فقلت له: ولكن هذا الشرط ينقص عدد المهاجرين، فأجابني في الحال قائلا: إنني أرى أنه ينبغي على الحكومة أن تمنع المهاجرة بعد حين من الزمن، وهي مصيبة الآن في فرضها على كل داخل بلادها أن يكون لديه شيء من المال النافع للبلاد، ثم بعد أجل ترفع القيمة التي كما أشرت آنفا يدفعها المهاجر ثمنا لتمتعه بالحقوق المدنية كما يتمتع بها الرعايا الأميركيون سواء بسواء، وبعد ردح من الزمن ينبغي حرمان المهاجرين من التمتع بالحقوق المدنية التي يتمتع بها أهالي البلاد؛ لأن عدد الأميركيين أصبح كافيا ولا فائدة من زيادته، وكل أميركي يستطيع على حدة أن يعمل لزيادة عدد مواطنيه، وجميع ما ذكرت لك من الشئون من خصائص الحكومة وهي تبدل وتغير وتغير وتبدل في النظامات على حسب ما يتراءى لها، وهي تظن أنها تتوخى خير البلاد ونفعها، والذي أراه أن رجال الحكومة لا يستطيعون إدراك المنافع الحقيقية التي تعود على البلاد بالخير الوفير والنعم الجزيلة إلا إذا ابتاع كل واحد منهم أسهما كثيرة من الشركات التجارية والزراعية والصناعية. وأما الآن فإنهم لا يدركونها حق الإدراك؛ ولذلك تراني وغيري من أصحاب الأموال نضطر إلى ابتياع أعضاء مجلس البرلمان والمجالس الأخرى وندس لهم المبالغ الوافرة؛ لنستطيع الحصول على ما نتمناه من التغيير في نظام البلاد حتى يكون ذلك في غاية الموافقة لمصالحنا. وعندما لفظ هذه العبارة تنهد الصعداء وقال: إنك لترى أنه لا يحسن حال العيش إلا إذا انهال الذهب فيه كالسيل المنهمر.
أما أنا فلما وقفت منه على رأيه السياسي وجهت إليه سؤالا جديدا، فقلت له: وما رأيك في الدين؟
فضرب بيده على فخذه ورفع حاجبيه وقال: إن رأيي في الدين مصيب كل الإصابة، وأعتقد أنه ضروري للشعب، وبدونه لا تسير الأعمال على محور النشاط والخضوع، وأزيدك علما أني في أيام الآحاد أعلو منبر الوعظ وألبث واقفا مدة طويلة أعظ الشعب؛ ولا سيما جمهور الفقراء والعمال، فسألته مستفسرا: ماذا تقول لهم؟ وما هو موضوع عظاتك؟
فأجاب: أخاطب الشعب هكذا: إخوتي وأخواتي، لا تخضعوا لعوامل تأثير شيطان الحسد، واطردوا من رءوسكم كل فكر أرضي، ووجهوا أبصاركم وأفكاركم إلى السماء؛ لأن الحياة على هذه الأرض قصيرة تمر مر الطيف، والإنسان يعد عاملا نافعا إلى السنة الأربعين من عمره، فإذا جاوز ذلك السن يعجز عن العمل، ولا يقبل في المعامل؛ بل يطرد منها طردا. والحياة - كما لا يخفاكم - مملوءة بالأكدار والأوزار. أنتم تشتغلون ولكنكم معرضون دائما أبدا لأخطار الآلات البخارية التي كثيرا ما تقطع أيديكم أو أرجلكم. أنتم معرضون دائما لضربة الشمس وتهددكم في كل أين وآونة الأمراض الفتاكة، وما مثل الفقير إلا كمثل الأعمى الواقف على سطح منزل شاهق البنيان أينما سار يسقط ويتهشم، وقد قال بهذا الشأن يعقوب الرسول أخو الرسول يهوذا ما يأتي:
يا إخوتي، لا تهتموا بالحياة الأرضية؛ لأنها من صنع الشيطان قاتل الأرواح ومضل النفوس. إن مملكتكم يا أولاد المسيح الأعزاء ليست من هذا العالم بل هي من السماء، وإذا تحملتم بصبر وتجلد دون تذمر متاعب هذه الحياة فإنكم تنهون معيشتكم بهدوء وسكينة، وإن أباكم السماوي يقبلكم في مساكن الفردوس الكثيرة، ويكافئكم على أتعابكم الأرضية بسعادة أبدية لا يفنيها الفناء.
