قال حسين شداد ضاحكا: أنت سعيد الحظ؛ لأنك مهما أبديت في السياسة من رأي، فلن يعترض سبيلك معقب.
هنا سأل حسن سليم حسين شداد قائلا: تزعم أنك تربأ بنفسك عن السياسة، فهل تصر على ذلك حتى إذا تعلق الأمر بالخديو السابق؟
اتجهت الأعين نحو حسين في تحد باسم لما هو معروف عن تشيع والده شداد بك للخديو السابق، الأمر الذي أبعد من أجله أعواما قضاها في باريس، ولكن حسين قال في غير مبالاة: لا تعنيني هذه الأمور في كثير أو قليل، كان والدي ولا يزال من رجال الخديو، ولكنني لست مطالبا باعتناق آرائه.
سأله إسماعيل لطيف، وفي عينيه الضيقتين بريق ضاحك: أكان والدك من الذين يهتفون «الله حي ... عباس جي»؟
فقال حسين شداد ضاحكا: لم أسمع عن هذا الذكر إلا منكم، والحق الذي لا ريب فيه، أنه لم يعد بين أبي وبين الخديو إلا الصداقة والوفاء، وفضلا عن ذلك فليس ثمة حزب - كما تعلمون - يدعو اليوم إلى عودة الخديو.
قال حسن سليم: أمسى الرجل وعهده في ذمة التاريخ، الحاضر يمكن تلخيصه في كلمتين، وهما: أن سعد يأبى أن يقوم في مصر من يتكلم باسمها غيره ولو كان خير الرجال وأحكمهم.
لم يكد يتلقى الضربة كمال حتى جاوبه قائلا: الحاضر في كلمة واحدة، أن ليس في مصر من يتكلم باسمها إلا سعد، وأن التفاف الأمة حوله جدير في النهاية بأن يبلغ بها ما نرجو من الآمال.
وشبك ذراعيه على صدره، ومد ساقيه حتى مس طرف حذائه رجل المائدة، وهم بالاسترسال في حديثه لولا أن جاءهم من الوراء صوت غير بعيد يتساءل: «ألا تريدين يا بدور أن تحيي أصدقاءك القدماء؟» فانعقد لسانه، ووثب قلبه وثبة عنيفة رجت صدره رجا أفزعه أول الأمر وآلمه، وفي أسرع من لمعان البرق استغرقته سكرة طاغية من السعادة كاد يغمض لها عينيه من شدة التأثر، ثم وجد أن كل خاطرة تنبض بها نفسه قد اتجهت صوب السماء، قام مع الأصدقاء كما قاموا، واستدار معهم إلى الوراء، فرأى على بعد خطوة من الكشك عايدة واقفة ممسكة بيد بدور شقيقتها الصغرى ذات الأعوام الثلاثة، وهما يتطلعان إليهم بأعين هادئة باسمة. ها هي ذي بعد انتظار ثلاثة أشهر أو يزيد، ها هو «الأصل» الذي تملأ «صورته» روحه وجوارحه، ويقظته ونومه، ها هي قائمة أمام عينيه شاهدا على أن الألم الذي لا حد له والسرور الذي لا وصف له، واليقظة المحرقة للنفس والحلم المدوم في السماء، إن كل أولئك ربما رجعت في آخر الأمر إلى آدمي لطيف تترك قدماه انطباعاتهما على أرض الحديقة. ورنا إليها فجذب مغناطيسها شعوره كله حتى سلبه الإحساس بالزمان والمكان، والأناسي والنفس، فعاد كأنه روح مجردة تسبح في فراغ نحو معبودها ... على أن إدراكه لها هي نفسها لم يكن حسيا بقدر ما كان روحيا، تمثل في نشوة ساحرة، وغبطة شادية، وسبحة عالية، بينا وهنت منه الرؤية أو تلاشت، كأن قوة انفعاله الروحي استأثرت بكل حيويته فغودرت حواسه وقواه العاقلة، والمدركة، والملاحظة في سبات أشرف به على نوع من الفناء. لذلك كانت دائما أطوع لذاكرته منها إلى حواسه، لا يكاد يرى منها وهو في محضرها شيئا، ولكنها تتراءى فيما يعد في ذاكرته بقامتها الهيفاء ووجهها البدري الخمري، وشعر عميق السواد مقصوص «ألا جرسون» ذي قصة مسترسلة على الجبين كأسنان المشط، وعينين ساجيتين تلوح فيهما نظرة لها هدوء الفجر ولطفه وعظمته، كان يرى هذه الصورة بذاكرته لا بحواسه كالنغمة الساحرة نفنى في سماعها فلا نذكر منها شيئا حتى تفاجئنا مفاجأة سعيدة في اللحظات الأولى من الاستيقاظ أو في ساعة انسجام، فتتردد في أعماق الشعور في لحن متكامل. وتساءلت أحلامه وأمانيه: ترى هل تغير من طريقتها المألوفة فتمد يدها للمصافحة فيلمسها ولو مرة في الحياة؟ لكنها حيتهم بابتسامة وتحنية من رأسها، وهي تتساءل بذلك الصوت الذي يزري بأحب الألحان إليه: كيف حالكم جميعا؟
فاستبقت الأصوات إليها بالتحية، والشكر، والتهنئة على سلامة العودة، عند ذاك عبثت أناملها الرشيقة برأس بدور وهي تقول لها: صافحي أصدقاءك.
فثنت بدور شفتيها داخل فيها وعضت عليهما، وهي تردد عينيها بينهم في حياء حتى استقرتا على كمال، فابتسمت وابتسم. قال حسين شداد، وكان على علم بما بين الطفلة وكمال من مودة: إنها تبتسم لمن تحبه. - أتحبين هذا حقا؟ (ثم وهي تدفعها نحوه) إذن سلمي عليه.
نامعلوم صفحہ