وصاح الحاج: «لا يمكن أن يجرؤ أحد على تخطي عتبة داري ... وثمرة عملي طوال حياتي كلها لن تكفي لدفع ثمن ما يكتبه الطبيب على جذاذة ورق! إنني في صحة جيدة وقوي، ولم أشعر قط بأنني في مثل هذه الصحة!»
ولكن عندما حاول أن يخطو بضع خطوات انهار على الفراش في نفس اللحظة التي قال فيها: «بالتأكيد! لم أشعر قط بأنني في مثل هذه الصحة!»
وبعد ثلاث ساعات من الحمى غادر الحاج الفراش، وقد ظهر عليه الهزال والشحوب وغارت عيناه في محجريهما وتشعث شعره، وسألته ليانا في رفق عما إذا كان في حاجة إلى شيء .
فأجاب في حزن: «أريد ... أريد حساء دجاج ... وعليه قليل من الليمون ... لكن لا ... الليمون غال ... وعليه بضع نقط من حامض الليمون! واحذري أن تكون الدجاجة كبيرة، فأنا أريدها صغيرة ولكن طرية.»
وفي المساء فرشت ليانا فوطة كبيرة فوق الفراش، ووضعت فوقها سلطانية مليئة بالحساء الساخن، ومن هذا الحساء الدسم برز جناح دجاجة أصفر مذهبا، وعلى حافة السلطانية وضع ملعقة من القصدير، وإلى جوارها وضع زجاجة بها قدر إصبعين من النبيذ مغلقة بلفافة من الورق، وألقى الحاج نحو الفراش نظرة نهمة وجفف جبهته، وقال في ندم عميق: «يا لها من نزوة طفل!»
لقد خيل إليه أنه قد صهر في يده سبيكة من الذهب، وسبكها في السلطانية لكي يشفطها بعد ذلك بالملعقة! واقترب من الفراش وأخذ يأكل، وكان يقرقع بلسانه وصدغاه يغوران، وحاجباه يتقطبان إلى حد يكاد يحجب عينيه، وفجأة طرح الملعقة والتفت نحو ليانا صائحا: «أعطني ملعقة من الخشب ... فلهذه طعم غريب.»
وخرجت ليانا لتحضر الملعقة المطلوبة والحساء يسيل لعابها، فتكتفي بازدراد ريقها.
وأخذ الحاج يأكل في صخب، ولعدة مرات صهل وبصق، ثم قال: «احملي هذا الحساء لم أعد أريده ... فأنا أحس له بطعم الصدأ في أعماق حلقي ... إنه حامض ... ملحي ... إن طعمه رديء بشكل مخيف! احمليه ... أسرعي ... أوما ترين أن ما آكله هو حياتي نفسها؟»
وتناولت ليانا السلطانية وحملتها.
وترك الحاج رأسه تسقط على الوسادة المحشوة بالقش، ولاح كأن جسمه كله كريشة من لهب! ... يا لها من حروق! لقد أخذ يشعر كأن هوة سحيقة قد انفتحت تحته وأنه سيخر فيها، وأن سقوطه في جوفها يزداد عمقا باستمرار، وفي حلقه أخذ يحس طعم الذهب ودم الذهب، وأنه كالأب البائس الذي يأكل لحم أطفاله.
نامعلوم صفحہ