجزهما، فقال:
عزة الحب أرته ذلتي
في هواه وله وجه حسن
فلهذا صرت مملوكا له
ولهذا شاع ما بي وعلن
الرشيد وجارية أيضا
قال الأصمعي: بينما كنت عند الرشيد إذ دخل علينا رجل ومعه جارية للبيع، فتأملها الرشيد ثم قال: خذ بيد جاريتك فلولا كلف في وجهها لاشتريناها منك، فلما بلغ الستر، قالت: يا أمير المؤمنين، ذرني أنشدك بيتين قد حضراني الساعة، وأنشدت:
ما سلم الظبي على حسنه
كلا ولا البدر الذي يوصف
فالظبي فيه خنس بين
والبدر فيه كلف يعرف
فأعجبته بلاغتها فاشتراها وقرب منزلتها، وكانت أعز وصائفه عنده.
الأصمعي والأعرابي
قال الأصمعي: بينما أنا أتطوف في الكعبة إذا برجل على قفاه كارة وهو يطوف، فقلت له: أتطوف وعليك كارة؟ فقال: هذه والدتي التي حملتني في بطنها تسعة أشهر أريد أن أؤدي حقها، فقلت له: ألا أدلك على ما تؤدي به حقها؟ قال لي: وما هو؟ قلت: تزوجها! فقال: يا عدو الله! تستقبلني في أمي بمثل هذا! قال: فرفعت يدها فصفعت قفا ابنها وقالت: لم إذا قيل لك الحق تغضب.
الأصمعي وعاشق
قال الأصمعي: بينما أنا أسير في البادية إذ مررت بحجر مكتوب عليه هذا البيت:
أيا معشر العشاق بالله خبروا
إذا حل عشق بالفتى كيف يصنع
فكتبت تحته:
يداري هواه ثم يكتم سره
ويخشع في كل الأمور ويخضع
ثم عدت في اليوم الثاني فوجدت مكتوبا تحته هذا البيت:
وكيف يداري والهوى قاتل الفتى
وفي كل يوم قلبه يتقطع
فكتبت تحته:
إذا لم يجد صبرا لكتمان سره
فليس له شيء سوى الموت ينفع
فعدت في اليوم الثالث فوجدت شابا ملقى تحت ذلك الحجر ميتا، ومكتوب تحته هذان البيتان:
سمعنا أطعنا ثم متنا فبلغوا
سلامي إلى من كان للوصل يمنع
هنيئا لأرباب النعيم نعيمهم
وللعاشق المسكين ما يتجرع
الكعب العالي
بين غنج وصبوة واختيال
خطرت غادة بكعب عال
وعلى صدرها الجميل تدلى
عقد جيد منظم باللآلي
وكساها من الحرير رداء
مستحب في عين بعض رجال
تظهر الركبتان منه ويبدو
جسمها الغض مثل صافي الزلال
تارة كالغزال تمشي وطورا
بازدهاء كظافر في قتال
بخطى تارة قصار وأخرى
واسعات خفيفة وثقال
كل هذا لأن ذا الكعب عال
لم يدعها تسير سير الكمال
بعد حين رأيتها في ارتباك
وحياء وحيرة وانذهال
حجر في الطريق كان كبيرا
صدم الكعب كعب ذات الدلال
صدمة من مكانه زعزعته
فغدا خفها من الكعب خالي
فانحنت عند ذاك والتقطته
وهي تخفيه عن عيون الرجال
ومشت تسرع الخطى بحياء
كغراب مقلد للحجال
وتوارت عن العيون سريعا
وهي لم تدر شرقها من شمال
يا نسانا ويا بنات نسانا
حسبكن اتباع طريق الضلال
إن هذي الأزياء هدت قوانا
دعننا منها «يا بنات الحلال»
نملأ الجيب في الصباح ونمسي
ليس فيه من درهم أو ريال
كل يوم زي جديد غريب
متلف للعقول والأموال
لا نرى الحسن في ارتفاع كعاب
إنما الحسن في ارتفاع الخصال
إسكندر البيتجالي
نامعلوم صفحہ