قال أيضا يهوذا الرسول:
إن هذه الحياة ليست إلا مطهرة للنفوس، وبمقدار ما تتحملون من المشاق على هذه الأرض الفانية بمقدار ذلك تنتظركم سعادة عظمى وغبطة أبدية في ملكوت السموات.
ثم أشار بأصبعه إلى سقف الغرفة وأطرق رأسه مفكرا ثم استطرد الكلام فقال: أجل! إخوتي الأعزاء، إن هذه الحياة فانية فارغة لا قيمة لها، ويحتم علينا الدين أن نقدمها ضحية على مذبح محبة القريب أيا كان، فلا تخضعوا قلوبكم لسلطة شيطان الحسد والشهوات. لا شك في أنكم تشتهون الحصول على الخيرات الأرضية، ولكنها يا إخوتي خيرات فانية باطلة تشبة الظل السريع الزوال، وما هي إلا من ألاعيب الشيطان التي يزينها ويغرر بها الناس ويخدعهم بها. أيها الإخوة سنموت جميعا؛ الأغنياء والفقراء والملوك والمعدنون وأصحاب الملايين والذين يكنسون الأزقة وينظفون الأحذية، كلنا أمام الموت سواء، ولكن هنالك في الأخرى سيكون الفرق جسيما بين الناس؛ لأن المعدنيين قضوا الحياة في قطع الفحم من مناجم الفحم الحجرية يصبحون ملوكا في الحياة الثانية ويصبح ملوك الأرض خدمة لهم يحملون المكانس ويكنسون بها أوراق الأشجار المتساقطة من أدواح الفردوس، كما يكنسون قراطيس الحلوى الفارغة التي ستكون لكم غذاء يوميا في الفردوس.
أيها الإخوة! ... ماذا يشتهي الإنسان على الأرض التي هي عبارة عن غابة مظلمة مملوءة بالخطايا والآثام تضل فيها النفس كطفل صغير، اذهبوا إلى الفردوس من طريق المحبة والوداعة والتواضع، تحملوا بصبر ما تسوقه إليكم صروف الزمان وطوارق الحدثان، حبوا جميع الناس حتى الذين يهينونكم ويزدرون بكم ويحقرون شأنكم. وعند هذه النقطة من كلامه أغمض عينيه وانتفض وهو جالس في كرسيه، واستطرد الكلام فقال: صموا آذانكم عن سماع كلام أولئك الناس الذين يحركون في قلوبكم حاسة الحسد بقولهم لكم: أنتم فقراء بائسون تتحملون مشاق هذه الحياة، وتعملون الأعمال التي تهدم بنيان أجسامكم، وتخدمون الأغنياء الذين يرتعون في بحابح العز والراحة ويرفلون بمطارف الخز والديباج، ومع أنكم أنتم علة ثروتهم وأساس سعادتهم فإنهم يسومونكم أنواع العذاب والهوان، ويدفعون لكم أجورا طفيفة لا تساوي جزءا من العمل الذي تقومون به. لا تصغوا يا إخوتي لكلام هؤلاء الناس الذي ليس له دليل يؤيد صحته، وهم في الحقيقة ونفس الواقع رسل الشيطان ونذيرو الشر والفساد، فإن الله تعالى قد حرم الحسد على عباده وتوعد الحساد بالويل والثبور وعظائم الأمور. إن الأغنياء أيها الإخوة فقراء محتاجون إلى المحبة؛ لأن الناس يبغضونهم ويحسدونهم دون سبب يدعو إلى ذلك، فحبوا الغني أيها الإخوة لأنه مصطفى من الله جل جلاله. قال الرسول يهوذا أخو الرب وأول كاهن لهيكل الله: أيها الإخوة لا تلتفتوا للمساواة بالناس على الأرض، ولا ترضخوا لتحريضات الشيطان الذي يقودكم إلى الهلاك، إن مساواة الناس لبعضهم على هذه الأرض الفانية لا قيمة لها؛ بل إن الذي يسعى إليها يضل الصراط القويم، ويقود نفسه إلى ارتكاب الشر، والأجدر بكم أن تبذلوا الوسع لتكونوا متساوين أمام الله بطهارة النفس، فاحملوا بصبر صليبكم (أتعابكم) والتواضع يخفف عليكم هذا العبء الثقيل، الله معكم يا أولادي، وأرى أنكم لستم في حاجة أخرى إلى غير ما قلته لكم، والسلام عليكم.
ثم صمت هذا العجوز وفتح فمه فأبرقت أسنانه الذهبية وتفرس في، وعلامات السرور بادية على وجهه.
نامعلوم صفحہ