تخلل حسين شداد شعره الفاحم بأنامله الطويلة الرشيقة وهو يقول: أوافق على ما قلت عن قيمة الكلمة بصرف النظر عن سعد ...!
لم يعبأ حسن بمقاطعة حسين شداد، فقال مخاطبا كمال: إن الأمم تحيا وتتقدم بالعقول والحكمة السياسية والسواعد، لا بالخطب والتهريج الشعبي الرخيص.
نظر إسماعيل لطيف إلى حسين شداد، وهو يتساءل ساخرا: ألا ترى أن من يتعب نفسه في الكلام عن إصلاح هذا البلد كالنافخ في قربة مثقوبة؟
التفت كمال إلى إسماعيل ليخاطب من وراء حسن بما تردد عن مخاطبته به وجها لوجه، قال منفسا عن غيظه: أنت لا تهمك السياسة في شيء، لكن مزاحك يفصح أحيانا عن موقف «فئة» من المحسوبين على المصريين كأنك ناطق بلسانهم، تراهم يائسين من نهوض الوطن، يأس الاحتقار والتعالي لا يأس الطموح والتطرف، ولولا أن السياسة مطية لأطماعهم لاعتزلوها كما تفعل أنت.
ضحك حسين شداد ضحكته اللطيفة، ومد يده إلى ذراع كمال، فشد عليها قائلا: أنت مجادل عنيد، يعجبني حماسك وإن لم أشاركك الإيمان به، على أنني كما تعلم محايد، لا من الوفديين ولا من الدستوريين، لا استهانة كإسماعيل لطيف، ولكن لاعتقادي بأن السياسة تفسد الفكر والقلب، ينبغي أن تعلو عليها حتى تتراءى لك الحياة ميدانا لا نهائيا للحكمة والجمال والتسامح، لا معترك صراع وكيد.
ارتاح إلى صوت حسين فسكنت فورته، كان يطرب لموافقته إذا وافقه على رأي، ويتسع صدره لمعارضته إذا عارضه فيه، ومع أنه كان يشعر بأن تبريره للحياد ما هو إلا اعتذار عن ضعف وطنيته، فإنه لم يحنق عليه لذلك، ولم ير فيه نقيصة ولكن وسعها عفوه وحلمه وتسامحه، قال يجاريه: الحياة هي هذا كله، هي الصراع، والكيد، والحكمة، والجمال، فأي وجه تتجاهله من وجوهها تفقد به فرصة لاستكمال فهمك لها وقدرتك على التأثير فيها بما يوجهها نحو الأحسن. لا تحتقر السياسة أبدا؛ فالسياسة هي نصف الحياة، أو هي الحياة كلها إذا عددت الحكمة والجمال مما فوق الحياة!
حسين شداد كالمعتذر: فيما يتعلق بالسياسة، أصارحك بأنني لا أثق في جميع أولئك الرجال.
سأله كمال كالمتودد: ماذا نزع ثقتك من سعد؟ - بل دعني أسألك عما يجعلني أضع ثقتي فيه؟! ... سعد وعدلي، وعدلي وسعد، ما أسخف هذا كله! على أنه إذا كان سعد وعدلي سيين عندي في الناحية السياسية فإنني لا أراهما كذلك كرجلين؛ إذ لا يمكن أن أتجاهل ما يمتاز به عدلي من كريم الأصل، وعظيم الجاه والثقافة، أما سعد - وإياك أن تغضب - فما هو إلا أزهري قديم. - آه، شد ما يحز في نفسه أن يند عن حسين أحيانا ما يشي بتعاليه عن الشعب، فيشعر وهو من الحزن في نهاية كأنه يتعالى عنه هو أو - وهو الأدهى والأمر - كأنه ينطق بلسان الأسرة جميعا، أجل إنه إذا حادثه أشعره كأنما يتكلم عن شعب غريب «عنهما» معا، ولكن أكان ذلك عن خطأ في التصوير أم عن مجاملة؟ ومن عجب أن موقف حسين هذا لم يغضبه من ناحية دلالته العامة بقدر ما أحزنه من ناحية دلالته الخاصة به، فلم يستثر عداوته الطبقية ولا إحساسه الوطني. انهزمت هذه المشاعر حيال بشاشة وضيئة تنم عن الصراحة وحسن الطوية، وتراجعت أمام حب لا تنال منه الآراء والأحداث، على الضد من هذا كان شعوره حيال موقف حسين شداد منه، فكان - رغم صداقتهما - يهيج غضبه لوطنه - ولم يشفع له عنده تأدبه في الخطاب، وتحفظه في إظهار مشاعره، بل لعله آنس فيهما «حكمة» تضاعف من مسئوليته، وتؤكد تعصبه الأرستقراطي الموجه ضد الشعب. قال مخاطبا حسين: أفي حاجة أنا أن أذكرك بأن العظمة شيء غير العمامة والطربوش، أو الفقر، أو الغنى؟ يبدو لي أن السياسة تضطرنا أحيانا إلى مناقشة البديهيات.
قال إسماعيل لطيف: إن ما يعجبني في الوفديين - أمثال كمال - هو شدة تعصبهم.
ثم وهو يجيل بصره في الجالسين: أما ما يسوءني منهم، فهو شدة تعصبهم أيضا.
نامعلوم صفحہ